"أحتاجُكَ": من انكشاف الروح إلى أوطان القلوب في ظلّ دفء الاستجابة!
هل شعرت يومًا بتلك الرغبة الصادقة في البوح بـ "أحتاجُكَ"؟ في هذا المقال المؤلف من ثلاثة أجزاء، نتشارك رحلة استكشاف هذه الكلمة القوية، من لحظة الانكشاف إلى دفء الاحتضان، وكيف نبني من خلالها مساحات آمنة في قلوب الآخرين، ونكتشف جوهر إنسانيتنا المشتركة.
الجزء الأول:
في ظلّ الحاجة... ودفء الاستجابة!
ثمة لحظات نادرة تُكشَف فيها أرواحنا فجأة، دون تهيئة أو تمهيد، لحظة تقول فيها لأحدهم: "أحتاجُكَ"، لا ككلمةٍ عابرة، بل كانتفاضة شعورٍ ضاق باحتماله، وكأنه يُلقى على قارعة الصمت من فرط ما تكدّس فيه، فهذه الكلمة، في ظاهرها طلب، لكنها في جوهرها انكشاف، بلغةٍ لا يتقنها إلا من جرّب أن يتعثر بروحه، ثم يرفع رأسه ليجد وجهًا لا يخيفه، بل يُطمئنه بأنه ليس وحيدًا.
أن نحتاج، لا يعني أننا انهزمنا، بل أننا اخترنا الصدق في زمن يبارك الأقنعة، ففي أعماق كل منا طفل يهمس بنداءات خفية: أن اسمعني، أن انظر إلي، أن قل لي ببساطة إنني لا أثقل عليك حين أكون في أضعف حالاتي. من قال إن الإنسان يكتمل وحده؟ نحن نُمتحن مرارًا لا في قدرتنا على الصبر، بل في قدرتنا على الاعتراف بأننا لا نستطيع أحيانًا وحدنا.
ليس كل احتياج ضعفًا، وليس كل بوح بالاحتياج استجداءً!، هناك احتياجات تأتي على هيئة حضور نشتاقه، أو نظرة ننتظرها، أو حتى صمت نأمل أن يكون صادقًا لا فارغًا؛ الحاجة أحيانًا ليست نداءً، بل سؤال يعلو بصمت: هل ترى ما لا أستطيع أن أقوله؟ هل تشعر بي دون أن أشرح؟ تلك هي أعظم التجارب الإنسانية، أن يُحتضن احتياجك دون أن يُقَيَّم أو يُحاكم.
في زوايا الحياة المتسارعة، يصبح من السهل تجاهل حاجاتنا، أو خنقها تحت ضغط الإنجاز والتماسك، لكن داخل كل متماسك، صدع صغير ينادي؛ ليس كل من يسير منتصبًا لا يتألم!، نحن فقط نتقن الانشغال كي لا نصغي لأنين أنفسنا، إلا أن أعظم الشجاعة، هي أن تطرق باب الآخر وتقول: "أنا لست بخير كما تظن، أحتاج إلى أن تراني".
الاحتياج ليس فوضى، بل ترتيب غير مرئي لما تهدّم فينا!، أن نكون في حاجة إلى أحدهم، لا يعني أننا عاجزون، بل يعني أننا إنسانيون بما يكفي لنمد أيدينا نحو نورٍ آخر، ومن الجانب الآخر، حين يأتينا من يقول: "أحتاجك"، فإنه يمنحنا شرفًا نادرًا: أن نكون ملاذًا. لا كواجب، بل كامتياز، لأن تكون أنت اليد التي تُمسك، والصوت الذي يُطمئن، والظلّ الذي يُحتضن، فتلك مكانة لا تُشترى ولا تُمنح، بل تُكتسب بالصدق والرأفة.
وليس هناك خطر أعظم على هذا البوح من الكبرياء، ذاك الحارس المتغطرس الذي يحرس هشاشتنا بزيف القوة، لكنه في الحقيقة، لا يحمينا، بل يعزلنا!؛ أن نعترف بحاجتنا، هو تمرين على التعافي من هذا الزيف، وتربية للروح على التواضع العاطفي، كلما كسرت حاجز الكبرياء، صرت أقرب إلى ذاتك الحقيقية، تلك التي لا تخاف أن تُرى وهي تتألم.
وفي الحبّ، يتخذ الاحتياج ملامح مختلفة، لا يقول المحب دائمًا "أحتاجك" بصوت مسموع، بل يظهر في نظرات تطلب البقاء، في قلق غير مبرر، وفي عتاب خافت؛ الحبّ ليس فقط عطشًا للعطاء، بل عطشًا لمن يلبّي دون أن يُطلب!، لمن يفهم أنّ غياب الاهتمام لا يعوّضه الحضور، وأن الحاجة أحيانًا تكون لسكوتٍ يحتوي أكثر من ألف كلمة.
نحن لا نُولد مكتفين، بل نبحث عن أوطان صغيرة نعيش فيها في قلوب الآخرين!، لا أحد ينجو من هذه الحاجة، مهما كانت قوته، وما أن نؤمن بأن الآخر لا يسدّ فراغًا، بل يخلق اتساعًا، حتى نبدأ في احتضان احتياجنا لا كعبء، بل كجسر يُبنى بيننا وبين من نثق بهم.
هكذا تبدو الحاجة حين تُفهم: لا شفقة ولا استعطاف، بل لغة خفية تقول: "أنا لا أريدك فقط، بل أراك القادر على أن تعود بي إلى نفسي حين أضيع"، وربما أجمل ما في هذا الاعتراف، أنه لا يُقابَل دائمًا بكلمات، بل بحضور، بإيماءة، أو حتى بصمتٍ صادقٍ لا يُفسَّر، لكنه يُشعِر بالأمان.
وفي نهاية هذا التيه الجميل، لا يبقى لنا سوى أن نُدرك: لسنا بحاجة لمن يحملنا، بل لمن يسير معنا بخطًى ثابتة حين نُبطئ، لمن لا يسأل كثيرًا حين نطرق بابه، بل يفتح لنا، كأننا نعود إلى شيءٍ يشبه الوطن.
جهاد غريب
أبريل 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق