السبت، 31 مايو 2025

في حضرة النور الذي لا يُقاس، ولا يُشخصن!

 
في حضرة النور الذي لا يُقاس، ولا يُشخصن! 

كان هناك حضورٌ لا يُشبه أحدًا، نورٌ لا يتكئ على اسمٍ أو وجه، بل يتدفق كتيارٍ داخليّ يمرّ فينا جميعًا متى انفتحنا على احتمالات التعلم، وانكسر فينا كبرياء المعرفة الجاهزة. لا يمكن اختزاله في شخصٍ بعينه، لأنه ببساطة يُشبه فكرةً عليا؛ تشبه المطر حين يبلل أرضًا لم يكن يعلم أصحابها أنها عطشى. هو من تلك القوى التي لا نراها، ولكننا نلمس أثرها في طريقة جلوسنا، في طريقة إصغائنا، في الحروف التي نختار قولها والأخرى التي نؤجلها.

الامتنان الذي لا يُكتب، بل يُتجلى:

ليس من السهل أن نكتب عن الامتنان، لأنه لا يُكتب. هو ليس شعورًا مريحًا كما يُعتقد، بل شيئًا يشبه الدمع الذي يتجمّع في طرف العين ولا يسقط. تلك اللحظة التي تفهم فيها أن ثمة مَن ساعدك أن ترى، لا بأن يريك شيئًا، بل بأن أعاد لك عينيك. لا نكتب عن ذلك لنردّ جميلًا، بل لنحاول فهمه. لأننا أمام مواقف كهذه، لا نقول "شكرًا"، بل نُصغي لصمتنا وهو يحاول أن ينطق.

عطايا تُربك قوانين الأخذ والعطاء:

ليس الكرم أن تُعطي فقط، بل أن تُعطي ما يُحرّك روح الآخر، لا ما يملأ يده. هناك مَن كانت كلماته بذورًا، يُلقيها دون أن يراقب إن نبتت، لكنه يعلم أن الأرض لا تخون خصوبتها. لم يكن يمنح أجوبة، بل أسئلةً ذكية تُربك ترتيبك الداخلي، ثم تهبك شكلاً جديدًا للوعي. يشبه ذلك الربيع الذي لا يطرق الباب، لكنه يدخل من الشقوق الخفية، ويملأ الزوايا بالضوء والعطر.

الجسر الذي لا يُبنى بالحجارة: 

من النادر أن تلتقي بحضورٍ لا يريد أن يُنقذك، بل أن يُريك كيف تنقذ نفسك. لا يحملك، بل يعلّمك كيف تُصغي إلى صوت الخطى داخلك. هو الجسر الذي لا يُقام بين ضفتين، بل بين ذاتٍ وذاتها، بين روحٍ كانت تتعثر بكثرة الأسئلة، وبين يقينٍ ناعم يهمس: "لن تُضيّع الطريق، لأن الطريق بداخلك". بعض الأرواح لا تُعلّمنا كيف نصل، بل تجعلنا نعيد تعريف الوصول نفسه.

حين تصبح الحياة درسًا لا يُدرّس: 

"الحياة تُعاش، لا تُروى"، هذه العبارة وحدها كفيلة بإرباك قارئٍ مهووس بالحكاية. لكنها في قلبها دعوة لأن تتحوّل أنت من راوٍ إلى راقص، من مراقب إلى صانع معنى. ليست الحياة فصلاً في كتاب، بل هي الكتاب المفتوح على طاولة قدرٍ واسع، كل صفحةٍ فيه تبدأ بسؤال: "هل أنت مستعد لأن تخطو دون أن تعرف إلى أين؟".

وهناك مَن كان يعلّمك كيف تُمسك بيد اللحظة، لا لتسيطر عليها، بل لترافقها. وكيف تُضيء شمعتك لا لتتغلب على الظلام، بل لتراه على حقيقته.

المعرفة: نسيجٌ من الضوء لا من الورق! 

بعضهم لا يُعطيك معلومة، بل ينسج لك خيوطًا من إدراك. وكأنّ كل جملةٍ منه تُعيد ترتيب أثاث وعيك الداخلي. المعرفة عنده لم تكن مخزونًا، بل شُرفة. لا يتحدث لتُسجّل كلامه، بل ليجعلك تكتب أنت نصّك الخاص. وحين يتحدث عن التفصيل الصغير، يُشعرك أنه جزء من نسيج كونيّ أكبر، وأن لا شيء في الوجود يأتي صدفة، ولا أحد يمرُّ بلا أثر.

الضوء الذي لا يحتاج اسمًا! 

إن ما يجعل هذا النور عزيزًا هو أنه لا يُنسب إلى أحد. لا إلى معلم ولا إلى صديق ولا إلى ملهِمٍ عابر، بل إلى تلك اللحظة الصافية التي يحدث فيها الاتصال بينك وبين أعمق ما فيك. لذلك، لا حاجة لأن نسميه. يكفي أن نترك الباب مفتوحًا ليدخل. يكفي أن نحمل في أرواحنا فسحةً لما لا يمكن وصفه، لأن ما لا يُسمّى، هو غالبًا ما لا يُنسى.

جهاد غريب 
مايو 2025

نسيم الأرواح: في رهافة الوجدان وسموّ الصلات!

 
نسيم الأرواح: في رهافة الوجدان وسموّ الصلات!

ليست المسافات سوى سرابٍ يرسمه الزمن حين تتعانق الأرواح في فضاءٍ لا يعرف القيد، ولا يعترف بالبعد؛ فالمشاعر الصادقة لا تحتاج إلى جسرٍ من الكلمات، بل تهبط على القلب كنسيم الفجر: شفيفة، رقيقة، كأنها رسالة من عالمٍ أنقى. كم من مرةٍ أغمضنا الجفون، فوجدنا من نحبّ أكثر حضورًا من كل ما تدركه الحواس؟ الأرواح المتآلفة لا تفترق، حتى لو تناثرت بينها القارات، لأنها تتخاطر بلغةٍ لا تحتاج إلى حروف، لغةٍ تُسمع بالقلب وتُقرأ بالوجدان قبل أن يبلغها العقل.

وهناك، في الملاذ السري من النفس، حيث تسكن السكينة كشعلة لا تذبل، نجد طمأنينةً لا تُشبهها طمأنينة. كأنّما الروح تتنفس لأول مرة حين تلامس روحًا أُخرى تكملها، لا بالكلام، بل بالحضور الخفيّ، بالصمت المليء بالمعنى. هو الارتياح الذي لا يحتاج إلى تفسير، كظلّ الوادي في قيظ الظهيرة، يأويك دون أن ينتظر عرفانًا. كلما اشتدّ ضجيج العالم، ازداد هذا الصمت عمقًا وجمالًا، كأنه لغة أخرى لا يفهمها إلا من عرف أن النظرات أبلغ من الكلمات، وأن الصمت أحيانًا أكثر وفاءً من آلاف الجُمل.

ولا ينحصر الأمر في رقة الشعور، بل يتجاوزها إلى دهشةٍ أمام تلك الصلابة الهادئة التي لا تنكسر. كالسنديانة العتيقة التي لم تنحنِ لعواصف القرون، هناك أرواحٌ يكون ثباتها كالجبل، لا لأنها لا تتألّم، بل لأنها اختارت أن تكون ملاذًا في وجه الفقد، وصخرةً في نهر الحياة. نراهم فنتعلّم كيف يكون الشموخ بلا قسوة، وكيف نحمل العواصف دون أن نفقد اخضرارنا. هم كالنجوم التي تُرى من بعد، لكنّ نورها يخترق الظلمة، ليذكّرنا أن العتمة ليست نفيًا للضوء، بل تمهيدًا لسطوعه الأصدق.

وما أقسى النسيان... لكنّ الذاكرة تبقى ذلك البستان السرّي، حيث نخزّن وجوه من عبروا بنا ولم يرحلوا منّا. لا يهمّ إن غابوا عن أعيننا، فالحضور الأعمق لا يكون بالجسد، بل بالروح. من يسكن ذاكرتنا لا يغيب، بل يتحوّل إلى جزءٍ من نسيجنا، كالعطر الذي يظلّ عالقًا في المكان بعد ذبول الزهرة. وكم من غائبٍ هو أقرب إلينا من حاضر، لأنّ القرب الحقيقيّ هو أن تجد صوتهم في هدوئك، ولمستهم في صمتك، وأن تصادفهم في تفصيلٍ بسيط لم يكن ليعنيه أحد سواهم.

وفي خضمّ هذا التيه، يأتي اليقين كالنجم الهادئ الذي يهدي السفن في عتمة البحر. الثقة بأننا اخترنا دربنا، وأنّ الصدق الذي نحمله في أعماقنا لا يُشترى ولا يُستعار. إنه العطاء الخفي الذي نمنحه لأنفسنا، كالشمس التي لا تطلب إذنًا لتشرق. نعلم في قرارة أرواحنا أن ما بنيناه من محبّة ونقاء هو البناء الوحيد الذي لا يسقط، لأنه وُلد من الصدق، وسُقي بالنية الصافية.

فليكن الحبّ، بكل ما فيه من شجاعة ورقّة، هو الجواب على كل سؤال لم يُسأل بعد؛ وليكن الإيمان بالمشاعر هو المصباح الذي نحمله في زمنٍ يحاول أن يطفئ كلّ ضوء. ففي النهاية، ليست الحياة إلا تلك اللحظات التي جعلت قلبك ينبض بشيءٍ أعظم من ذاته، ولعلّها وحدها التي تستحق أن تُروى.


جهاد غريب 
مايو 2025

الجمعة، 30 مايو 2025

الذنب والمغفرة: رحلةٌ من الظلمة إلى النور!

 
الذنب والمغفرة: رحلةٌ من الظلمة إلى النور! 

في أعماقِ الروح، حيثُ تُخْبِئُنا ظُلَمُ ذنوبِنا عن أنفُسِنا، تَبرُزُ التوبةُ كفجرٍ يُزيلُ بِخِفَّةٍ سُتورَ الليل. ليستْ كلماتٍ تُقالُ، بل انكسارٌ يُشبهُ سقوطَ أوراقِ الخريفِ بعدَ عِتابِ الريح، استسلاماً لحكمةِ الأرضِ التي تعلمُ أنَّ كلَّ سقوطٍ هو بذرةُ نهوض. هنا، حيثُ لا تُسمعُ أصواتُ العالمِ الخارجيّ، يتحوَّلُ الندمُ إلى ندىً يُحيي ما أجدبَ فينا، ويُعيدُ للقلبِ نقاءَهُ الأوّل، كطِفلٍ يعودُ إلى حضنِ أمِّه بعدَ عناء.  

الذنبُ ليسَ شبحاً يُطارِدُنا، بل مرآةٌ تُريكَ وجهَكَ دونَ زيف. هو ذلكَ الظلُّ الذي يطولُ كلَّما هربتَ منه، ويَقصرُ كلَّما وقفتَ أمامَ الشمس. نحنُ نُجادلُ أنفُسَنا كالمحامينَ أمامَ قاضٍ غيرِ موجود، ننسى أنَّ الحقيقةَ لا تحتاجُ إلى دفاع، بل إلى شجاعةِ الاعتراف. الذنبُ الحقيقيُّ ليسَ في الخطيئة، بل في الهروبِ منها، كمن يُطفئُ النورَ لئلا يرى الغُبارَ على ثيابِه.  

ولكنْ، ماذا نفعلُ بهذا الثقلِ الذي يُثقِلُ أجنحةَ الروح؟ كيفَ نحملهُ دونَ أنْ نسحقَ أنفُسَنا تحتَ وطأتِه؟ الجوابُ بسيطٌ وعسير: أنْ ترفعَهُ إلى السماءِ كعُصفورٍ جريح، وتقولَ: "ها أنا ذا، اعترفُ بأنِّي ضعيف". ففي لحظةِ الصدقِ هذه، يُصبِحُ الذنبُ جسراً، لا حاجزاً؛ وهنا، في سياقِ الإيمان، تتجلّى المغفرةُ كعطاءٍ إلهيٍّ يمنحُ الروحَ سلامًا وسكينةً تتجاوزُ حدودَ الفهمِ البشريّ.  

والمغفرة؟ ليستْ كلمةً تُقالُ، بل نهرٌ يجري بلا ضفاف. هي كالشمسِ التي لا تنتظرُ من الزهورِ أنْ تفتحَ لها قلوبَها كي تُشرق. نخطئُ حينَ نعتقدُ أنَّ المغفرةَ تحتاجُ إلى طلبٍ، أو أنَّها صفقةٌ بينَ الجاني والضحيّة. الحقيقةُ أنَّ المغفرةَ الحقيقيةَ تُعطى كالماءِ للعطشان، لا لأنَّه يستحق، بل لأنَّ العطشَ يكفيهِ عقاباً؛ وما أعمقَ أثرَها على النفسِ حينَ تُحرِّرُها من سجنِ الماضي، فتُشرقُ بالسلامِ الداخليّ، كأنّها نسمةٌ تُذيبُ جليدَ القلبِ بلا صوت.  

وما أقسى أنْ نغفرَ للآخرينَ بينما نحنُ لا نغفرُ لأنفُسِنا! كأنَّنا نُطفئُ النارَ في بيتِ الجارِ ونتركُ بيتَنا يحترق. المغفرةُ تبدأُ من الداخل، كبذرةٍ تُزرعُ في تربةِ القلبِ قبلَ أنْ تُثمرَ في حياةِ الآخرين. إنَّها كالنسيمِ الذي يحملُ عطرَ الزهرِ دونَ أنْ ينتظرَ شكراً. بيدَ أنَّ الاعترافَ بالذنبِ يتبعهُ وعيٌ بالمسؤوليةِ وسعيٌ صادقٌ لتجنبِ الوقوعِ فيهِ مرةً أخرى، فالتوبةُ الحقيقيةُ فعلٌ مستمرٌّ لا مجردُ كلمةٍ عابرة.  

في النهاية، الذنبُ والمغفرةُ ليسا نقيضَين، بل هما كالليلِ والنهار: يتعاقبانِ كي تبقى الحياة. الذنبُ يُذكِّرُنا بأنَّنا بشر، والمغفرةُ تُذكِّرُنا بأنَّنا قادرونَ على أنْ نكونَ أكبرَ من أخطائِنا. الفرقُ بينَ التائبِ وغيرِه كالفرقِ بينَ من يرى في الكأسِ شرخاً، ومن يراها قادرةً على أنْ تمتلئَ مرةً أخرى.  

فلنعترفْ، ولنغفر، ولنعشْ كما تعيشُ الأشجارُ: تسقطُ أوراقُها دونَ خوف، لأنَّها تعلمُ أنَّ الربيعَ آتٍ. فما أقسى الذنبَ إلا رحمةٌ مُقنَّعة، وما أجملَ المغفرةَ إلا ذنبٌ تُحوِّلَهُ المحبةُ إلى نور.  


جهاد غريب 
مايو 2025

المال: النار التي تُدفئُ أو تُحرق!

 
المال: النار التي تُدفئُ أو تُحرق! 

في زحمةِ الحياةِ، حيثُ تتدافعُ الأرواحُ كأمواجِ البحرِ أمامَ صخرةِ المادّة، يقفُ المالُ كساحرٍ صامتٍ يُحرّكُ خيوطَ المشهدِ من خلفِ الستار. ليسَ شرّاً مطلقاً ولا خيراً مطلقاً، بل هو كالنار: يُدفئُ من يعرفُ كيفَ يُمسكُ به، ويُحرقُ من يظنُّ أنَّ قبضتَه قادرةٌ على احتواءِ لَظاه.  

لطالما كان المالُ شاهداً على تحوّلاتِ البشرية. بدأَ قمحاً وملحاً في زمنِ المقايضة، ثم صارَ قطعاً معدنيةً تحملُ وجوهَ الملوك، وتطوّرَ إلى أوراقٍ نقديةٍ تختزلُ ثقةَ الأمم. واليوم، في عصرِ التكنولوجيا، أصبحَ أرقاماً تسبحُ في فضاءِ الإنترنت. لكنَّ جوهرَه بقيَ كما هو: وسيطاً للتبادل، ومقياساً للقيمة، وأداةً للقوة. هل تعلمُ أنَّ الإمبراطوريةَ الرومانيةَ سقطتْ جزئياً بسببِ التضخّم؟ وأنَّ دولاً نهضتْ من خلالِ نظمٍ ماليةٍ عادلة؟ المالُ ليسَ مجردَ عملة، بل هو سجلٌّ خفيٌّ لتاريخِ الصراعِ البشريّ بينَ العدلِ والجشع.  

يقولونَ إنَّ المالَ لا يُغيّرُ الأشخاص، بل يزيحُ الستارَ عن حقيقتِهم. أعطِ إنساناً فجأةً ثروةً، وانظرْ كيفَ يتصرّف: هل يتحوّلُ إلى "قارون" جديدٍ يخبئُ الذهبَ في خزائنَه؟ أم إلى "حاتم الطائي" يوزّعُه على المحتاجين؟ العلمُ الحديثُ يخبرنا أنَّ هناكَ "جيناتِ سخاء" و"جيناتِ بخل"، لكنَّ البيئةَ والقيمَ تظلُّ الأقوى تأثيراً. دراساتُ علمِ النفسِ تُظهرُ أنَّ الأغنياءَ قد يصبحونَ أقلَّ تعاطفاً مع معاناةِ الآخرين، بينما يُحفّزُ المالُ عندَ البعضِ روحَ العطاء. السؤالُ الأهم: أيُّ وجهٍ من وجوهِك سيكشفُ المالُ لو ظهرَ فجأةً في حياتك؟  

نعم، المالُ يشتري لكَ سريراً وثيراً، لكنّه لا يضمنُ نوماً هانئاً. يشتري لكَ طعاماً لذيذاً، لكنّه لا يمنحُك شهيةً لتذوّقِه. الأبحاثُ تقولُ إنَّ المالَ يزيدُ السعادةَ فقط إلى حدٍّ معين (حوالي 75 ألف دولار سنوياً في الدول المتقدمة)، بعدها تصبحُ المنافسةُ على المزيدِ سباقاً فارغاً. لماذا؟ لأنَّ السعادةَ الحقيقيةَ تُبنى من أشياءَ لا تُباعُ في الأسواق: لحظاتُ ضحكٍ مع أحباب، سلامٌ داخليّ، إحساسٌ بأنَّ حياتك لها معنى. الفيلسوفُ "أرسطو" كانَ محقاً: "الثروةُ وسيلةٌ للحياةِ الطيبة، وليستْ الحياةَ الطيبةَ نفسَها".

إنّ التعامل مع المال أشبه باحتضان جمرةٍ متّقدةٍ بين كفّيك، إن أمسكتها بحكمةٍ أدفأتْ روحك، وإن أفرطت في القبض عليها أحرقتْ وجودك. لا تجعل منه إلهاً يعبد من دون الحياة، فالحياةُ حين تتحوّل إلى سعيٍ محمومٍ وراء الأرقام تصبح سجناً ذهبياً، تُحسب فيه الأيامُ بأصفارٍ في الحساب، لا بضحكاتٍ في العيون. وتعلّم فنّ الموازنة بين ادّخار المستقبل وعيش الحاضر، فالمالُ مثل الماء، إن خزّنته ببخلٍ أصبح آسناً، وإن أفرطتَ في إنفاقه جفّت ينابيعُ الأمان. اشترِ ما تحتاجُه لكرامتك، لا ما يتطلّبهُ جشعُك، فالرفاهيةُ الحقيقيةُ ليست في تكديس الأشياء، بل في تحرير القلب من عبء التعلّق بها.  

واستثمر في العملات التي لا تهبطُ أسعارها أبداً: الوقتُ الذي تمنحُه لمن تحب، الصدقُ الذي يبني جسور الثقة، المعرفةُ التي تُضيء العقل، العلاقاتُ الإنسانيةُ التي تصنعُ شبكةَ الأمان عندما تهتزّ أركان الدنيا. وتذكّر دائماً أنك حارسٌ للمال، لا مالكٌ أبديّ له، فهو أمانةٌ بين يديك، وسيأتي يومٌ تتركُه وراءك كما تركَه كلُّ من سبقك. الأجملُ أن تتركَ أثراً يُذكرُ بعدك: بسمةً زرعتها، يداً مسكتها، حلماً ساعدتَ في تحقيقه، فهذه هي الثروةُ التي لا تفنى، حتى عندما تتلاشى كلُّ العملات من الذاكرة.

في النهاية، المالُ كالظلِّ: إذا طاردتَه، ابتعدَ عنك. إذا مشيتَ في نورِ قيمِك، تبِعَك. لن تأخذَ معك إلى القبرِ إلا ما أنفقْتَه على الآخرين، لا ما جمعتَه لنفسك. فلتكنْ حكيمَ العطاءِ كالغيثِ، لا حريصَ الادخارِ كالصحراء. لأنَّ الحياةَ – في عمقِها – ليستْ رقماً في حساب، بل قصّةٌ تُروى بأفعالٍ تبقى بعدَ زوالِ العملات.


جهاد غريب 
مايو 2025

الفخر: نهضة الروح من بين الرماد!

 
الفخر: نهضة الروح من بين الرماد!  

في ساحةِ الحياةِ، حيثُ تتهاوى التماثيلُ الوهميةُ التي ننحتُها لأنفسِنا، يبرزُ الفخرُ الحقيقيُّ كطائرِ الفينيقِ الذي ينهضُ من رمادِ تجاربه. ليس تيهاً ولا تبجحاً، بل شموخٌ صامتٌ كالجبلِ الذي يَحمِلُ آثارَ العواصفِ على صدرِه، لكنّه يبقى شامخاً بكرامتِه. الفخرُ ليس أن تسيرَ بلا عثرات، بل أن تلتفتَ إلى الوراءَ فترى كلَّ سقطةٍ قد تحوّلتْ إلى حجرٍ في طريقِ صعودِك.  

كم من مرةٍ سمعنا أن الفخر هو مرآة الهوية؟ إنه الشعور الذي يربطنا بجذورنا وإنجازاتنا، فيصنع منا كائناتٍ متماسكةً قادرةً على مواجهة العالم. الفخرُ هو ذلك الخيطُ الخفيُّ الذي ينسجُ نسيجَ هويتنا، فرديةً كانت أم جماعية. فحين يعترفُ المرءُ بإنجازاته، حتى الصغيرة منها، فإنه يبني صورةً ذاتيةً قويةً تقاومُ رياحَ التشكيكِ الخارجية. وفي المجتمع، يصبح الفخرُ الجماعيُّ جسراً للانتماء، كما نرى في قصصِ الشعوبِ التي حوّلتْ آلامَها إلى مصادرَ للقوةِ والوحدة.  

لكنّ الفخرَ ليس مفهوماً واحداً في كلّ الثقافات. فبينما ترى بعضُ المجتمعاتِ فيه وقوداً للتقدم، تحذّرُ أخرى من تحوّله إلى غرورٍ يعمي العيون. في اليابان مثلاً، يُقدَّر التواضعُ حتى عند الإنجاز الكبير، بينما في ثقافاتٍ أخرى، يكون الفخرُ علنياً كعلامةٍ على الثقةِ بالنفس. هذا التنوعُ يذكرنا بأن الفخرَ الحقيقيَّ لا يحتاجُ إلى ضجيجٍ ليثبتَ وجوده، بل يكفيه أن يكونَ صادقاً في أعماق النفس.  

كيف ننمي الفخرَ الحقيقيَّ في النفوس؟ تبدأ القصةُ منذ الطفولة، حين يعلّمنا الأهلُ أن نرى الجمالَ في محاولاتنا، وليس فقط في نتائجنا. فطفلٌ يشعرُ بالفخرِ لأنّه تعلمَ ربطَ حذائه بنفسه، سيكبرُ ليكونَ إنساناً يقدّرُ الجهدَ ويعرفُ قيمةَ نفسه. أما عندما يُربَّى الإنسانُ على أن الكمالَ هو المعيارُ الوحيد، فإنّ أيّ خطأٍ سيشعرُه بالخزي بدلاً من الفخرِ بالتعلّم.  

وهنا يأتي السؤالُ الأهم: متى يتحولُ الفخرُ إلى غرور؟ الفرقُ بينهما كالفرقِ بين النهرِ العذبِ والبحرِ المالح: الأولُ يروي ويُنعش، والثاني يغرقُ من يسبحُ فيه. الفخرُ الإيجابيُّ هو أن تقول: أنا ممتنٌ لما حققته، أما الغرورُ فهو أن تظنَّ أنك وصلتَ بلا معين. قال الحكيم: لا تكنْ كالقشةِ التي تطفو على الماءِ فتبالغُ في اعتدادها، بينما جذورُ الشجرةِ العظيمةِ تخفي نفسَها في الأرضِ وهي ترفعُ أغصانَها إلى السماء.  

وكما تختلفُ مياهُ النهرِ عن ملوحةِ البحر، يختلفُ الفخرُ عن الغرورِ في أعماقِ تأثيرهِ على النفسِ والآخرين. لكنّ السؤالَ الأبقى: هل يمكنُ للفخرِ أن يصبحَ جسراً نحو التواضعِ بدلاً من أن يكونَ حاجزاً أمامه؟ بل إنّ الفخرَ الحقيقيَّ يمكن أن يكونَ تواضعاً! كيف؟ حين تعرفُ أن إنجازَك هو ثمرةٌ لجهودٍ كثيرةٍ: دعمِ الأهل، تضحياتِ المعلّمين، وحتى تحدياتِ الحياةِ التي صنعتْ منك ما أنت عليه. أليستْ أروعَ لحظاتِ الفخرِ هي تلك التي تشعرُ فيها بالامتنانِ لكلّ من ساعدَك في الطريق؟  

تخيّلْ معي شجرةَ البلوطِ العتيقة: كلّ حلقةٍ في جذعها تحكي قصةَ عاصفةٍ تجاوزتها. هكذا يكونُ الفخرُ وقوداً للمرونةِ النفسية. حين تفخرُ بأنك استطعتَ النهوضَ بعد فشلٍ مرير، فإنّك تبنى داخلَك حصناً ضدّ اليأس. وكما كتبَتْ الشاعرةُ الأمريكيةُ مايا أنجيلو: لقد تعثرتُ فسقطتُ، لكنّي نهضتُ بفخرٍ لأنّ السقوطَ لم يهزمْ روحي.  

تذكّرْ معي المهندسَ الذي فخرَ ببناءِ جسرٍ صغيرٍ في قريته قبل أن يصمّمَ أعظمَ الجسور. أو الطالبةَ التي فخرتْ بخطواتها الأولى في القراءة قبل أن تصبحَ كاتبةً مشهورة. هؤلاء لم ينتظروا إنجازاتٍ ضخمةً ليشعروا بالفخر، بل عرفوا أن كلَّ خطوةٍ تستحقُ الاحتفال.  

في النهاية، الفخرُ الحقيقيُّ هو أن تعيشَ حياتَكَ كلّها كقصيدةٍ تكتبها بأناملك، لا كصورةٍ يحكمُ عليها الآخرون. هو أن ترى في كلِّ جرحٍ إمكانيةً لولادةٍ جديدة، وفي كلِّ فشلٍ بدايةً لمحاولةٍ أخرى.  

فليكنْ فخرُك كالشمسِ التي تُشرقُ دونَ أن تنتظرَ إعجابَ الناظرين، وكالوردةِ التي تزهرُ بين الصخورِ لأنّها تعرفُ أن الجمالَ حقٌّ لها، حتى لو لم يرَها أحد. وتذكّرْ دائماً: أعظمُ انتصارٍ هو أن تظلَّ إنساناً يحملُ قلباً شجاعاً، يعترفُ بضعفهِ أحياناً، لكنّه يرفضُ أن ينكسر.  

فماذا ستختارُ اليوم؟ هل ستتركُ الحياةَ تكتبُ على جبينك سطورَ الخضوع، أم سترفعُ رأسَكَ بفخرٍ وتقول: هذه أنا... كاملةٌ بنقائصي، جميلةٌ بتحدياتي، وقويةٌ بقدرِ ما أعطيتُ لهذه الحياةِ من معنى؟

جهاد غريب 
مايو 2025

الخميس، 29 مايو 2025

أسرار البوح.. حين تتحول الكلمات إلى جروح نختارها بأيدينا!

 
أسرار البوح.. حين تتحول الكلمات إلى جروح نختارها بأيدينا! 

كم من كلمةٍ أطلقناها بثقةٍ عمياء، فعادت إلينا كسهمٍ مسموم؟ كم من سرٍّ دفعناه إلى آذانٍ ظنناها حصونًا، فإذا بها نوافذُ مفتوحةٌ على عواصف لم نتوقعها؟  

هذه ليست قصة خيانةٍ عابرة، بل سيرة علاقتنا مع الكلمة نفسها!، ذلك الكائن الحي الذي نمنحه الحياة حين ننطقه، ثم يفاجئنا بأنه قد ينقلب ضدنا كائنًا متوحشًا. من براءة الطفل الذي يرى في البوح خلاصًا، إلى حكمة الرجل الذي اكتشف أن بعض الصمت ليس انسحابًا، بل تحصينًا لبقايا الروح.  

الكِبَرُ والحكمة: حين يصمت القلب لِيُحافِظَ على أسراره! 

لم أكتب هذه الكلمات اليوم بحثًا عن تنفيسٍ، فلم أعد ذلك الشخص الذي يلهث وراء فُرَص البوح كي يخفف ثِقل ما في داخله. في سنوات الصبا، كنّا نرى في "الفضفضة" ملاذًا آمِنًا، بل ومتنفّسًا ضروريًا لِما يعتمل في الصدر من ألمٍ أو ضيق. كنّا نؤمن بأن الكلمات تُحرّرنا، وأن الأذن التي تسمعنا هي يدٌ تحمينا.  

في تلك المرحلة، لم تكن لدينا أدواتٌ لفهم تعقيدات المشاعر، ولا الخبرة الكافية لنُدرك أن كلمات الضعف قد تتحوّل يومًا إلى سلاحٍ يُوجَّه ضدّنا. كنّا نرى في مشاركة الألمِ راحةً، وفي الكلمات العذبةِ ضمادًا للجروح. كنّا نعتقد أن من يمنحنا أذنًا مُتعاطفةً هو حارسٌ أمينٌ لأسرارنا، وأن البوحَ نافذةٌ نحو الشفاء، لا جسرٌ نحو الخذلان.  

لكنّ السنوات علّمتنا. اكتشفنا أن بعضَ من أَفرَشنا لهم قلوبنا، لم يكونوا يسمعون برحمةٍ، بل كانوا يُسجّلون في ذاكرتهم تفاصيلَ هشّةً، قد تُستعاد ذات يومٍ حين تختلّ موازين العلاقة. تعلّمنا أن بعض القلوبَ لا تُحافظ على أمانة السرّ، وأن النوايا الطيبة وحدها لا تكفي لِحِمايةِ ما نُخفيه.  

الفضفضة.. حين يتحول الكلام إلى قيد! 

تعلّمنا - ربما بمرارة التجربة - أن البوحَ ليس دائمًا مَخرجًا للحرية، بل قد يصبح قيدًا جديدًا نُضيفه إلى أعبائنا!، فما نُفشيَه من أسرارٍ قد يتبخّر من ذاكرتنا، لكنه يبقى محفورًا في أذهان من سمعوه، وقد ننسى لحظات ضعفنا بعد أن نُصالِحَها، لكننا لا نستطيع ضمانَ أن يفعلَ الآخرون الشيءَ نفسَه.  

في الماضي، آمنّا - كأطفالٍ يحملون قلوبهم على الأكفّ - أن الكلامَ يُعطينا الأمان، وأن مجردَ النطقِ بالألم يُذهبه، لكننا لم نكن ندرك أن الشفاءَ الحقيقيَّ لا ينزلُ علينا من سماءِ تعاطف الآخرين، بل ينبثقُ من أعماقنا. من تلك اللحظاتِ التي نعيدُ فيها بناءَ أنفسنا في صمت، نواجهُ فيها أوجاعنا دون شهود، نكتسبُ فيها الحكمةَ التي تميّز بين من يُصلِحُ كلماتهِ مرهمًا لجروحنا، ومن يحوّلها إلى جمرٍ تحت الرماد.  

لذلك، لم أعد أبحثُ عن خلاصٍ في كلماتٍ أهدرُها أمامَ أحد. ليس هذا تكبّرًا، بل احترامًا لرحلتي. لم أعد أطلبُ أن يحتويَني أحدٌ بكلامه، بل بسكوتهِ الذي يفهمُني دون حروف. ولم أعد أرى في البوحِ دليلَ ثقةٍ عمياء، بل أرى فيه أمانةً لا يستحقّها إلا من أثبتَ - بوعيهِ ونضجهِ - أنه قادرٌ على حملِ ثقلها.  

بوحٌ بمواصفات.. حين تصبح الثقة قرارًا وليس انفعالًا! 

لم يعد البوحُ - بعد كل هذه السنوات - مجردَ إفراغٍ عشوائي لمحتويات القلب في أي أذنٍ تسمع. لقد تعلّمتُ أن الكشفَ عن الذات يحتاج إلى أكثر من مجردِ قلبٍ دافئ؛ فهو يقتضي وعيًا حادًا، ومساحةً مُحصّنة، وقدرةً على التمييز بين اللحظاتِ التي تتطلّب الكلام وتلك التي تستحق الصمت. البوحُ ليس هروبًا، بل مسؤوليةٌ توازي مسؤولية حفظ السرّ. وأولُ شرطٍ له أن تكون مستعدًا لتحمّل تبعاته، مهما بلغت ثقلًا.  

كما اكتشفتُ أن الثقةَ ليست نبضةً عابرةً نُطلقها في لحظة ضعفٍ أو وحدة!، إنها قرارٌ واعٍ نمنحه فقط لمن أثبتَ - عبر الزمن والأفعال - أنه قادرٌ على حملِ أمانتها. لا تكفي الكلماتُ المعسولة، ولا الإيماءاتُ المتعاطفة، ولا حتى الإنصاتُ الجيد كي نسلّمَ أحدًا مفاتيحَ دواخلنا. فكم من أذنٍ منصتةٍ تختبئ خلفها ذاكرةٌ تعبثُ بالأسرار كأوراقٍ في مهبّ الريح!  

الحقيقةُ المُرة أن قلائلَ فقط هم من يمتلكون ذلك النضجَ الذي يجعلهم حصنًا لِما يُقال لهم. أناسٌ يعاملون كلماتك كوديعةٍ مقدسة، لا يتلاعبون بها حتى لو اختلفتم، ولا يتّخذونها سلاحًا حتى لو جُرحوا. قلائلُ مَن يفهمون أن الأسرارَ ليست حكاياتٍ تصلحُ للترفيه، بل شظايا أرواحٍ يجب أن تبقى حيثُ وُضعت.  

الصمت.. حين يصبح الاختيار الأخير لإنقاذ ما تبقى منك! 

في الحياة دروس قاسية لا تُفهم إلا عندما تتحول الثقة إلى سكين. كم هو مُربك أن تكتشف - بعد فوات الأوان - أن ذلك الكتف الذي اتكأت عليه لم يكن سوى أرشيف مؤقت، وأن تلك الأذن التي أمنتها على أحزانك تحولت فجأة إلى منصة إعدام، تُهدم فيها كل الذكريات بلحظة غضب واحدة.  

ليست المشكلة في الهجر أو القطيعة، بل في ذلك التحول المفاجئ من "سرّ بيننا" إلى "سلاح ضدك". إنها خيانة مزدوجة: للأمس الذي انكشف، وللصورة التي رسمتها في مخيلتك عن هذا الإنسان. هناك جراح لا تلتئم لأنها تعرّضت للهواء أمام العيون الخطأ، لا لأنها نزفت كثيراً.  

لهذا أصبح الصمت خياري. ليس هروباً من المواجهة، بل إنقاذاً لما تبقى منّي. تعلمت أن أُخضع قلبي لرقابة عقلي، وأن أختبر الأرواح قبل أن أودعها أسراراً. لم أعد أبحث عن أذن تسمعني، بل عن روح تفهم أن الأمانة ليست مجرد كلمات تُقال، بل ميثاق غير مكتوب - يقف صاحبه حارساً لك حتى في غيابك.  

ذاكرة الصداقة.. حين تتحول البراءة إلى سيرة ذاتية للمراجعة! 

أكتب هذه السطور وأنا أستعيد ذكرى صديقٍ ظننته يوماً أنه سيكون ظلي الذي لا يغيب. تعرّفنا في زمن المدرسة حين كانت الدنيا تتسع بأحلامنا، وكنا نضحك وكأننا اخترعنا الفرحَ من العدم. كنا نروي لبعضنا تفاصيل أيامنا كمن ينسج سجلاً مشتركاً لروحين التحمتا قبل أن تعرفا كيف تكون الخيانات.  

كان أول من يسمع فرحي قبل أن يكتمل، وأول من يلمس جراحي قبل أن تدمى. لم أكن أتردد في أن أفرغ له قلبي كما يُفرغ الطفلُ جيوبه من حصى ملونة أمام أمه. كانت ثقتي به أشبه بثقة الأرض بالشمس - لا تحتاج إلى استئذانٍ أو تأكيد. بيتي كان بيته، وضحكة إخوتي كانت ضحكته، وكنا في المناسبات نبدو كشاهدين على أن الأخوة يمكن أن تكون مصنوعة من اختيار القلب لا من دماء القرابة.  

حملنا أحلاماً طفولية كفراشات لا تعرف أن في العالم زجاجاً. خططنا أن نعبر الحياة معاً كرفيقَي درب لا يفترقان، أن نكتب قصص نجاحنا بنفس الحبر، أن نكبر معاً دون أن ننسى كيف نلعب. تلك الأحلام التي نكتشف لاحقاً أنها كانت جميلةً فقط لأنها لم تصطدم بواقعٍ قاسٍ بعد.  

كل ذاكرة معه كانت تبني في داخلي يقيناً أن بعض العلاقات تُولد محصّنة ضد النهايات... لكن الزمن أثبت أنني كنتُ ساذجاً، أو ربما كنتُ مؤمناً بالطِيْبَة وبالبساطة أكثر مما يجب.  

الخيانة.. حين يتحول الصندوق المقدس إلى سلاح في العراء! 

لكن الحياة - بسخريةٍ قاسية - كانت تختزن لي درساً لم أكن مستعداً له. حين اختلفنا ذلك اليوم، في خلافٍ بدا عادياً كأي نزاع بين أصدقاء، لم أتخيل للحظة أن رياحاً عابرةً ستتحول إلى إعصارٍ يقتلع جذورَ عشرين عاماً من الثقة. فجأةً، انفتح ذلك الصندوق الذي أودعته كل أسرار روحي، لا بحثاً عن حلّ أو تفاهم، بل بدافعٍ أشبه برغبةٍ مَرَضيةٍ في التشفي والانتقام.  

نشر كلماتي التي قالها له قلبي الطيب، كما ينشرُ التاجرُ بضاعته الرخيصة في السوق. كل همسةٍ ثقةٍ، كل دمعَةِ ضعفٍ، كل اعترافٍ بريءٍ - حوّلها إلى عملةٍ زائفةٍ يتداولها إخوتي وأقرب الناس. لم يتردد لحظةً في كسر ذلك الميثاق غير المكتوب الذي يقول: "ما يُقال في ظل الثقة يموت حيثُ قيل". لم يكن هناك ذرة وفاءٍ تكبح لسانه، ولا ذكرياتٌ تردعه عن خيانةِ كل تلك السنوات.  

في ذلك الوقت، كنتُ لا أزال ساذجاً أعتقد أن القلوبَ كلها تحملُ نفس المروءة. لم أكن أعرف أن بعض النفوسَ تختزنُ أسرارك كرصيدٍ استراتيجيٍ لساعة الغضب. كنتُ أؤمن - ببراءةٍ موجعة - أن الناسَ كالأشجار، كلما تعلقتَ بها أكثر، زادت ظلالُها حمايةً. لكني اكتشفتُ أن بعضهم مجرد خيامٍ مهترئةٍ، تسقطُ عند أول هبة ريح، وتتركك عارياً في العاصفة.  

الندم.. حين تكتشف أن الكلمات أسلحة ذات حدين!

ولعل القسط الأكبر من الألم لم يكن في الخيانة ذاتها، بل في ذلك الإحلال الجارح الذي تسلل إلى روحي: خجلٌ من ذاتي! كيف أمكن للبصيرة أن تعمى إلى هذا الحد؟ كيف منحتُ مفاتيح قلبي بكل سهولة لمن لم يكن يستحق حتى نظرة عابرة؟ كيف كشفتُ أعماقي لمن ظننتُه سطحاً آمناً؟  

نعم، اكتشفتُ الحقيقة مبكراً، لكن ليس مبكراً بما يكفي لإنقاذ طفولتي التي تحطمت في تلك اللحظة. بعض الجروح لا تحتاج سوى ثانية واحدة لتحدث، لكنها تحتاج إلى عمرٍ كاملٍ لالتئامها. كانت تلك الخيانة بمثابة الخط الفاصل بين عالمين: عالم الطفل الذي رأى الدنيا حديقةً مغلقةً للأسرار الآمنة، وعالم الرجل الذي أدرك أن بعض القلوب قد تكون أقفاصاً مسننةً تنتظر اللحظة المناسبة للانقضاض.  

منذ ذلك اليوم، بدأت مرحلةٌ جديدةٌ من الوعي. صرت أتعامل مع الكلمات كما يتعامل الكيميائي مع موادّه: بقياسات دقيقة، ووعي تام بأن أي تسرع قد يُحدث انفجاراً لا يُحتمل. تعلمتُ - ربما متأخراً - أن الكلمة بمجرد خروجها من الفم، تتحول إلى كيان مستقل. لا تعود ملكاً لصاحبها، بل تصبح رهينةً في ذاكرة الآخرين، قابلةً للتحول إلى سكين أو شفرة أو حجر عثرة في أي لحظة.  

البوح لم يعد ذلك الفعل العفوي الذي كنتُ أعتقده. لقد أصبح مسؤوليةً أخلاقيةً تتطلب إجابات صارمة: من هو المستحق حقاً لأن يرى عراءَ روحك؟ هل سيحمل هذه الأمانة أم سيتاجر بها؟ الكلمات التي نلقيها في لحظة ضعف قد تتحول إلى سُحب سامة نستنشقها لاحقاً في غرفة الندم المغلقة.  

حكمة التجارب.. حين تصبح العزلة ملاذًا والثقة امتحانًا متكررًا! 

التجارب.. تلك المعلّمة القاسية التي لا تمنحك كراسة تعليمات، بل تدفعك إلى ساحة الاختبار ثم تتربص بك. لا ترحمك إن تعثرت، ولا تكافئك إن نجوت، لكنها - في كل الأحوال - تنحتك نحتًا. علمتني أن الصمت قد يكون أحيانًا أقوى بيان، وأن الحذر ليس جبنًا، بل بوصلةُ نجاةٍ في عالمٍ يخلط بين الثقة والسذاجة.  

أصبحت اليوم أرى في العزلةِ رفاهيةً لا يستطيعها إلا من نضج. صار صمتي لغتي الثانية، أتحدثها عندما يعجز الآخرون عن فهم معنى "الاحتفاظ بالكلام". لم أعد أخشى الوحدة، بل صرتُ أجد في هدوئها مساحةً لأعيدَ ترتيبَ أوراقي بعيدًا عن ضجيج الوعود الهشة، وتلك الآذان التي تلتقط الكلمات لا لتحتويها، بل لتخزّنها كأسلحةٍ في ترسانة المستقبل.  

ومع ذلك، جاءت الحياةُ باختبارٍ جديد. ظهر صديقٌ آخرُ كضوءٍ دافئٍ بعد ليلةٍ مطيرة، ملأ ذلك الفراغَ الذي تركه سابقه. لم أبحث عنه، لكنه دخل حياتي كما تدخل أشعة الشمس من نافذةٍ نصف مفتوحة. ظننتُ أن جراح الماضي كفيلةٌ بتحصيني، لكني اكتشفت أن الدروسَ المصيريةَ تعودُ إلينا دائمًا بأقنعةٍ جديدة. كأن الكونَ يقول: "المهمة لم تكتمل بعد".  

الاحتلال الهادئ.. حين يتحول الاهتمام إلى استعمار للذات! 

لم يكن هذا الصديق من النوع الذي يخون بالأقوال، بل كان خيانته أكثر دهاءً: خيانةً بالوجود. ظهر كـ"حارسٍ" لأسرار لم يُؤتمن عليها، و"مستشارٍ" لم يُستشر. حرصه المفرط على أن يكون "الكتف الذي لا يخور" تحول ببطء إلى قبضةٍ ناعمةٍ تسيطر دون أن تظهر؛ كالماء الذي يتسلل إلى شقوق الصخر، كان يملأ مساحاتي قبل أن أدرك أنني أفرطت في منحه مفاتيحها.  

لم يأخذ شيئًا بالقوة، لكنه أخذ كل شيء بالتدريج. أصبح حاضرًا في تفاصيحي كما يكون الظل في عز النهار: في قراراتي التي صارت تحمل بصمته قبل بصمتي، في ترددي الذي صار يستشيره قبل أن أستشير نفسي، حتى همسات ضميري صارت تمر عبر أذنه قبل أن تصل إلى قلبي.  

كان يفتح أبوابًا في روحي لم أكن أعرف أنها تحتاج إلى أقفال. يقنعني بكشف ما دفنت، وبمحاولة ما تجنبت، وبقول ما لم أنوِ قوله. كل ذلك مغلفًا بعبارات: "هذا لمصلحتك"، "أنا أعرف ما لا تراه"، "ثق بي". ومع كل خطوة، كنت أتنازل عن قطعة مني دون أن أنتبه.  

لكن اللحظة الأقسى كانت حين اكتشفت أنني - بفرط وضوحي معه - صرت شفافًا إلى درجة الاختفاء. لم يعد يقرأ مشاعري فحسب، بل صار يكتبها نيابة عني. الأكثر إيلامًا أنني لم أستطع اتهامه، فكل تدخلاته كانت تحت عباءة الاهتمام. كيف تحارب من لا يحمل سوى ورودًا؟ كيف تشتكي من يدّعي أنها تنظف جراحك بينما تزيدها نزيفًا؟  

هنا فهمت الدرس الأخير:  
بعض الناس لا يسرقون منك كلماتك، بل يسرقون صوتك الداخلي. لا يهاجمون حدودك، بل يجعلونك تنسى أن لديك حدودًا. يحولونك إلى نسخة منهم عنك، بدل أن تكون أنت.  

في النهاية، ندرك أن أعظم الدروس ليست في تعلم من نثق بهم، بل في فهم كيف نثق بأنفسنا أولًا. ربما ليست الخيانات هي ما يجب أن نخشاه، بل ذلك الجزء منا الذي يصرّ على منح الأمانة لمن لا يستحقونها مرارًا.  

القلوبُ النقية لا تكف عن الثقة لأنها ضعيفة، بل لأنها تعشق فكرةَ أن العالم يمكن أن يكون مكانًا يستحق الثقة. لكن الحكيم ليس من يغلق قلبه، بل من يتعلم متى يفتحه، ومتى يكتفي بإشراقته الداخلية.  

هكذا تصنع الحياةُ منا حراسًا لأسرارنا الأخيرة.. ليس بالجدران، بل بالوعي. ليس بالخوف، بل باختيارٍ واعٍ لأي الأرواح تستحق أن ترى الشمسَ الكامنة في صدورنا.  

جهاد غريب 
مايو 2025

الأربعاء، 28 مايو 2025

أوراقٌ لا تُقرأُ إلّا بالقلب!

 
أوراقٌ لا تُقرأُ إلّا بالقلب!

في زوايا هذا العالمِ، حيثُ تتساقطُ الأقنعةُ كأوراقِ الخريفِ المُتعبَة، يظلّ الجوّ محمّلًا بتلك الحقيقة المُرّة التي نراوغها طويلًا: أنّ كثيرًا مما نُظهره ليس نحن، وأنّ كثيرًا مما نسمعه ليس لهم. كم من ضحكةٍ ارتدت قناع المجاملة؟ وكم من وجهٍ اعتاد على التزيين لا ليُعجب نفسه، بل ليضمن موطئًا وسط حشودٍ لا ترى إلا الواجهة؟ تبقى بعضُ الكلماتِ في هذا الضجيج كندى الصباحِ على جبينِ الزمنِ، نقيّة، صادقة، لا تستعرضُ نفسها كبقية الأصوات، بل تأتي همسًا، رقيقةً كلمسةِ أمٍّ على جبينِ طفلٍ نائم، تروي عطشَ الأرواحِ الظمأى لمعنى، لانتماء، لصدقٍ لا يحتاج إلى شرح.

كم مرّةً وقفنا أمامَ مرآةِ الثناءِ لنكتشفَ فجأةً أنّ انعكاسَنا فيها أشبهُ بلوحةٍ باهتةٍ، رسمَها آخرون بأيدٍ لا تعرفُنا؟ كلمات المديح التي تُقال أحيانًا لا تصفنا، بل تصف صورةً أرادوها لنا، وارتضيناها، خوفًا من فقدان الحبّ المشروط أو المكانة المصطنعة. نُضطرّ أن نُصفّق لأنفسنا بتصفيقِ الآخرين، بينما نحن في الداخلِ نبحثُ عن صوتٍ واحدٍ صادقٍ يقول: "أنا أراك كما أنت، دون بهتان، دون رتوش". هل هناك أصعب من أن تُعامَل على أساس تصوّر لا يشبهك؟ من أن تُحبَّ بطريقة لا تفهمك؟ أن تجد نفسك محاصرًا في هويةٍ خُلقت من ظلالِ الآخرين؟

الصمتُ هنا ليس فراغًا، بل هو الفضاءُ الذي تسبحُ فيهِ الكلماتُ الحقيقيةُ، تلك التي لم تجد بعدُ لسانًا يجرؤ على النُطق بها. إنّه اللغةُ التي يفهمها القلب، عندما تعجز الحروف عن الترجمة. الكلمات الصادقة تُشبه الأسماكَ الفضيّة، تنسابُ في أعماق النفس بخفةٍ ودهشة، لا تُحدِثُ ضجيجًا، لكنها تُحرّكُ شيئًا دفينًا فينا. أحيانًا، تكونُ الكلمةُ الأصدقُ هي التي لم تُقلْ بعدُ، لأنّها تخافُ من أن تُفهم خطأ، أو تُبتر في منتصف شعورها، فتختار أن تعيش في الصدر، كالسرّ الجميل، تنتظرُ اللحظةَ التي يكون فيها البوحُ خلاصًا لا خطرًا، نورًا لا حريقًا.

وتلكَ الغربةُ التي تحملُها بينَ ضلوعِك، كطائرٍ مهاجرٍ في سماءِ بلادٍ لا تعرفُها، لا تحتاجُ إلى شرحٍ في قواميس التحليل النفسي. الغربةُ الحقيقية ليست في المسافات، بل في فقدان المعنى، في أن تكون محاطًا بالبشر وتشعر أن لا أحد يرى ما خلفَ عينيك. أن تضحك معهم وتبكي وحدك. أن تُسأل عن أحوالك، لا ليسمعوك، بل ليُكملوا حديثًا بدأوه في رؤوسهم. هذه الغربة هي الشعور بأنّك تُلقي كلماتك في بحرٍ من الزجاج، كل شيء يبدو قريبًا لكنه لا يُلامَس. وجوهٌ تُشبه الشوارعَ المزدحمةَ، تعجّ بالحركة، لكنّها فارغةٌ من التلاقي، من الدفء، من الإنصات. والمجاملةُ؟ قد تكون أكثر أشكال الغربة قسوة، لأنّها تُظهر الاهتمام وتخفي اللامبالاة. كعباءةٍ مطرّزةٍ بالذهبِ، خفيفة، باردة، لا تُغني عن دفء حقيقيّ.

لكنْ، في زحامِ هذهِ الأصواتِ، وفي ظلّ الوجوهِ التي لا تُشبهنا، يظلّ هناك نورٌ ما، خافتٌ كشمعةٍ في غرفةٍ بعيدةٍ، لا يُضاءُ ليراهُ أحدٌ، بل لأنّ الظلامَ لا يُطاق. إنه الإيمان بأنّ الجمال ما زال ممكنًا، والصدقِ لم يمت، والحبّ النقيّ لم ينقرض. هذا النور لا يحتاج إلى تصفيق، لا يُروّجُ لنفسه، بل يتسرّبُ مثل النسيم، من ثغراتِ الحواجز، ومن النوافذِ المغلقة. قد تكون كلمةٌ واحدةٌ صادقةٌ كفيلةً بإحياء ما مات فينا، بتليين ما تصلّب، بزرعِ أملٍ في أرضٍ ما عادت تؤمنُ بالمطر. الكلمةُ التي تخرج من القلب لا تحتاجُ إلى صياغةٍ فاخرة، تكفيها نيّتها.

هل نجرؤُ يومًا على أن نكونَ كما نحن، دونَ أقنعةٍ، دونَ تبريراتٍ؟ هل نملك شجاعة أن نقول: "هذا أنا، بخوفي، برجفتي، ببدايتي التي لم تكتمل؟". كثيرًا ما نعيش ككتبٍ مغلقةٍ، نُزين الغلاف، ونخشى أن يفتحنا أحدٌ فيقرأ الفصول التي لم نجرؤ على قراءتها نحن أنفسنا. نحتاج إلى قارئٍ يقرأنا بالقلب، لا بالعَين، قارئٍ لا يُحلّلنا كمعادلة، بل يحتضننا كقصة. فالعالمُ يصرخُ بألفِ صوتٍ، يطلب الانتباه، يُزايد بالمشاعر، لكنّ أعذبَ الأصواتِ، ذلك الذي يأتي من الداخلِ، هادئًا، صادقًا، كأنينِ القيثارةِ حينَ تعزفُ لحنَها الأخيرَ… لا لتُدهش، بل لتُودّع.

في النهايةِ، ليستِ الحياةُ إلّا مرآةً، لا تعكسُ ملامحنا بقدر ما تعكسُ نوايانا. إنْ حدّقتَ فيها بقلبٍ مفتوحٍ، رأيتَ الجمالَ الكامنَ خلف التجاعيد، خلف الغبار، خلف الألم. رأيتَ نورًا صغيرًا يقول لك إنك لست وحدك. وإنْ أغمضتَ عينيكَ خوفًا من الحقيقةِ، فلن ترى إلّا الظلالَ، ستعيش في وهمِ الحماية بينما أنت غارقٌ في العتمة. فلتكنْ كلمتُكِ كالوردةِ، تُزهِرُ حتى لو لم يشمّها أحدٌ، لأنّ العطرَ الحقيقيّ لا يحتاج جمهورًا. وليكنْ صمتُكِ كالنهرِ، يبدو ساكنًا، لكنه يحملُ في أعماقهِ أسرارَ الأرضِ، حكمتَها، وحنينَها الأزليّ للبحر.

جهاد غريب 
مايو 2025

جمرة الروح في مسرح الظلال!

 
جمرة الروح في مسرح الظلال!

في عالمٍ تحكمه المشاهد المتقنة والتصفيق المعلّب، نرتدي أقنعتنا الخشبية يوميًا ونعتلي الخشبة كأننا نمثّل أدوارنا لا نعيشها، نختار بحذر ملامح الوجه، نحدّد بدقة مواضع البكاء والضحك، نؤدي واجب التهذيب والتسامح والمرح، وننسى في زحمة هذا التمثيل الطويل كيف يبدو صوتنا الحقيقي حين لا نؤدي أحدًا.

الخشبة ليست خشبًا فحسب، بل تلك الحياة المائلة بيننا وبين ذواتنا، تلك التي نعيشها ونحن نحاول أن نبدو كما يُنتظر منا، لا كما نحن!؛ الأقنعة ليست كذبًا، بل ضرورة مؤلمة، حاجة اجتماعية لا نجرؤ على خلعها حتى في أقرب المجالس، وربما لهذا، حين نخلد إلى وحدتنا، نشعر بارتباك غريب، كما لو أننا ضيوف في بيتنا، نمر بجانب المرايا فنخفض رؤوسنا، كأننا نخشاها أن تفضح.

وحين نغيب، تبدأ فصول أخرى لا نشهدها بأعيننا، لكنها تُكتَب بلغة الغياب؛ تُدوّن أشياء لا نعلمها؛ تُلتقط ملامحنا في غيابنا أكثر مما تُلاحظ في حضورنا!، هناك دائمًا مشاهد تُعرض ونحن بعيدون، تهمس بها الأرواح قبل الألسنة، وتُسجّل في دفاتر غير مرئية!، الغياب هنا لا يعني الاختفاء فقط، بل اختبار الحضور: من يفتقدك؟ من يذكرك؟ من يضع صورتك في قلبه حين تغيب عن عينيه؟

وهكذا، في غيابنا، نعرف وزننا الحقيقي!، يُراقَب الحاضر من خلف ستار، وتُصاغ المواقف على هيئة حكايات صامتة، وكأن هناك مَن يدوّن سطرًا جديدًا كلما غبنا عن الأنظار؛ الغريب أن هذه المشاهد أكثر صدقًا من آلاف اللقاءات المصطنعة، لأنها لا تُروى للعرض، بل تُفهم بالصمت.

ومع كل مشهد من مشاهد الغياب، تسقط ظلال الكراسي من حولنا؛ ظلال تُخيّل لك أنك جالس بين أصدقاء، بينما الحقيقة أنك محاط بانعكاساتهم لا بحقيقتهم؛ الكرسي له ظل، لكنه لا يمنح دفئًا؛ والمجلس له ضحك، لكنه لا يحمل في جوفه حبًا؛ كم من مرة جلست حيث ظننت أنك في مأمن، بينما كانت الظلال تحيك خلفك مسرحًا آخر، حيث الأعين لا تُظهر ما تراه، والقلوب لا تقول ما تشعر به؟

تُخدع ظلال الكراسي كما تُخدع الأحلام في يقظة مضللة، تُربّت على كتفك وهي تُخفي عنك خناجر الظنون، وتكتشف متأخرًا أن بعض المجالس لا تُعاش، بل تُحتمل، وتدرك أن أكثر ما يرهق القلب ليس الجلوس وسط الغرباء، بل بين من يشبهونك مظهرًا ويخالفونك روحًا.

ووسط هذه الخشبة، والظلال، والمشاهد الصامتة، لا ينجو سوى من حفظ جمرة الصدق في قلبه؛ تلك الجمرة الصغيرة التي، رغم لهيبها، تمنحك نورًا يكشف زيف المسرح وزيف الكلام؛ الصدق ليس طُهرًا لغويًا، بل مخاطرة؛ أن تكون صادقًا، يعني أن تحمل جمرة تضيء، لكنها قد تحرق يدك إن أفرطت في لمسها.

وفي عالم يهاب الحقيقة، لا يُكافأ الصادق، بل يُراقَب، يُساء فهمه، ويُرمى بألف قناع، ومع ذلك، تظل جمرة الصدق هي النور الوحيد الذي لا يمكن زيفه، لأنه لا يحتاج تصفيقًا ليكون حيًا، ومتى ما كان في قلبك هذا اللهيب الخفيف، فإنك لا تتوه، ولا تنطفئ.

وحين يُخفت النور، وتعلو الضوضاء، لا يبقى سوى قنديل الصمت مضاءً في الزوايا؛ الصمت ليس خنوعًا، بل تأمل، واحتضان داخلي لصوت لا يحتاج إلى جمهور، وحين يهدأ الخارج، يُسمع الداخل، وتلمع الحقائق الصغيرة التي ابتلعتها الضوضاء؛ قنديل الصمت لا يصدر وهجًا يُبهر، بل نورًا دافئًا يشبه صوت المطر حين يُطبطب على سقف روحك المتعبة.

في هذا النور الخافت، نُشفى، نُراجع، ونفهم أن بعض الحوارات لا تنجح إلا حين تُقال بلا صوت، وأن بعض الإجابات لا تُنطق، بل تُحس.

ثم، هناك في أعماق الظلام، حيث لا أحد يرشدك، ولا نص يضيء الطريق، تظهر لآلئه!، تلك الحكم التي وُلدت من الألم، من التجربة، من المرور الطويل داخل النفق دون وعدٍ بنهاية؛ لآلئ الظلام لا تُقطف من رفوف الكتب، بل تُنتزع من عتمة التجربة، من لحظات الهزيمة والانكسار والانتظار الطويل.

هناك، تحت سقف العتمة، نولد من جديد!، تصبح كل لحظة ظلمة دربًا إلى حكمة، وكل تأمل موجع طريقًا إلى ضوء داخلي لا يُطفأ!، وفقط حين نعتاد على العتمة، نميز الضوء الذي لا يخدع، والنور الذي لا يُشترى.

ففي النهاية، لا ننجو بالحضور ولا بالتصفيق، بل بالصدق، بالصمت، وبالقدرة على تمييز اللؤلؤ وسط الرماد؛ الحياة ليست مسرحًا للانبهار، بل نصٌ طويلٌ من التناقضات، تُقرأ مع الوقت، وتُفهم فقط حين نعيد النظر في كل ما ظنناه واضحًا.

لا نحتاج أقنعة لنُحَب، بل قلوبًا ترى، وأرواحًا تسمع، ونورًا لا تصنعه الأضواء، بل يولد من الداخل، وما يبقى، في وجه هذا العالم المُمثل، هو أن تظل صادقًا حتى لو احترقت، صامتًا حين يعلو الضجيج، وباحثًا عن الحكمة في أشد اللحظات ظلمة، لأن من لا يخشى الظلال، هو من يعرف كيف يصنع النور.

ابقَ نقيًا، لأن الطين مهما التصق بك، لا يستطيع أن يُطفئ جمرة الروح إذا كانت مشتعلة بالصدق.

جهاد غريب 
مايو 2025

مرايا المجالس: بين صخب الكلام وبلاغة الصمت!

 
مرايا المجالس: بين صخب الكلام وبلاغة الصمت!

المجالسُ مرايا تعكسُ أعمقَ ما في النفوس، لا بما يُقال فحسب، بل بما يُخفى بين السطور. فيها تتحول الكلماتُ إلى أسلحةٍ أحيانًا، وإلى جسورٍ أحيانًا أخرى، والصمتُ إلى لغةٍ أعقد من كل الخطابات. هذه رحلةٌ في دهاليز الحوار الخفي، حيث تُختبر النوايا، وتُكشف الأسرار، وتُبنى العلاقات أو تُهدم. فما بين صخب التكلُّف وهدوء الصدق، تكمنُ حكاياتٌ لا تُروى باللسان، بل تُقرأ في عيون الحاضرين ومسافات ما بين الكلمات.  

طبيعة المجالس الإنسانية! 

المجالس أشبه ببحرٍ متلاطم الأمواج، يبدو سطحه هادئًا بينما تخفي أعماقه تياراتٍ متضاربة. يدخل المرء إليها حاملاً خبراته كبضاعة ثمينة، فيلتقط الحاضرون تلك الكلمات بنظراتٍ تتراوح بين التقدير الحقيقي والتقييم الخفي. تبدأ الأجواء بالدفء الظاهري، كشمس الشتاء التي تلمع دون أن تدفئ، حيث تتحول الأسئلة البرئية إلى أدوات قياس غير معلنة. في هذه المساحة، تصبح كل إجابة محكًا لشخصية المتحدث أكثر منها بحثًا عن المعرفة، وكأن الحضور يزنون الكلمات بميزانٍ خفي قبل أن يزنوا الأفكار.

اختبارات غير معلنة! 

ما إن تهدأ ضجة الترحيب، حتى تبدأ مرحلة التمحيص الخفي. ذلك الشخص الذي بدا صامتًا في اللقاء الأول، يتحول فجأة إلى محققٍ يفتش عن ثغرات في الخطاب. أسئلته لا تهدف للفهم بقدر ما تهدف لإثبات الذات، كطائر يصرخ ليس لأنه خائف، بل ليؤكد وجوده في الغابة. هنا يتحول الحوار إلى مبارزة صامتة، حيث تُستخدم الكلمات كسيوفٍ ورقية، والضحكات كدروعٍ واقية. يظهر التناقض بين ما يُقال وما يُقصد، بين المجاملة الظاهرة والمنافسة الباطنة.

الصمت وأبعاده المتعددة! 

في زاوية المجلس، يجلس الصامتون بأنواعهم: منهم من يصمت احترامًا، ومنهم من يصمت انتظارًا، ومنهم من يصمت تخطيطًا. صمت المفكر يختلف عن صمت المتفرج، كما يختلف عن صمت الصياد. أعمق الكلمات قد تكون تلك التي لم تُنطق، وأخطر المواقف تلك التي تسبقها صمتٌ ثقيل. في هذه المساحة الصامتة، تظهر حقيقة النفوس: فالبعض يصمت ليسمع نفسه، والآخر يصمت ليسمع الآخرين، وقلة تصمت لأن الكلمات تعجز عن حمل مشاعرهم.

الصدق كسلاح ذو حدين! 

وسط هذه الألعاب الاجتماعية، يظل الصدق كالشمعة في عاصفة، قد تنير الطريق أو تنطفئ بسهولة. صدق العاري يُجرح، وصدق الحكيم يبني. المشكلة ليست في الصدق نفسه، بل في توقيته وطريقة تقديمه. بعض النفوس ترفض المرآة الصادقة، فتكسوها بأقنعة المجاملة، بينما تقبلها نفوس أخرى كدليل ثقة. الصادق في المجالس كمن يمشي على حبل مشدود، يوازن بين قول الحقيقة وحفظ مشاعر الآخرين.

ديناميكيات القوة الخفية! 

المجالس مسارح غير مرئية للصراع على النفوذ المعنوي. الكلمة هنا عملة نادرة، والصراع ليس على امتلاكها بل على توجيهها. البعض يتكلم ليقود، والآخر يصمت ليراقب، والثالث يبتسم ليخفي. نظرات الاستحسان قد تخفي حسدًا، وضحكات الترحيب قد تخفي حسابًا. في هذه الساحة، يصبح كل حوار اختبارًا للقوة، وكل صمت استراتيجية غير معلنة. الفهم الحقيقي لهذه اللعبة لا يأتي من متابعة الكلمات، بل من قراءة ما بين السطور.

جوهر التواصل الحقيقي! 

وراء كل هذه الأقنعة، يبقى التواصل الحقيقي هو اللحظة التي تتحطم فيها الجدران بين النفوس. ليس عندما يتفق العقلان، بل عندما تلتقي الروحان. في هذه اللحظات النادرة، يصبح الصمت لغةً والصوت عبادةً. المجالس الحقيقية ليست تلك التي تملأها الضحكات العالية، بل تلك التي يخرج منها المرء وقد ازداد فهمًا لنفسه وللآخرين. هنا فقط تتحول الكلمات من أدوات قياس إلى جسور تواصل، ويصبح الصمت من عزلة إلى اتصال.

في النهاية، ليست المجالسُ سوى مساحاتٍ نعبرها حاملينَ ما في قلوبنا: خوفًا أو ثقةً، رياءً أو صدقًا. قد نخرجُ منها وقد كُسرنا، أو نخرجُ وقد تعلمنا أن الكلامَ زينةٌ، والصمتُ حكمةٌ، وأن القيمةَ الحقيقيةَ ليست في كمّ ما قلناه، بل في أثر ما تركناه. فكم من صامتٍ كان حضوره أعظمَ من كل الضجيج، وكم من متحدثٍ لم يُذكر منه إلا الضجيج! تبقى المجالسُ اختبارًا صامتًا للنفوس: مَن مِنّا يبحثُ عن المرآة ليرى نفسه، ومَن يبحثُ عن المطرقة ليكسر الآخرين؟ الجوابُ لا يوجد في الكتب، بل في تلك اللحظةِ التي نختارُ فيها أن نكونَ إما صدىً لأنفسنا، أو أذنًا صاغيةً للعالم من حولنا.  

جهاد غريب 
مايو 2025

الثلاثاء، 27 مايو 2025

جيل الصمت والضوء!

 
جيل الصمت والضوء!

كأننا وُلدنا وسط شاشة... لا أرض تحت أقدامنا، ولا سماء تحمينا من ضوء زائف يتلألأ بغير دفء. جيلٌ يُحسن التحديق في الضوء، ويغفل عن اللهيب المتخفي خلف البريق. نكبر أمام مرآة الهاتف، وتذبل أعيننا في حفل تنكريّ دائم، حيث تُرتدى الوجوه لا الأقنعة، وحيث تُباع المشاعر مغلفة بألوان فاقعة لا تُظهر الصدأ.

في زمنٍ يُشبه المرآة المُشقَّقة، نرى فيه وجوهنا مكسورةً إلى ألف انعكاس، كلٌّ منها يصرخ بحقيقةٍ مختلفة، وكلٌّ منها يُريدنا أن نكون صدىً لصوته لا أكثر. لا أحد يطلب منك أن تفكر، بل أن تتفاعل. لا أحد ينتظر منك موقفًا، بل أن تضع قلبك في صندوق تعليقات ثم تمضي. جيلٌ يرى الحقيقة تنهار تحت وطأة التصفيق للباطل، يرقب الظلم في كل زاوية، ويُصفّق له البعض بدافع الخوف، والبعض الآخر بدافع العادة.

الصمت لم يعد هدوءًا، بل عجزًا. العالم يرى، يسمع، يكتب المنشورات... ثم ينام. ومن تحت أكوام الظلم، يصعد صدى خافت، فينهض من تبقى له قلب لم يُقشره التبلد. غضبٌ لا يصرخ، لكنه يشقّ الصخر بنظرة. نبيلٌ، لا يشتم ولا ينهار، لكنه يعرف أن السكون أحيانًا خيانة، وأن الكلمة سلاح حين تُقال في الوقت المناسب، وباللغة التي تعبر دون أن تشرح. فالغضب النبيل لا يعني الصراخ، بل يعني القدرة على زرع شجرة وسط الإسفلت، على رفع الراية حين يتكسر الخشب في يدك ويضحك من حولك، على الإصرار أن الكلمة قد تُنقذ يومًا ما إنسانًا في أقصى الأرض.

جيلٌ يتقن الإعجاب السريع، ويعجز عن الحب الصادق، يخلط بين الشهرة والجدارة، بين الصورة والمضمون، بين من يضيء كلمح برق، ومن يشتعل كالنجوم القديمة في سماء بلا ضجيج. يسير في بحرٍ من الرمال المتحركة، كلُّ خطوةٍ يُقابلها ابتلاعٌ بطيء. السرُّ في الصمود ليس في العضلات، بل في لحظةٍ يقرر فيها أحدهم أن يكون صخرةً لا تذوب، أن يقول "لا" حين تبتلع الكلمة أفواه الجميع، أن يحب حين يصير الحب ضعفًا، وأن يحلم حين يصير الحلم ترفًا.

لكن من أين تُصنع الأحلام في هذا الصخب؟ كيف لمن تاهت قدماه بين الرغبة في أن يُرى، والخوف من أن يُكشف، أن يبني قصرًا فوق الرمال ولا يخشى انهدامه؟ وحدهم من عرفوا أن الحلم لا يحتاج تصفيقًا، بل إصرارًا، من ينهضون. أولئك الذين يشبهون الأشجار، يقفون صامتين، ولكن جذورهم تملأ الأرض حركة. وأولئك هم الذين يغيرون العالم دون أن يصيحوا، فقط يواصلون.

الغريب أن من يبدؤون الصعود لا يجدون التصفيق، بل نظرات الشكّ، وهمسات التقليل، كأن النقاء تهمة، وكأن الطهر ضعف. لماذا يخاف الناس من الأبيض؟ ربما لأنه يكشف بقع قلوبهم، وربما لأن النور حين يسطع، يفضح الظلال التي ظنوها مأمنًا. نُثبط أصحاب السرائر البيضاء لأنهم يذكّروننا بما فقدناه، لأنهم يحملون براءة لم تعد فينا، ولأن الطين حين يرى الندى، يشعر بالعار.

ومع هذا، يظهر صاحب الهمّة، من يشق الجدار بيده العارية، لا ليهرب، بل ليفتح ممرًا لغيره. الغريب، أن أول من يسير خلفه ليس مثله، بل من حاول تقليده بدافع النجاة لا القناعة. ومع الوقت، تتحول المحاكاة إلى رغبة، والرغبة إلى سعي، والسعي إلى معجزة صغيرة تغير مسار إنسان. هكذا تبدأ العدوى الجميلة... فكرة واحدة تنقذ من كان على شفا الانطفاء.

لماذا لا نشجّع أولئك الذين يشبهون الماء العذب؟ يمرّون بيننا دون أن نشعر، يزرعون الجمال ثم يختفون. هؤلاء الذين يحملون قلوبًا نقيّةً كالندى، وسرائرَ بيضاءَ كالصحائف التي لم تُكتَب عليها خطايا العالم، هم الذين يجب أن نمضي خلفهم، لا أن نتركهم وحدهم في مواجهة العاصفة.

لكن التناقض سيد هذا العصر: نرفع من لا يستحق، ونطمر من يضيء. نُطيل الوقوف في صفوف الوهم، ونمضي مسرعين حين نلمح الحقيقة. نُشيد بالضجيج وننسى الصوت الخافت الذي يهمس بالحكمة في زوايا القلب المنسية. نحن بحاجة إلى من يفهم أن الضوء ليس عدواً، لكن المبالغة فيه تعمي، وأن الغموض ليس جاذبًا، بل ستارٌ للفراغ.

ربما لن نصل جميعًا، لكن يكفينا أن نستمر في السير، أن نحمل راية الوعي في زمن التزييف، أن نربي أبناءنا على أن العظمة لا تقاس بعدد المتابعين بل بمدى التأثير الصامت الذي يزرع في الأرواح بذورًا لا تُرى ولكنها تنبت حين تحتاج الأرض إلى حياة.

لأن الحياة ليست انتظارًا للعاصفة أن تمر، بل هي تعلُّمٌ للرقصِ تحت المطرقة والسندان. وسنظل نرفع راياتنا حتى لو مزّقها الريح، وننثر بذورَ الكلمات في أرضٍ قد لا تُثمرُ اليوم، لكنها غدًا ستنبتُ غابةً من الأمل.

ما دام فينا من يؤمن بالنقاء رغم كل ما يُغري بالتصنع، سيبقى لهذا العالم أمل، وسيبقى للحق وجه لا تحجبه الفلاتر. لأن الأرضَ تدور، والليلَ ينجلي، ولا يبقى إلا أولئك الذين أصرّوا على الوقوفِ حين ارتضى الجميعُ بالسقوط.

جهاد غريب 
مايو 2025

الاثنين، 26 مايو 2025

ومضات تُنيرُ أعماقَ الوجود!

 
ومضات تُنيرُ أعماقَ الوجود!

ذات يومٍ، بينما كنتُ أسيرُ في طرقات الحياة مُحمَّلًا بأسئلةٍ بلا أجوبة، تسلَّلَ إليَّ مشهدٌ صغيرٌ – كظلٍّ مرسومٍ على جدارٍ عتيق، أو ابتسامةٌ طائشةٌ مِن روحٍ غريبة – فدخل قلبي كقطرةِ ندى تُضيءُ ورقةً يابسة. 

لم يكُن اللقاءُ مُتوقَّعًا، كضيفٍ خجولٍ يطرقُ البابَ عند الفجر، لكنَّه حملَ في طيّاته ومضةً إلهيةً، كشفَت لي أنَّ الكونَ يُخبئُ تحتَ عباءتهِ طبقةً مُذهلةً مِن الجمال، لا تُرى بالبصرِ بل تُحسُّ بأناملِ الروح، كَنغمةٍ موسيقيةٍ تذوبُ في الفراغِ دون أن تطلبَ إثباتًا. 

تلك اللحظاتُ العابرةُ – التي تمرُّ كفراشةٍ تلمعُ في الظلام ثم تختفي – هي حكايتي معك اليوم، لا كخطابٍ عابرٍ، بل كهمسَةٍ سرّيةٍ بين جناحيْ فراشتين التقتا على زهرةٍ واحدة.

وكما تَهمسُ الطبيعةُ بألغازها، هناكَ جمالٌ لا يُفسَّرُ بل يُعاش: رائحةُ الأرضِ بعدَ أولِ مطرٍ، كأنَّ السماءَ تُرسلُ قبلةً إلى ترابٍ ظمآن، أو غيمةٌ تذوبُ في زرقةِ البحرِ وكأنها دموعُ عروسٍ سماوية. 

شجرةٌ ترتجفُ أوراقُها مع الريحِ كأيدي طفلةٍ تُلوِّحُ لوالدتها، أو طائرٌ يُحلِّقُ وحيدًا عند الغروبِ ككلمةٍ لم تُنطقْ في قصيدةِ الوداع. هنا تُصبحُ الأرصفةُ تتنفَّسُ تحتَ الأقدام، والنوافذُ ترمشُ بالنسماتِ كلغةٍ لا تُنطق، وكأنَّ العالمَ كتابٌ مفتوحٌ نقرؤهُ بأقدامنا قبلَ أعيننا.

الفنُّ العظيمُ ينسابُ إلى الروحِ كضوءٍ يخترقُ زجاجًا ملونًا، فيحوِّلُ الظلالَ إلى ألوانٍ. هذه اللحظاتُ تُعيدُ ترتيبَ أوراقِنا الداخليةِ كيدِ القدرِ الناعمةِ التي تنسجُ من الفوضى لوحةً. 

إنها تدفُّقٌ بديعٌ للكلماتِ لا يسمعُه أحد، يهطلُ في الأعماقِ كمطرٍ خفيفٍ يغسلُ زجاجَ الروحِ، ويُذكِّرنا أنَّ حتى الظلَّ العابرَ للطائرِ، أو الضوءَ المتسللَ من بين الستائرِ، قادرٌ على إحياءِ الدهشةِ في قلوبٍ تجمَّدَت. لوحاتٌ حيّةٌ لا تُرسمُ بالألوانِ بل بالأثر، كلُّ ومضةٍ منها تفتحُ كتابًا جديدًا في مكتبةِ الروحِ التي تمتلئُ بكتبٍ لم تُفتَح بعد.

والجمالُ العابرُ كالضوءِ في يدَي طفلٍ – لا يُمسكُ به، بل يُضيءُ وجهَهُ ثم يفرُّ. هو غيمةٌ تذوبُ قبل أن تُلمسَ، أو حلمٌ يُغادرُك عند الفجرِ مُبتسمًا. لكنَّه حين يمرُّ، يتركُ وراءهُ صدىً لا ينتهي، كموجةٍ تتصادمُ مع الشاطئِ إلى الأبد. 

وهنا يُلقي الجمالُ سؤالَهُ الوجوديَّ: "هل نرى؟ أم أننا نمرُّ على الحياةِ مغمضي القلب؟". إنَّ إجابةَ هذا السؤالِ ليست بكلمةٍ، بل بزهرةٍ تتفتحُ في صمتٍ داخلَ مَن يُدركونَ أنَّ اللحظاتِ الثمينةَ لا تصرخُ، بل تهمسُ، وتحمِلُ في جوهرِها كنوزًا من المعنى، كحجرٍ صغيرٍ يُخبئُ جوهرةً في قلبهِ.

ولأنَّ الجمالَ الحقيقيَّ لا يُقاسُ بالكمِّ بل باللقاء، فهو لقاءٌ صامتٌ بين العينِ والروحِ، وبين اللحظةِ والأبديةِ. إنَّه إحساسٌ يتغلغلُ فينا ويُصبحُ جزءًا من نسيجِ ذكرياتنا، شيءٌ لا يُرى بل يُستَشعر، كأنَّ الضوءَ نفسَهُ قررَ أن يهمسَ بدلَ أن يُبهِر. 

فلنحفظْ هذه الومضاتِ في قلوبنا كجواهرَ في صندوقٍ سري، ولنُبقِ أعيننا مفتوحةً على أسرارِ الكونِ، ليس بحثًا عن إجاباتٍ، بل احتضانًا للغموضِ الذي يجعلُ الحياةَ قصيدةً لا تُقرأُ مرتين بنفسِ الإيقاع.

فالعابرُ الجميلُ لا يرحلُ أبدًا، بل يتحوَّلُ إلى وشمٍ على جدارِ الروح، يُذكِّرنا أنَّ كلَّ لحظةٍ تحملُ في جعبتِها كونًا من الإمكانيات. 

وفي النهاية، فإنَّ ما نعتقدُ أنَّه زائلٌ، قد يكونُ البصمةَ الوحيدةَ التي تبقى حينَ يتبخَّرُ كلُّ شيءٍ. لأنَّ الجمالَ لا يُكتَبُ، بل يُتلقَّى، ولا يُحتفَظُ به، بل يُعاش، ويجعلُنا نَشعرُ أننا كنّا في حضرةِ شيءٍ أكبرَ من الإدراكِ، وأقربَ من الدمعةِ.

جهاد غريب 
مايو 2025

السبت، 24 مايو 2025

حين نكون معًا: رحلة التكوين والتأثير المتبادل!

 
حين نكون معًا: رحلة التكوين والتأثير المتبادل!

(1) 
في كل خطوة.. كان أحدهم هناك:
لم تكن الخطوة الأولى في هذه الحياة تخصنا تمامًا. منذ اللحظة التي انتصب فيها جسدنا في وجه العالم، كانت هناك يد تمتد، وصوت يشجع، وظلّ يسبق خوفنا. لم نمشِ وحدنا، حتى وإن بدونا منفردين في الصورة. كانت الخطوات دومًا تحمل آثار من مرّوا قبلنا، ومن ساروا معنا، ومن دعوناهم في خيالنا ليطمئنوا قلوبنا.

ثمة وجوه كثيرة عشناها دون أن نحفظ أسماءها، لكن أرواحها بقيت فينا، تشبه الممرات السرية داخل القلب. في كل قرار، في كل تردد، في كل لحظة انتصار أو انكسار، كان هناك من يقف في الزاوية، دون أن يطالب بشيء، فقط ليرانا نكمل المسير.

حتى الطرق التي مشيناها بأقدامنا المرتجفة، كانت ممهدة بعنايةٍ ما، كأن أحدهم مشى قبلنا فقط ليرينا كيف تُعبَر تلك الهوة. لم نكن نعلم حينها أن القوة لا تعني الصلابة دائمًا، بل أحيانًا تعني مجرد وجود شخص ما في الخلف، يراقبك بصمت، كأنه يقول: "سر، وإن سقطتَ، سأكون أول من يمسكك".

كم مرة ظننا أننا وحدنا؟ ثم فوجئنا بأن شخصًا ما كان يقرأ قلقنا في نبرة صوتنا، أو في انحناءة ظهورنا، أو في بحة السلام البسيط؟ كم مرة كانت الخطوة التالية مستحيلة، لولا تذكّرنا كلمة قالها أحدهم منذ أعوام، أو نظرةٍ داعبت يقيننا في لحظة ضعف؟

الحقيقة التي لا نعترف بها كثيرًا هي أن الخطوات التي نخطوها ليست لنا فقط، إنها انعكاس لما عشناه مع الآخرين. نحن لا نسير، بل نُساق بلطف بأثرِ من أحبونا، من آمنوا بنا، من طبطبوا على قلوبنا، ولو لمرةٍ واحدة فقط.

في كل خطوة.. كان أحدهم هناك. وربما لهذا السبب لم نسقط تمامًا أبدًا.

(2) 
لأننا لم نكن وحدنا:
نحن لا نكبر وحدنا. لا نتجاوز الحزن، ولا نغالب الفقد، ولا نحتفل بالنجاة بمفردنا كما نُحب أن نوهم أنفسنا. كان هناك دائمًا من حضر بصمته، من شاركنا الطريق دون أن يفرض نفسه، من صعد معنا السلالم حتى إن لم يظهر في الصورة التذكارية الأخيرة.

لأننا لم نكن وحدنا، جاءت بعض الليالي أخف مما توقّعنا، وبعض القرارات أقل وجعًا. لم نكن وحدنا حين تهشّمت فينا الرغبة، فكان هناك من أهدانا لحظة دفء، من قدّم كتفًا دون أن يسأل، من اكتفى بالجلوس بقربنا كأن وجوده وحده رديفٌ للحياة.

تلك الضحكة التي خرجت رغم الغصّة، لم تكن منّا وحدنا. كانت مزيجًا من أحاديث قديمة، وذكرياتٍ مشتركة، وعيونٍ تعرف كيف تلمع حين تصمت. نحن ممتلئون بالبشر الذين شاركونا الحياة، حتى أولئك الذين مرّوا عابرين، تركوا شيئًا منهم فينا، شيئًا لا يُستدعى إلا في لحظة سكون، أو عودةٍ مباغتة لذاكرةٍ نائمة؛ كأنهم عجنوا أرواحهم بأرواحنا، ثم مضوا.

كل جدار اتكأنا عليه، كل سؤال خفّ حمله حين قُسِم على اثنين، كل غفوة آمنة في زحامٍ صاخب، كل إشعار وصل في الوقت المناسب، كل ابتسامة بادرتنا قبل أن نطلبها... كانت أدلّة دامغة على أننا لسنا وحدنا.

حتى حين اختفوا، لم يرحلوا تمامًا. كانوا كالعطر في المعطف القديم، كرائحة الخبز في ذاكرة الفجر، كأثرِ ظلٍ لا يُرى لكنه يُرشدك إلى الضوء.

ولأننا لم نكن وحدنا، استطعنا أن نحمل أنفسنا من جديد، وأن نصدق بأن الحياة، مهما قست، تترك لنا دومًا بابًا مواربًا، يدخله من يحبنا بصمت، ويمكث قليلاً ليعيد ترتيب أرواحنا.

(3) 
ما أخذناه دون أن ندري:
لم نكن نعلم أننا كنّا نأخذ. ظننا أن العابرين يمرّون كما تمضي الريح، لا تُبقي شيئًا في قبضتنا ولا تنزع شيئًا منّا. لكن الحقيقة أن الأرواح تترك فينا ندوبًا وعطايا، بعضها نكتشفه بعد سنوات، وبعضها يرافقنا في كل نظرة، كل ردة فعل، كل إحساس لا نعرف مصدره.

أخذنا من الآخرين كلماتهم التي لم يقولوها لنا مباشرة، لكننا سمعناها وهم يتحدثون عن الحياة أمامنا. أخذنا صبر أمهاتنا حين كنّ يخفين دموعهن لئلا ننهار، أخذنا دفء آبائنا من طريقة صمتهم القوي، أخذنا القيم من مواقف كانت دروسًا صامتة، والأمان من وجود لم يكن بحاجة إلى جدران.

أخذنا من أصدقاء الصبا ضحكاتهم الخفيفة، وتعليقاتهم التي لا تزال تتردد في ذاكرتنا حين نمر بأماكن بعينها. أخذنا من كل معلم نظرته الأخيرة قبل أن يغادر الصف، ومن كل سائق قديم نبرة صوته وهو يقول لنا "في أمان الله" بنبرة يعرفها القلب ولا يخطئها.

حتى من أحببناهم وخذلونا، تركوا فينا شيئًا أخذناه دون أن ندري… حذرًا خفيفًا، أو طريقة في قراءة الوجوه، أو صوتًا داخليًا يذكرنا أننا نستحق أن نُحب، وإن لم ينجحوا في ذلك.

نحن لا نتكوّن فقط من اختياراتنا، بل من كل ما تسلل إلى داخلنا خفيةً، وما ترسّب فينا بصمتٍ دون أن ننتبه. تشكّلت أرواحنا من مئات التفاصيل الهامسة، تلك التي لم نُلقِ لها بالًا، لكنها استقرّت في أعماقنا كأنها تعرف أننا سنحتاجها يومًا ما.
ولذا، حين نقول "هذا أنا"، نحن في الحقيقة نُشير إلى كل أولئك الذين عبروا، ولم يعلموا أنهم تركوا بصمتهم، وأننا حملناهم معنا، دون أن ندري.

(4) 
ما بين العطاء والملامح التي شكلتنا:
ثمة عطاء لا يُقدَّم باليد، بل يُسكب في الأرواح بصمت. هو ذاك العطاء الذي لا يُصاحبه منٌّ ولا انتظار، لكنه حين يحدث، يترك فينا ملامح لا تزول. كأنك حين تمنحني شيئًا من روحك، تترك وشمًا صغيرًا على وجهي، لا تراه العيون، لكنّ القلب يراه.

ما بين العطاء والملامح التي شكلتنا، تقع الحكايات كلها. شخص قال لنا: "أنا أؤمن بك" في لحظة كنا على وشك الانهيار، فكبر فينا شيء لم نكن نعرفه. آخر أعطانا فرصة حين لم يلتفت إلينا أحد، فصار لصوتنا معنى. امرأة مسنّة مررنا بها صدفة، وابتسمت لنا بسلام، فهدأت فينا الحرب التي لم يكن يعرف أحد أنها قائمة.

كل يد امتدت، كل نظرة محبة، كل دعاء سرّي، كل صمت شاركنا به أحدهم خوفنا أو ضعفنا، كانت كلها بذورًا فينا. لم نطلبها، ولم نتخيل أثرها، لكنها حين كبرت، غيّرت شكلنا.

أصبحنا نميل برؤوسنا كما لو أننا ما زلنا نشعر بتلك اليد التي 
كانت تربّت على أكتافنا. نغلق أعيننا لحظة الفرح كما رأينا وجهًا أحببناه يفعل ذلك. نقول الكلمات نفسها، نحمل الحنين ذاته، نرد الجميل دون أن نعلم أننا بذلك نردّ عطاءً قديمًا.

ليست الملامح التي نراها في الصور هي التي تروي سيرتنا، بل تلك التي حفرتها المواقف في أعماقنا. هي التي جعلتنا نبتسم بحذر، أو نضحك بصوتٍ عالٍ رغم الخذلان، أو نمدّ يدنا لمن يحتاج، فقط لأننا نعرف شعور اليد الممتدة حين لا يأتيها أحد.
وهكذا، بين من أعطونا ومن صاغونا، تكوّنت هيئتنا الحقيقية. وإن تأملت نفسك في لحظة صفاء، ستدرك أن ما أنت عليه الآن هو حصيلة أولئك الذين أحبّوك بلا شروط، ومنحوك بلا مقابل، ثم رحلوا دون أن يسترجعوا ما تركوه فيك.

إن هذه الملامح التي تَشكّلت بنا لم تكن نتاج استقبالٍ فقط، بل نتيجة تفاعلٍ عميق مع ما أُعطي لنا، وامتنانٍ صامت امتزج بأرواحنا دون أن نشعر.

(5) 
أثرٌ لا يُرى.. لكنه يُكملنا:
ثمة أشياء لا نراها، لكنها وحدها تُبقي التوازن قائمًا. مثل الطوبة المخفية في أساس البيت، لا تلمحها العين، لكنها لو سقطت، لارتجّ كل الجدار. هكذا بعض الأشخاص، بعض المواقف، بعض الذكريات… أثرها لا يُرى، لكنها تُكملنا، بل ربما لولاها ما كنّا نحن.

كم من مرة نهضنا من سقطة دون أن نعرف السبب؟ كم من مرة شعرنا بشجاعةٍ غريبة في مواجهة الحياة، وكأن هناك من أمسك بأيدينا، رغم أن أحدًا لم يكن حاضرًا بالفعل؟ هناك أثرٌ لا يُرى، لكنه يسكن بين طبقات وعينا، يربت على القلب حين يضيق، يهمس للعقل حين يتيه، ويدفعنا للأمام حين نتردد.

قد يكون هذا الأثر كلمة سمعناها قبل سنوات، لكنها علقت بنا كتعويذة حماية. أو ابتسامة حقيقية في لحظة ظننا أن العالم كله يعبس. أو دعوة خالصة من قلب أمّ، لا تزال تتردد في سماء أيامنا، تحفظنا في غيابها.

وقد يكون شخصًا لم نعرفه جيدًا، لكن فعله العابر ظلّ يتردّد في داخلنا كصدى لا يخفت. رجل ساعدنا في الطريق دون أن يسأل، صديق أعارنا ثقته حين فقدنا ثقتنا بأنفسنا، غريب ألهمنا بإصراره ونحن نراقبه من بعيد دون أن يعرف أنه غيّرنا.

الأثر لا يُقاس بالحضور، بل بما يتركه الغياب فينا من حياة. والبقاء لا يعني أن يطول الزمان، بل أن يرسخ في الوجدان. أولئك الذين غابوا عن أنظارنا، ما زالوا يقيمون في أعماقنا. تركوا فينا ما يشبه الشعور بأننا موصولون بخيوط خفيّة، تربطنا بما هو أعمق من اللحظة، وتُقسم لنا بأننا لسنا وحدنا، ولن نكون يومًا.

ذلك الأثر الذي لا يُرى، لا يمنحنا فقط أمانًا، أو شجاعة مفاجئة؛ بل يسهم في صياغة هويتنا، في ملامح سلوكنا، وصوتنا حين نتكلم بثقة لا نعرف مصدرها. لذا، حين نبدو أقوى مما كنا، أو أكثر حكمة مما اعتدنا، فلنتذكّر أنهم هنا... معنا، في تفاصيلنا، يكملون ما نظن أنه منّا وحدنا.

(6) 
نحن.. كما لمسنا بعضنا:
لم نولد مكتملين، ولم نظل كما نحن. تشكّلنا على دفعات، وعلى أيدٍ كثيرة، نعرف بعضها، ولا نذكر البعض الآخر. كل من لمسنا، بكلمة، بنظرة، بحضور أو غياب، ترك فينا أثرًا صغيرًا، ساهم في نحت ملامحنا الداخلية، وساهمنا نحن - من دون قصد - في تشكيل ملامحه بالمثل.

لسنا وحدنا ما نحن عليه؛ نحن انعكاسات ضحكات قيلت في لحظات صدق، وارتجافات حزن عبرت بيننا في صمت، ودفء أيدٍ لمست كتفنا حين كدنا نسقط. نحن، كما لمسنا بعضنا. كالأغصان التي تداعب بعضها بفعل الريح، لا تتشابك إلى الأبد، لكنها لا تعود كما كانت.

أحدهم مرّ بحياتك ليوقظ فيك حسّ الرحمة، وآخرٌ علّمك الحذر من دون أن يقصد. واحدةٌ أحببتها فصرت أكثر شاعرية، وأخرى كسرتك فصرت أكثر حكمة. كلهم شاركوا في صياغتك، لا كبصمات فحسب، بل كجزء من نسيجك الكامل.

وهكذا نحن، نترك منّا في الآخرين، بقدر ما نأخذ منهم. نحن نشارك الآخرين بناء ذواتهم دون أن نلاحظ. نكون لهم مرآة، أو سؤالًا، أو نجمة دليلة في ليالِ حيرتهم. ربما مجرد تعبير وجه في لحظة مصيرية، أو صمت عميق اختصر كل الكلام.

حين نفكر بأننا تأثرنا فقط، ننسى أننا أيضًا مؤثرون. لا أحد يعبر حياة الآخر دون أن يغيّر فيها شيئًا. حتى الأذى، إن أتى، يعلّم. وحتى الفقد، إن وقع، يعيد ترتيب الأولويات. نحن نُعيد تشكيل بعضنا، وكل علاقة كانت مساحة صقل أو بعثرة… لكنها دائمًا تركت فينا شيئًا لا يزول.

نحن.. كما لمسنا بعضنا. كأننا نكتب بعضنا بعضًا بخطوط غير مرئية، ونقرأ أنفسنا لاحقًا، فنجد فيها مقاطع من أرواح الآخرين.

(7) 
الذين مرّوا بنا ولم ننسَهم:
ثمّة وجوه لا تزول، حتى وإن غابت. تمرّ السنوات، تتغير المدن، وتتبدّل اللهجات في أفواهنا، لكن اسمًا بعينه، نبرةً بعينها، تظلّ تنقر على الذاكرة بلطفٍ حنين. الذين مرّوا بنا ولم ننسَهم، لم يطلبوا البقاء، لكنهم عرفوا كيف يتركون فينا ظلّهم حتى بعد أن غادروا.

لم يكونوا دائمًا أصدقاء مقرّبين، ولا عشّاقًا خياليين، بل ربما كانوا غرباء التقيناهم على هامش لحظة. رجلٌ مسنّ جلسنا إلى جواره في حافلة مزدحمة، وحدّثنا عن الحياة بنبرة من عاش طويلاً وتألم كثيرًا. أو صديقةُ دراسة، ابتسمت لنا ذات صباح كأنها تعرف ما لا نبوح به. أو حتى طفلة مرّت تجري وضحكتها كانت النور الوحيد في يومٍ رمادي.

نحتفظ بهم دون أن نقصد، كأن أرواحهم رفضت أن تغادرنا. وربما لأنهم، دون أن يشعروا، أنقذونا من شيء، أو قرّبونا من شيء، أو أيقظوا فينا شعورًا كنّا نظنه مات. هم الذين قالوا الكلمة في وقتها، أو صمتوا حين كان الصمت ألطف، أو منحونا لحظة صدق في عالمٍ مليء بالأقنعة.

وفي ليالينا المتأخرة، حين يغمرنا التعب من كل شيء، نجد أنفسنا نسترجع صورهم دون ترتيب، كأن القلب يفتح أرشيفه السرّي ليواسي نفسه. وكم من مرة ابتسمنا فجأة، لا لأنّ اللحظة تضحك، بل لأنّ ذكرى أحدهم مرّت فينا كنسمة.

أولئك الذين مرّوا بنا ولم ننسَهم، لم يكونوا مجرد عبورٍ عابر في زحام الأيام. كانوا رسائل مقنّعة، وإشارات وامضة من الحياة، تهمس لنا بأن الجمال لا يحتاج إلى إقامة طويلة، بل قد يسكن لحظة، ويزهر في العابرين. إنهم الدليل الصامت على أن بعض الآثار لا تُقاس بطول المكوث، بل بعمق اللمسة… لمحةُ حضورٍ خاطف، لكنه خُلّد فينا إلى الأبد.

(8) 
ظلّك الذي منحني الحياة:
لم تكن شمسك فقط ما أضاءني… بل ظلّك.
ذلك الظلّ الذي سار إلى جواري حين كنت أتعثر، وغطّى خوفي حين لم أجد في الحياة غطاء. لم تكن حاضرًا دائمًا بالكلمات، بل كنت ذلك الحضور الذي لا يحتاج إلى شرح، ولا يطلب مكانًا في الضوء، لأنه النور من الداخل.

ثمة أشخاص يعبرون حياتنا ويمنحوننا النَفَس الأول من جديد. لا لأنهم قالوا شيئًا عظيمًا، بل لأنهم كانوا هناك، بطريقة لا يمكن نسيانها. كنتَ أنت ذاك الشخص. بصمتك، بصبرك، بحنانك الذي لم يُعلن عن نفسه، بل كان يُفهم من تفاصيل صغيرة: من نظرة، من توقيت اتصال، من إيماءة لا يقصدها أحد سواك.

كنت ظلًّا لا يزعج النور، بل يكمله. كنت المساحة الآمنة حين ضاقت بي كل الأماكن، وصوتك الداخلي – حتى حين لم أسمعه – كان مرشدًا لروحي المرتبكة. لم أكن أعلم أن الإنسان يمكن أن يُبعث من جديد وهو لا يزال حيًّا، حتى عرفتك.
حين كنت على وشك الانطفاء، لم تأتِ بحلول سحرية، بل جلستَ بجواري. شاركتني صمتي، واحترمت وجعي، ولم تخف منّي حين كنت هشًا. كنتَ ظلًا يتسع لي، لا يقيّدني. وهذا هو المعنى الحقيقي للحب، أو ما هو أسمى من الحب: أن يكون أحدهم معك، دون أن يطلب منك أن تكون شيئًا آخر.

وحين أنظر إلى نفسي الآن، أرى كم كنت جزءًا مني، لا كذكرى بل كجذر. كل ما نضج فيّ كان يسقى من ظلّك. كنتَ الرفيق الذي لا ينسحب حين تشتد العاصفة، بل يثبت أكثر، ليذكّرني أن بعض الظلال لا تختبئ، بل تحرس.

ظلّك لم يكن غيابًا عن الضوء… كان نوعًا آخر من الضوء، ولعل أجمل ما في هذه العطايا الخفية، أننا لم نكن ندري أننا سنصبح بدورنا مصدرًا لغيرنا.

(9) 
حين نكون طريقًا لغيرنا:
لسنا دائمًا الراحلين فقط… أحيانًا نكون الجسر، جسرًا لا يُرى من فوق، لكنه يمنع السقوط في الأسفل، وأحيانًا، دون أن ندري، نكون الطوق الذي يتشبث به غريق، الكلمة التي تؤجل انهيار أحدهم، أو الصمت الذي يمنح طمأنينة في عالمٍ يصرخ كثيرًا.

حين نكون طريقًا لغيرنا، لا يعني ذلك أن نعرف حجم أثرنا، بل أن نزرعه دون أن نلتفت. أن نكون ظلًا لشخص تاه في هجير أيامه، دون أن نطالبه بالاعتراف. أن نضع وردة على عتبة قلبٍ لا نعلم إن كان سيُفتح، فقط لأننا نؤمن بأن بعض القلوب تستحق الورد حتى إن كانت مغلقة.

كم مرة قلنا كلمة عابرة، وعادت إلينا بعد سنوات، على لسان من سمعها منا أول مرة، وأخبرنا كيف صنعت فرقًا في حياته؟ كم مرة مشينا بجوار من لا نعرف حزنه، لكننا كنا حضورًا صادقًا، فشعر للحظة أنه ليس وحده في العالم؟ نحن نُضيء أحيانًا دون أن نرى وهجنا.

ليست البطولة أن نُنقذ، بل أن نكون سببًا غير مرئي للنجاة. أن يذكرنا أحدهم حين يتجاوز ألمه، لا بالاسم، بل بالشعور الذي تركناه فيه. بالراحة، بالثقة، بالأمل.

وربما في بعض الأوقات، نكون ذلك الالتفاف البسيط في مسار شخصٍ ما، تلك اللحظة التي غيّرت زاويته في الرؤية، أو فتحت له نافذة حين ظن أن كل الأبواب أوصدت. لا نعلم، ولن نعلم دائمًا، لكن الحياة تحفظ هذه التفاصيل الصغيرة، وتعيد تدويرها في القلوب.

أن نكون طريقًا لغيرنا لا يعني أن نقودهم، بل أن نكون بجوارهم حين يخطون الخطوة التي يخافونها. أن نبتعد في الوقت المناسب. أن نترك لهم المساحة ليكونوا هم، لا نسخة مما نحب.

وفي نهاية كل رحلة، حين ينظر أحدهم خلفه ليقول: "لولا ذاك الشخص، لما وصلت"، لا نكون قد عبرنا عبثًا. لقد كُنّا الطريق.

(10) 
ولأننا أصبحنا جزءًا منهم أيضًا:
في تلك اللحظة التي ندرك فيها أننا لم نعد مجرّد مَن تأثّر، بل أصبحنا أيضًا مَن يُؤثّر، تتّسع الدائرة، وتغدو الحياة أكثر عمقًا. نحن الآن جزءٌ من حكايات الآخرين، ظلٌّ في ملامحهم، نبضٌ في أفكارهم، وبصمةٌ لا تُمحى من أرواحهم.

كما تأثّرنا، أصبحنا نُؤثّر. وكما اقتبسنا من أضواء من مرّوا بنا، صرنا نحن من يضيء الدروب لغيرنا. لا فرق بين الذين لمسونا، والذين نلمسهم الآن، سوى أن الأدوار تتبدّل، وأن النور لا يبقى في يدٍ واحدة.

هذه هي الحقيقة الهادئة والعميقة: أن نكون حلقة في سلسلة لا تنكسر، شعلة تُنقل من قلبٍ إلى قلب، ومن يدٍ إلى أخرى، حتى لا ينطفئ الضوء مهما علت الظلمة.

نحن لا نعيش لأنفسنا وحدنا، ولا نترك أثرنا فحسب. نحن، بوجودنا، نصنع امتدادًا لحياة الآخرين، ونشترك معهم في بناء ذواتٍ تكبر، وتتماسك، وتُقاوم. نحن جميعًا نكتب سويًا حكاية واحدة، تُروى بأصوات مختلفة، وتُنسج بخيوط المحبة، والعطاء، والذكرى.

ولذلك، حين نقف لحظة لنتأمل، نُدرك أن ما بيننا ليس مجرد عبور أو لقاء، بل تعايشٌ عميق. كل من مرّ بنا صار جزءًا منّا، كما صرنا نحن جزءًا منه. وبهذا، لا نبقى أفرادًا منفصلين، بل كائنًا جمعيًّا واحدًا، يتنفّس بالمحبة، ويعيش بالذكرى، ويكبر بتبادل الضوء.

وهكذا، تستمر الدائرة… بلا بداية ولا نهاية، بل بمحبة تخلّد ما بيننا.

جهاد غريب 
مايو 2025

الجمعة، 23 مايو 2025

الصمت لا يُثمر حين يُروى بالذل!


الصمت لا يُثمر حين يُروى بالذل!

ليس المهم أن يتحدث القريب، ولا الأهم أن ينطق البعيد؛ فالقرب لا يمنح العصمة، والبعد لا يهب قداسة. القرب لا يصنع الأنبياء، والبعد لا يهب الحكمة اليعقوبية. نحن لم نكن نتكئ على صلة رحم ولا نرفع أحدًا بقرابة دم، بل بميزان الشرف والعدل والعقل. كنا منذ نصف قرن كالبنيان المرصوص، يشهد لنا القاصي والداني بنقاء اليد، وطهر اللسان، ونبل المعشر، وسخاء القلب، وعظمة الإدراك. وهذا ما أبقانا واقفين، رغم محاولات الزمن أن يكسر فينا العزم.

لكن، ما كل دوام فضل، ولا كل صبر ثواب. فلكل أمة لحظة صدع، إما بقدرٍ يكتبه الله في صحائف الناس، أو بظلمٍ يستعجل الزوال. والزوال يأتينا اليوم لا لأننا ضعفاء، بل لأن الجهلاء منا هم من أمسكوا بالدفة، ومن جلسوا على صدر الحُكم والنُصح دون أن يفقهوا وزن كلمة ولا معنى مقام.

نعم، أقولها اليوم علنًا: أعلنت العصيان. أعلنت العصيان على أولئك الذين كنا نحن ظلهم فصاروا سيفًا على رقابنا. تمردت على سكوتٍ جعلني شريكًا في خيبتهم، مطالِبًا بحقٍ أضعناه في مجاملة الأغبياء ومهادنة الجهلاء. لقد أعطيناهم منابر لم يستحقوها، ورفعناهم فوقنا لأننا ظننا أن في الكِبَر حكمة، فخانوا الحكمة، وخانوا الكبَر.

لقد انتهى زمن المجاملة، لم نعد نُجيد الابتسامات الزائفة، ولا نملك شغف تلميع وجوه الطين. لا، لقد انهكني الصمت. كَسرني أن أراك عظيماً في مخيلتي وأنت في حقيقتك لا تساوي حتى ظلّ رجل عظيم. أعلنت عليكم التمرّد، أعلنت أن اليوم ليس لكم، بل علينا أن نرد الدين الذي أثقل أرواحنا، دين الاحترام الذي لم تكونوا أهله.

كل من ظن نفسه فوق الناس لأنه خُدع بأدبنا، عليه اليوم أن يضع رقبته تحت سيف العدالة. لن نترك له مجالًا أن يظن أن خيبته تمر بلا حساب. سنأخذ بحقنا، لا كما يُؤخذ اللطف بالرجاء، بل كما تُنتزع الحقوق من بين أنياب التمرد.

لا نريد منهم اعتذارًا، بل قصاصًا. لقد وضعوا أقدامهم على رؤوسنا دهورًا، فآن أن نضع رؤوسهم تحت أقدام الحقيقة. لا نطلب إلا جزاءً على خيبتهم. سننزع عنهم جلد الطهر الذي لبسوه زورًا، وسنتركهم عراة أمام ضمائرهم، وأمام الأجيال القادمة التي ستعرف من أسقط المجد ومن هدم الرفعة.

كنا نحن الذين رفعناهم، فتوهموا أنهم عظماء. كنا نحن من نفخ في جمرهم كي لا يخبو، فظنوا أنهم شموس. والآن نقولها: ما عادت الشعارات تهمّنا، ولا الرايات تُغري أعيننا. لم يعد عندنا وقت نضيعه في صبر لن يُثمر. لقد قطفوا الثمار، وتركوا لنا العطش والتراب.

اليوم نحاسب. اليوم نحاكم. اليوم نقتص.
سندكّ أسوارهم التي ظنوا أنها مجد، وهي في الحقيقة بيوت عنكبوت. سنكسر سيوفهم الخشبية التي رفعوها علينا، وسنكتب على جباههم: كنتم خيبةً وكنّا وفاءً. لن ندع لهم سبيلًا إلا تحت صليل الحق، وسنُذيقهم مرارة الكبرياء الذي سرقوه من أعيننا.

وليعلم كل جاهل، كل فاجر، كل سقيم النفس، أننا لم نكن ضعفاء، بل نبلاء. لكننا اليوم غير الأمس. اليوم نحن وقتهم. نحن لحظتهم. نحن نهايتهم.

وأنا العظيم الذي سيكتب على رقابهم: هالكون... أبدًا.

جهاد غريب 
مايو 2025

الخميس، 22 مايو 2025

هكذا كُنتُ... حتى سَقَطْتُ!

 
هكذا كُنتُ... حتى سَقَطْتُ!
كنت أظن أنني أمشي بثبات، أن خطواتي الصغيرة نحو المجهول محسوبة، أن القلب الذي تعوّد الصمت قد تعلّم أخيرًا أن يكون أقوى من الصوت، وأهدأ من الريح. 

لم أكن سعيدًا، لكنني كنت أتظاهر بالرضا كمن يحمل كأسًا مكسورًا ويتفنن في الشرب منه دون أن يجرح شفتيه.
ثمة نظرية في علم النفس تُشير إلى أننا نعيش معظم أيامنا على وضع التلقائي، لا لأننا نريد ذلك، بل لأن العيش بوعي مرهق.

كان كل شيء في حياتي يمضي بنظامٍ داخلي لا يُرى، يُشبه الساعة التي لا تُصدر صوتًا، لكنها تعمل... أو هكذا كنت أظن.
كنت أنا، ذلك الذي لا يسأل كثيرًا، ولا يعترض كثيرًا، ولا يحلم كثيرًا. كنت أراقب الحياة من خلف زجاجٍ نظيف، لا يلوثني الغبار، لكنه لا يدفئني أيضًا.

كان للوجوه المألوفة طمأنينة، وللأماكن القديمة راحة، وللروتين شكلٌ من أشكال الأمان الهشّ. كنت أعتقد أنني أعرف نفسي، أو على الأقل أعرف كيف أُسكتها حين تتمرد.

كانت الابتسامة على وجهي نوعًا من اللباقة، لا تنتمي إلى الفرح بقدر ما تنتمي إلى النجاة. وكنت أعتقد أن الحياة لا تحتاج أكثر من ذلك: قليل من الصبر، قليل من الإنكار، وقليل من الادعاء.

لكن شيئًا ما كان يتكسر فيّ بصمت. كأن الروح بدأت تفقد وزنها، وكأن المعنى انسحب من الحروف التي أرددها كل يوم دون وعي.

لم أكن أدرك أنني على شفا هاوية، لأنني كنت أجيد التوازن... فوق الحافة.

السقوط العظيم... والميلاد الأصدق!
لم يحدث الأمر بضجيج كما تتوقع الانهيارات، لم يكن هناك صراخ، ولا سقوط درامي من علو شاهق، بل بدأ كل شيء بتصدّع صغير، في لحظة عادية، بصوت داخلي خافت لا يسمعه أحد سواي: "هل هذا كل شيء؟"

كان سؤالًا بسيطًا، لكنه هزّ الجدار الذي كنت أتكئ عليه.
ثم بدأت الأشياء تتداعى: القناعات التي بنيت عليها حياتي، الوجوه التي كنت أطمئن لها، حتى الكلمات التي كنت أرددها وكأنها أنا... كلها بدأت تبدو غريبة، كأنني أراها للمرة الأولى من زاوية منكسرة.

في لحظة لا يمكن تأريخها، شعرت أنني أهبط داخليًا، دون مقاومة، دون خطة للنجاة. 

كنت أُفلت من كل شيء، حتى من نفسي. شعرت بأنني أذوب من أطرافي نحو الداخل، كأنني أُمحى بصمت، بلا مركز أتكئ عليه، بلا هوية أتمسك بها حين تشتد العاصفة. 

كنت أتفرّق على هيئة رجلٍ يبدو طبيعيًا، لكنه بلا نَفَس.
لم أعد أملك شيئًا، لا اليقين الذي كان يغطيني، ولا الرغبات الصغيرة التي كانت تُسكت الجوع الأكبر في داخلي. لكن الغريب أن في عمق هذا السقوط، وُلد إحساس غريب بالصدق.
يقول كارل يونغ: "لا يولد الوعي دون ألم".
كأنني لأول مرة أتعرّى من كل ما لستُ أنا، وأتلمّس ملامحي الحقيقية بعد طول انتحال.

في اللحظة التي فقدت فيها السيطرة، وجدت قلبي يهمس لي لا لينقذني، بل ليعرّفني على نفسي.
كان سقوطًا عظيمًا، لكنه كان ميلادي الأصدق.
سقطت، فاستيقظت. لم أعد كما كنت، ولن أكون.
الآن بدأت أرى الحياة من الأسفل، من حيث تتضح الأشياء وتفقد زيفها.

حين ينهار كل شيء... وتبدأ الحكاية!
لا تبدأ الحكايات دائمًا من البدايات الوردية، بل أحيانًا تنبثق من اللحظة التي لا يبقى فيها شيء لتخسره، من الأرض التي تلامس فيها جبينك لا سجودًا، بل استسلامًا عميقًا.

هناك، حين تتشظى التفاصيل، وتنهار العناوين التي كنت تُعرّف بها نفسك… تبدأ الحكاية الحقيقية.
حين ينهار كل شيء، تنكشف الأسرار: تكتشف أنك كنت تضع وجهك في قناع، وتعيش أيامك في غلاف مشدود من "كل شيء بخير"، بينما الداخل يتآكل بهدوء.
تنهار العادات، وتتساقط الأقنعة، وتنحلُّ العقد التي كنت تظنها جزءًا منك.

فجأة، تجد نفسك في مواجهة كاملة معك… بلا وسطاء، بلا مؤثرات، بلا أصوات خارجية تملأ الفراغ عنك.
كل شيء انهار، نعم، لكنّ فراغ الانهيار لم يكن خواءً… بل كان فراغًا خصبًا، جاهزًا لأن يُنبت شيئًا جديدًا.
وفي علم النفس الوجودي، يُعتبر الانهيار لحظة ولادة للذات الحقيقية، حين يتوقف الإنسان عن تمثيل دوره، ويبدأ في عيشه.

هناك، في وسط الركام، كان قلبي يمدّ إصبعه نحو الضوء، لا ليخرجه من العتمة، بل ليشير إليه: "انظر… ها هي الحقيقة، عارية، بسيطة، بلا زخارف".
لم يكن الانهيار نهاية، كما يوهمنا الخوف.

كان بداية. بداية لحكاية لا تُكتب بالحبر، بل بالشعور، بالندبة، بالصمت الذي يصنع لغة لا يقرؤها سواك.
كانت لغةً لا تُقال... بل تُنزَف.
لغةً لا تحتاج إلى كلمات، بل إلى أن تنهار بصمت لتفهمها.
لغةً خُلقت بيني وبيني، لا يفكّ شيفرتها سواي.
وهناك، في قاع كل شيء، بدأت أتكلم بصمتي، وأفهمني كما لم أفعل من قبل.
ومن هناك... بدأت أكتبني من جديد.

الانهيار الذي أعادني إليّ!
لم يكن الانهيار جرحًا فقط، بل مرآة.
مرآة كسرها الزمن، فعكستني بوجوهٍ لم أكن أعلم أنها لي.
في لحظة الانفصال عن كل ما كنت أظنه ثابتًا، لم أتبعثر... بل بدأت أتجمّع بطريقة جديدة، بطريقة تشبهني أكثر، رغم الألم.
اكتشفت أنني كنت أعيش متقمصًا نسخًا متعددة منّي، لأُرضي الآخرين، لأهرب من حزني، ولأخدع خوفي.
لكن حين انهارت تلك النسخ واحدة تلو الأخرى، لم يبقَ إلا أنا، وحقيقتي العارية.

يقول بعض الفلاسفة إنّ النفس لا ترى حقيقتها إلا حين تسقط عنها الأقنعة دفعة واحدة، لا أمام مرآة... بل أمام الفراغ.
أدركت حينها أن أصدق أشكالي هي تلك التي لم أسعَ يومًا لعرضها على أحد.

ويا لها من لحظة... لحظة التقاء المرء بذاته، خارج كل المسميات، والمجاملات، والادعاءات.
الانهيار لم يكن عدوي، كان صديقي المتخفّي، جاءني بصورة الخراب، لكنه حمل بيده مفتاحًا صدئًا، فتح به بابًا كنت قد أغلقته منذ زمن: باب الرجوع إلى نفسي.

رجعت لا على هيئة المنتصر، ولا الضحية... بل على هيئة إنسان تجرّد من كل شيء، فعاد إلى جوهره الأول.
أدركت أن الصلابة ليست في أن لا تنكسر، بل في أن تنكسر وتُعيد ترتيبك بصبر، لا كما كنت، بل كما يجب أن تكون.
لقد أعادني الانهيار إليّ، لا كعقوبة، بل كفرصة.
فرصة لأعرف من أنا، لا من أبدو عليه.

صوت الذات في صمت الانهيار!
حين تصمت الأشياء من حولك، ليس لأن العالم قرر أن يهدأ، بل لأنك أنت هو الذي كفّ عن الركض... تبدأ في سماع شيء لم تعهده من قبل.

ذلك الصوت الداخلي، الذي ظل لسنوات يتحدث من خلف الزحام، يظهر أخيرًا، واضحًا، نقيًا، كأنه خرج لتوّه من حنجرة روحك.

في صمت الانهيار، حين تسقط الضوضاء الخارجية، وتتوقف نصائح الآخرين، وتغيب ضجة المعايير، تسمع نفسك تقول: "أنا هنا… لطالما كنت هنا، تنتظرك".

ليس صوتًا عاليًا، لا يصرخ، لا يتوسل، لا يلوم.
هو مجرد همس، لكنه يعرف الطريق.
فبعض الأصوات لا تُخلق لتُسمع وسط الضجيج، بل لتولد في الهدوء، حين تصغي روحك أخيرًا لنفسها، لا لتُجيب… بل لتريك من يسأل.

ذلك الهمس، كان أول صوتٍ لا يطلب إذنًا ليكون.
إنه ليس الصوت الذي يقول لك ما يجب أن تكونه، بل يسألك: "من أنت حين لا يراك أحد؟ من أنت حين لا تنتظر تصفيقًا؟"
سؤال لا يُجاب عليه بالكلمات، بل بالارتجاف، بالبكاء أحيانًا، بالسكوت الطويل الذي يشبه الصلاة.

ذلك الصمت، الذي ظننته عزلة، لم يكن سوى مساحة نقاء.
وفي تلك المساحة، عاد كل شيء إلى مكانه…
الطفل الذي أضعته، الرغبة التي أنزلتها عن الرفّ، النبض الذي كتمته خجلًا… كلهم عادوا، وجلسوا إلى جانبي، كأنهم لم يرحلوا، بل كانوا ينتظرون أن أصمت.

حين خفَتَ ضوء الخارج، أضاء الداخل.
وحين هدأت العاصفة، خرجت الحقيقة من تحت الركام، تلبس صوتي، وتقول لي: "ها أنت".

حين يعيدنا الألم إلى أصلنا!
الألم لا يطرق الباب كما يفعل الفرح، لا يأتي خفيفًا أو مؤدبًا.
إنه يقتحمك، يجلس في منتصف صدرك، يفرض حضوره بلا دعوة… لكن ما إن يطيل الجلوس، حتى تكتشف أنه يعرفك أكثر مما تعرفُ أنت نفسك.
في البدء، تقاومه.
تخشى أن تنكسر، أن تنكشف، أن تسقط أمامه.
لكن شيئًا فشيئًا، يبدأ في نزع الأقنعة… لا برغبتك، بل بحقيقته.

وفي كل قناع يسقط، تُحس أنك تقترب، لا من الألم… بل من ذاتك التي نفيتها طويلًا.
الألم لا يُعرّفك على ضعفك فقط، بل على قوتك الحقيقية، تلك التي لم تأتِ من الإنجاز، بل من التحمّل… من القدرة على النظر في المرآة رغم الدموع.

هو لا يعيدك إلى الوراء، بل يعيدك إلى جوهرك، إلى تلك النسخة التي كدّست فوقها طبقات من التوقعات، والخوف، والتأجيل، حتى كدت تنساها.
هناك، حين لم يعد لديك شيء تدافع عنه، تبدأ في اكتشاف ما يستحق أن تعيش لأجله.

وحين لم يعد لديك ما تخسره، تعود حرًا…
حرًا بما يكفي لأن تصادق ألمك، لا كعدو، بل كمرشد غريب الأطوار، قادك إلى باب لم تكن لتصل إليه وحدك.
فالألم حين يبلغ ذروته، لا يزيدك وجعًا، بل يكشف لك خريطة العودة إلى ذاتك، وكأنك كنت تنحني طوال الوقت لتلتقط شيئًا أعمق من الشفاء: المعنى.

الألم ليس النهاية.
الألم بداية العودة… إلى ما كنت قبل أن تنشغل بكل ما ليس أنت.

حين يكون السقوط شرطًا للنهوض!
لم أفهم السقوط حين وقع.
كنت أراه كعقوبة، كفضيحة داخلية، كفشل نهائي.
لكن الزمن، ذاك الفيلسوف الصامت، علّمني أن بعض السقوط لا يحدث ليسحقك، بل ليزيل ما لا يُناسبك من قشورك، وليضعك في مواجهة ما كنت تؤجله دومًا: نفسك.

السقوط ليس الضدّ للنهوض، بل هو شرطه الأول.
فمن لم يعرف أرض القاع، كيف سيتقن التوازن على قمته؟
ومن لم يخسر شيئًا حقيقيًا، كيف سيعرف قيمة النهوض على شيء حقيقي أيضًا؟

إننا لا نصعد ونحن نتمسك بما أثقلنا، بل حين نُجبر على التخلي.
والسقوط يعلمك التخلي: عن كبرياءك، عن وهمك، عن تصوراتك المسبقة.
يعريك من كل ما ليس لك، لتنهض أخف، أصدق، أعمق.
أحيانًا، لا يمنحك الطريق إشارات كافية لتتوقف… فيرسل لك انهيارًا.

وفي عمق الانهيار، تتعلّم أن الصعود ليس قفزًا فوق الوجع، بل مرورًا عميقًا فيه، عبورًا لا يمكنك اختصاره، لكنه يُشكلك من جديد.

الذين لم يسقطوا أبدًا… غالبًا لم يتحركوا.
أما الذين نهضوا، فلن يحدث أن تنظر في أعينهم دون أن ترى أثر الأرض فيهم، وأثر السماء التي صعدوا نحوها.
السقوط لم يكن هزيمة، بل كان الباب الذي ما كان ليفتح إلا إذا سقطت أمامه.

من قاع السقوط إلى قمة الذات!
القاع ليس ظلامًا فقط…
بل صمتٌ كثيف، تتردد فيه أصداء صوتك وحدك،
بعيدًا عن التصفيق، وعن النظرات، وعن العناوين التي منحوك إياها ثم انتزعوها.
القاع مكان لا تُحسن التظاهر فيه، ولا يحتمل الكذب.
في القاع، تبدأ بتفكيك خرائطك القديمة، تلك التي قادتك إلى هنا،
وتدرك أن بعض الطرق لم تكن لك، وبعض الأهداف لم تكن أهدافك،
بل صدى لحلم أحدهم… والآن، في هذا العراء، تبدأ للمرة الأولى برسم خريطة تشبهك.

تنهض، لا لأن شيئًا حولك تغيّر، بل لأنك تغيّرت.
ولأنك أدركت أن القمة ليست مكانًا… بل لحظة تصالح،
لحظة وقوف على أرضك الداخلية، متحررًا من صراعات المقارنة، والتوقع، والهروب.
قمة الذات لا تُرى من الخارج.
لا تُقاس بالألقاب ولا بالمكاسب،
بل تُقاس بقدرتك على النظر إلى ماضيك دون سخط،
وبقوة سلامك مع نفسك، حين لا يحتاج هذا السلام إلى شهادة أحد.

الصعود لم يكن انتصارًا على السقوط،
بل كان امتدادًا له، كأن السقوط لم يكن إلا البذرة…
والقمة لم تكن إلا الإزهار الطبيعي بعد عمق الجذور.
من القاع، رأيت ظلي حقيقيًا للمرة الأولى،
ومن هناك، صعدت… لا فوق الآخرين، بل فوق نفسي القديمة،
كأن السقوط لم يكن انكسارًا، بل انحناءةً لالتقاط النور من موضعه الأصدق: داخلي.

الرحلة من الانكسار إلى الاكتشاف!
لم أكن أبحث عن إجابات حين بدأت السقوط،
كنت فقط أبحث عن مخرج… عن نفس أتنفسه دون أن أشعر بالضياع.
لكنني ما وجدت المخرج إلا حين توقفت عن الجري،
وما وجدت النفس إلا حين غصت أعمق في الانكسار.

الرحلة لم تكن عودة من الهزيمة،
بل كانت عبورًا منها، عبورًا جعل الهزيمة ركنًا من أركان النضج،
وصار الانكسار مرآة نقية، رأيت فيها وجهي خاليًا من الزيف.
اكتشفت أنني لا أُبنى عندما أكون قويًا فقط،
بل أُبنى أكثر عندما أُكسر،
حين تتشظى أفكاري القديمة، وتتبعثر صورتي عن ذاتي،
فتنبثق أنا الجديدة، لا من الخارج… بل من رماد الداخل.

تلك اللحظات التي حسبتها نهايات،
كانت في حقيقتها نقاط التقاء…
حيث التقَى الداخل بالخارج، والظاهر بالباطن، والقلق بالحكمة.
كل شيءٍ واجهته أعادني إليّ.
وكل ألمٍ منحني بوصلة.
وكل صمتٍ كان حوارًا.
لم أعد كما كنت…
ولا أرغب في أن أعود.
لأنني في كل سقوط، 
كنت أخلع جلدًا لا يشبهني،
وفي كل نهوض، ألبس ذاتي الحقيقية.
وفي كل منعطف، لم أكن أضيع… بل أكتشف.
وهكذا…
تحوّل الانكسار إلى بوصلة،
والألم إلى درس،
والرحلة… إلى ميلاد،
لا يُشبه البداية، ولا يشبه النهاية… بل يشبهني.

جهاد غريب 
مايو 2025

الأربعاء، 21 مايو 2025

كذبة الصبر المنعزل!

 
كذبة الصبر المنعزل!

حين يردد البعض بثقة: "من اعتاد على تجاوز حزنه بمفرده، لن يؤثر فيه بقاء أحد أو غيابه"، فإنهم في الحقيقة لا يروون حقيقة، بل يتحدثون عن مشهد ناقص، عن ألم لم يتجاوز جلده، عن جرح سطحي بالكاد وخز الشعور، ثم مر. 

هذه العبارة وإن بدت قوية عند أول وهلة، إلا أنها، في عمقها، مغلوطة حد السذاجة. لا لأن الإنسان ضعيف، ولا لأن الحزن يستقوي عليه، بل لأن هذه المقولة تنكر أمرًا بدهيًا: أن الإنسان كائن اجتماعي، مخلوق من تفاعل، من علاقات، من تضامن، من خذلان أحيانًا، ومن عناق كثيرًا. من يزعم أنه يتجاوز حزنه بمفرده لم يجرب حزنًا حقيقيًا.

لا يعيش أحد بمفرده في هذا الكوكب، ولا أحد يتجاوز الألم دون أن تمتد له يد، وإن لم تُرَ تلك اليد، فربما كانت في كلمة، في نظرة، في صوت من بعيد، أو حتى في ذكرى حُفرت من شخص لم يعد موجودًا. 

فمن الذي يحزن أصلًا؟ أليس هو من خُذل من صديق، أو فارق حبيبًا، أو انفصل عن شريك، أو خسر سندًا؟ ومن ذا الذي يسبب الحزن إن لم يكن الآخر؟ كيف إذًا يقال إننا نتجاوز ما سببه الآخر بأنفسنا وحدنا؟ ما هذا التناقض العاطفي الفادح؟

الحزن العميق لا يُزال بالجلوس في العزلة وتأمل الجدران. بل إن الحزن الحقيقي يعيد تشكيل الروح، يبعثر الإنسان، يقلبه من الداخل، ويحتاج لترميم طويل لا يقوم به عقل منعزل مهما ادعى الصلابة. من تألم لفقدان زوجته، من خانه صديقه، من انكسر في عمله، من خذله أبناؤه، من خسر وطنه، هل يُقال له: تجاوز بمفردك؟ 

من يعيش في سجنه الخاص، أو على هامش المجتمع، أو بين أفراد لا يفهمونه، لا يحتاج إلى مزيد من العزلة كي يشفى، بل إلى صوت يربّت عليه، إلى إنسان لا يطلب تفسيرًا، بل يقدم حضوره.

ثم من قال إن تجاوز الحزن هو انتصار؟ ربما التجاوز دون فهم، دون مواجهة، دون مشاركة، هو في حقيقته قمع وتأجيل وترحيل للوجع، لا شفاء منه. من اعتاد أن يخنق حزنه بصمت، لا يعني أنه قوي، بل ربما يعني أنه اعتاد أن يُترك، أن يُهمَل، أن يُخذَل، فصار يتعامل مع حزنه كما يتعامل المتشرد مع البرد: يحاول أن يدفن نفسه باللا شيء، ويقنع نفسه بأن البرد لا يوجعه.

هذه المقولة، في جوهرها، تُمجّد الوحدة في غير محلها، وتحتفي بالعزلة كأنها بطولة، بينما هي، في الحقيقة، غالبًا رد فعل على الخذلان أو على تكرار التجاهل. نعم، قد يبدو بعض الناس قادرين على تجاوز الألم وحدهم، لكنهم لا يتجاوزونه، بل يدفنونه، ولا أحد يعلم متى ينهار هذا الدفن.

ثم إن الحزن ليس ساحة نخوضها بمفردنا. هو معركة تحتاج حلفاء. فحتى الذين كانوا في الكهوف، في السجون، في أقسى لحظات الوحدة، لم تكن ذاكرتهم فارغة من الوجوه، من الأصوات، من الرسائل، من فكرة شخص سيعود، من حلم لقاء، من انتظار حياة أفضل. الإنسان لا يمكنه أن يعيش دون أثر للآخر. فكيف له أن يتجاوز ألمه دون الآخر؟

لا شيء في الإنسان يُبنى بمفرده، ولا حتى القدرة على الصبر. كل صبرٍ خلفه تجربة، وكل تجربة شارك فيها أحد. من يتجاوز الحزن وحده؟ لا أحد. وإن وُجد، فإنه تجاوز حزنه السطحي، لا ذلك الحزن الذي ينزع القلب من مكانه، ولا ذاك الذي يتركك تتنفس بصعوبة وتنام بدمعة.

لو كانت هذه المقولة صحيحة، لما احتيجَ لمعالج، ولا لصديق، ولا لزوجة تحتضن، ولا لأخ ينصت، ولا لعين تسأل دون كلام: هل أنت بخير؟ من قال إن البقاء أو الغياب لا يؤثر؟! الغياب وحده حزن. والوجود أحيانًا شفاء. والعبارات التي تصف البشر كأنهم آلات تتعافى بمجرد زر، هي عبارات لا تليق بهذا الكائن الرقيق العجيب المعقد.

لا، لا نتجاوز حزننا بمفردنا. نحن نتجاوزه حين نجد من يصدق وجعنا دون أن يستخف به. نتجاوزه حين لا نُترك. نتجاوزه حين نُرى، ونُفهم، ونُحب رغم تصدعاتنا. وكل ما عدا ذلك مجرد خداع ناعم يُقال بصوت بارد في صور أنيقة على شاشات مضاءة. 

أما في العمق، فالحقيقة عارية: لا أحد يتجاوز حزنه العميق بمفرده. وإن ظنّ أنه فعل، فليعد إلى نفسه بعد حين، سيجد أن الحزن نائم في الزاوية، لم يرحل، بل كان ينتظر اللحظة المناسبة ليذكّره أنه ما زال هناك، ينزف، بصمت.

جهاد غريب 
مايو 2025


الثلاثاء، 20 مايو 2025

الهدايا الخفية في زمن الراكضين!

 
الهدايا الخفية في زمن الراكضين!

في زمنٍ يُقاس فيه كل شيء بالسرعة، نمرّ على لحظاتنا كما لو كنا نعتذر من الوقت لا نعيشه!، نُمسك بالكثير، لكن القليل فقط يلمس أرواحنا. وسط ضجيج الركض، ثمة هدايا لا تُرى إلا حين نُبطئ، نُصغي، ونسمح للحظة أن تهمس لنا بما أخفاه التسرع.

لحظة تنبض بالحضور:
كلما حاولت أن أقبض على اللحظة، وجدت أن بيني وبينها طبقة خفية من التفكير؛ التفكير في ما سبقها، أو في ما يليها، أو في معناها، وكأن الحاضر لا يُمنح كما هو، بلا شروط، بل ينتظر مني أن أفرغ رأسي تمامًا كي يدخل. لكن من ينجو من ذلك الرأس المزدحم؟ من تلك الأفكار التي تزحف خلسة حتى إلى كوب القهوة الصباحي، أو إلى لحظة الاستلقاء على السرير بعد يوم طويل؟ يبدو أن العقل، رغم كل محاولاته للتركيز، لا يعيش اللحظة، بل يفسّرها، يقارنها، يعيد تشكيلها.

ربما لهذا يمر الحاضر كطيف، لا كزيارة!، نسمع وقع خطاه لكنه لا يبقى، أو نُمسك طرف ثوبه ثم نفلت، أو بالأحرى: ننشغل عنه؛ ونحن نظن أننا نعيش الآن، بينما نحن في الحقيقة نُدوّن في دفتر الأمس، أو نُعدّ خريطة الغد.

ورغم هذا الزحام، ثمّة ومضات تخترق ضباب اليوم، تُذكرنا بأن الحياة لا تُقاس بطولها، بل بكثافة الشعور فيها، بلحظة صافية، بضحكة غير محسوبة، بنظرة تصنع بينك وبين العالم صلة لا تُرى؛ نعيش الزمن كأنه عدو، لا كرفيقٍ يهمس إلينا بأسراره. 

وفن إدراك الجمال ليس ترفًا فكريًا ولا رفاهية شاعرٍ حالم، بل هو فن البقاء في عالمٍ يمرّ بسرعة الضوء: فن التوقف أمام زهرة، فن السكون في حضرة المطر، فن التماهي مع غروبٍ يُذيب القلب قبل أن يُذيب الأفق.

من يتقن الإصغاء إلى همسات اللحظة، يعرف أن الحضور ليس حالة جسدية، بل فعلٌ روحي، اختراقٌ عميق للسطح نحو جوهر التجربة. ربما لا نذكر الأيام كما عشناها، لكننا نذكر لحظة شعورٍ خالص، لحظة عرفنا فيها أننا أحياء، لا لأننا نتنفس، بل لأننا كنا هناك، بكامل ما فينا، نحب، نشعر، نندهش.

نحتاج إلى أن نفتح نوافذنا للحواس، وقلوبنا للدهشة، وعقولنا للفهم البطيء، لأن الجمال لا يُصرخ، بل يُهمس. فقط عندما نتوقف عن الركض، وننصت لما بين الأصوات، نكتشف أن اللحظة التي كنا نظنها عابرة، كانت في الحقيقة بيتنا الوحيد.

دهشة التفاصيل وصوت اللحظة:
عندما نستعيد الذكريات، نحن لا نستعيد الوقائع، بل الروائح التي عبّقت المكان، الألوان التي التمعت، النبض الذي كان في صدرنا. قد ننسى ما قلناه تحديدًا، لكننا لا ننسى كيف جعلنا الآخرَ يشعر، ولا كيف شعَرنا نحن حينها.

في حياةٍ تمضي كالسهم قبل أن نراها تمر، ننسى أحيانًا أن نعيش ببطء الصوت. اللحظة تمر، لا لأنها خفيفة، بل لأننا لم نكن حاضرين بما يكفي لنسمع وقع خطواتها. التفاصيل الصغيرة التي تتناثر كحبات المطر، ليست بقايا عابرة من يوم مزدحم، بل هي المعنى نفسه الذي يختبئ في الزوايا.

اللحظات لا تُصوَّر بالكاميرا، بل تُلتقط بالحسّ!، فكم من صورة فوتوغرافية لم توقظ فيك شيئًا، وكم من عطرٍ عابر جعلك تقف وسط الشارع لأن قلبك سُحب إلى مقعد قديم، في مكان لا يعرفه من حولك.

ليس من الضروري أن تكون شاعرًا لتشعر، لكن من الضروري أن تتوقف، أن تنظر، أن تترك قلبك يتورط في دهشة ما هو بسيط. كوب قهوة يُشرب دون استعجال، ظل شجرة يلامس الأرض بنعومة، يد دافئة تصافحك دون مناسبة، كلها رسائل. لكنها لا تُقرأ بالعين، بل بالبصيرة.

نحن نعيش اللحظة الآن، نعم، لكنها في الحقيقة تُهيّئ نفسها لتكون ذكرى غدًا. فهل نمنحها من الصدق ما يكفي لتستحق أن تعود؟ هل نُضيف فيها لمسة تجعلها أكثر من مجرد عبور؟ اللحظة ليست فقط ما يحدث، بل كيف نستقبله. حين نُصغي بكامل روحنا، حين نضحك دون أن نلتفت للزمن، حين نُحب دون أن نحسب كم تبقى من الوقت... حينها فقط، تكون اللحظة جديرة بأن تُحفظ في الذاكرة، لا كواقعة، بل كأثر.

الجمال لا يُعلن عن حضوره، بل يأتي هامسًا، يشبه صديقًا قديمًا لا يطرق الباب، بل يدخل دون أن يحدث صوتًا، فيفتح النافذة، ويترك نسمة تتسلل إلى قلبك، ولعل أعذب ما في الجمال أنه لا يشبه أحدًا، ولا يتكرر أبدًا. مشهد الغروب الذي تراه اليوم، قد يتكرر شكله، لكن إحساسك فيه لا يعود. لأنك أنت لم تعد كما كنت. وهذا ما يجعل اللحظة كنزًا لا يُعاد.

حين نتعلم أن نعيش اللحظة كما هي، لا كما نريدها أن تكون، يصبح العالم أكثر رحمة، وحين نُحب كما لو أن الحب يُكتشف لأول مرة، نغفر كما لو أن الغفران هدية لأرواحنا، لا للآخرين، ونصمت كما لو أن الصمت صلاة، نلامس جوهر الحياة. ليس من العدل أن نختزل الحياة في إنجازاتنا، ونُهمل ما لم يُكتب، ما لم يُصوّر، ما لم يُعلَن.

هناك حكمة قديمة تقول: "الحياة لا تُقاس بعدد الأنفاس التي نأخذها، بل باللحظات التي تُدهشنا حتى ننسى أن نتنفس." والدهشة ليست حدثًا خارقًا، بل شعور داخلي يولد عندما نسمح لأنفسنا بأن نكون موجودين تمامًا.

نحتاج أن نُبطّئ خطانا. أن نمشي دون هدف أحيانًا. أن نحدّق في لا شيء، فقط لأن في اللاشيء كل شيء. أن نُصغي للصمت كأنه صوت، وننظر إلى الظل كأنه ضوء. حينها فقط، نبدأ في تذوق الحياة لا كشيء نملكه، بل كهدية نُدهش بوجودها كل مرة من جديد.

ولعل أعظم أشكال الامتنان هو أن نعيش وكأننا لن نُمنح هذه اللحظة مرتين. أن نلمس الوردة لا لنقطفها، بل لنشعر بخجلها. أن نستمع لصوت المطر لا كخلفية، بل كأغنية كُتبت لنا نحن فقط. أن نكون بسطاء بما يكفي لنندهش، وعميقين بما يكفي لنفهم أن ما نعيشه الآن... هو الحياة.

نُهدهد اللحظة كي لا تهرب:
نحن لا نعيش الحياة مرة واحدة، بل نعيشها كلما تذكرنا، كلما أدهشتنا تفصيلة، كلما احتضننا مشهدٌ عابرٌ بشعورٍ غيرِ عابرٍ، ولهذا، فإن أجمل ما في اللحظة ليس حضورها، بل قدرتها على البقاء فينا بعد أن ترحل. قد لا نمتلك قدرةً على إيقاف الزمن، لكننا نملك ما هو أعمق: أن نكون شركاء في دهشته، شهودًا على معجزاته الصغيرة.

ليست الحياة شيئًا نؤجله حتى تتحسن الظروف، أو ننتظره في عطلة نهاية الأسبوع، أو نكتبه في قائمة المهام. الحياة تُقاس بالحضور، بالحساسية تجاه كل ما لا يُرى، وبالانتباه لما لا يُقال، ربما لهذا تبدو الطفولة أجمل مراحل العمر، لأن الطفل لا يفكر في الأمس، ولا يتوقع الغد، بل يغمره الآن كأنه العالم كله.

فلنحاول، على الأقل، أن نستعيد شيئًا من تلك البراءة. أن نُبطئ قلبنا قليلًا، ونمنحه فرصة أن يفرح دون تفسير، أن يحزن دون مقاومة، أن يصمت دون شعور بالنقص، لأن أعظم شجاعة، في هذا الزمن الذي يركض، هي أن نقف. أن نُصغي. أن نعيش كما لو أن الحياة تهمس لنا: "أنا هنا، لا تمرّ بي بسرعة."

نعم، نحن نحتاج إلى الإنجاز، وإلى الأهداف، وإلى السعي... لكننا نحتاج أكثر إلى أن نضع أرواحنا في هذه الرحلة، لا أن نتركها على الرصيف. نحتاج إلى أن نُمسك باللحظة كمن يُمسك بريشة، لا بحبل. أن نهدهدها كي لا تهرب، ونشكرها لأنها جاءت رغم الزحام، رغم الفوضى، رغم التعب.

قد لا يعرف أحد كم لحظة جميلة مرت بنا، ولا كم مرة ابتسمنا لأن ظل شجرة حرّك فينا شيئًا. لكننا نحن نعرف، ونحن، في النهاية، من يُشكّل الحياة بذاكرتنا، لا بأحداثها فقط.

فليكن حضورنا في لحظتنا هو أعظم ما نُهديه لأنفسنا.

جهاد غريب 
مايو 2025

نحن والعابرون... والظلّ الذي لا يُنسى!

 
نحن والعابرون... والظلّ الذي لا يُنسى!

في زمنٍ ترتفع فيه أصوات الفردية ويهتف فيه الجميع بـ"أنا" على حساب "نحن"، يغيب عن وعينا أن كل ما نحن عليه الآن هو نتاج سلسلة طويلة من العطاءات التي لم نخترها، لكننا كنا دوماً على الجانب الآخذ منها. 

تلك اليد التي تربّت على كتفك ذات يأس، النظرة التي أنقذتك من تيه، الكلمة التي لم تقلها لكن فهمها أحدهم عنك.. كل ذلك شكّلك أكثر مما تظن. قد يبدو الاكتفاء الذاتي أمراً بطولياً حين نردده على هيئة شعارات مضللة، لكنه في الحقيقة وهمٌ تواطأنا جميعاً على تصديقه كي لا نشعر بالضعف. 

نحن لا نولد بأسوارٍ حول أرواحنا، بل نبنيها خوفاً من انكشاف حاجتنا للآخر، بينما تلك الحاجة هي أعظم ما يجعلنا بشراً. 
تأمل يديك للحظة، هل كنت أنت من صنع قدرتهما؟ هل صنعت عقلك، ذوقك، إحساسك، حتى حزنك؟ كل شيء فيك كان هبة من آخرين، فلولاهم، لما كنت كما أنت الآن، لا في حضورك، ولا في غيابك. بعضهم لا تعرفهم، وبعضهم نسيتهم، لكنهم ما زالوا يسكنون داخلك.

الحياة ليست ساحة معركة للفرد الأقوى، بل نسيج معقد من الأخذ والعطاء، من الظل الذي منحه أحدهم لغيره دون أن يشعر، من الجسر الذي بُني من تعب الآخرين لتعبر عليه دون أن تتعثر. 

وقد نغفل، في خضم هذا التصور البطولي للذات، عن حقيقة جوهرية. نعيش متخيلين أننا جزر معزولة، بينما نحن، في جوهرنا، طرقٌ متقاطعة، لا نكتمل إلا حين يمر الآخرون بنا، ونمنحهم المعبر الآمن إلى حيث يجب أن يكونوا. كم من مرة كنت بحاجة لإنقاذ، فكان العابر المجهول هو اليد التي أمسكت بك؟ وكم مرة عبر بك آخر، دون أن تدري أنك كنت طوق نجاته؟

حتى من آذونا، ربما منحونا حكمة، أو كشفوا لنا وجهاً خفياً فينا، فأثروا فينا من حيث لا يدرون. إن الإنسان الحقيقي لا يخشى أن يكون مكشوفاً، هشاً، محتاجاً، لأنه يدرك أن العطاء لا يعني القوة فحسب، بل يعني الاعتراف المتبادل بالضعف والإنسانية. 

ليست الحياة معادلة رياضية تُحلّ بذكاء فردي، بل فسيفساء هائلة، كل قطعة فيها تكمل الأخرى، لا بقيمتها وحدها، بل بقدرتها على الانسجام. نظن أن البقاء في الظل ضعف، بينما الحقيقة أن الظل هو ما يمنح الآخرين راحة الوجود. ليست كل الأدوار بطولية، لكن كل دور ضروري. 

لست بحاجة لأن تكون الأذكى أو الأنجح أو الأكثر تأثيراً، بل أن تكون ذلك الشخص الذي يدرك أن قيمته تكمن في كونه جزءاً من لوحة أكبر، لا تكتمل بدونه، وإن لم يُذكر اسمه في الأسفل، فالمجتمع لا يعمل بترسٍ واحد، وكل ترس – مهما صغر – إما أن يحرك المنظومة أو يعيقها.

المشكلة لا تكمن في الأخذ، بل في أن نرفض العطاء بعده. حين نغلق على أنفسنا أبوابنا ونختبئ خلف أقنعة الاكتفاء، نكتشف بعد فوات الأوان أننا أصبحنا مثل شجرة بلا ظل، واقفة وحدها، لا أحد يحتاجها، ولا تعرف هي نفسها من تحتاج.
ومن يعتقد أنه محايد، لا يؤذي ولا ينفع، يغفل أن حياده هذا هو موقفٌ مؤذٍ من نوعٍ آخر، لأن الحضور دون أثر هو الغياب بعينه.

وحين تهدأ الضوضاء، وتنطفئ الأنوار من حولك، وفي نهاية كل يوم، حين تضع رأسك على وسادتك، ستدرك أن الأهم لم يكن ما أنجزته لنفسك، بل كم مرة كنت جسراً لغيرك. كم مرة كنت اللحن الخفي في موسيقى أحدهم، دون أن تطلب الاعتراف بذلك، لأن الحياة، في عمقها، لا تقاس بعدد الخطوات التي خطوتها وحدك، بل بعدد الأقدام التي مشَت بثقة لأنك كنت الطريق.

لا تخف من حاجتك للناس، ولا تستحِ من عطائك لهم، فأنت لم تُخلق مكتفياً، ولم تكن وحدك يوماً. ولعل أعظم قوتك هي أنك لست وحدك، ولم يكن عليك أن تكون كذلك أصلاً.

جهاد غريب 
مايو 2025

الاثنين، 19 مايو 2025

الاعتراف.. اللحظة التي تُغيّر المصائر!


الاعتراف.. اللحظة التي تُغيّر المصائر!

في الصمت الذي يسبق الهمسة، وفي العمق الذي يختبئ وراء حجاب الذرائع، يولد الاعتراف كضوءٍ يعبر شقوق الروح المظلمة؛ ليس مجرد كلمات تُلفظ في لحظة انكسار، بل زلزالٌ يهزّ أركان الذات، يُعيد ترتيب الخريطة الوجودية للإنسان. إنه اللحظة التي يختفي فيها التمثيل، وينكشف الغبار عن المرآة، فنرى أنفسنا كما نحن، لا كما نتمنى أن نكون. 

هنا، في هذا الكشف الصادق، تكمن المفارقة العظيمة: أن نعترف هو أن نتحرر، أن ننكسر هو أن نُصلح، أن نسقط هو أن ننهض من جديد. ففي قلب كل إنسان غرفة صغيرة معتمة لا يدخلها نور إلا حين يُفتح باب الاعتراف، ذلك الموت الوحيد الذي لا نخشاه، بل نشتاق إليه، لأنه موت الوهم الذي كنا نسميه حياتنا، وبعثٌ للحقيقة التي كانت تنتظر تحت الركام.

وحين تُسند ظهرك إلى الجدار لوهلة، لا تفعل ذلك ضعفًا، بل لتجمع القوة للاندفاع من جديد، والاعتراف هو تلك اللحظة التي تسبق القفزة؛ ليست المصائر هي التي تُكتب فقط، بل أنت الذي يُعاد تشكيلك من الداخل، فتُصبح أكثر قربًا من سكينة تستحقها، ومن حياة تنبع من معرفة حقيقية بالله. وما المغفرة إلا نتيجة حتمية لهذا الانحناء الطوعي، لهذا الصدق المقدّس، لهذا الاعتراف الذي لا يُقال للناس، بل يُقال لله وحده.

أن تعترف، هو أن ترى، ولأول مرة، نفسك كما هي، لا كما كنت تزينها لنفسك أو للناس. هناك في تلك اللحظة الفاصلة، لا يحتاج المرء إلى خطب ولا إلى شهود، فالعين تكفي لتشهد، والقلب وحده يكفي ليبكي. وما إن يُنطق الاعتراف، بصوت أو بدعاء أو حتى بندم خفي، حتى تبدأ المصائر بالتبدل. كم من سنوات نضيعها ونحن نهرب من اعتراف يستغرق ثانية واحدة؟ إنها المفارقة التي تحوّل عمرًا من التيه إلى لمحة واحدة من اليقظة.

الله لا يحتاج لاعترافنا كي يعرف، بل نحن من نحتاجه لنعرف أنفسنا. والاعتراف ليس طقسًا شكليًا، بل هو حركةٌ من الأعماق إلى السّماء. إنه الصدق الذي لا يُزيف نفسه بتبرير، ولا يُخفيه خجل، ولا يُشوهه كبرياء. تأمل في الكلمة نفسها: "اعتراف"، تحمل بين حروفها جذور "عرف"، أي المعرفة. 

إنها ليست مجرد بوح، بل كشف لحقيقة داخلية، اعتراف بأن شيئًا ما لم يكن على ما يرام، وأنك رأيته الآن بوضوح. هذا البصر الجديد هو ما يُغيّر المصائر، لا الحدث في ذاته، بل ما يفتحه من أبواب، وما يهدمه من جدران، وما يبنيه من معابر بين القلب والله.

في القرآن، تتدفق آيات المغفرة كأنهارٍ لا تنضب، لكنها تلتقي دائمًا بشرط واحد: "إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا". التوبة هنا ليست مجرّد ندم، بل اعترافٌ يتحول إلى فعل، وكلمةٌ تتحول إلى مسار. حين يعترف الإنسان، فإنه لا يخترق سرًا لله، بل يخترق جدارًا في نفسه. كلما انكسرت أمام الحقيقة ارتفعت، وكلما اعترفت بضعفك قويت، وكلما أذعنت بالذنب تحررت.

ولكن، لماذا تكون هذه اللحظة بالذات هي المفصل الذي يفصل بين مصيرٍ ومصير؟ لأن الاعتراف هو اللحظة التي يموت فيها الكذب الداخلي، ذلك الكائن الطفيلي الذي يتغذى على أعذارنا الواهية. كم من إنسانٍ ظلّ يجرّ أذيال خطاياه سنواتٍ طويلة لأنه لم يجرؤ على قول: "نعم، أخطأت"؟ وكم من علاقاتٍ تحطمت لأن كلمة "آسف" ظلت حبيسةَ الغرور؟ الاعتراف هو الجسر الذي نعبره من عالم التبرير إلى عالم الحقيقة، ومن سجن الماضي إلى فضاء المستقبل.

في قصص الأنبياء والصلحاء نجد بصمات هذه اللحظة المصيرية. آدم عليه السلام، لم يجادل ولم يبرر، بل قال هو وحواء: "رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا"، فكانت تلك الكلمات المدخل الأول إلى الرحمة. وموسى، حين قتل رجلًا خطأ، قال: "رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي"، فلم تكن المغفرة بعد زمن، بل لحظية: "فَغَفَرَ لَهُ". وما بين "اعترفت" و"غُفر"، طريق لا يُقاس بالزمن بل بالصدق. 

فالزمن خدعة إذا ما وُجد الصدق، واللحظة التي تُفتح فيها بوابة القلب لله هي لحظة تُكتب خارج دفاتر الوقت.
إنه السر الذي يجمع النبي التائب والعاصي الندمان، فليس بينهما إلا لحظة اعتراف صادقة جعلت من الخطيئة الأولى سلمًا إلى رحمة أرحم الراحمين. الاعتراف هنا ليس نهاية الطريق، بل هو البذرة التي تُزرع في تربة التوبة، فتنمو منها أغصان المغفرة.

لكن الاعتراف ليس فقط إقرارًا بالذنب، بل هو أيضًا إقرارٌ بالنعمة. أن تعترف بفضل الله عليك هو نوعٌ آخر من التحرر، تحرر من وَهْم الاكتفاء الذاتي، ومن عمى الحقّ. كم من نعمةٍ بين أيدينا لا نراها إلا عندما نعترف بها؟ وكم من قلبٍ ظلّ جافًا لأنه لم يتعلم لغة الشكر؟ الاعتراف بالخير يفتح أبوابًا أخرى للمغفرة، لأنّه يُذكّرنا بأننا دائمًا في حاجةٍ إلى العفو، كما نحن في حاجةٍ إلى الهواء.

أمام هذا كلّه، ما الذي يمنعنا من الاعتراف؟ ربما الخوف من أن نبدو ضعفاء، أو الوهم بأننا نستطيع إصلاح الأخطاء بأخطاء جديدة. لكن الحقيقة التي لا مفرّ منها هي: لا شيء يُضعف الإنسان أكثر من الهروب من الحقيقة، ولا شيء يقويه أكثر من مواجهتها. الاعتراف شجاعة، والشجاعة هي التي تُعيد كتابة المصائر.

فإذا أردت أن تعرف متى يبدأ التغيير الحقيقي في حياتك، فابحث عن تلك اللحظة التي تقف فيها أمام المرآة بلا أقنعة، وتقول بصدق: "هذا أنا.. بعيوبي، بذنوبي، بضعفي، وبإصراري على أن أكون أفضل". عندها، ستسمع همسة المغفرة تُناديك من حيث لا تتوقع: "يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ".

ليس الاعتراف مجرد كلمات تقال، بل هو ذوبان الصقيع عن النافذة التي طالما حجبت عنك ضياء الصباح، حتى إذا انجلت، رأيت أن الباب لم يُغلق أبدًا، بل كان يدعوك طوال الوقت: ادخل، ففي رحاب المغفرة، كل الاعترافات تُقبل، وكل القلوب تُحضن. 

فلا تؤجل تلك اللحظة، ولا تُكثر من الأعذار، لأن المصائر، لا تتغير بصوت مرتفع، بل بصوت خافت يهمس من القلب: "يا رب، أنا أعترف"، وبين الاعتراف والمغفرة، حكاية سرية لا يدركها إلا من جلس صادقًا على عتبة الله، وقال بقلبه قبل لسانه: أنا أعود إليك، فاجعل هذه اللحظة بداية لا نهاية.

جهاد غريب 
مايو 2025

صوتٌ يصْعدُ من الأعماق!

  صوتٌ يصْعدُ من الأعماق!   سقوطٌ مفاجئٌ إلى القاعِ... حيث تُضاءُ الجروحُ كالمصابيحِ العارية، وتنكشفُ الحقيقةُ... كخنجرٍ معلَّقٍ في الهواء. ...