الأربعاء، 30 أبريل 2025

في قلب الخديعة: رحلة إلى أعماق الصدق!

 
في قلب الخديعة: رحلة إلى أعماق الصدق!

في البدء، لا يولد الإنسان وهو يعرف الفرق بين الوهم والحقيقة، بين ما يُقال له وما يجب أن يقوله لنفسه!، يخرج إلى العالم بقلب طاهر، يحبو في حقلٍ من الكلمات، حتى يتعلم أن البعض منها له وجهان، وأن الصمت أحيانًا أصدق من جملة مشيدة من نوايا مزيفة. تبدأ الخديعة حين نغمض أعيننا عن نصف الحقيقة، وحين نزيّن الكلمات لتنجو لا لتكون صادقة، أما الصدق، فليس فقط قول الحقيقة، بل أن تواجهها حتى وإن جرحت، وأن تعيش معها حتى وإن نزفت، وأن تقولها رغم ارتجاف الصوت في لحظةٍ كانت الكذبة فيها أكثر دفئًا.

الخديعة ليست حدثًا، بل عملية معقدة تتكاثر في الظلال، تأكل من ضمير قائلها، وتنقض على ثقة من سمعها. تكبر الخديعة حين تُغلف بالابتسامات، وتُدس في نوايا ظاهرها الرحمة، وباطنها المكيدة، والغريب أن من يمارس الخداع يظن أحيانًا أنه يحمي، أنه يجمّل الواقع أو يتجنب الأذى، لكنه لا يدرك أنه في كل مرة يختار الكذب، يخسر شيئًا من نفسه، من ملامحه، من صورته في عين من يثق به.

الخديعة كالطين، تغوص فيها قدم الكاذب دون أن يدرك كم من الوقت سيستغرق لينظفها من على جلده، وكم من الأرواح سيتلطخ بها قبل أن يعترف، بينما الصدق، على قسوته، ماءٌ باردٌ يغسل الوجه في صباح الحقيقة، ينعش القلب، حتى وإن أيقظه من وهم جميل. لم يكن الصدق يومًا دربًا معبّدًا، بل هو تسلق شاقّ في جبل الذات، هو مواجهة بين ما نقوله وما نكتمه، بين ما نراه وما نريد أن يراه الناس، وهو لحظة تتقاطع فيها الشفافية مع الشجاعة، وحين يختارها الإنسان، فهو لا يختار السهولة، بل يختار أن يكون حقيقيًا.

لكن، لماذا نخدع؟ أهو الخوف؟ أم الطمع؟ أم أننا نظن أحيانًا أن الكذب أذكى من الصدق؟ ربما لأن الخديعة لا تتطلب الكثير من الشجاعة، بل فقط قدرة على المراوغة، أما الصدق، فيحتاج إلى قلب مستعد أن يُظهر عريه. الكذبة البيضاء، تلك التي ندعي أنها لا تؤذي، هي بذرة صغيرة تزرع الشك في تربة العلاقة، وإن سُقيت بالاعتياد، نمت إلى شجرة لا ظل لها إلا الخوف، فالكذب، حتى وإن صغر، يحمل خيانةً في نواته، والصدق، حتى وإن أوجع، يزرع في الأرض نبتة الثقة.

في العلاقات، لا شيء يُبنى فوق الرمل الهشّ للكذب، فالعين تفضح ما يُخفى، والصمت يكشف ما تُخفيه العبارات. الحب لا يحتمل التزييف، والصداقة تذبل حين يتسلل إليها التردد، والزمالة تفقد احترامها حين تُخدع المواقف. الثقة هي الماء الذي ترتوي منه كل علاقة، والصدق هو الجدول الذي لا بد أن يظل جاريًا كي لا تجف التربة.

ولكن، كيف نصمد في عالم يبرر الكذب كنوع من الذكاء الاجتماعي؟ في عالم رقمي يعج بالأقنعة، بالمعلومات الملفقة، بالصور المعدلة، بالأصوات المنقولة خارج سياقها؟ لا عجب أن يصبح الصدق نوعًا من التمرد، وأن يضطر من يعتنقه إلى الوقوف على حافة العزلة أحيانًا. الصدق لم يعد قيمة فقط، بل مقاومة!، مقاومة للسائد، وللمريح، وللذي يُقال فقط لإرضاء السامع.

ليس الصدق دومًا قول كل شيء، بل قول ما يجب أن يُقال بطريقة لا تخون الجوهر!، ففي الحكمة، قد نؤجل الحقيقة، وقد نختار كلماتها بعناية، لكننا لا نتخلى عنها، وهناك فرق بين من يختار الصمت احترامًا، ومن يلفظ كذبة تهربًا، وعلينا أن نعلم أن الصدق لا يعني القسوة، بل النزاهة!؛ ليس أن تجرح الآخر باسم الصراحة، بل أن تحترمه بالحقيقة!، وبين الصدق المطلق والصدق الحكيم، تكمن إنسانيتنا.

في مراحل التعافي من الخديعة، يدرك المجروح كم من الوقت يحتاج القلب كي يثق من جديد، وكم من الاعتذارات الصادقة قد تكون البلسم، حين تُقال بتواضع، لا دفاع؛ ومن أصعب الأمور ألا تعتذر فقط لأنك انكشفت، بل لأنك أدركت الأثر؛ أن تتوب لا لأنك خفت، بل لأنك ندمت بصدق؛ هكذا تبدأ المصالحة: حين نعترف، لا حين نبرر.

ولعلنا نحتاج، أكثر من أي وقت، إلى تربية تعيد غرس قيمة الصدق، لا كقيد، بل كقوة!؛ أن نُعلّم أبناءنا أن يكونوا شجعانًا في قول الحقيقة، حتى وإن واجهوا بها الخوف، أن نمنحهم مساحة يخطئون فيها دون أن نخيفهم بالعقاب، حتى لا يهربوا إلى الخداع كملاذ!؛ الصدق يُزرع في الطفولة، ويتغذى على الثقة، ويُثمر في الضمير.

الصدق ليس فقط فضيلة أخلاقية، بل هو في جوهره موقف وجودي، وهو أن تختار، في كل لحظة، أن تكون متسقًا مع نفسك، لا أن تتقمص دورًا ليرضى عنك الآخرون!، وحين تكون صادقًا، فأنت لا تعيش فقط في سلام مع من حولك، بل في سلام داخلي عميق، يشبه تلك اللحظة التي تنظر فيها إلى مرآة دون أن تشيح وجهك.

في النهاية، الخديعة قد تمنحك مكسبًا مؤقتًا، لكنها تسلبك شيئًا من نورك!، والصدق قد يكلفك لحظة من الألم، لكنه يمنحك عمرًا من الاحترام، من السلام، من الثقة التي لا تُشترى!، وإن كنت لا تعرف من أنت في هذه المتاهة بين الصدق والخديعة، فابحث في قلبك عما لا يمكن تزويره، في إحساسك بما هو صحيح، في ضميرك حين يخلو المكان من العيون.

فمن بين كل الطرق، وحده الصدق يوصلك إليك.

جهاد غريب 
أبريل 2025

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حين يتكلم الصوت: تأملات في الشغف، والشراكة، والملكية الخفية!

  حين يتكلم الصوت: تأملات في الشغف، والشراكة، والملكية الخفية!  في زحام الحياة، ثمة أشياء لا تُرى، لكنها تُسمع. أشياء لا تُلمس، لكنها تُحس. ...