النسخة القديمة منّا وغُربة الزمن!
حين نفكر في العودة، فإننا لا نبحث عن طريقٍ يقودنا إلى بيتٍ قديم أو شارعٍ نعرف ملامحه، بل نبحث عن أنفسنا كما كنّا يومًا ما. نبحث عن النسخة التي سبقت كل هذه التغيرات، التي لم تُثقلها التجارب بعد، ولم تُعلِّمها الحياة كيف تحذر وتحسب وتخشى. نبحث عن قلوب كانت تنبض بحماسٍ بريء، تدهشها التفاصيل الصغيرة، وتصدق أن كل شيء ممكن، وأن الأحلام لا تسقط بالتقادم. تلك النسخة التي كانت ترى الحياة واسعة كأفق الصحراء، دافئة كحضن الأم، بسيطة كضحكة صديق في نهاية الدوام.
نعم، النسخة القديمة منّا تسكنها الذكريات، وتعبرها أطياف الأحلام التي رسمناها فوق جدران غرفنا، وكتبناها على دفاتر المدارس، وهمسنا بها لأنفسنا قبل النوم. فيها جلسات العائلة، ونصائح المعلمين، ومشاجرات الأشقاء التي كانت تنتهي دائمًا بضحكة، ونداءات الأمهات التي تتسلل من النوافذ، ورائحة الطعام التي تُغريك حتى لو لم تكن جائعًا. حتى من رحلوا، ما زالوا هناك، يضحكون معنا في الصور، ويتكلمون من خلف الظلال.
لكن ما يؤلم في هذا الحنين أنه لا يقودنا إلى مكان، بل إلى زمن. والزمن لا يعود. إنه وطنٌ بلا حدود، لكنه محجوز الولوج. كلما حاولنا الإمساك به، انسل من بين أصابعنا، كمن يحاول احتضان ضوءٍ قديم. وهذه الغربة التي نتحدث عنها ليست غربة المكان، بل غربة الزمن. أن تعيش حاضرًا لا يشبهك، وأن تتنفس يومًا لا يحمل رائحتك. تقف في منتصف غرفةٍ تعرفها جيدًا، لكنها لم تعد تعرفك. تمر في شارعٍ حفظت أسماء عابريه، فلا يلتفت إليك أحد. وتسمع ضحكات أصدقاء الطفولة في عقلك، بينما أرقامهم محذوفة منذ سنوات.
الزمن ليس خطًا مستقيمًا كما يقولون، بل هو دائرة نعود إليها كلما ضاقت الحياة. نعود إليها لا لنغير شيئًا، بل لنستظل بظلّ ما كنّا عليه. لكن تلك العودة مستحيلة، لأننا لم نعد نحن، ولأنّ الدفء لا يُصنع مرتين، بل يُعاش مرة واحدة ويُحنُّ إليه ألف مرة. ربما هذا ما يجعل الحنين مؤلمًا؛ لأنه يُذكرنا بأن بعض الجمال لا يُعاد.
وفي قلب هذا الحنين يكمن سؤال مرير: هل النسخة القديمة منّا أفضل؟ أم أننا نُغالي في تمجيدها لأننا نخشى الاعتراف بضعفنا الآن؟ ربما لأننا كبرنا، وأدركنا أن الأحلام لا تكفي وحدها، وأن العالم لا يمنح فرصًا لكل من يبتسم، صرنا نشتاق لزمنٍ كنّا نعتقد فيه أن كل شيء سيكون بخير.
لكنّ التصالح مع ذواتنا الحالية لا يعني التخلي عن نسخنا القديمة، بل احتضانها. نحن لا نُدفن الماضي، بل نحمله كصديقٍ قديمٍ في قلوبنا، يُرشدنا حين نضيع، ويُطمئننا حين نرتبك. إن النسخة الجديدة منّا ليست خيانة للماضي، بل تطوّر طبيعي له، تحمل خبراته، وتسير به نحو الغد. علينا أن نُسامح أنفسنا لأننا تغيّرنا، وأن نُحبّها رغم الشوائب، لأنها تحمل في طيّاتها ذلك الطفل، وذلك المراهق، وذلك الشاب الذي حلم، وتألم، ونضج.
الغربة التي نحملها في أرواحنا ليست دائمًا دليلًا على التيه، بل قد تكون دافعًا للبحث عن ذواتنا، عن جوهرنا، عن انسجامٍ ما داخلنا يجعل من اللحظة الراهنة وطنًا بديلًا، يسكنه الهدوء والتصالح، لا الندم والعتاب.
وإن كانت التكنولوجيا قد منحتنا صورًا ومقاطع ومحادثات تُنعش الذكرى، فإنها أحيانًا ترهق القلب بمقارنة لا تنتهي، وتضعنا في مواجهة يومية مع "من كنّا"، دون أن تمنحنا وقتًا كافيًا لنتقبل "من أصبحنا". تسرق الحاضر باسم الذكرى، وتحبس الروح في شريطٍ يعاد مرارًا، في حين أن الحياة تجري في الخارج، دون أن تنتظر أحدًا.
ربما لا يكون الحل في نسيان الماضي، ولا في التعلّق به، بل في استخدامه كمرآةٍ نُراجع فيها ذاتنا، لا لنحاكمها، بل لنفهمها، فالنسخة القديمة لم تكن مثالية، لكنها كانت صادقة، والنسخة الجديدة ليست مكسورة، لكنها مرهقة، وبين هاتين النسختين، هناك مساحةٌ للتصالح، ولإعادة صياغة الحلم، ليس كما تمنيناه، بل كما يمكن تحقيقه الآن.
إننا لا نُولد مرة واحدة، بل مراتٍ عدة، وكل نسخة منّا هي فصلٌ من حكايتنا، لكن هذه الحكاية لا تُروى في فراغ، بل على أرضٍ تحمل خطواتنا، وتحت سماءٍ رأت أحلامنا!، الوطن ليس مجرد ذكرى نعيش فيها، بل هو المكان الذي نكبر فيه، ونترك فيه جزءًا من قلوبنا بين جدران البيوت، وأزقة الأحياء، ووجوه الناس الذين شاركونا الطريق، نبحث عن لحظةٍ نطمئن فيها أننا بخير، لكننا نجدها حيث تتشابك ذاكرتنا مع الأرض، وحيث يلتقي الحنين بالواقع.
نعم، للأوطان مجدها في الروح، لكنها ليست مجرد فكرة نصنعها في الخيال!، الأوطان الحقيقية تُبنى بالحب الذي نزرعه في تربتها، والضحكات التي تتردد في أزقتها، والدموع التي سالت على أرصفتها، وهي الحضن الذي يحتضن تغييراتنا، والشاهد الذي يعرف كل نسخنا القديمة والجديدة، فحين تجد فيها سلامك، لن تكون غريبًا، لأنها تظل تُناديك حتى عندما تبتعد، وتظل تُمسك بك حتى عندما تتغير!، ليست الغربة أن لا يتذكرك أحد، بل أن تنسى أنت مكانك الذي صنعك.
جهاد غريب
أبريل 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق