حين نكون معًا: رحلة التكوين والتأثير المتبادل!
(1)
في كل خطوة.. كان أحدهم هناك:
لم تكن الخطوة الأولى في هذه الحياة تخصنا تمامًا. منذ اللحظة التي انتصب فيها جسدنا في وجه العالم، كانت هناك يد تمتد، وصوت يشجع، وظلّ يسبق خوفنا. لم نمشِ وحدنا، حتى وإن بدونا منفردين في الصورة. كانت الخطوات دومًا تحمل آثار من مرّوا قبلنا، ومن ساروا معنا، ومن دعوناهم في خيالنا ليطمئنوا قلوبنا.
ثمة وجوه كثيرة عشناها دون أن نحفظ أسماءها، لكن أرواحها بقيت فينا، تشبه الممرات السرية داخل القلب. في كل قرار، في كل تردد، في كل لحظة انتصار أو انكسار، كان هناك من يقف في الزاوية، دون أن يطالب بشيء، فقط ليرانا نكمل المسير.
حتى الطرق التي مشيناها بأقدامنا المرتجفة، كانت ممهدة بعنايةٍ ما، كأن أحدهم مشى قبلنا فقط ليرينا كيف تُعبَر تلك الهوة. لم نكن نعلم حينها أن القوة لا تعني الصلابة دائمًا، بل أحيانًا تعني مجرد وجود شخص ما في الخلف، يراقبك بصمت، كأنه يقول: "سر، وإن سقطتَ، سأكون أول من يمسكك".
كم مرة ظننا أننا وحدنا؟ ثم فوجئنا بأن شخصًا ما كان يقرأ قلقنا في نبرة صوتنا، أو في انحناءة ظهورنا، أو في بحة السلام البسيط؟ كم مرة كانت الخطوة التالية مستحيلة، لولا تذكّرنا كلمة قالها أحدهم منذ أعوام، أو نظرةٍ داعبت يقيننا في لحظة ضعف؟
الحقيقة التي لا نعترف بها كثيرًا هي أن الخطوات التي نخطوها ليست لنا فقط، إنها انعكاس لما عشناه مع الآخرين. نحن لا نسير، بل نُساق بلطف بأثرِ من أحبونا، من آمنوا بنا، من طبطبوا على قلوبنا، ولو لمرةٍ واحدة فقط.
في كل خطوة.. كان أحدهم هناك. وربما لهذا السبب لم نسقط تمامًا أبدًا.
(2)
لأننا لم نكن وحدنا:
نحن لا نكبر وحدنا. لا نتجاوز الحزن، ولا نغالب الفقد، ولا نحتفل بالنجاة بمفردنا كما نُحب أن نوهم أنفسنا. كان هناك دائمًا من حضر بصمته، من شاركنا الطريق دون أن يفرض نفسه، من صعد معنا السلالم حتى إن لم يظهر في الصورة التذكارية الأخيرة.
لأننا لم نكن وحدنا، جاءت بعض الليالي أخف مما توقّعنا، وبعض القرارات أقل وجعًا. لم نكن وحدنا حين تهشّمت فينا الرغبة، فكان هناك من أهدانا لحظة دفء، من قدّم كتفًا دون أن يسأل، من اكتفى بالجلوس بقربنا كأن وجوده وحده رديفٌ للحياة.
تلك الضحكة التي خرجت رغم الغصّة، لم تكن منّا وحدنا. كانت مزيجًا من أحاديث قديمة، وذكرياتٍ مشتركة، وعيونٍ تعرف كيف تلمع حين تصمت. نحن ممتلئون بالبشر الذين شاركونا الحياة، حتى أولئك الذين مرّوا عابرين، تركوا شيئًا منهم فينا، شيئًا لا يُستدعى إلا في لحظة سكون، أو عودةٍ مباغتة لذاكرةٍ نائمة؛ كأنهم عجنوا أرواحهم بأرواحنا، ثم مضوا.
كل جدار اتكأنا عليه، كل سؤال خفّ حمله حين قُسِم على اثنين، كل غفوة آمنة في زحامٍ صاخب، كل إشعار وصل في الوقت المناسب، كل ابتسامة بادرتنا قبل أن نطلبها... كانت أدلّة دامغة على أننا لسنا وحدنا.
حتى حين اختفوا، لم يرحلوا تمامًا. كانوا كالعطر في المعطف القديم، كرائحة الخبز في ذاكرة الفجر، كأثرِ ظلٍ لا يُرى لكنه يُرشدك إلى الضوء.
ولأننا لم نكن وحدنا، استطعنا أن نحمل أنفسنا من جديد، وأن نصدق بأن الحياة، مهما قست، تترك لنا دومًا بابًا مواربًا، يدخله من يحبنا بصمت، ويمكث قليلاً ليعيد ترتيب أرواحنا.
(3)
ما أخذناه دون أن ندري:
لم نكن نعلم أننا كنّا نأخذ. ظننا أن العابرين يمرّون كما تمضي الريح، لا تُبقي شيئًا في قبضتنا ولا تنزع شيئًا منّا. لكن الحقيقة أن الأرواح تترك فينا ندوبًا وعطايا، بعضها نكتشفه بعد سنوات، وبعضها يرافقنا في كل نظرة، كل ردة فعل، كل إحساس لا نعرف مصدره.
أخذنا من الآخرين كلماتهم التي لم يقولوها لنا مباشرة، لكننا سمعناها وهم يتحدثون عن الحياة أمامنا. أخذنا صبر أمهاتنا حين كنّ يخفين دموعهن لئلا ننهار، أخذنا دفء آبائنا من طريقة صمتهم القوي، أخذنا القيم من مواقف كانت دروسًا صامتة، والأمان من وجود لم يكن بحاجة إلى جدران.
أخذنا من أصدقاء الصبا ضحكاتهم الخفيفة، وتعليقاتهم التي لا تزال تتردد في ذاكرتنا حين نمر بأماكن بعينها. أخذنا من كل معلم نظرته الأخيرة قبل أن يغادر الصف، ومن كل سائق قديم نبرة صوته وهو يقول لنا "في أمان الله" بنبرة يعرفها القلب ولا يخطئها.
حتى من أحببناهم وخذلونا، تركوا فينا شيئًا أخذناه دون أن ندري… حذرًا خفيفًا، أو طريقة في قراءة الوجوه، أو صوتًا داخليًا يذكرنا أننا نستحق أن نُحب، وإن لم ينجحوا في ذلك.
نحن لا نتكوّن فقط من اختياراتنا، بل من كل ما تسلل إلى داخلنا خفيةً، وما ترسّب فينا بصمتٍ دون أن ننتبه. تشكّلت أرواحنا من مئات التفاصيل الهامسة، تلك التي لم نُلقِ لها بالًا، لكنها استقرّت في أعماقنا كأنها تعرف أننا سنحتاجها يومًا ما.
ولذا، حين نقول "هذا أنا"، نحن في الحقيقة نُشير إلى كل أولئك الذين عبروا، ولم يعلموا أنهم تركوا بصمتهم، وأننا حملناهم معنا، دون أن ندري.
(4)
ما بين العطاء والملامح التي شكلتنا:
ثمة عطاء لا يُقدَّم باليد، بل يُسكب في الأرواح بصمت. هو ذاك العطاء الذي لا يُصاحبه منٌّ ولا انتظار، لكنه حين يحدث، يترك فينا ملامح لا تزول. كأنك حين تمنحني شيئًا من روحك، تترك وشمًا صغيرًا على وجهي، لا تراه العيون، لكنّ القلب يراه.
ولذا، حين نقول "هذا أنا"، نحن في الحقيقة نُشير إلى كل أولئك الذين عبروا، ولم يعلموا أنهم تركوا بصمتهم، وأننا حملناهم معنا، دون أن ندري.
(4)
ما بين العطاء والملامح التي شكلتنا:
ثمة عطاء لا يُقدَّم باليد، بل يُسكب في الأرواح بصمت. هو ذاك العطاء الذي لا يُصاحبه منٌّ ولا انتظار، لكنه حين يحدث، يترك فينا ملامح لا تزول. كأنك حين تمنحني شيئًا من روحك، تترك وشمًا صغيرًا على وجهي، لا تراه العيون، لكنّ القلب يراه.
ما بين العطاء والملامح التي شكلتنا، تقع الحكايات كلها. شخص قال لنا: "أنا أؤمن بك" في لحظة كنا على وشك الانهيار، فكبر فينا شيء لم نكن نعرفه. آخر أعطانا فرصة حين لم يلتفت إلينا أحد، فصار لصوتنا معنى. امرأة مسنّة مررنا بها صدفة، وابتسمت لنا بسلام، فهدأت فينا الحرب التي لم يكن يعرف أحد أنها قائمة.
كل يد امتدت، كل نظرة محبة، كل دعاء سرّي، كل صمت شاركنا به أحدهم خوفنا أو ضعفنا، كانت كلها بذورًا فينا. لم نطلبها، ولم نتخيل أثرها، لكنها حين كبرت، غيّرت شكلنا.
أصبحنا نميل برؤوسنا كما لو أننا ما زلنا نشعر بتلك اليد التي
كانت تربّت على أكتافنا. نغلق أعيننا لحظة الفرح كما رأينا وجهًا أحببناه يفعل ذلك. نقول الكلمات نفسها، نحمل الحنين ذاته، نرد الجميل دون أن نعلم أننا بذلك نردّ عطاءً قديمًا.
ليست الملامح التي نراها في الصور هي التي تروي سيرتنا، بل تلك التي حفرتها المواقف في أعماقنا. هي التي جعلتنا نبتسم بحذر، أو نضحك بصوتٍ عالٍ رغم الخذلان، أو نمدّ يدنا لمن يحتاج، فقط لأننا نعرف شعور اليد الممتدة حين لا يأتيها أحد.
وهكذا، بين من أعطونا ومن صاغونا، تكوّنت هيئتنا الحقيقية. وإن تأملت نفسك في لحظة صفاء، ستدرك أن ما أنت عليه الآن هو حصيلة أولئك الذين أحبّوك بلا شروط، ومنحوك بلا مقابل، ثم رحلوا دون أن يسترجعوا ما تركوه فيك.
إن هذه الملامح التي تَشكّلت بنا لم تكن نتاج استقبالٍ فقط، بل نتيجة تفاعلٍ عميق مع ما أُعطي لنا، وامتنانٍ صامت امتزج بأرواحنا دون أن نشعر.
(5)
أثرٌ لا يُرى.. لكنه يُكملنا:
ثمة أشياء لا نراها، لكنها وحدها تُبقي التوازن قائمًا. مثل الطوبة المخفية في أساس البيت، لا تلمحها العين، لكنها لو سقطت، لارتجّ كل الجدار. هكذا بعض الأشخاص، بعض المواقف، بعض الذكريات… أثرها لا يُرى، لكنها تُكملنا، بل ربما لولاها ما كنّا نحن.
كم من مرة نهضنا من سقطة دون أن نعرف السبب؟ كم من مرة شعرنا بشجاعةٍ غريبة في مواجهة الحياة، وكأن هناك من أمسك بأيدينا، رغم أن أحدًا لم يكن حاضرًا بالفعل؟ هناك أثرٌ لا يُرى، لكنه يسكن بين طبقات وعينا، يربت على القلب حين يضيق، يهمس للعقل حين يتيه، ويدفعنا للأمام حين نتردد.
قد يكون هذا الأثر كلمة سمعناها قبل سنوات، لكنها علقت بنا كتعويذة حماية. أو ابتسامة حقيقية في لحظة ظننا أن العالم كله يعبس. أو دعوة خالصة من قلب أمّ، لا تزال تتردد في سماء أيامنا، تحفظنا في غيابها.
وقد يكون شخصًا لم نعرفه جيدًا، لكن فعله العابر ظلّ يتردّد في داخلنا كصدى لا يخفت. رجل ساعدنا في الطريق دون أن يسأل، صديق أعارنا ثقته حين فقدنا ثقتنا بأنفسنا، غريب ألهمنا بإصراره ونحن نراقبه من بعيد دون أن يعرف أنه غيّرنا.
الأثر لا يُقاس بالحضور، بل بما يتركه الغياب فينا من حياة. والبقاء لا يعني أن يطول الزمان، بل أن يرسخ في الوجدان. أولئك الذين غابوا عن أنظارنا، ما زالوا يقيمون في أعماقنا. تركوا فينا ما يشبه الشعور بأننا موصولون بخيوط خفيّة، تربطنا بما هو أعمق من اللحظة، وتُقسم لنا بأننا لسنا وحدنا، ولن نكون يومًا.
ذلك الأثر الذي لا يُرى، لا يمنحنا فقط أمانًا، أو شجاعة مفاجئة؛ بل يسهم في صياغة هويتنا، في ملامح سلوكنا، وصوتنا حين نتكلم بثقة لا نعرف مصدرها. لذا، حين نبدو أقوى مما كنا، أو أكثر حكمة مما اعتدنا، فلنتذكّر أنهم هنا... معنا، في تفاصيلنا، يكملون ما نظن أنه منّا وحدنا.
(6)
نحن.. كما لمسنا بعضنا:
لم نولد مكتملين، ولم نظل كما نحن. تشكّلنا على دفعات، وعلى أيدٍ كثيرة، نعرف بعضها، ولا نذكر البعض الآخر. كل من لمسنا، بكلمة، بنظرة، بحضور أو غياب، ترك فينا أثرًا صغيرًا، ساهم في نحت ملامحنا الداخلية، وساهمنا نحن - من دون قصد - في تشكيل ملامحه بالمثل.
لسنا وحدنا ما نحن عليه؛ نحن انعكاسات ضحكات قيلت في لحظات صدق، وارتجافات حزن عبرت بيننا في صمت، ودفء أيدٍ لمست كتفنا حين كدنا نسقط. نحن، كما لمسنا بعضنا. كالأغصان التي تداعب بعضها بفعل الريح، لا تتشابك إلى الأبد، لكنها لا تعود كما كانت.
أحدهم مرّ بحياتك ليوقظ فيك حسّ الرحمة، وآخرٌ علّمك الحذر من دون أن يقصد. واحدةٌ أحببتها فصرت أكثر شاعرية، وأخرى كسرتك فصرت أكثر حكمة. كلهم شاركوا في صياغتك، لا كبصمات فحسب، بل كجزء من نسيجك الكامل.
وهكذا نحن، نترك منّا في الآخرين، بقدر ما نأخذ منهم. نحن نشارك الآخرين بناء ذواتهم دون أن نلاحظ. نكون لهم مرآة، أو سؤالًا، أو نجمة دليلة في ليالِ حيرتهم. ربما مجرد تعبير وجه في لحظة مصيرية، أو صمت عميق اختصر كل الكلام.
حين نفكر بأننا تأثرنا فقط، ننسى أننا أيضًا مؤثرون. لا أحد يعبر حياة الآخر دون أن يغيّر فيها شيئًا. حتى الأذى، إن أتى، يعلّم. وحتى الفقد، إن وقع، يعيد ترتيب الأولويات. نحن نُعيد تشكيل بعضنا، وكل علاقة كانت مساحة صقل أو بعثرة… لكنها دائمًا تركت فينا شيئًا لا يزول.
نحن.. كما لمسنا بعضنا. كأننا نكتب بعضنا بعضًا بخطوط غير مرئية، ونقرأ أنفسنا لاحقًا، فنجد فيها مقاطع من أرواح الآخرين.
(7)
الذين مرّوا بنا ولم ننسَهم:
ثمّة وجوه لا تزول، حتى وإن غابت. تمرّ السنوات، تتغير المدن، وتتبدّل اللهجات في أفواهنا، لكن اسمًا بعينه، نبرةً بعينها، تظلّ تنقر على الذاكرة بلطفٍ حنين. الذين مرّوا بنا ولم ننسَهم، لم يطلبوا البقاء، لكنهم عرفوا كيف يتركون فينا ظلّهم حتى بعد أن غادروا.
لم يكونوا دائمًا أصدقاء مقرّبين، ولا عشّاقًا خياليين، بل ربما كانوا غرباء التقيناهم على هامش لحظة. رجلٌ مسنّ جلسنا إلى جواره في حافلة مزدحمة، وحدّثنا عن الحياة بنبرة من عاش طويلاً وتألم كثيرًا. أو صديقةُ دراسة، ابتسمت لنا ذات صباح كأنها تعرف ما لا نبوح به. أو حتى طفلة مرّت تجري وضحكتها كانت النور الوحيد في يومٍ رمادي.
نحتفظ بهم دون أن نقصد، كأن أرواحهم رفضت أن تغادرنا. وربما لأنهم، دون أن يشعروا، أنقذونا من شيء، أو قرّبونا من شيء، أو أيقظوا فينا شعورًا كنّا نظنه مات. هم الذين قالوا الكلمة في وقتها، أو صمتوا حين كان الصمت ألطف، أو منحونا لحظة صدق في عالمٍ مليء بالأقنعة.
وفي ليالينا المتأخرة، حين يغمرنا التعب من كل شيء، نجد أنفسنا نسترجع صورهم دون ترتيب، كأن القلب يفتح أرشيفه السرّي ليواسي نفسه. وكم من مرة ابتسمنا فجأة، لا لأنّ اللحظة تضحك، بل لأنّ ذكرى أحدهم مرّت فينا كنسمة.
أولئك الذين مرّوا بنا ولم ننسَهم، لم يكونوا مجرد عبورٍ عابر في زحام الأيام. كانوا رسائل مقنّعة، وإشارات وامضة من الحياة، تهمس لنا بأن الجمال لا يحتاج إلى إقامة طويلة، بل قد يسكن لحظة، ويزهر في العابرين. إنهم الدليل الصامت على أن بعض الآثار لا تُقاس بطول المكوث، بل بعمق اللمسة… لمحةُ حضورٍ خاطف، لكنه خُلّد فينا إلى الأبد.
(8)
ظلّك الذي منحني الحياة:
لم تكن شمسك فقط ما أضاءني… بل ظلّك.
ذلك الظلّ الذي سار إلى جواري حين كنت أتعثر، وغطّى خوفي حين لم أجد في الحياة غطاء. لم تكن حاضرًا دائمًا بالكلمات، بل كنت ذلك الحضور الذي لا يحتاج إلى شرح، ولا يطلب مكانًا في الضوء، لأنه النور من الداخل.
ثمة أشخاص يعبرون حياتنا ويمنحوننا النَفَس الأول من جديد. لا لأنهم قالوا شيئًا عظيمًا، بل لأنهم كانوا هناك، بطريقة لا يمكن نسيانها. كنتَ أنت ذاك الشخص. بصمتك، بصبرك، بحنانك الذي لم يُعلن عن نفسه، بل كان يُفهم من تفاصيل صغيرة: من نظرة، من توقيت اتصال، من إيماءة لا يقصدها أحد سواك.
كنت ظلًّا لا يزعج النور، بل يكمله. كنت المساحة الآمنة حين ضاقت بي كل الأماكن، وصوتك الداخلي – حتى حين لم أسمعه – كان مرشدًا لروحي المرتبكة. لم أكن أعلم أن الإنسان يمكن أن يُبعث من جديد وهو لا يزال حيًّا، حتى عرفتك.
حين كنت على وشك الانطفاء، لم تأتِ بحلول سحرية، بل جلستَ بجواري. شاركتني صمتي، واحترمت وجعي، ولم تخف منّي حين كنت هشًا. كنتَ ظلًا يتسع لي، لا يقيّدني. وهذا هو المعنى الحقيقي للحب، أو ما هو أسمى من الحب: أن يكون أحدهم معك، دون أن يطلب منك أن تكون شيئًا آخر.
وحين أنظر إلى نفسي الآن، أرى كم كنت جزءًا مني، لا كذكرى بل كجذر. كل ما نضج فيّ كان يسقى من ظلّك. كنتَ الرفيق الذي لا ينسحب حين تشتد العاصفة، بل يثبت أكثر، ليذكّرني أن بعض الظلال لا تختبئ، بل تحرس.
ظلّك لم يكن غيابًا عن الضوء… كان نوعًا آخر من الضوء، ولعل أجمل ما في هذه العطايا الخفية، أننا لم نكن ندري أننا سنصبح بدورنا مصدرًا لغيرنا.
(9)
حين نكون طريقًا لغيرنا:
لسنا دائمًا الراحلين فقط… أحيانًا نكون الجسر، جسرًا لا يُرى من فوق، لكنه يمنع السقوط في الأسفل، وأحيانًا، دون أن ندري، نكون الطوق الذي يتشبث به غريق، الكلمة التي تؤجل انهيار أحدهم، أو الصمت الذي يمنح طمأنينة في عالمٍ يصرخ كثيرًا.
حين نكون طريقًا لغيرنا، لا يعني ذلك أن نعرف حجم أثرنا، بل أن نزرعه دون أن نلتفت. أن نكون ظلًا لشخص تاه في هجير أيامه، دون أن نطالبه بالاعتراف. أن نضع وردة على عتبة قلبٍ لا نعلم إن كان سيُفتح، فقط لأننا نؤمن بأن بعض القلوب تستحق الورد حتى إن كانت مغلقة.
كم مرة قلنا كلمة عابرة، وعادت إلينا بعد سنوات، على لسان من سمعها منا أول مرة، وأخبرنا كيف صنعت فرقًا في حياته؟ كم مرة مشينا بجوار من لا نعرف حزنه، لكننا كنا حضورًا صادقًا، فشعر للحظة أنه ليس وحده في العالم؟ نحن نُضيء أحيانًا دون أن نرى وهجنا.
ليست البطولة أن نُنقذ، بل أن نكون سببًا غير مرئي للنجاة. أن يذكرنا أحدهم حين يتجاوز ألمه، لا بالاسم، بل بالشعور الذي تركناه فيه. بالراحة، بالثقة، بالأمل.
وربما في بعض الأوقات، نكون ذلك الالتفاف البسيط في مسار شخصٍ ما، تلك اللحظة التي غيّرت زاويته في الرؤية، أو فتحت له نافذة حين ظن أن كل الأبواب أوصدت. لا نعلم، ولن نعلم دائمًا، لكن الحياة تحفظ هذه التفاصيل الصغيرة، وتعيد تدويرها في القلوب.
أن نكون طريقًا لغيرنا لا يعني أن نقودهم، بل أن نكون بجوارهم حين يخطون الخطوة التي يخافونها. أن نبتعد في الوقت المناسب. أن نترك لهم المساحة ليكونوا هم، لا نسخة مما نحب.
وفي نهاية كل رحلة، حين ينظر أحدهم خلفه ليقول: "لولا ذاك الشخص، لما وصلت"، لا نكون قد عبرنا عبثًا. لقد كُنّا الطريق.
(10)
ولأننا أصبحنا جزءًا منهم أيضًا:
في تلك اللحظة التي ندرك فيها أننا لم نعد مجرّد مَن تأثّر، بل أصبحنا أيضًا مَن يُؤثّر، تتّسع الدائرة، وتغدو الحياة أكثر عمقًا. نحن الآن جزءٌ من حكايات الآخرين، ظلٌّ في ملامحهم، نبضٌ في أفكارهم، وبصمةٌ لا تُمحى من أرواحهم.
كما تأثّرنا، أصبحنا نُؤثّر. وكما اقتبسنا من أضواء من مرّوا بنا، صرنا نحن من يضيء الدروب لغيرنا. لا فرق بين الذين لمسونا، والذين نلمسهم الآن، سوى أن الأدوار تتبدّل، وأن النور لا يبقى في يدٍ واحدة.
هذه هي الحقيقة الهادئة والعميقة: أن نكون حلقة في سلسلة لا تنكسر، شعلة تُنقل من قلبٍ إلى قلب، ومن يدٍ إلى أخرى، حتى لا ينطفئ الضوء مهما علت الظلمة.
نحن لا نعيش لأنفسنا وحدنا، ولا نترك أثرنا فحسب. نحن، بوجودنا، نصنع امتدادًا لحياة الآخرين، ونشترك معهم في بناء ذواتٍ تكبر، وتتماسك، وتُقاوم. نحن جميعًا نكتب سويًا حكاية واحدة، تُروى بأصوات مختلفة، وتُنسج بخيوط المحبة، والعطاء، والذكرى.
ولذلك، حين نقف لحظة لنتأمل، نُدرك أن ما بيننا ليس مجرد عبور أو لقاء، بل تعايشٌ عميق. كل من مرّ بنا صار جزءًا منّا، كما صرنا نحن جزءًا منه. وبهذا، لا نبقى أفرادًا منفصلين، بل كائنًا جمعيًّا واحدًا، يتنفّس بالمحبة، ويعيش بالذكرى، ويكبر بتبادل الضوء.
وهكذا، تستمر الدائرة… بلا بداية ولا نهاية، بل بمحبة تخلّد ما بيننا.
جهاد غريب
مايو 2025