حين تسقط الأقنعة، يولد الإنسان من رماده!
الحياة مسرحٌ كبير، لكن الممثلين هنا لا يُعلنون أنهم يُمثِّلون. يرتدون الأقنعة ببراعة حتى ينسون أحيانًا أن الوجوه الحقيقية تكمن خلفها. نصنع لأنفسنا شخصياتٍ تناسب المشهد، نلبس ثيابًا من التوقعات، ونرسم ابتساماتٍ مصنوعة من المجاملات، لكن ماذا يحدث حين ترتجف المنظومة كلها أمام زلزال الحقيقة، ويسقط القناع فجأة؟ ستنكشف الهشاشةُ المختبئة تحت قشرة الزيف، ولا يبقى إلا الوجه الحقيقي.
الزيف في حياتنا ليس مجرد كذبة عابرة، بل منظومة معقدة تُشبه الدخان الذي يحجب النار. قيل في الأثر: "الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا." كم منا يعيش حياته في غفلةٍ عن ذاته، معتقدًا أن القناع الذي صنعه بيديه هو وجهه الحقيقي؟
الواقع مؤلم، لا شك، لكنه على قسوته أرحم من الزيف، لأن الأخير يُضاعف المعاناة بطبقاتٍ من الخداع، وحين يُدرك الإنسان أن حياته بنيت على أوهام، يصرخ داخله بسؤال موجع: أين كنت حين ضعت عن نفسي؟
في الزوايا الاجتماعية، تتكاثر الأقنعة بصمت. يصبح القناع درعًا واقيًا نلوذ به من نظرات العالم. المدير المتسلط يخفي خلف صرامته خوفًا من الفشل، الصديق المتظاهر بالوفاء يخفي غصة الحسد، وحتى في الحب، نرتدي قناع الكمال خشية ألّا يقبلنا الناس كما نحن، بل كما يريدوننا أن نكون. غير أن الخداع الطويل لا يجدي نفعًا؛ فالأقنعة ثقيلة، ومع الوقت تترك ندوبًا لا تُمحى على وجوهنا الحقيقية.
وتحت هذا الركام من الزيف، تبدأ الصراعات الداخلية في الاشتعال. أقسى المعارك هي تلك التي تدور في صمت داخلي: حين يشك الإنسان في روايته عن نفسه، وحين يُدرك أن حياته، التي تبدو من بعيد كجدارية جميلة، ما هي إلا حائط متشقق إن اقتربت منه.
هذا الصراع هو البوابة إلى التحول، مع أنه بوابة مؤلمة. قال جبران خليل جبران: "الحياة ليست إلا لحظة صحوة طويلة"، غير أن هذه الصحوة تقتضي أن نرفع السجادة ونواجه كل ما خبأناه تحتها طيلة سنوات.
تأتي اللحظة الحاسمة حين ينكشف كل شيء فجأة. قد تكون خيانة تكسر الثقة، أو فشل مهني يسقط ورقة التوت عن الكفاءة الزائفة، أو قد تكون بساطة طفل يسأل ببراءة: "لماذا تتصنع؟".
حينها، لا يعود القناع قادرًا على التماسك، إما أن ينكسر الإنسان من الداخل، أو يولد من جديد. وكما يسقط الزيف الفردي، تسقط الأنظمة المبنية على الأكاذيب تحت ضوء الشمس الساطع، لأن التاريخ لا يرحم من يغلف الحقيقة بالزيف.
والسقوط، مهما بدا مدمرًا، ليس نهايةً كما نظن، بل بداية جديدة أكثر صدقًا. بعض الناس، من شدة خوفهم، يعيدون تركيب أقنعتهم بإحكام أكبر، بينما يختار آخرون أن يواصلوا الطريق بوجهٍ عارٍ، حتى لو كان ذلك محفوفًا بالقسوة.
المجتمعات أيضًا تتغير حين تسقط أوهامها الكبرى، تمامًا كما حدث في ثورات الربيع العربي حين اكتشف الملايين أن الخوف كان القيد الحقيقي الذي كبلهم.
في النهاية، يبقى السؤال معلقًا في الهواء: هل نجرؤ حقًا على أن نكون؟ الأقنعة، رغم كل شيء، لن تختفي تمامًا؛ فالحياة أحيانًا تتطلب أدوارًا مؤقتة ومشاهد مستعارة، ولكن الخطر كل الخطر أن ننسى وجوهنا الحقيقية تحت طبقات التمثيل. عندما يسقط الزيف، نرى أنفسنا لأول مرة: ضعفاء، خائفين، مكشوفين، ولكن حقيقيين. وربما تكون هذه المعجزة الكبرى: أن تعيش كما أنت، لا كما يريدك الآخرون أن تكون.
قال محمود درويش: "وضعت كل أقنعتي في البحر، فعادت إلي أمواجًا."
ومع كل قناع يُلقى بعيدًا، نقترب أكثر من الحقيقة التي انتظرَتنا طويلًا خلف الضباب.
جهاد غريب
أبريل 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق