وهم الخلود: حين تتبخر الأشياء التي ظنناها دائمة!
تمرُّ بنا لحظاتٌ نظنُّ فيها أن بعض الأشياء ثابتةٌ كالجبال، راسخةٌ كالنجوم، لا تتزعزع ولا تتبدل. نعيش معها كما لو كانت جزءًا من قوانين الكون التي لا تنكسر، ثمّ فجأةً، نكتشف أنها كانت مجرّد حلم ترويه الأيام، ثم تستيقظ فتجده قد تبخر.
كيف لشيءٍ كان يملأ عالمنا بالحضور أن يصبح غيابًا؟ كيف لقلبٍ كان ينبض بجوارنا أن يتحوّل إلى ذكرى؟ تساؤلاتٌ لا تنتهي، لكنّها تعلّمنا درسًا واحدًا: لا شيء يبقى، إلا ما يُقرِّره رب القدر.
ننسج أوهام الديمومة حول الأشياء التي نحبّ، لأنّ الاعتراف بزوالها يُشبه الاعتراف بزوالنا نحن. نغمض أعيننا عن حقيقة أن كلّ شيءٍ في هذا العالم مؤقت، كالوردة التي تتفتّح في الصباح وتذبل بحلول المساء. نتعامل مع المشاعر والأشخاص والأماكن كما لو كانت قطعًا أثريةً محنّطة في متحف الذاكرة، لكنّ الحياة ليست متحفًا، بل نهرًا يجرف معه كلّ ما نعتقد أنه "لنا".
لأنّ المواجهة مُرهقة. لأنّ الاعتراف بأنّ كلّ ما حولنا يمكن أن يغيب بين لحظةٍ وأخرى يُشبه المشي على حبلٍ فوق هاوية. نختار أن نعيش في قناعةٍ واهية بأنّ الغد سيكون نسخةً من اليوم، وأنّ من نحبّ سيظلّ بجوارنا إلى الأبد. لكنّ الأبدية ليست سوى وعدٍ نصنعه لأنفسنا لنهدئ من روعنا. الحقيقة المؤلمة هي أنّنا لا نملك شيئًا، ولا نستطيع أن نمنع شيئًا من الرحيل إذا حان وقته.
هناك أشياء لا نستعدّ لفراقها أبدًا، لأنّنا لا نتخيّل العالم من دونها. مثل شجرة الظلّ التي اعتدنا الجلوس تحتها، أو صوت الأم الذي يملأ البيت دفئًا، أو حتى المدينة التي نشأنا فيها وهي تتغيّر أمام أعيننا دون أن نستطيع فعل شيء. نمدّ أيدينا لنمسك بها، لكنّها تتحوّل إلى غبار. هذا هو قانون الحياة: كلّ شيءٍ يمرّ، حتى نحن.
نحن نعيش وكأنّنا أبطال رواية نكتبها بأنفسنا، لكنّنا ننسى أن هناك كاتبًا آخر يمسك بالقلم. قد نخطط، نحلم، نتمسّك، لكنّ القرار النهائي ليس لنا. كم من خططٍ تحطّمت فجأة؟ كم من أحبّة رحلوا دون سابق إنذار؟ كم من أوطانٍ تحوّلت إلى ذكريات؟ لا نملك إلا أن نسلّم بأنّ الحياة قصيدةٌ مقدسةٌ، ونحن مجرّد كلماتٍ عابرة فيها.
ربما يكون أعظم درسٍ نتعلمه في هذه الحياة هو فنّ توديع الأشياء. ليس لأنّنا لم نعد نحبّها، بل لأنّ الحبّ نفسه يعلّمنا أن التمسّك ليس شرطًا للوفاء. اِحتفظ بالجمال في قلبك، لكن اِتركه حرًّا كالطيور. اِعلم أنّك مهما أغلقت الباب، فإنّ الريح ستجرف أوراقك عاجلًا أم آجلًا. فلتكن شجاعًا كفايةً أن تعيش بلا ضمانات، وأن تحبّ بلا وعود. لأنّ الحياة، في النهاية، ليست سوى رحلةٌ قصيرة نتعلّم فيها أن نترك كلّ شيء... ونحن نبتسم.
جهاد غريب
أبريل 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق