السبت، 24 مايو 2025

حين نكون معًا: رحلة التكوين والتأثير المتبادل!

 
حين نكون معًا: رحلة التكوين والتأثير المتبادل!

(1) 
في كل خطوة.. كان أحدهم هناك:
لم تكن الخطوة الأولى في هذه الحياة تخصنا تمامًا. منذ اللحظة التي انتصب فيها جسدنا في وجه العالم، كانت هناك يد تمتد، وصوت يشجع، وظلّ يسبق خوفنا. لم نمشِ وحدنا، حتى وإن بدونا منفردين في الصورة. كانت الخطوات دومًا تحمل آثار من مرّوا قبلنا، ومن ساروا معنا، ومن دعوناهم في خيالنا ليطمئنوا قلوبنا.

ثمة وجوه كثيرة عشناها دون أن نحفظ أسماءها، لكن أرواحها بقيت فينا، تشبه الممرات السرية داخل القلب. في كل قرار، في كل تردد، في كل لحظة انتصار أو انكسار، كان هناك من يقف في الزاوية، دون أن يطالب بشيء، فقط ليرانا نكمل المسير.

حتى الطرق التي مشيناها بأقدامنا المرتجفة، كانت ممهدة بعنايةٍ ما، كأن أحدهم مشى قبلنا فقط ليرينا كيف تُعبَر تلك الهوة. لم نكن نعلم حينها أن القوة لا تعني الصلابة دائمًا، بل أحيانًا تعني مجرد وجود شخص ما في الخلف، يراقبك بصمت، كأنه يقول: "سر، وإن سقطتَ، سأكون أول من يمسكك".

كم مرة ظننا أننا وحدنا؟ ثم فوجئنا بأن شخصًا ما كان يقرأ قلقنا في نبرة صوتنا، أو في انحناءة ظهورنا، أو في بحة السلام البسيط؟ كم مرة كانت الخطوة التالية مستحيلة، لولا تذكّرنا كلمة قالها أحدهم منذ أعوام، أو نظرةٍ داعبت يقيننا في لحظة ضعف؟

الحقيقة التي لا نعترف بها كثيرًا هي أن الخطوات التي نخطوها ليست لنا فقط، إنها انعكاس لما عشناه مع الآخرين. نحن لا نسير، بل نُساق بلطف بأثرِ من أحبونا، من آمنوا بنا، من طبطبوا على قلوبنا، ولو لمرةٍ واحدة فقط.

في كل خطوة.. كان أحدهم هناك. وربما لهذا السبب لم نسقط تمامًا أبدًا.

(2) 
لأننا لم نكن وحدنا:
نحن لا نكبر وحدنا. لا نتجاوز الحزن، ولا نغالب الفقد، ولا نحتفل بالنجاة بمفردنا كما نُحب أن نوهم أنفسنا. كان هناك دائمًا من حضر بصمته، من شاركنا الطريق دون أن يفرض نفسه، من صعد معنا السلالم حتى إن لم يظهر في الصورة التذكارية الأخيرة.

لأننا لم نكن وحدنا، جاءت بعض الليالي أخف مما توقّعنا، وبعض القرارات أقل وجعًا. لم نكن وحدنا حين تهشّمت فينا الرغبة، فكان هناك من أهدانا لحظة دفء، من قدّم كتفًا دون أن يسأل، من اكتفى بالجلوس بقربنا كأن وجوده وحده رديفٌ للحياة.

تلك الضحكة التي خرجت رغم الغصّة، لم تكن منّا وحدنا. كانت مزيجًا من أحاديث قديمة، وذكرياتٍ مشتركة، وعيونٍ تعرف كيف تلمع حين تصمت. نحن ممتلئون بالبشر الذين شاركونا الحياة، حتى أولئك الذين مرّوا عابرين، تركوا شيئًا منهم فينا، شيئًا لا يُستدعى إلا في لحظة سكون، أو عودةٍ مباغتة لذاكرةٍ نائمة؛ كأنهم عجنوا أرواحهم بأرواحنا، ثم مضوا.

كل جدار اتكأنا عليه، كل سؤال خفّ حمله حين قُسِم على اثنين، كل غفوة آمنة في زحامٍ صاخب، كل إشعار وصل في الوقت المناسب، كل ابتسامة بادرتنا قبل أن نطلبها... كانت أدلّة دامغة على أننا لسنا وحدنا.

حتى حين اختفوا، لم يرحلوا تمامًا. كانوا كالعطر في المعطف القديم، كرائحة الخبز في ذاكرة الفجر، كأثرِ ظلٍ لا يُرى لكنه يُرشدك إلى الضوء.

ولأننا لم نكن وحدنا، استطعنا أن نحمل أنفسنا من جديد، وأن نصدق بأن الحياة، مهما قست، تترك لنا دومًا بابًا مواربًا، يدخله من يحبنا بصمت، ويمكث قليلاً ليعيد ترتيب أرواحنا.

(3) 
ما أخذناه دون أن ندري:
لم نكن نعلم أننا كنّا نأخذ. ظننا أن العابرين يمرّون كما تمضي الريح، لا تُبقي شيئًا في قبضتنا ولا تنزع شيئًا منّا. لكن الحقيقة أن الأرواح تترك فينا ندوبًا وعطايا، بعضها نكتشفه بعد سنوات، وبعضها يرافقنا في كل نظرة، كل ردة فعل، كل إحساس لا نعرف مصدره.

أخذنا من الآخرين كلماتهم التي لم يقولوها لنا مباشرة، لكننا سمعناها وهم يتحدثون عن الحياة أمامنا. أخذنا صبر أمهاتنا حين كنّ يخفين دموعهن لئلا ننهار، أخذنا دفء آبائنا من طريقة صمتهم القوي، أخذنا القيم من مواقف كانت دروسًا صامتة، والأمان من وجود لم يكن بحاجة إلى جدران.

أخذنا من أصدقاء الصبا ضحكاتهم الخفيفة، وتعليقاتهم التي لا تزال تتردد في ذاكرتنا حين نمر بأماكن بعينها. أخذنا من كل معلم نظرته الأخيرة قبل أن يغادر الصف، ومن كل سائق قديم نبرة صوته وهو يقول لنا "في أمان الله" بنبرة يعرفها القلب ولا يخطئها.

حتى من أحببناهم وخذلونا، تركوا فينا شيئًا أخذناه دون أن ندري… حذرًا خفيفًا، أو طريقة في قراءة الوجوه، أو صوتًا داخليًا يذكرنا أننا نستحق أن نُحب، وإن لم ينجحوا في ذلك.

نحن لا نتكوّن فقط من اختياراتنا، بل من كل ما تسلل إلى داخلنا خفيةً، وما ترسّب فينا بصمتٍ دون أن ننتبه. تشكّلت أرواحنا من مئات التفاصيل الهامسة، تلك التي لم نُلقِ لها بالًا، لكنها استقرّت في أعماقنا كأنها تعرف أننا سنحتاجها يومًا ما.
ولذا، حين نقول "هذا أنا"، نحن في الحقيقة نُشير إلى كل أولئك الذين عبروا، ولم يعلموا أنهم تركوا بصمتهم، وأننا حملناهم معنا، دون أن ندري.

(4) 
ما بين العطاء والملامح التي شكلتنا:
ثمة عطاء لا يُقدَّم باليد، بل يُسكب في الأرواح بصمت. هو ذاك العطاء الذي لا يُصاحبه منٌّ ولا انتظار، لكنه حين يحدث، يترك فينا ملامح لا تزول. كأنك حين تمنحني شيئًا من روحك، تترك وشمًا صغيرًا على وجهي، لا تراه العيون، لكنّ القلب يراه.

ما بين العطاء والملامح التي شكلتنا، تقع الحكايات كلها. شخص قال لنا: "أنا أؤمن بك" في لحظة كنا على وشك الانهيار، فكبر فينا شيء لم نكن نعرفه. آخر أعطانا فرصة حين لم يلتفت إلينا أحد، فصار لصوتنا معنى. امرأة مسنّة مررنا بها صدفة، وابتسمت لنا بسلام، فهدأت فينا الحرب التي لم يكن يعرف أحد أنها قائمة.

كل يد امتدت، كل نظرة محبة، كل دعاء سرّي، كل صمت شاركنا به أحدهم خوفنا أو ضعفنا، كانت كلها بذورًا فينا. لم نطلبها، ولم نتخيل أثرها، لكنها حين كبرت، غيّرت شكلنا.

أصبحنا نميل برؤوسنا كما لو أننا ما زلنا نشعر بتلك اليد التي 
كانت تربّت على أكتافنا. نغلق أعيننا لحظة الفرح كما رأينا وجهًا أحببناه يفعل ذلك. نقول الكلمات نفسها، نحمل الحنين ذاته، نرد الجميل دون أن نعلم أننا بذلك نردّ عطاءً قديمًا.

ليست الملامح التي نراها في الصور هي التي تروي سيرتنا، بل تلك التي حفرتها المواقف في أعماقنا. هي التي جعلتنا نبتسم بحذر، أو نضحك بصوتٍ عالٍ رغم الخذلان، أو نمدّ يدنا لمن يحتاج، فقط لأننا نعرف شعور اليد الممتدة حين لا يأتيها أحد.
وهكذا، بين من أعطونا ومن صاغونا، تكوّنت هيئتنا الحقيقية. وإن تأملت نفسك في لحظة صفاء، ستدرك أن ما أنت عليه الآن هو حصيلة أولئك الذين أحبّوك بلا شروط، ومنحوك بلا مقابل، ثم رحلوا دون أن يسترجعوا ما تركوه فيك.

إن هذه الملامح التي تَشكّلت بنا لم تكن نتاج استقبالٍ فقط، بل نتيجة تفاعلٍ عميق مع ما أُعطي لنا، وامتنانٍ صامت امتزج بأرواحنا دون أن نشعر.

(5) 
أثرٌ لا يُرى.. لكنه يُكملنا:
ثمة أشياء لا نراها، لكنها وحدها تُبقي التوازن قائمًا. مثل الطوبة المخفية في أساس البيت، لا تلمحها العين، لكنها لو سقطت، لارتجّ كل الجدار. هكذا بعض الأشخاص، بعض المواقف، بعض الذكريات… أثرها لا يُرى، لكنها تُكملنا، بل ربما لولاها ما كنّا نحن.

كم من مرة نهضنا من سقطة دون أن نعرف السبب؟ كم من مرة شعرنا بشجاعةٍ غريبة في مواجهة الحياة، وكأن هناك من أمسك بأيدينا، رغم أن أحدًا لم يكن حاضرًا بالفعل؟ هناك أثرٌ لا يُرى، لكنه يسكن بين طبقات وعينا، يربت على القلب حين يضيق، يهمس للعقل حين يتيه، ويدفعنا للأمام حين نتردد.

قد يكون هذا الأثر كلمة سمعناها قبل سنوات، لكنها علقت بنا كتعويذة حماية. أو ابتسامة حقيقية في لحظة ظننا أن العالم كله يعبس. أو دعوة خالصة من قلب أمّ، لا تزال تتردد في سماء أيامنا، تحفظنا في غيابها.

وقد يكون شخصًا لم نعرفه جيدًا، لكن فعله العابر ظلّ يتردّد في داخلنا كصدى لا يخفت. رجل ساعدنا في الطريق دون أن يسأل، صديق أعارنا ثقته حين فقدنا ثقتنا بأنفسنا، غريب ألهمنا بإصراره ونحن نراقبه من بعيد دون أن يعرف أنه غيّرنا.

الأثر لا يُقاس بالحضور، بل بما يتركه الغياب فينا من حياة. والبقاء لا يعني أن يطول الزمان، بل أن يرسخ في الوجدان. أولئك الذين غابوا عن أنظارنا، ما زالوا يقيمون في أعماقنا. تركوا فينا ما يشبه الشعور بأننا موصولون بخيوط خفيّة، تربطنا بما هو أعمق من اللحظة، وتُقسم لنا بأننا لسنا وحدنا، ولن نكون يومًا.

ذلك الأثر الذي لا يُرى، لا يمنحنا فقط أمانًا، أو شجاعة مفاجئة؛ بل يسهم في صياغة هويتنا، في ملامح سلوكنا، وصوتنا حين نتكلم بثقة لا نعرف مصدرها. لذا، حين نبدو أقوى مما كنا، أو أكثر حكمة مما اعتدنا، فلنتذكّر أنهم هنا... معنا، في تفاصيلنا، يكملون ما نظن أنه منّا وحدنا.

(6) 
نحن.. كما لمسنا بعضنا:
لم نولد مكتملين، ولم نظل كما نحن. تشكّلنا على دفعات، وعلى أيدٍ كثيرة، نعرف بعضها، ولا نذكر البعض الآخر. كل من لمسنا، بكلمة، بنظرة، بحضور أو غياب، ترك فينا أثرًا صغيرًا، ساهم في نحت ملامحنا الداخلية، وساهمنا نحن - من دون قصد - في تشكيل ملامحه بالمثل.

لسنا وحدنا ما نحن عليه؛ نحن انعكاسات ضحكات قيلت في لحظات صدق، وارتجافات حزن عبرت بيننا في صمت، ودفء أيدٍ لمست كتفنا حين كدنا نسقط. نحن، كما لمسنا بعضنا. كالأغصان التي تداعب بعضها بفعل الريح، لا تتشابك إلى الأبد، لكنها لا تعود كما كانت.

أحدهم مرّ بحياتك ليوقظ فيك حسّ الرحمة، وآخرٌ علّمك الحذر من دون أن يقصد. واحدةٌ أحببتها فصرت أكثر شاعرية، وأخرى كسرتك فصرت أكثر حكمة. كلهم شاركوا في صياغتك، لا كبصمات فحسب، بل كجزء من نسيجك الكامل.

وهكذا نحن، نترك منّا في الآخرين، بقدر ما نأخذ منهم. نحن نشارك الآخرين بناء ذواتهم دون أن نلاحظ. نكون لهم مرآة، أو سؤالًا، أو نجمة دليلة في ليالِ حيرتهم. ربما مجرد تعبير وجه في لحظة مصيرية، أو صمت عميق اختصر كل الكلام.

حين نفكر بأننا تأثرنا فقط، ننسى أننا أيضًا مؤثرون. لا أحد يعبر حياة الآخر دون أن يغيّر فيها شيئًا. حتى الأذى، إن أتى، يعلّم. وحتى الفقد، إن وقع، يعيد ترتيب الأولويات. نحن نُعيد تشكيل بعضنا، وكل علاقة كانت مساحة صقل أو بعثرة… لكنها دائمًا تركت فينا شيئًا لا يزول.

نحن.. كما لمسنا بعضنا. كأننا نكتب بعضنا بعضًا بخطوط غير مرئية، ونقرأ أنفسنا لاحقًا، فنجد فيها مقاطع من أرواح الآخرين.

(7) 
الذين مرّوا بنا ولم ننسَهم:
ثمّة وجوه لا تزول، حتى وإن غابت. تمرّ السنوات، تتغير المدن، وتتبدّل اللهجات في أفواهنا، لكن اسمًا بعينه، نبرةً بعينها، تظلّ تنقر على الذاكرة بلطفٍ حنين. الذين مرّوا بنا ولم ننسَهم، لم يطلبوا البقاء، لكنهم عرفوا كيف يتركون فينا ظلّهم حتى بعد أن غادروا.

لم يكونوا دائمًا أصدقاء مقرّبين، ولا عشّاقًا خياليين، بل ربما كانوا غرباء التقيناهم على هامش لحظة. رجلٌ مسنّ جلسنا إلى جواره في حافلة مزدحمة، وحدّثنا عن الحياة بنبرة من عاش طويلاً وتألم كثيرًا. أو صديقةُ دراسة، ابتسمت لنا ذات صباح كأنها تعرف ما لا نبوح به. أو حتى طفلة مرّت تجري وضحكتها كانت النور الوحيد في يومٍ رمادي.

نحتفظ بهم دون أن نقصد، كأن أرواحهم رفضت أن تغادرنا. وربما لأنهم، دون أن يشعروا، أنقذونا من شيء، أو قرّبونا من شيء، أو أيقظوا فينا شعورًا كنّا نظنه مات. هم الذين قالوا الكلمة في وقتها، أو صمتوا حين كان الصمت ألطف، أو منحونا لحظة صدق في عالمٍ مليء بالأقنعة.

وفي ليالينا المتأخرة، حين يغمرنا التعب من كل شيء، نجد أنفسنا نسترجع صورهم دون ترتيب، كأن القلب يفتح أرشيفه السرّي ليواسي نفسه. وكم من مرة ابتسمنا فجأة، لا لأنّ اللحظة تضحك، بل لأنّ ذكرى أحدهم مرّت فينا كنسمة.

أولئك الذين مرّوا بنا ولم ننسَهم، لم يكونوا مجرد عبورٍ عابر في زحام الأيام. كانوا رسائل مقنّعة، وإشارات وامضة من الحياة، تهمس لنا بأن الجمال لا يحتاج إلى إقامة طويلة، بل قد يسكن لحظة، ويزهر في العابرين. إنهم الدليل الصامت على أن بعض الآثار لا تُقاس بطول المكوث، بل بعمق اللمسة… لمحةُ حضورٍ خاطف، لكنه خُلّد فينا إلى الأبد.

(8) 
ظلّك الذي منحني الحياة:
لم تكن شمسك فقط ما أضاءني… بل ظلّك.
ذلك الظلّ الذي سار إلى جواري حين كنت أتعثر، وغطّى خوفي حين لم أجد في الحياة غطاء. لم تكن حاضرًا دائمًا بالكلمات، بل كنت ذلك الحضور الذي لا يحتاج إلى شرح، ولا يطلب مكانًا في الضوء، لأنه النور من الداخل.

ثمة أشخاص يعبرون حياتنا ويمنحوننا النَفَس الأول من جديد. لا لأنهم قالوا شيئًا عظيمًا، بل لأنهم كانوا هناك، بطريقة لا يمكن نسيانها. كنتَ أنت ذاك الشخص. بصمتك، بصبرك، بحنانك الذي لم يُعلن عن نفسه، بل كان يُفهم من تفاصيل صغيرة: من نظرة، من توقيت اتصال، من إيماءة لا يقصدها أحد سواك.

كنت ظلًّا لا يزعج النور، بل يكمله. كنت المساحة الآمنة حين ضاقت بي كل الأماكن، وصوتك الداخلي – حتى حين لم أسمعه – كان مرشدًا لروحي المرتبكة. لم أكن أعلم أن الإنسان يمكن أن يُبعث من جديد وهو لا يزال حيًّا، حتى عرفتك.
حين كنت على وشك الانطفاء، لم تأتِ بحلول سحرية، بل جلستَ بجواري. شاركتني صمتي، واحترمت وجعي، ولم تخف منّي حين كنت هشًا. كنتَ ظلًا يتسع لي، لا يقيّدني. وهذا هو المعنى الحقيقي للحب، أو ما هو أسمى من الحب: أن يكون أحدهم معك، دون أن يطلب منك أن تكون شيئًا آخر.

وحين أنظر إلى نفسي الآن، أرى كم كنت جزءًا مني، لا كذكرى بل كجذر. كل ما نضج فيّ كان يسقى من ظلّك. كنتَ الرفيق الذي لا ينسحب حين تشتد العاصفة، بل يثبت أكثر، ليذكّرني أن بعض الظلال لا تختبئ، بل تحرس.

ظلّك لم يكن غيابًا عن الضوء… كان نوعًا آخر من الضوء، ولعل أجمل ما في هذه العطايا الخفية، أننا لم نكن ندري أننا سنصبح بدورنا مصدرًا لغيرنا.

(9) 
حين نكون طريقًا لغيرنا:
لسنا دائمًا الراحلين فقط… أحيانًا نكون الجسر، جسرًا لا يُرى من فوق، لكنه يمنع السقوط في الأسفل، وأحيانًا، دون أن ندري، نكون الطوق الذي يتشبث به غريق، الكلمة التي تؤجل انهيار أحدهم، أو الصمت الذي يمنح طمأنينة في عالمٍ يصرخ كثيرًا.

حين نكون طريقًا لغيرنا، لا يعني ذلك أن نعرف حجم أثرنا، بل أن نزرعه دون أن نلتفت. أن نكون ظلًا لشخص تاه في هجير أيامه، دون أن نطالبه بالاعتراف. أن نضع وردة على عتبة قلبٍ لا نعلم إن كان سيُفتح، فقط لأننا نؤمن بأن بعض القلوب تستحق الورد حتى إن كانت مغلقة.

كم مرة قلنا كلمة عابرة، وعادت إلينا بعد سنوات، على لسان من سمعها منا أول مرة، وأخبرنا كيف صنعت فرقًا في حياته؟ كم مرة مشينا بجوار من لا نعرف حزنه، لكننا كنا حضورًا صادقًا، فشعر للحظة أنه ليس وحده في العالم؟ نحن نُضيء أحيانًا دون أن نرى وهجنا.

ليست البطولة أن نُنقذ، بل أن نكون سببًا غير مرئي للنجاة. أن يذكرنا أحدهم حين يتجاوز ألمه، لا بالاسم، بل بالشعور الذي تركناه فيه. بالراحة، بالثقة، بالأمل.

وربما في بعض الأوقات، نكون ذلك الالتفاف البسيط في مسار شخصٍ ما، تلك اللحظة التي غيّرت زاويته في الرؤية، أو فتحت له نافذة حين ظن أن كل الأبواب أوصدت. لا نعلم، ولن نعلم دائمًا، لكن الحياة تحفظ هذه التفاصيل الصغيرة، وتعيد تدويرها في القلوب.

أن نكون طريقًا لغيرنا لا يعني أن نقودهم، بل أن نكون بجوارهم حين يخطون الخطوة التي يخافونها. أن نبتعد في الوقت المناسب. أن نترك لهم المساحة ليكونوا هم، لا نسخة مما نحب.

وفي نهاية كل رحلة، حين ينظر أحدهم خلفه ليقول: "لولا ذاك الشخص، لما وصلت"، لا نكون قد عبرنا عبثًا. لقد كُنّا الطريق.

(10) 
ولأننا أصبحنا جزءًا منهم أيضًا:
في تلك اللحظة التي ندرك فيها أننا لم نعد مجرّد مَن تأثّر، بل أصبحنا أيضًا مَن يُؤثّر، تتّسع الدائرة، وتغدو الحياة أكثر عمقًا. نحن الآن جزءٌ من حكايات الآخرين، ظلٌّ في ملامحهم، نبضٌ في أفكارهم، وبصمةٌ لا تُمحى من أرواحهم.

كما تأثّرنا، أصبحنا نُؤثّر. وكما اقتبسنا من أضواء من مرّوا بنا، صرنا نحن من يضيء الدروب لغيرنا. لا فرق بين الذين لمسونا، والذين نلمسهم الآن، سوى أن الأدوار تتبدّل، وأن النور لا يبقى في يدٍ واحدة.

هذه هي الحقيقة الهادئة والعميقة: أن نكون حلقة في سلسلة لا تنكسر، شعلة تُنقل من قلبٍ إلى قلب، ومن يدٍ إلى أخرى، حتى لا ينطفئ الضوء مهما علت الظلمة.

نحن لا نعيش لأنفسنا وحدنا، ولا نترك أثرنا فحسب. نحن، بوجودنا، نصنع امتدادًا لحياة الآخرين، ونشترك معهم في بناء ذواتٍ تكبر، وتتماسك، وتُقاوم. نحن جميعًا نكتب سويًا حكاية واحدة، تُروى بأصوات مختلفة، وتُنسج بخيوط المحبة، والعطاء، والذكرى.

ولذلك، حين نقف لحظة لنتأمل، نُدرك أن ما بيننا ليس مجرد عبور أو لقاء، بل تعايشٌ عميق. كل من مرّ بنا صار جزءًا منّا، كما صرنا نحن جزءًا منه. وبهذا، لا نبقى أفرادًا منفصلين، بل كائنًا جمعيًّا واحدًا، يتنفّس بالمحبة، ويعيش بالذكرى، ويكبر بتبادل الضوء.

وهكذا، تستمر الدائرة… بلا بداية ولا نهاية، بل بمحبة تخلّد ما بيننا.

جهاد غريب 
مايو 2025

الجمعة، 23 مايو 2025

الصمت لا يُثمر حين يُروى بالذل!


الصمت لا يُثمر حين يُروى بالذل!

ليس المهم أن يتحدث القريب، ولا الأهم أن ينطق البعيد؛ فالقرب لا يمنح العصمة، والبعد لا يهب قداسة. القرب لا يصنع الأنبياء، والبعد لا يهب الحكمة اليعقوبية. نحن لم نكن نتكئ على صلة رحم ولا نرفع أحدًا بقرابة دم، بل بميزان الشرف والعدل والعقل. كنا منذ نصف قرن كالبنيان المرصوص، يشهد لنا القاصي والداني بنقاء اليد، وطهر اللسان، ونبل المعشر، وسخاء القلب، وعظمة الإدراك. وهذا ما أبقانا واقفين، رغم محاولات الزمن أن يكسر فينا العزم.

لكن، ما كل دوام فضل، ولا كل صبر ثواب. فلكل أمة لحظة صدع، إما بقدرٍ يكتبه الله في صحائف الناس، أو بظلمٍ يستعجل الزوال. والزوال يأتينا اليوم لا لأننا ضعفاء، بل لأن الجهلاء منا هم من أمسكوا بالدفة، ومن جلسوا على صدر الحُكم والنُصح دون أن يفقهوا وزن كلمة ولا معنى مقام.

نعم، أقولها اليوم علنًا: أعلنت العصيان. أعلنت العصيان على أولئك الذين كنا نحن ظلهم فصاروا سيفًا على رقابنا. تمردت على سكوتٍ جعلني شريكًا في خيبتهم، مطالِبًا بحقٍ أضعناه في مجاملة الأغبياء ومهادنة الجهلاء. لقد أعطيناهم منابر لم يستحقوها، ورفعناهم فوقنا لأننا ظننا أن في الكِبَر حكمة، فخانوا الحكمة، وخانوا الكبَر.

لقد انتهى زمن المجاملة، لم نعد نُجيد الابتسامات الزائفة، ولا نملك شغف تلميع وجوه الطين. لا، لقد انهكني الصمت. كَسرني أن أراك عظيماً في مخيلتي وأنت في حقيقتك لا تساوي حتى ظلّ رجل عظيم. أعلنت عليكم التمرّد، أعلنت أن اليوم ليس لكم، بل علينا أن نرد الدين الذي أثقل أرواحنا، دين الاحترام الذي لم تكونوا أهله.

كل من ظن نفسه فوق الناس لأنه خُدع بأدبنا، عليه اليوم أن يضع رقبته تحت سيف العدالة. لن نترك له مجالًا أن يظن أن خيبته تمر بلا حساب. سنأخذ بحقنا، لا كما يُؤخذ اللطف بالرجاء، بل كما تُنتزع الحقوق من بين أنياب التمرد.

لا نريد منهم اعتذارًا، بل قصاصًا. لقد وضعوا أقدامهم على رؤوسنا دهورًا، فآن أن نضع رؤوسهم تحت أقدام الحقيقة. لا نطلب إلا جزاءً على خيبتهم. سننزع عنهم جلد الطهر الذي لبسوه زورًا، وسنتركهم عراة أمام ضمائرهم، وأمام الأجيال القادمة التي ستعرف من أسقط المجد ومن هدم الرفعة.

كنا نحن الذين رفعناهم، فتوهموا أنهم عظماء. كنا نحن من نفخ في جمرهم كي لا يخبو، فظنوا أنهم شموس. والآن نقولها: ما عادت الشعارات تهمّنا، ولا الرايات تُغري أعيننا. لم يعد عندنا وقت نضيعه في صبر لن يُثمر. لقد قطفوا الثمار، وتركوا لنا العطش والتراب.

اليوم نحاسب. اليوم نحاكم. اليوم نقتص.
سندكّ أسوارهم التي ظنوا أنها مجد، وهي في الحقيقة بيوت عنكبوت. سنكسر سيوفهم الخشبية التي رفعوها علينا، وسنكتب على جباههم: كنتم خيبةً وكنّا وفاءً. لن ندع لهم سبيلًا إلا تحت صليل الحق، وسنُذيقهم مرارة الكبرياء الذي سرقوه من أعيننا.

وليعلم كل جاهل، كل فاجر، كل سقيم النفس، أننا لم نكن ضعفاء، بل نبلاء. لكننا اليوم غير الأمس. اليوم نحن وقتهم. نحن لحظتهم. نحن نهايتهم.

وأنا العظيم الذي سيكتب على رقابهم: هالكون... أبدًا.

جهاد غريب 
مايو 2025

الخميس، 22 مايو 2025

هكذا كُنتُ... حتى سَقَطْتُ!

 
هكذا كُنتُ... حتى سَقَطْتُ!
كنت أظن أنني أمشي بثبات، أن خطواتي الصغيرة نحو المجهول محسوبة، أن القلب الذي تعوّد الصمت قد تعلّم أخيرًا أن يكون أقوى من الصوت، وأهدأ من الريح. 

لم أكن سعيدًا، لكنني كنت أتظاهر بالرضا كمن يحمل كأسًا مكسورًا ويتفنن في الشرب منه دون أن يجرح شفتيه.
ثمة نظرية في علم النفس تُشير إلى أننا نعيش معظم أيامنا على وضع التلقائي، لا لأننا نريد ذلك، بل لأن العيش بوعي مرهق.

كان كل شيء في حياتي يمضي بنظامٍ داخلي لا يُرى، يُشبه الساعة التي لا تُصدر صوتًا، لكنها تعمل... أو هكذا كنت أظن.
كنت أنا، ذلك الذي لا يسأل كثيرًا، ولا يعترض كثيرًا، ولا يحلم كثيرًا. كنت أراقب الحياة من خلف زجاجٍ نظيف، لا يلوثني الغبار، لكنه لا يدفئني أيضًا.

كان للوجوه المألوفة طمأنينة، وللأماكن القديمة راحة، وللروتين شكلٌ من أشكال الأمان الهشّ. كنت أعتقد أنني أعرف نفسي، أو على الأقل أعرف كيف أُسكتها حين تتمرد.

كانت الابتسامة على وجهي نوعًا من اللباقة، لا تنتمي إلى الفرح بقدر ما تنتمي إلى النجاة. وكنت أعتقد أن الحياة لا تحتاج أكثر من ذلك: قليل من الصبر، قليل من الإنكار، وقليل من الادعاء.

لكن شيئًا ما كان يتكسر فيّ بصمت. كأن الروح بدأت تفقد وزنها، وكأن المعنى انسحب من الحروف التي أرددها كل يوم دون وعي.

لم أكن أدرك أنني على شفا هاوية، لأنني كنت أجيد التوازن... فوق الحافة.

السقوط العظيم... والميلاد الأصدق!
لم يحدث الأمر بضجيج كما تتوقع الانهيارات، لم يكن هناك صراخ، ولا سقوط درامي من علو شاهق، بل بدأ كل شيء بتصدّع صغير، في لحظة عادية، بصوت داخلي خافت لا يسمعه أحد سواي: "هل هذا كل شيء؟"

كان سؤالًا بسيطًا، لكنه هزّ الجدار الذي كنت أتكئ عليه.
ثم بدأت الأشياء تتداعى: القناعات التي بنيت عليها حياتي، الوجوه التي كنت أطمئن لها، حتى الكلمات التي كنت أرددها وكأنها أنا... كلها بدأت تبدو غريبة، كأنني أراها للمرة الأولى من زاوية منكسرة.

في لحظة لا يمكن تأريخها، شعرت أنني أهبط داخليًا، دون مقاومة، دون خطة للنجاة. 

كنت أُفلت من كل شيء، حتى من نفسي. شعرت بأنني أذوب من أطرافي نحو الداخل، كأنني أُمحى بصمت، بلا مركز أتكئ عليه، بلا هوية أتمسك بها حين تشتد العاصفة. 

كنت أتفرّق على هيئة رجلٍ يبدو طبيعيًا، لكنه بلا نَفَس.
لم أعد أملك شيئًا، لا اليقين الذي كان يغطيني، ولا الرغبات الصغيرة التي كانت تُسكت الجوع الأكبر في داخلي. لكن الغريب أن في عمق هذا السقوط، وُلد إحساس غريب بالصدق.
يقول كارل يونغ: "لا يولد الوعي دون ألم".
كأنني لأول مرة أتعرّى من كل ما لستُ أنا، وأتلمّس ملامحي الحقيقية بعد طول انتحال.

في اللحظة التي فقدت فيها السيطرة، وجدت قلبي يهمس لي لا لينقذني، بل ليعرّفني على نفسي.
كان سقوطًا عظيمًا، لكنه كان ميلادي الأصدق.
سقطت، فاستيقظت. لم أعد كما كنت، ولن أكون.
الآن بدأت أرى الحياة من الأسفل، من حيث تتضح الأشياء وتفقد زيفها.

حين ينهار كل شيء... وتبدأ الحكاية!
لا تبدأ الحكايات دائمًا من البدايات الوردية، بل أحيانًا تنبثق من اللحظة التي لا يبقى فيها شيء لتخسره، من الأرض التي تلامس فيها جبينك لا سجودًا، بل استسلامًا عميقًا.

هناك، حين تتشظى التفاصيل، وتنهار العناوين التي كنت تُعرّف بها نفسك… تبدأ الحكاية الحقيقية.
حين ينهار كل شيء، تنكشف الأسرار: تكتشف أنك كنت تضع وجهك في قناع، وتعيش أيامك في غلاف مشدود من "كل شيء بخير"، بينما الداخل يتآكل بهدوء.
تنهار العادات، وتتساقط الأقنعة، وتنحلُّ العقد التي كنت تظنها جزءًا منك.

فجأة، تجد نفسك في مواجهة كاملة معك… بلا وسطاء، بلا مؤثرات، بلا أصوات خارجية تملأ الفراغ عنك.
كل شيء انهار، نعم، لكنّ فراغ الانهيار لم يكن خواءً… بل كان فراغًا خصبًا، جاهزًا لأن يُنبت شيئًا جديدًا.
وفي علم النفس الوجودي، يُعتبر الانهيار لحظة ولادة للذات الحقيقية، حين يتوقف الإنسان عن تمثيل دوره، ويبدأ في عيشه.

هناك، في وسط الركام، كان قلبي يمدّ إصبعه نحو الضوء، لا ليخرجه من العتمة، بل ليشير إليه: "انظر… ها هي الحقيقة، عارية، بسيطة، بلا زخارف".
لم يكن الانهيار نهاية، كما يوهمنا الخوف.

كان بداية. بداية لحكاية لا تُكتب بالحبر، بل بالشعور، بالندبة، بالصمت الذي يصنع لغة لا يقرؤها سواك.
كانت لغةً لا تُقال... بل تُنزَف.
لغةً لا تحتاج إلى كلمات، بل إلى أن تنهار بصمت لتفهمها.
لغةً خُلقت بيني وبيني، لا يفكّ شيفرتها سواي.
وهناك، في قاع كل شيء، بدأت أتكلم بصمتي، وأفهمني كما لم أفعل من قبل.
ومن هناك... بدأت أكتبني من جديد.

الانهيار الذي أعادني إليّ!
لم يكن الانهيار جرحًا فقط، بل مرآة.
مرآة كسرها الزمن، فعكستني بوجوهٍ لم أكن أعلم أنها لي.
في لحظة الانفصال عن كل ما كنت أظنه ثابتًا، لم أتبعثر... بل بدأت أتجمّع بطريقة جديدة، بطريقة تشبهني أكثر، رغم الألم.
اكتشفت أنني كنت أعيش متقمصًا نسخًا متعددة منّي، لأُرضي الآخرين، لأهرب من حزني، ولأخدع خوفي.
لكن حين انهارت تلك النسخ واحدة تلو الأخرى، لم يبقَ إلا أنا، وحقيقتي العارية.

يقول بعض الفلاسفة إنّ النفس لا ترى حقيقتها إلا حين تسقط عنها الأقنعة دفعة واحدة، لا أمام مرآة... بل أمام الفراغ.
أدركت حينها أن أصدق أشكالي هي تلك التي لم أسعَ يومًا لعرضها على أحد.

ويا لها من لحظة... لحظة التقاء المرء بذاته، خارج كل المسميات، والمجاملات، والادعاءات.
الانهيار لم يكن عدوي، كان صديقي المتخفّي، جاءني بصورة الخراب، لكنه حمل بيده مفتاحًا صدئًا، فتح به بابًا كنت قد أغلقته منذ زمن: باب الرجوع إلى نفسي.

رجعت لا على هيئة المنتصر، ولا الضحية... بل على هيئة إنسان تجرّد من كل شيء، فعاد إلى جوهره الأول.
أدركت أن الصلابة ليست في أن لا تنكسر، بل في أن تنكسر وتُعيد ترتيبك بصبر، لا كما كنت، بل كما يجب أن تكون.
لقد أعادني الانهيار إليّ، لا كعقوبة، بل كفرصة.
فرصة لأعرف من أنا، لا من أبدو عليه.

صوت الذات في صمت الانهيار!
حين تصمت الأشياء من حولك، ليس لأن العالم قرر أن يهدأ، بل لأنك أنت هو الذي كفّ عن الركض... تبدأ في سماع شيء لم تعهده من قبل.

ذلك الصوت الداخلي، الذي ظل لسنوات يتحدث من خلف الزحام، يظهر أخيرًا، واضحًا، نقيًا، كأنه خرج لتوّه من حنجرة روحك.

في صمت الانهيار، حين تسقط الضوضاء الخارجية، وتتوقف نصائح الآخرين، وتغيب ضجة المعايير، تسمع نفسك تقول: "أنا هنا… لطالما كنت هنا، تنتظرك".

ليس صوتًا عاليًا، لا يصرخ، لا يتوسل، لا يلوم.
هو مجرد همس، لكنه يعرف الطريق.
فبعض الأصوات لا تُخلق لتُسمع وسط الضجيج، بل لتولد في الهدوء، حين تصغي روحك أخيرًا لنفسها، لا لتُجيب… بل لتريك من يسأل.

ذلك الهمس، كان أول صوتٍ لا يطلب إذنًا ليكون.
إنه ليس الصوت الذي يقول لك ما يجب أن تكونه، بل يسألك: "من أنت حين لا يراك أحد؟ من أنت حين لا تنتظر تصفيقًا؟"
سؤال لا يُجاب عليه بالكلمات، بل بالارتجاف، بالبكاء أحيانًا، بالسكوت الطويل الذي يشبه الصلاة.

ذلك الصمت، الذي ظننته عزلة، لم يكن سوى مساحة نقاء.
وفي تلك المساحة، عاد كل شيء إلى مكانه…
الطفل الذي أضعته، الرغبة التي أنزلتها عن الرفّ، النبض الذي كتمته خجلًا… كلهم عادوا، وجلسوا إلى جانبي، كأنهم لم يرحلوا، بل كانوا ينتظرون أن أصمت.

حين خفَتَ ضوء الخارج، أضاء الداخل.
وحين هدأت العاصفة، خرجت الحقيقة من تحت الركام، تلبس صوتي، وتقول لي: "ها أنت".

حين يعيدنا الألم إلى أصلنا!
الألم لا يطرق الباب كما يفعل الفرح، لا يأتي خفيفًا أو مؤدبًا.
إنه يقتحمك، يجلس في منتصف صدرك، يفرض حضوره بلا دعوة… لكن ما إن يطيل الجلوس، حتى تكتشف أنه يعرفك أكثر مما تعرفُ أنت نفسك.
في البدء، تقاومه.
تخشى أن تنكسر، أن تنكشف، أن تسقط أمامه.
لكن شيئًا فشيئًا، يبدأ في نزع الأقنعة… لا برغبتك، بل بحقيقته.

وفي كل قناع يسقط، تُحس أنك تقترب، لا من الألم… بل من ذاتك التي نفيتها طويلًا.
الألم لا يُعرّفك على ضعفك فقط، بل على قوتك الحقيقية، تلك التي لم تأتِ من الإنجاز، بل من التحمّل… من القدرة على النظر في المرآة رغم الدموع.

هو لا يعيدك إلى الوراء، بل يعيدك إلى جوهرك، إلى تلك النسخة التي كدّست فوقها طبقات من التوقعات، والخوف، والتأجيل، حتى كدت تنساها.
هناك، حين لم يعد لديك شيء تدافع عنه، تبدأ في اكتشاف ما يستحق أن تعيش لأجله.

وحين لم يعد لديك ما تخسره، تعود حرًا…
حرًا بما يكفي لأن تصادق ألمك، لا كعدو، بل كمرشد غريب الأطوار، قادك إلى باب لم تكن لتصل إليه وحدك.
فالألم حين يبلغ ذروته، لا يزيدك وجعًا، بل يكشف لك خريطة العودة إلى ذاتك، وكأنك كنت تنحني طوال الوقت لتلتقط شيئًا أعمق من الشفاء: المعنى.

الألم ليس النهاية.
الألم بداية العودة… إلى ما كنت قبل أن تنشغل بكل ما ليس أنت.

حين يكون السقوط شرطًا للنهوض!
لم أفهم السقوط حين وقع.
كنت أراه كعقوبة، كفضيحة داخلية، كفشل نهائي.
لكن الزمن، ذاك الفيلسوف الصامت، علّمني أن بعض السقوط لا يحدث ليسحقك، بل ليزيل ما لا يُناسبك من قشورك، وليضعك في مواجهة ما كنت تؤجله دومًا: نفسك.

السقوط ليس الضدّ للنهوض، بل هو شرطه الأول.
فمن لم يعرف أرض القاع، كيف سيتقن التوازن على قمته؟
ومن لم يخسر شيئًا حقيقيًا، كيف سيعرف قيمة النهوض على شيء حقيقي أيضًا؟

إننا لا نصعد ونحن نتمسك بما أثقلنا، بل حين نُجبر على التخلي.
والسقوط يعلمك التخلي: عن كبرياءك، عن وهمك، عن تصوراتك المسبقة.
يعريك من كل ما ليس لك، لتنهض أخف، أصدق، أعمق.
أحيانًا، لا يمنحك الطريق إشارات كافية لتتوقف… فيرسل لك انهيارًا.

وفي عمق الانهيار، تتعلّم أن الصعود ليس قفزًا فوق الوجع، بل مرورًا عميقًا فيه، عبورًا لا يمكنك اختصاره، لكنه يُشكلك من جديد.

الذين لم يسقطوا أبدًا… غالبًا لم يتحركوا.
أما الذين نهضوا، فلن يحدث أن تنظر في أعينهم دون أن ترى أثر الأرض فيهم، وأثر السماء التي صعدوا نحوها.
السقوط لم يكن هزيمة، بل كان الباب الذي ما كان ليفتح إلا إذا سقطت أمامه.

من قاع السقوط إلى قمة الذات!
القاع ليس ظلامًا فقط…
بل صمتٌ كثيف، تتردد فيه أصداء صوتك وحدك،
بعيدًا عن التصفيق، وعن النظرات، وعن العناوين التي منحوك إياها ثم انتزعوها.
القاع مكان لا تُحسن التظاهر فيه، ولا يحتمل الكذب.
في القاع، تبدأ بتفكيك خرائطك القديمة، تلك التي قادتك إلى هنا،
وتدرك أن بعض الطرق لم تكن لك، وبعض الأهداف لم تكن أهدافك،
بل صدى لحلم أحدهم… والآن، في هذا العراء، تبدأ للمرة الأولى برسم خريطة تشبهك.

تنهض، لا لأن شيئًا حولك تغيّر، بل لأنك تغيّرت.
ولأنك أدركت أن القمة ليست مكانًا… بل لحظة تصالح،
لحظة وقوف على أرضك الداخلية، متحررًا من صراعات المقارنة، والتوقع، والهروب.
قمة الذات لا تُرى من الخارج.
لا تُقاس بالألقاب ولا بالمكاسب،
بل تُقاس بقدرتك على النظر إلى ماضيك دون سخط،
وبقوة سلامك مع نفسك، حين لا يحتاج هذا السلام إلى شهادة أحد.

الصعود لم يكن انتصارًا على السقوط،
بل كان امتدادًا له، كأن السقوط لم يكن إلا البذرة…
والقمة لم تكن إلا الإزهار الطبيعي بعد عمق الجذور.
من القاع، رأيت ظلي حقيقيًا للمرة الأولى،
ومن هناك، صعدت… لا فوق الآخرين، بل فوق نفسي القديمة،
كأن السقوط لم يكن انكسارًا، بل انحناءةً لالتقاط النور من موضعه الأصدق: داخلي.

الرحلة من الانكسار إلى الاكتشاف!
لم أكن أبحث عن إجابات حين بدأت السقوط،
كنت فقط أبحث عن مخرج… عن نفس أتنفسه دون أن أشعر بالضياع.
لكنني ما وجدت المخرج إلا حين توقفت عن الجري،
وما وجدت النفس إلا حين غصت أعمق في الانكسار.

الرحلة لم تكن عودة من الهزيمة،
بل كانت عبورًا منها، عبورًا جعل الهزيمة ركنًا من أركان النضج،
وصار الانكسار مرآة نقية، رأيت فيها وجهي خاليًا من الزيف.
اكتشفت أنني لا أُبنى عندما أكون قويًا فقط،
بل أُبنى أكثر عندما أُكسر،
حين تتشظى أفكاري القديمة، وتتبعثر صورتي عن ذاتي،
فتنبثق أنا الجديدة، لا من الخارج… بل من رماد الداخل.

تلك اللحظات التي حسبتها نهايات،
كانت في حقيقتها نقاط التقاء…
حيث التقَى الداخل بالخارج، والظاهر بالباطن، والقلق بالحكمة.
كل شيءٍ واجهته أعادني إليّ.
وكل ألمٍ منحني بوصلة.
وكل صمتٍ كان حوارًا.
لم أعد كما كنت…
ولا أرغب في أن أعود.
لأنني في كل سقوط، 
كنت أخلع جلدًا لا يشبهني،
وفي كل نهوض، ألبس ذاتي الحقيقية.
وفي كل منعطف، لم أكن أضيع… بل أكتشف.
وهكذا…
تحوّل الانكسار إلى بوصلة،
والألم إلى درس،
والرحلة… إلى ميلاد،
لا يُشبه البداية، ولا يشبه النهاية… بل يشبهني.

جهاد غريب 
مايو 2025

الأربعاء، 21 مايو 2025

كذبة الصبر المنعزل!

 
كذبة الصبر المنعزل!

حين يردد البعض بثقة: "من اعتاد على تجاوز حزنه بمفرده، لن يؤثر فيه بقاء أحد أو غيابه"، فإنهم في الحقيقة لا يروون حقيقة، بل يتحدثون عن مشهد ناقص، عن ألم لم يتجاوز جلده، عن جرح سطحي بالكاد وخز الشعور، ثم مر. 

هذه العبارة وإن بدت قوية عند أول وهلة، إلا أنها، في عمقها، مغلوطة حد السذاجة. لا لأن الإنسان ضعيف، ولا لأن الحزن يستقوي عليه، بل لأن هذه المقولة تنكر أمرًا بدهيًا: أن الإنسان كائن اجتماعي، مخلوق من تفاعل، من علاقات، من تضامن، من خذلان أحيانًا، ومن عناق كثيرًا. من يزعم أنه يتجاوز حزنه بمفرده لم يجرب حزنًا حقيقيًا.

لا يعيش أحد بمفرده في هذا الكوكب، ولا أحد يتجاوز الألم دون أن تمتد له يد، وإن لم تُرَ تلك اليد، فربما كانت في كلمة، في نظرة، في صوت من بعيد، أو حتى في ذكرى حُفرت من شخص لم يعد موجودًا. 

فمن الذي يحزن أصلًا؟ أليس هو من خُذل من صديق، أو فارق حبيبًا، أو انفصل عن شريك، أو خسر سندًا؟ ومن ذا الذي يسبب الحزن إن لم يكن الآخر؟ كيف إذًا يقال إننا نتجاوز ما سببه الآخر بأنفسنا وحدنا؟ ما هذا التناقض العاطفي الفادح؟

الحزن العميق لا يُزال بالجلوس في العزلة وتأمل الجدران. بل إن الحزن الحقيقي يعيد تشكيل الروح، يبعثر الإنسان، يقلبه من الداخل، ويحتاج لترميم طويل لا يقوم به عقل منعزل مهما ادعى الصلابة. من تألم لفقدان زوجته، من خانه صديقه، من انكسر في عمله، من خذله أبناؤه، من خسر وطنه، هل يُقال له: تجاوز بمفردك؟ 

من يعيش في سجنه الخاص، أو على هامش المجتمع، أو بين أفراد لا يفهمونه، لا يحتاج إلى مزيد من العزلة كي يشفى، بل إلى صوت يربّت عليه، إلى إنسان لا يطلب تفسيرًا، بل يقدم حضوره.

ثم من قال إن تجاوز الحزن هو انتصار؟ ربما التجاوز دون فهم، دون مواجهة، دون مشاركة، هو في حقيقته قمع وتأجيل وترحيل للوجع، لا شفاء منه. من اعتاد أن يخنق حزنه بصمت، لا يعني أنه قوي، بل ربما يعني أنه اعتاد أن يُترك، أن يُهمَل، أن يُخذَل، فصار يتعامل مع حزنه كما يتعامل المتشرد مع البرد: يحاول أن يدفن نفسه باللا شيء، ويقنع نفسه بأن البرد لا يوجعه.

هذه المقولة، في جوهرها، تُمجّد الوحدة في غير محلها، وتحتفي بالعزلة كأنها بطولة، بينما هي، في الحقيقة، غالبًا رد فعل على الخذلان أو على تكرار التجاهل. نعم، قد يبدو بعض الناس قادرين على تجاوز الألم وحدهم، لكنهم لا يتجاوزونه، بل يدفنونه، ولا أحد يعلم متى ينهار هذا الدفن.

ثم إن الحزن ليس ساحة نخوضها بمفردنا. هو معركة تحتاج حلفاء. فحتى الذين كانوا في الكهوف، في السجون، في أقسى لحظات الوحدة، لم تكن ذاكرتهم فارغة من الوجوه، من الأصوات، من الرسائل، من فكرة شخص سيعود، من حلم لقاء، من انتظار حياة أفضل. الإنسان لا يمكنه أن يعيش دون أثر للآخر. فكيف له أن يتجاوز ألمه دون الآخر؟

لا شيء في الإنسان يُبنى بمفرده، ولا حتى القدرة على الصبر. كل صبرٍ خلفه تجربة، وكل تجربة شارك فيها أحد. من يتجاوز الحزن وحده؟ لا أحد. وإن وُجد، فإنه تجاوز حزنه السطحي، لا ذلك الحزن الذي ينزع القلب من مكانه، ولا ذاك الذي يتركك تتنفس بصعوبة وتنام بدمعة.

لو كانت هذه المقولة صحيحة، لما احتيجَ لمعالج، ولا لصديق، ولا لزوجة تحتضن، ولا لأخ ينصت، ولا لعين تسأل دون كلام: هل أنت بخير؟ من قال إن البقاء أو الغياب لا يؤثر؟! الغياب وحده حزن. والوجود أحيانًا شفاء. والعبارات التي تصف البشر كأنهم آلات تتعافى بمجرد زر، هي عبارات لا تليق بهذا الكائن الرقيق العجيب المعقد.

لا، لا نتجاوز حزننا بمفردنا. نحن نتجاوزه حين نجد من يصدق وجعنا دون أن يستخف به. نتجاوزه حين لا نُترك. نتجاوزه حين نُرى، ونُفهم، ونُحب رغم تصدعاتنا. وكل ما عدا ذلك مجرد خداع ناعم يُقال بصوت بارد في صور أنيقة على شاشات مضاءة. 

أما في العمق، فالحقيقة عارية: لا أحد يتجاوز حزنه العميق بمفرده. وإن ظنّ أنه فعل، فليعد إلى نفسه بعد حين، سيجد أن الحزن نائم في الزاوية، لم يرحل، بل كان ينتظر اللحظة المناسبة ليذكّره أنه ما زال هناك، ينزف، بصمت.

جهاد غريب 
مايو 2025


الثلاثاء، 20 مايو 2025

الهدايا الخفية في زمن الراكضين!

 
الهدايا الخفية في زمن الراكضين!

في زمنٍ يُقاس فيه كل شيء بالسرعة، نمرّ على لحظاتنا كما لو كنا نعتذر من الوقت لا نعيشه!، نُمسك بالكثير، لكن القليل فقط يلمس أرواحنا. وسط ضجيج الركض، ثمة هدايا لا تُرى إلا حين نُبطئ، نُصغي، ونسمح للحظة أن تهمس لنا بما أخفاه التسرع.

لحظة تنبض بالحضور:
كلما حاولت أن أقبض على اللحظة، وجدت أن بيني وبينها طبقة خفية من التفكير؛ التفكير في ما سبقها، أو في ما يليها، أو في معناها، وكأن الحاضر لا يُمنح كما هو، بلا شروط، بل ينتظر مني أن أفرغ رأسي تمامًا كي يدخل. لكن من ينجو من ذلك الرأس المزدحم؟ من تلك الأفكار التي تزحف خلسة حتى إلى كوب القهوة الصباحي، أو إلى لحظة الاستلقاء على السرير بعد يوم طويل؟ يبدو أن العقل، رغم كل محاولاته للتركيز، لا يعيش اللحظة، بل يفسّرها، يقارنها، يعيد تشكيلها.

ربما لهذا يمر الحاضر كطيف، لا كزيارة!، نسمع وقع خطاه لكنه لا يبقى، أو نُمسك طرف ثوبه ثم نفلت، أو بالأحرى: ننشغل عنه؛ ونحن نظن أننا نعيش الآن، بينما نحن في الحقيقة نُدوّن في دفتر الأمس، أو نُعدّ خريطة الغد.

ورغم هذا الزحام، ثمّة ومضات تخترق ضباب اليوم، تُذكرنا بأن الحياة لا تُقاس بطولها، بل بكثافة الشعور فيها، بلحظة صافية، بضحكة غير محسوبة، بنظرة تصنع بينك وبين العالم صلة لا تُرى؛ نعيش الزمن كأنه عدو، لا كرفيقٍ يهمس إلينا بأسراره. 

وفن إدراك الجمال ليس ترفًا فكريًا ولا رفاهية شاعرٍ حالم، بل هو فن البقاء في عالمٍ يمرّ بسرعة الضوء: فن التوقف أمام زهرة، فن السكون في حضرة المطر، فن التماهي مع غروبٍ يُذيب القلب قبل أن يُذيب الأفق.

من يتقن الإصغاء إلى همسات اللحظة، يعرف أن الحضور ليس حالة جسدية، بل فعلٌ روحي، اختراقٌ عميق للسطح نحو جوهر التجربة. ربما لا نذكر الأيام كما عشناها، لكننا نذكر لحظة شعورٍ خالص، لحظة عرفنا فيها أننا أحياء، لا لأننا نتنفس، بل لأننا كنا هناك، بكامل ما فينا، نحب، نشعر، نندهش.

نحتاج إلى أن نفتح نوافذنا للحواس، وقلوبنا للدهشة، وعقولنا للفهم البطيء، لأن الجمال لا يُصرخ، بل يُهمس. فقط عندما نتوقف عن الركض، وننصت لما بين الأصوات، نكتشف أن اللحظة التي كنا نظنها عابرة، كانت في الحقيقة بيتنا الوحيد.

دهشة التفاصيل وصوت اللحظة:
عندما نستعيد الذكريات، نحن لا نستعيد الوقائع، بل الروائح التي عبّقت المكان، الألوان التي التمعت، النبض الذي كان في صدرنا. قد ننسى ما قلناه تحديدًا، لكننا لا ننسى كيف جعلنا الآخرَ يشعر، ولا كيف شعَرنا نحن حينها.

في حياةٍ تمضي كالسهم قبل أن نراها تمر، ننسى أحيانًا أن نعيش ببطء الصوت. اللحظة تمر، لا لأنها خفيفة، بل لأننا لم نكن حاضرين بما يكفي لنسمع وقع خطواتها. التفاصيل الصغيرة التي تتناثر كحبات المطر، ليست بقايا عابرة من يوم مزدحم، بل هي المعنى نفسه الذي يختبئ في الزوايا.

اللحظات لا تُصوَّر بالكاميرا، بل تُلتقط بالحسّ!، فكم من صورة فوتوغرافية لم توقظ فيك شيئًا، وكم من عطرٍ عابر جعلك تقف وسط الشارع لأن قلبك سُحب إلى مقعد قديم، في مكان لا يعرفه من حولك.

ليس من الضروري أن تكون شاعرًا لتشعر، لكن من الضروري أن تتوقف، أن تنظر، أن تترك قلبك يتورط في دهشة ما هو بسيط. كوب قهوة يُشرب دون استعجال، ظل شجرة يلامس الأرض بنعومة، يد دافئة تصافحك دون مناسبة، كلها رسائل. لكنها لا تُقرأ بالعين، بل بالبصيرة.

نحن نعيش اللحظة الآن، نعم، لكنها في الحقيقة تُهيّئ نفسها لتكون ذكرى غدًا. فهل نمنحها من الصدق ما يكفي لتستحق أن تعود؟ هل نُضيف فيها لمسة تجعلها أكثر من مجرد عبور؟ اللحظة ليست فقط ما يحدث، بل كيف نستقبله. حين نُصغي بكامل روحنا، حين نضحك دون أن نلتفت للزمن، حين نُحب دون أن نحسب كم تبقى من الوقت... حينها فقط، تكون اللحظة جديرة بأن تُحفظ في الذاكرة، لا كواقعة، بل كأثر.

الجمال لا يُعلن عن حضوره، بل يأتي هامسًا، يشبه صديقًا قديمًا لا يطرق الباب، بل يدخل دون أن يحدث صوتًا، فيفتح النافذة، ويترك نسمة تتسلل إلى قلبك، ولعل أعذب ما في الجمال أنه لا يشبه أحدًا، ولا يتكرر أبدًا. مشهد الغروب الذي تراه اليوم، قد يتكرر شكله، لكن إحساسك فيه لا يعود. لأنك أنت لم تعد كما كنت. وهذا ما يجعل اللحظة كنزًا لا يُعاد.

حين نتعلم أن نعيش اللحظة كما هي، لا كما نريدها أن تكون، يصبح العالم أكثر رحمة، وحين نُحب كما لو أن الحب يُكتشف لأول مرة، نغفر كما لو أن الغفران هدية لأرواحنا، لا للآخرين، ونصمت كما لو أن الصمت صلاة، نلامس جوهر الحياة. ليس من العدل أن نختزل الحياة في إنجازاتنا، ونُهمل ما لم يُكتب، ما لم يُصوّر، ما لم يُعلَن.

هناك حكمة قديمة تقول: "الحياة لا تُقاس بعدد الأنفاس التي نأخذها، بل باللحظات التي تُدهشنا حتى ننسى أن نتنفس." والدهشة ليست حدثًا خارقًا، بل شعور داخلي يولد عندما نسمح لأنفسنا بأن نكون موجودين تمامًا.

نحتاج أن نُبطّئ خطانا. أن نمشي دون هدف أحيانًا. أن نحدّق في لا شيء، فقط لأن في اللاشيء كل شيء. أن نُصغي للصمت كأنه صوت، وننظر إلى الظل كأنه ضوء. حينها فقط، نبدأ في تذوق الحياة لا كشيء نملكه، بل كهدية نُدهش بوجودها كل مرة من جديد.

ولعل أعظم أشكال الامتنان هو أن نعيش وكأننا لن نُمنح هذه اللحظة مرتين. أن نلمس الوردة لا لنقطفها، بل لنشعر بخجلها. أن نستمع لصوت المطر لا كخلفية، بل كأغنية كُتبت لنا نحن فقط. أن نكون بسطاء بما يكفي لنندهش، وعميقين بما يكفي لنفهم أن ما نعيشه الآن... هو الحياة.

نُهدهد اللحظة كي لا تهرب:
نحن لا نعيش الحياة مرة واحدة، بل نعيشها كلما تذكرنا، كلما أدهشتنا تفصيلة، كلما احتضننا مشهدٌ عابرٌ بشعورٍ غيرِ عابرٍ، ولهذا، فإن أجمل ما في اللحظة ليس حضورها، بل قدرتها على البقاء فينا بعد أن ترحل. قد لا نمتلك قدرةً على إيقاف الزمن، لكننا نملك ما هو أعمق: أن نكون شركاء في دهشته، شهودًا على معجزاته الصغيرة.

ليست الحياة شيئًا نؤجله حتى تتحسن الظروف، أو ننتظره في عطلة نهاية الأسبوع، أو نكتبه في قائمة المهام. الحياة تُقاس بالحضور، بالحساسية تجاه كل ما لا يُرى، وبالانتباه لما لا يُقال، ربما لهذا تبدو الطفولة أجمل مراحل العمر، لأن الطفل لا يفكر في الأمس، ولا يتوقع الغد، بل يغمره الآن كأنه العالم كله.

فلنحاول، على الأقل، أن نستعيد شيئًا من تلك البراءة. أن نُبطئ قلبنا قليلًا، ونمنحه فرصة أن يفرح دون تفسير، أن يحزن دون مقاومة، أن يصمت دون شعور بالنقص، لأن أعظم شجاعة، في هذا الزمن الذي يركض، هي أن نقف. أن نُصغي. أن نعيش كما لو أن الحياة تهمس لنا: "أنا هنا، لا تمرّ بي بسرعة."

نعم، نحن نحتاج إلى الإنجاز، وإلى الأهداف، وإلى السعي... لكننا نحتاج أكثر إلى أن نضع أرواحنا في هذه الرحلة، لا أن نتركها على الرصيف. نحتاج إلى أن نُمسك باللحظة كمن يُمسك بريشة، لا بحبل. أن نهدهدها كي لا تهرب، ونشكرها لأنها جاءت رغم الزحام، رغم الفوضى، رغم التعب.

قد لا يعرف أحد كم لحظة جميلة مرت بنا، ولا كم مرة ابتسمنا لأن ظل شجرة حرّك فينا شيئًا. لكننا نحن نعرف، ونحن، في النهاية، من يُشكّل الحياة بذاكرتنا، لا بأحداثها فقط.

فليكن حضورنا في لحظتنا هو أعظم ما نُهديه لأنفسنا.

جهاد غريب 
مايو 2025

نحن والعابرون... والظلّ الذي لا يُنسى!

 
نحن والعابرون... والظلّ الذي لا يُنسى!

في زمنٍ ترتفع فيه أصوات الفردية ويهتف فيه الجميع بـ"أنا" على حساب "نحن"، يغيب عن وعينا أن كل ما نحن عليه الآن هو نتاج سلسلة طويلة من العطاءات التي لم نخترها، لكننا كنا دوماً على الجانب الآخذ منها. 

تلك اليد التي تربّت على كتفك ذات يأس، النظرة التي أنقذتك من تيه، الكلمة التي لم تقلها لكن فهمها أحدهم عنك.. كل ذلك شكّلك أكثر مما تظن. قد يبدو الاكتفاء الذاتي أمراً بطولياً حين نردده على هيئة شعارات مضللة، لكنه في الحقيقة وهمٌ تواطأنا جميعاً على تصديقه كي لا نشعر بالضعف. 

نحن لا نولد بأسوارٍ حول أرواحنا، بل نبنيها خوفاً من انكشاف حاجتنا للآخر، بينما تلك الحاجة هي أعظم ما يجعلنا بشراً. 
تأمل يديك للحظة، هل كنت أنت من صنع قدرتهما؟ هل صنعت عقلك، ذوقك، إحساسك، حتى حزنك؟ كل شيء فيك كان هبة من آخرين، فلولاهم، لما كنت كما أنت الآن، لا في حضورك، ولا في غيابك. بعضهم لا تعرفهم، وبعضهم نسيتهم، لكنهم ما زالوا يسكنون داخلك.

الحياة ليست ساحة معركة للفرد الأقوى، بل نسيج معقد من الأخذ والعطاء، من الظل الذي منحه أحدهم لغيره دون أن يشعر، من الجسر الذي بُني من تعب الآخرين لتعبر عليه دون أن تتعثر. 

وقد نغفل، في خضم هذا التصور البطولي للذات، عن حقيقة جوهرية. نعيش متخيلين أننا جزر معزولة، بينما نحن، في جوهرنا، طرقٌ متقاطعة، لا نكتمل إلا حين يمر الآخرون بنا، ونمنحهم المعبر الآمن إلى حيث يجب أن يكونوا. كم من مرة كنت بحاجة لإنقاذ، فكان العابر المجهول هو اليد التي أمسكت بك؟ وكم مرة عبر بك آخر، دون أن تدري أنك كنت طوق نجاته؟

حتى من آذونا، ربما منحونا حكمة، أو كشفوا لنا وجهاً خفياً فينا، فأثروا فينا من حيث لا يدرون. إن الإنسان الحقيقي لا يخشى أن يكون مكشوفاً، هشاً، محتاجاً، لأنه يدرك أن العطاء لا يعني القوة فحسب، بل يعني الاعتراف المتبادل بالضعف والإنسانية. 

ليست الحياة معادلة رياضية تُحلّ بذكاء فردي، بل فسيفساء هائلة، كل قطعة فيها تكمل الأخرى، لا بقيمتها وحدها، بل بقدرتها على الانسجام. نظن أن البقاء في الظل ضعف، بينما الحقيقة أن الظل هو ما يمنح الآخرين راحة الوجود. ليست كل الأدوار بطولية، لكن كل دور ضروري. 

لست بحاجة لأن تكون الأذكى أو الأنجح أو الأكثر تأثيراً، بل أن تكون ذلك الشخص الذي يدرك أن قيمته تكمن في كونه جزءاً من لوحة أكبر، لا تكتمل بدونه، وإن لم يُذكر اسمه في الأسفل، فالمجتمع لا يعمل بترسٍ واحد، وكل ترس – مهما صغر – إما أن يحرك المنظومة أو يعيقها.

المشكلة لا تكمن في الأخذ، بل في أن نرفض العطاء بعده. حين نغلق على أنفسنا أبوابنا ونختبئ خلف أقنعة الاكتفاء، نكتشف بعد فوات الأوان أننا أصبحنا مثل شجرة بلا ظل، واقفة وحدها، لا أحد يحتاجها، ولا تعرف هي نفسها من تحتاج.
ومن يعتقد أنه محايد، لا يؤذي ولا ينفع، يغفل أن حياده هذا هو موقفٌ مؤذٍ من نوعٍ آخر، لأن الحضور دون أثر هو الغياب بعينه.

وحين تهدأ الضوضاء، وتنطفئ الأنوار من حولك، وفي نهاية كل يوم، حين تضع رأسك على وسادتك، ستدرك أن الأهم لم يكن ما أنجزته لنفسك، بل كم مرة كنت جسراً لغيرك. كم مرة كنت اللحن الخفي في موسيقى أحدهم، دون أن تطلب الاعتراف بذلك، لأن الحياة، في عمقها، لا تقاس بعدد الخطوات التي خطوتها وحدك، بل بعدد الأقدام التي مشَت بثقة لأنك كنت الطريق.

لا تخف من حاجتك للناس، ولا تستحِ من عطائك لهم، فأنت لم تُخلق مكتفياً، ولم تكن وحدك يوماً. ولعل أعظم قوتك هي أنك لست وحدك، ولم يكن عليك أن تكون كذلك أصلاً.

جهاد غريب 
مايو 2025

الاثنين، 19 مايو 2025

الاعتراف.. اللحظة التي تُغيّر المصائر!


الاعتراف.. اللحظة التي تُغيّر المصائر!

في الصمت الذي يسبق الهمسة، وفي العمق الذي يختبئ وراء حجاب الذرائع، يولد الاعتراف كضوءٍ يعبر شقوق الروح المظلمة؛ ليس مجرد كلمات تُلفظ في لحظة انكسار، بل زلزالٌ يهزّ أركان الذات، يُعيد ترتيب الخريطة الوجودية للإنسان. إنه اللحظة التي يختفي فيها التمثيل، وينكشف الغبار عن المرآة، فنرى أنفسنا كما نحن، لا كما نتمنى أن نكون. 

هنا، في هذا الكشف الصادق، تكمن المفارقة العظيمة: أن نعترف هو أن نتحرر، أن ننكسر هو أن نُصلح، أن نسقط هو أن ننهض من جديد. ففي قلب كل إنسان غرفة صغيرة معتمة لا يدخلها نور إلا حين يُفتح باب الاعتراف، ذلك الموت الوحيد الذي لا نخشاه، بل نشتاق إليه، لأنه موت الوهم الذي كنا نسميه حياتنا، وبعثٌ للحقيقة التي كانت تنتظر تحت الركام.

وحين تُسند ظهرك إلى الجدار لوهلة، لا تفعل ذلك ضعفًا، بل لتجمع القوة للاندفاع من جديد، والاعتراف هو تلك اللحظة التي تسبق القفزة؛ ليست المصائر هي التي تُكتب فقط، بل أنت الذي يُعاد تشكيلك من الداخل، فتُصبح أكثر قربًا من سكينة تستحقها، ومن حياة تنبع من معرفة حقيقية بالله. وما المغفرة إلا نتيجة حتمية لهذا الانحناء الطوعي، لهذا الصدق المقدّس، لهذا الاعتراف الذي لا يُقال للناس، بل يُقال لله وحده.

أن تعترف، هو أن ترى، ولأول مرة، نفسك كما هي، لا كما كنت تزينها لنفسك أو للناس. هناك في تلك اللحظة الفاصلة، لا يحتاج المرء إلى خطب ولا إلى شهود، فالعين تكفي لتشهد، والقلب وحده يكفي ليبكي. وما إن يُنطق الاعتراف، بصوت أو بدعاء أو حتى بندم خفي، حتى تبدأ المصائر بالتبدل. كم من سنوات نضيعها ونحن نهرب من اعتراف يستغرق ثانية واحدة؟ إنها المفارقة التي تحوّل عمرًا من التيه إلى لمحة واحدة من اليقظة.

الله لا يحتاج لاعترافنا كي يعرف، بل نحن من نحتاجه لنعرف أنفسنا. والاعتراف ليس طقسًا شكليًا، بل هو حركةٌ من الأعماق إلى السّماء. إنه الصدق الذي لا يُزيف نفسه بتبرير، ولا يُخفيه خجل، ولا يُشوهه كبرياء. تأمل في الكلمة نفسها: "اعتراف"، تحمل بين حروفها جذور "عرف"، أي المعرفة. 

إنها ليست مجرد بوح، بل كشف لحقيقة داخلية، اعتراف بأن شيئًا ما لم يكن على ما يرام، وأنك رأيته الآن بوضوح. هذا البصر الجديد هو ما يُغيّر المصائر، لا الحدث في ذاته، بل ما يفتحه من أبواب، وما يهدمه من جدران، وما يبنيه من معابر بين القلب والله.

في القرآن، تتدفق آيات المغفرة كأنهارٍ لا تنضب، لكنها تلتقي دائمًا بشرط واحد: "إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا". التوبة هنا ليست مجرّد ندم، بل اعترافٌ يتحول إلى فعل، وكلمةٌ تتحول إلى مسار. حين يعترف الإنسان، فإنه لا يخترق سرًا لله، بل يخترق جدارًا في نفسه. كلما انكسرت أمام الحقيقة ارتفعت، وكلما اعترفت بضعفك قويت، وكلما أذعنت بالذنب تحررت.

ولكن، لماذا تكون هذه اللحظة بالذات هي المفصل الذي يفصل بين مصيرٍ ومصير؟ لأن الاعتراف هو اللحظة التي يموت فيها الكذب الداخلي، ذلك الكائن الطفيلي الذي يتغذى على أعذارنا الواهية. كم من إنسانٍ ظلّ يجرّ أذيال خطاياه سنواتٍ طويلة لأنه لم يجرؤ على قول: "نعم، أخطأت"؟ وكم من علاقاتٍ تحطمت لأن كلمة "آسف" ظلت حبيسةَ الغرور؟ الاعتراف هو الجسر الذي نعبره من عالم التبرير إلى عالم الحقيقة، ومن سجن الماضي إلى فضاء المستقبل.

في قصص الأنبياء والصلحاء نجد بصمات هذه اللحظة المصيرية. آدم عليه السلام، لم يجادل ولم يبرر، بل قال هو وحواء: "رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا"، فكانت تلك الكلمات المدخل الأول إلى الرحمة. وموسى، حين قتل رجلًا خطأ، قال: "رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي"، فلم تكن المغفرة بعد زمن، بل لحظية: "فَغَفَرَ لَهُ". وما بين "اعترفت" و"غُفر"، طريق لا يُقاس بالزمن بل بالصدق. 

فالزمن خدعة إذا ما وُجد الصدق، واللحظة التي تُفتح فيها بوابة القلب لله هي لحظة تُكتب خارج دفاتر الوقت.
إنه السر الذي يجمع النبي التائب والعاصي الندمان، فليس بينهما إلا لحظة اعتراف صادقة جعلت من الخطيئة الأولى سلمًا إلى رحمة أرحم الراحمين. الاعتراف هنا ليس نهاية الطريق، بل هو البذرة التي تُزرع في تربة التوبة، فتنمو منها أغصان المغفرة.

لكن الاعتراف ليس فقط إقرارًا بالذنب، بل هو أيضًا إقرارٌ بالنعمة. أن تعترف بفضل الله عليك هو نوعٌ آخر من التحرر، تحرر من وَهْم الاكتفاء الذاتي، ومن عمى الحقّ. كم من نعمةٍ بين أيدينا لا نراها إلا عندما نعترف بها؟ وكم من قلبٍ ظلّ جافًا لأنه لم يتعلم لغة الشكر؟ الاعتراف بالخير يفتح أبوابًا أخرى للمغفرة، لأنّه يُذكّرنا بأننا دائمًا في حاجةٍ إلى العفو، كما نحن في حاجةٍ إلى الهواء.

أمام هذا كلّه، ما الذي يمنعنا من الاعتراف؟ ربما الخوف من أن نبدو ضعفاء، أو الوهم بأننا نستطيع إصلاح الأخطاء بأخطاء جديدة. لكن الحقيقة التي لا مفرّ منها هي: لا شيء يُضعف الإنسان أكثر من الهروب من الحقيقة، ولا شيء يقويه أكثر من مواجهتها. الاعتراف شجاعة، والشجاعة هي التي تُعيد كتابة المصائر.

فإذا أردت أن تعرف متى يبدأ التغيير الحقيقي في حياتك، فابحث عن تلك اللحظة التي تقف فيها أمام المرآة بلا أقنعة، وتقول بصدق: "هذا أنا.. بعيوبي، بذنوبي، بضعفي، وبإصراري على أن أكون أفضل". عندها، ستسمع همسة المغفرة تُناديك من حيث لا تتوقع: "يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ".

ليس الاعتراف مجرد كلمات تقال، بل هو ذوبان الصقيع عن النافذة التي طالما حجبت عنك ضياء الصباح، حتى إذا انجلت، رأيت أن الباب لم يُغلق أبدًا، بل كان يدعوك طوال الوقت: ادخل، ففي رحاب المغفرة، كل الاعترافات تُقبل، وكل القلوب تُحضن. 

فلا تؤجل تلك اللحظة، ولا تُكثر من الأعذار، لأن المصائر، لا تتغير بصوت مرتفع، بل بصوت خافت يهمس من القلب: "يا رب، أنا أعترف"، وبين الاعتراف والمغفرة، حكاية سرية لا يدركها إلا من جلس صادقًا على عتبة الله، وقال بقلبه قبل لسانه: أنا أعود إليك، فاجعل هذه اللحظة بداية لا نهاية.

جهاد غريب 
مايو 2025

حين يتسلّقون على الحق: صرخة في وجه الزيف!

 
حين يتسلّقون على الحق: صرخة في وجه الزيف!

في زوايا الصمت، حيث يظن البعض أن الكرامة صدى قديم لا يُسمع، يعلو صوت لا يطلب مجدًا ولا منصبًا، بل يطلب أن يُفهم. صوت وُلد من الغضب، لا ذاك الغضب الأرعن الذي يحرق، بل الغضب النبيل، الذي يُضيء. الغضب هنا ليس من جرحٍ شخصي، ولا من ظنٍّ بأن الجميع على خطأ، بل من فئة صغيرة تتحدث باسم الحق وكأن الحروف لا تُكتب إلا بأسمائها، فتشوّه الفهم وتعلو على الآخرين بادعاءٍ لا يسنده جوهر. 

هذا المقال لا يزعم امتلاك الحقيقة، لكنه يعبّر عن غضب لا يمكن كتمه، وصوتٍ أراد أن يُسمَع قبل أن يُطفأ، إنه أقرب لصيحة، وربما لطعنة نور في خاصرة العتمة.

لماذا يظنون أنهم أذكى من الطرف الآخر؟ ما الذي يجعلهم يعتلون النصوص كأنها عروش، يرمون من فوقها بأحكام مصبوبة في قوالب غرورهم؟ يتسلقون على الكلمات كمن يبحث عن علوٍّ زائف، يشيرون بأصابعهم: هذا مصيب، وهذا مخطئ، وكأنهم وحدهم وُهبوا سلطة القضاء على النوايا. 

يرفضون النصيحة، ويطلّون من نوافذ لا تخصهم، يدخلون في شخصية غيرهم لا ليحتضنوها، بل ليحاكموها. وكأن هويتك مشروعهم، وكأن وجودك قابل للتعديل وفق ميزان نظرتهم الضيقة.

ينظرون إلى الآخر كفرصة للتسلق، لا ككائن يشاركهم الحياة. يترصدون اللحظة التي يمكن فيها أن يُسلّط الضوء عليه لا ليحتفوا به، بل ليبدؤوا في تفكيك أشرعة قواربه، تلك القوارب التي لم تكن للنجاة من أحد، بل كانت نجاة من الذات إلى الذات. ومع أنهم يدركون تمامًا أن مسارهم خاطئ، يواصلون العبور فيه، وكأن الحقيقة قد تُولد من عناد التكرار.

نحن نترفع، لا لأننا أضعف، بل لأننا نملك من القيم ما يجعلنا ندرك أن الطين يُمسك بالأقدام حين ندخله. لكنهم لا يرون مستوى أنفسهم، ولا أثوابهم الحقيقية. يتوهّمون أنهم أضواء، بينما هم في الحقيقة ثقوب تُهدر النور من حولها. يُصرّون على إشعال وهجٍ زائف، لا ليضيء طريقًا، بل ليُحرق كل من يقترب، وكأن الاحتراق هو الثمن المفروض للعبور نحوهم، وكأنهم لا يتوهجون إلا بإحراق غيرهم، ولا يرتفعون إلا على رماد من صدّق أن في وهجهم نورًا.

وهنا لا يكمن الخلل في فعلهم وحده، بل في الصمت الذي يحيط بهم، في العيون التي ترى وتشيح، وفي الأكف التي تصفق لا إعجابًا، بل هروبًا من مواجهة الحقيقة.

نقف عند حدود نبيلة، أعراف واضحة، خطوط لا تُمس، لكنهم يتجاوزونها، ثم يطالبون الآخرين بالتقيد بها، وفقًا لأحكامهم غير الناضجة، وتحليلاتهم المسيئة، وتصوراتهم المشوهة!، تلك التناقضات ليست مجرد رأي، بل أداة تخريب. الأخطر أنهم لا يعيشون في فراغ، بل حولهم جمهور، جمهور يصفق، يبرر، وربما يغض الطرف لا حبًا فيهم، بل خوفًا من الحق.

وهنا تبدأ المأساة!، من منحهم هذا الامتداد؟ من سمح لهم بالانتشار كأوبئة أخلاقية؟ من تركهم يعبرون دون أن تهب ريح توقف أشرعتهم؟ حين يشتبك الوهم بالحق أمام جمهور صامت، لا يصرخ، لا يحتج، لا يقف، فإن الوهم سينتصر، لكنه انتصار مجوّف، لا يُثمر، لا يبني، لا يترك أثرًا سوى الندم. سيبقى كالشجرة في الصحراء، ترفع أغصانها في الفراغ، تقاتل من أجل قطرة ماء، لا لتعيش، بل لتبقى في المشهد وحسب.

الغريب أن البعض منهم يغزو الحق بوجه المصلح، ويتكئ على المبادئ بينما يدوسها. أجسامهم ممتلئة على متن سفينة المجتمع، لكن السفينة لا ترحب بهم، وتعلم جيدًا نواياهم، وتخزّن همزاتهم ولمزاتهم، وتفاصيل خطابهم الخادع، لكنها لا تقطع الحبل، وكأن المجتمع صار شاهدًا لا يتدخل، يترك المسرحية تسير، حتى وإن انهار ستار المسرح على رؤوسهم.

إن الخطر لا يكمن في وجودهم وحدهم، بل في أولئك الذين يسكتون، الذين يظنون أن الحياد نجاة، وأن الصمت لا يُدين، وهنا نوجّه الصرخة: لا تساوموا على الحق، ولا تجلسوا في مقاعد الجمهور وأنتم تعلمون أن العرض زائف. أن تكون محايدًا أمام الباطل، يعني أنك تقف ضده، ولكن دون جرأة. أن تصمت في حضرة الفساد، هو أن تمنحه لسانك، وإن سكتّ.

احذروا من التصفيق الزائف، ومن الهتاف لمن لا يستحق، ومن دعم فكرة لمجرد أن القائل يملك جماهير. لا تدعموا إلا من اختبرته المواقف لا الشعارات، من وقف حين جلس الجميع، من قال "لا" حين ارتجف غيره، من كان ضوءًا حقيقيًا لا نيونًا مؤقتًا.

في النهاية، لسنا ضد أحد، بل مع ما يجب أن يكون. هذه ليست ثورة على الأفراد، بل على المفاهيم المعلبة، على التفوق المصطنع، على الزيف الذي يلبس ثوب الإصلاح. هذه صرخة للحق، ودعوة لكل من لا يزال يملك قلبًا حيًّا، أن لا يهادن، أن لا يُهادَن به، وأن يكون حيث يجب أن يكون: في صفّ الصدق، لا الصدى.

جهاد غريب 
مايو 2025

الأحد، 18 مايو 2025

حدائق الكلمات: حين تثمر اللغة طمأنينة القلب!

 
حدائق الكلمات: حين تثمر اللغة طمأنينة القلب!

في كل لقاء إنساني، وفي كل لحظة صمت تسبق الكلام، تُطل الكلمات كما تُطل الزهور من بين الأغصان؛ ناعمة، خفيفة، لكنها تحمل في طيّاتها عوالم كاملة. ليست اللغة مجرّد وسيلة للتواصل، بل هي نبض الروح حين تقرر أن تتجسّد، وحديقة إذا ما رُعيت بالصدق نبتت جمالًا لا يذبل. 

كم مرة سمعنا جملة غيرت اتجاه يومٍ كامل، أو عبارة أعادت لأرواحنا اتزانها بعد أن كانت تميل؟ ليست الكلمات شيئًا نقوله ونمضي، بل هي فعلٌ يظل متغلغلًا في الذاكرة، يسقي بذور العلاقة أو يجففها، يرمم الشروخ أو يوسع الفجوات.

في البداية، كانت الكلمة بذرةً صغيرة تُلقى في تربة الصمت، فإما أن تنمو زهرةً تفوح بالمعنى، أو تذبل في أرض الجفاف. الكلمات ليست حروفًا مجردة تطفو في الهواء، بل هي كائنات حية تتنفس المشاعر، تحمل في طياتها قوة الخلق أو الدمار، البناء أو الهدم. إنها تشبه تلك الحديقة السرية التي نزرعها في قلوب الآخرين دون أن ندري، فإما أن تورق بأزهار الثقة، أو تصبح أرضًا قاحلة تغطيها أشواك سوء الفهم.

إن الكلمة، حين تنبع من صفاء النية، تشبه نسمة تهب في ظهيرة خانقة، لا تغيّر الطقس فحسب، بل تغيّر المزاج الداخلي لكل من تلامسه!، ونحن، إذ نتحدث، لا نوزع أصواتًا فحسب، بل نغرس في قلوب الآخرين ما نكون عليه: صدقنا، إحساسنا، قدرتنا على الاحتواء، أو على العكس، ضيقنا وضجرنا وسذاجتنا المتخفية في عباءة "التعبير عن الذات". 

اللغة ليست محايدة، ولا بريئة، بل تتلوّن بنا، وتخرج من أفواهنا إما مشعة بالحياة، أو مشحونة بما نعجز عن قوله بصدق، وعندما نتأمل كيف تُشكل الكلمات تجاربنا، ندرك أنها ليست وسيلة نقل فحسب، بل هي عدسة نرى من خلالها العالم، ونُرى بها أيضًا. كل عبارة ننطقها تحفر أثرًا في ذاكرة من يسمعها، كالنقش على الحجر، يصعب محوه بسهولة. 

هناك كلمات تُشفي الجروح مثل ندى الصباح، وأخرى تُحدث شقوقًا عميقة كالسكين، ولعل هذا هو السر الذي يجعلنا نختار ألفاظنا بحذر، كمن يقطف زهرةً من حديقة الروح ليهديها لآخر، عارفًا أن رائحتها ستبقى عالقة في ذاكرته طويلًا.

ثمة كلمات لا تموت، وأخرى لا تُغفر. كم من جملة قيلت عرضًا، ولكنها علقت في ذاكرة الآخر كأنها وُلدت لتبقى؟ وكم من صمت كان أنبل من قول أخرق؟ أحيانًا لا تكون الحكمة في ما يُقال، بل في ما يُترك دون قول، في تلك المساحة التي تتيح للآخر أن يشعر دون أن يُدفع، أن يقترب دون أن يُسحب، أن يفهم دون أن يُلقّن. 

الصمت، حين يكون نابعًا من وعي، هو تربة خصبة للكلمات القادمة، يمهّد لها، يرفع قيمتها، ويجعل منها لحظة ضوء لا لحظة ضجيج، وما أجمل تلك اللحظات التي تتحول فيها الكلمات إلى جسورٍ من نور، تربط بين شطآن الوحدة وتُذيب جليد العزلة. 

كلمة صادقة قد تكون المنقذ من دوامة الصمت القاسي، أو الشمعة التي تضيء زاوية مظلمة في قلب إنسان، لكن الفن الحقيقي ليس في الكلام وحده، بل في معرفة متى ننطق، ومتى نسكت، فالصمت أحيانًا يكون لغةً أخرى، أعمق وأكثر بلاغة، كالفراغ بين النوتات الموسيقية الذي يُكمل سيمفونية المشاعر، إنه ذلك الحيز الذي تهيئه النفس لاستقبال كلمات أكثر نضجًا، كالأرض التي تُترك لترتاح قبل أن تُزرع من جديد.

لكن ما الذي يجعل الكلمة نقية؟ أهو صدقها؟ بساطتها؟ توقيتها؟ لعل النقاء لا يكون في الكلمة نفسها، بل في اليد التي تقطفها من شجرة الروح لتقدّمها للآخر. ثمة كلمات قصيرة لكنها تُحدث أثرًا عميقًا، لا لأنها بليغة، بل لأنها صادقة تمامًا، لا تشوبها رغبة في التزييف أو التجميل، وحين تخرج الكلمة النقية، فإنها لا تقف عند حدود الأذن، بل تدخل القلب، وتستقر في مكان دافئ يشبه لحظة صفاء نادرة في خضم الحياة. 

هل ندرك دائمًا ثقل الكلمات التي نحملها على ألسنتنا؟ التاريخ يخبرنا أن الحضارات ارتفعت بسواعد الكلام، وسقطت بسيوف اللسان. الكلمة الطيبة قد تصنع سلامًا، والكلمة الجارحة قد تشعل حربًا. والأخلاق هنا ليست مجرد قواعد، بل بوصلة نوجه بها كلماتنا كي لا تضل الطريق إلى القلوب. فما نعتبره نحن مجرد تعبير عابر، قد يكون في نظر الآخرين وعدًا، أو جرحًا، أو حتى مصيرًا.

اللغة بهذا المعنى ليست فقط أداة للتعبير، بل هي أداة للفعل. الكلمة قد تحرّك أمة، تُشعل ثورة، تُنقذ روحًا، أو تُدمّر قلبًا. وقد قيل قديمًا: "جراح السنان تلتئم، وما جرح اللسان لا يبرأ". إن للكلمة أحيانًا وقع السيف، وأحيانًا نفَس الأم، وأحيانًا صفعة الصديق. إنها في جوهرها ليست مجرد طنين، بل مسؤولية. والحديث عن الأبعاد الأخلاقية للكلمات ليس رفاهية فكرية، بل ضرورة وجودية؛ لأننا حين نتحدث، فإننا نوقظ شيئًا في الآخر، نحرّكه، نضعه على سكة قد لا يعود منها أبدًا. 

وإذا كانت الكلمات مرايا تعكس أزمنةً وأماكن، فهي أيضًا تتحول معها، كالنهر الذي يجري فيغير مجراه، لكنه يبقى نهرًا، فمعانيها تتسع وتضيق بحسب السياق، كالوردة التي قد تكون في عينٍ رمزًا للحب، وفي عين أخرى ذكرى للألم، وهذا التحول الدلالي ليس ضعفًا في اللغة، بل دليل على حيويتها، وقدرتها على التكيف مع نبض الحياة المتغير.

وللكلمات أيضًا ذاكرة!، تتغير معانيها كما يتغير الإنسان، وتتحوّل من رموز بريئة إلى أدوات معقدة في خضم التاريخ. كلمة "حب" مثلًا، لم تعد تحمل ذات البراءة الأولى التي كانت تعنيها في قصائد الجاهليين، ولا ذات الرهافة التي حملتها في مراسلات الغرام القديمة!، لقد تغلفت بالسخرية أحيانًا، وبالابتذال أحيانًا أخرى، وصارت تخضع لسياق العصر، وثقافة الاستهلاك، وهموم العلاقات العابرة. 

لكن رغم ذلك، تبقى هناك كلمات نجت من التلوث، تظل نقية كأنها خرجت توا من فم الحقيقة، وفي النهاية، قد نكتشف أن أجمل ما في الكلمات ليس بلاغتها، بل نقاءها. ليس بهاءها، بل صدقها، ورغم تعقيد اللغة، تبقى البساطة جوهرها الأسمى، فحين نستطيع أن نقول ما نشعر به دون تنميق زائف، دون محاولة إبهار، نكون قد اقتربنا من حدائق الروح، من تلك المساحة التي تنبت فيها الكلمات الطيبة كما تنبت الأزهار في تربة خصبة. 

الكلمة الطيبة ليست مجرد أدب، بل هي رعاية، وكما تُسقى النباتات بماء نقي لتزهر، تُسقى العلاقات بالكلمات النقية لتثمر تفاهمًا، وثقة، وطمأنينة، وربما تكون أعظم حكمة نتعلمها هي أن نزرع كلماتنا كالبستاني الحكيم: نختار بذورنا بعناية، نرويها بالحب، وننتظر بصبر حتى تثمر أمانًا وبهاءً. لأن الكلمة النقية ليست مجرد صوت يذهب مع الريح، بل هي بصمة تبقى في القلب، كعطر الزهر الذي يظل عالقًا في اليد، حتى بعد ذبولها.

إننا نحتاج، في هذا العصر المتخم بالثرثرة، أن نتعلم الصمت من جديد، لا كنوع من العزلة، بل كمقدمة للصوت الأجمل، وأن نراجع علاقتنا بالكلام، ليس فقط في علاقاتنا الحميمة، بل في كل تواصل يحدث بيننا وبين العالم. أن نسأل أنفسنا: هل كانت كلمتي جسرًا أم جدارًا؟ هل كانت عزاءً أم عبئًا؟ لأننا، شئنا أم أبينا، نترك بالكلمات آثارًا تشبه الخطى على الرمال، قد تُمحى، وقد تبقى حتى بعد غيابنا. 

الكلمات ليست فقط ما نقوله، بل هي ما نصبح عليه، هي نحن حين نقرر أن نخرج من داخلنا لنلمس العالم، فلتكن كلماتنا حدائق لا حقول ألغام، وأغانٍ لا رصاص، وجسورًا لا متاريس. دعونا نزرع في من نحب ما يزهر فيهم بعد غيابنا، لا ما يذبل بهم كلما تذكرونا، لأن الكلمة، حين تُقال بنقاء، تُصبح حضورًا ممتدًا حتى بعد أن يسكت الصوت.

جهاد غريب 
مايو 2025

السبت، 17 مايو 2025

اجتماعات بلا روح: حين يصبح اللقاء وهمًا والحقيقة غريبة!

 
اجتماعات بلا روح: حين يصبح اللقاء وهمًا والحقيقة غريبة!

ما قيمةُ اللقاء إذا تحوّل إلى مسرحٍ للنفاق، حيث تُختزل الحقيقةُ إلى مجرّد ظلٍّ خجولٍ، وتُستبدل بالكلمات المزيّفة وابتساماتٍ لا تعبر إلا عن الخوف؟ لماذا نُصرّ على الاجتماع ونحن نعلم أن الحقَّ يُغتال بصمتنا، وأن الجهلَ يُكافأ بمجاملاتنا؟ أليس في ذلك سقوطٌ أخلاقيٌّ يُضاعف من شرخِ الواقع ويُعمّق جراحَ الضمير؟ 

انتقلنا من زمنٍ كان اللقاءُ فيه مناسبةً للتنوير والتقويم، إلى زمنٍ صار فيه التجمعُ وكرًا للجهل المُقدَّس. نُهادنُ الغباءَ المتغطرس، ونُزيّنُ العنفَ المُمارسَ باسم "البراءة"، وكأننا نُبارك الانحدارَ بدلَ أن نرفضه. فهل يُعقل أن يُمنح الجاهلُ أكثرَ مما يستحق، بينما يُدفن الحقُّ تحت ركامِ المجاملات؟ 

أيُّ معنى يبقى للحديث إذا كان الحاضرون يخافون كلمة "أخطأت" أكثرَ من خوفهم من الخطأ نفسه؟ لماذا يتحوّل الجمهورُ إلى خائنٍ للحقيقة حين يختار الصمتَ عن الباطل، أو الأسوأَ – يضحكُ له؟ أليس من العار أن تتحكّم نزواتُ الجاهلِ في مصيرِ الحوار، بينما تُقصى حكمةُ العاقلِ كما يُقصى ثوبٌ بالٍ؟ 

هنا تكمن المأساة: نحن نعرفُ الحقيقةَ جيدًا، لكننا نرتعبُ من مواجهتها. نُفضلُ الهمسَ في الظلام على الصراخِ في النور، وكأنَّ في الصدقِ جريمةً، وفي النفاقِ فضيلةً! فمتى ندرك أن السكوتَ عن الخطأ ليس أدبًا، بل تواطؤٌ؟ ومتى نعتبر أن قولَ "كفى" ليس جرأةً زائدةً، بل واجبٌ إنسانيٌّ؟ 

تخيّلوا معي: اجتماعًا يتحوّل إلى محكمةٍ صامتةٍ، حيث يُحاكمُ المنطقُ ويُبرَّأ الجهلُ. كلُّ خطأٍ يُكرَّر باسم "القرابة"، وكلُّ مجاملةٍ تُقدَّم تحت شعار "الألفة"، حتى صرنا نُثقل صحائفَ أعمالنا بسيئاتٍ نعرفها جيدًا، لكننا نغضُّ الطرف عنها. فهل هذه هي "العائلة" التي نريد؟ وهل هذه هي "العلاقات" التي تستحقُّ البقاء؟ 

الحقيقةُ الآن كعجوزٍ وحيدةٍ، تقفُ في زاويةِ المجلس، تنظرُ حولها فلا تجدُ من يحملُ عنها عبءَ كلمتها. نحنُ نراها، لكننا نتجاهلها. نعرفُ أنها على حقٍّ، لكننا نخافُ من ثمنِ الوقوفِ إلى جانبها. فهل سنظلُّ نُضحي بالحقِّ على مذبحِ "السلامة الاجتماعية"، أم سنكسرُ القيودَ ونرفعُ صوتَ الحكمةِ قبلَ أن يطغى صمتُنا على كلِّ شيء؟ 

إذا كان الاجتماعُ يعني أن نُغمضَ أعيننا عن الضلال، ونفتحَ قلوبنا للزيف، فليكن التفرُّقُ فضيلةً ننشدها. وإذا كان الصمتُ يعني أن نُسلّمَ بالباطل، فليكن الغيابُ احتجاجًا نعتزُّ به، لأنَّ بعضَ اللقاءاتِ ليست سوى مقابرَ للضمير، وبعضَ البُعدِ قد يكونُ أصدقَ تعبيرًا عن الحبِّ والحقيقة. فاخترْ موقفَكَ بعناية، فليس كلُّ ما يُسمى "اجتماعًا" يُحيي، وليس كلُّ "فراقٍ" يقتل.

جهاد غريب 
مايو 2025

الصمتُ والكلمة: رحلةٌ بينَ الغيابِ والحضور!

 
الصمتُ والكلمة: رحلةٌ بينَ الغيابِ والحضور!

عندما يُرخي الصمتُ سدولَه، لا يأتي بلونٍ واحدٍ ولا نكهةٍ واحدةٍ؛ فأحيانًا يكون كستارةٍ تُسدل على مشهدٍ نريد استكماله، لكنّ الكلمات تهرب منّا كالفراشاتِ الخائفة، وأحيانًا يهبط كصخرةٍ على الصدر، نختنق تحتها دون أن نجد صوتًا يُنقذنا.
وفي لحظاتٍ أخرى، يصير لغةً خفيّةً تُعلنُ ما لا يُقال: احتجاجًا صامتًا أو انسحابًا هادئًا من ساحة المعركة. لكنّ أخطرَ وجوهِه ذلك الذي يتركك حائرًا: أهو غضبٌ أم حزنٌ؟ أهي خيبةٌ أم مجرّدُ رحيلٍ داخليٍّ بلا وداع؟

وفي خضمّ هذا الصمت، لم أتوقّف عن الإيمان بصواب موقفي؛ فالحقُّ ليس كلمةً تُقالُ ثمّ تتبخّر، بل هو شجرةٌ تنمو في أعماق الروح، جذرًا بعد جذر. قد يُغلق البابُ عليه مؤقتًا، لكنّه لا يختفي، كشمعةٍ تتلألأ في غرفةٍ مظلمةٍ رغم كلّ شيء! لكنّ الألمَ الحقيقيّ ليس في الصمت نفسه، بل في تلك الهوّةِ السحيقة بين الكلمةِ والفعل؛ فكم من وعودٍ تُنسجُ بشفاهٍ مبتسمةٍ، ثمّ تتحوّل إلى قبضةٍ مُطبقةٍ على الفراغ، كأنّها خيانةٌ مُقنَّعة بثوبِ الصمت!

وهنا تطفو الخيبةُ، لا كمجردِ حزنٍ عابرٍ، بل كطعنةٍ تنغرسُ في الكرامةِ والثقة! فما أقسى أن تبني جسرًا من الأمل، ثمّ تجدُ الطرفَ الآخرَ قد هدمَ أساسَه بصمتِه! لكنّ الحياةَ لا تكفُّ عن اختبارنا، وكأنّها تقول: "هل أنت مستعدٌ لأن تحملَ عبءَ الحقيقة وحدك؟"

وحين يأتي النصحُ، لا أتلقّاه كسيلٍ من الكلمات الجوفاء، بل أضعهُ في بوتقةِ العقلِ والقلب معًا؛ فهناك نصيحةٌ تشبهُ البلّور النقي، تلمعُ بنقاءٍ فتحملها بين ضلوعك ككنزٍ ثمين، وأخرى مشوبةٌ بالشكّ، تُلقى كالحجارةِ في الماء، فتثيرُ الوحلَ ولا تُنيرُ الطريق. وليس كلُّ صامتٍ مذنبًا ولا كلُّ ناصحٍ مخلصًا؛ فبعضُ النصائحِ تُرهقُ الروحَ لأنّها تُقالُ لا لإصلاحِ القلب، بل لفرضِ السيطرة! ورغم ذلك، ما زال قلبي يتّسعُ لكلّ يدٍ تمتدُّ بخير، لكنّ عقلي يحملُ مطرقةَ المساءلة: "من أينَ أتيتَ بهذه الحكمة؟ ولماذا الآن؟"

ستأتي الأيامُ كالسيل العاتي، لا تُبالِي بمن يقفُ في طريقها؛ ستحملُ في جعبتها تحدّياتٍ كالحجارةِ الثقيلة، وقراراتٍ مرةً كالدواء! لكنّي أرنو إليها كفجرٍ جديد، فرصةٍ لتحريرِ الكلماتِ التي تعفّنت في حلقومِ الصمت، كلماتٍ صارت كالأوراقِ المبلّلة تحت المطر، لا تُصلحُ للقراءةِ ولا للاشتعال! سأواجهُ العواصفَ كما تواجهُ الشجرةُ الرياحَ العاتية: أنحني لكنّي لا أنكسر؛ فما يحمله صدري ليس شظيّةً فحسب، بل بذرةٌ من يقينٍ لن تموت.

سأظلُّ أبحِرُ في هذا البحرِ الهائج، حتّى لو تكسّر شراعي وحتى لو تلاطمت أمواجُ الشكِّ حولي! سأرفعُ رايةَ الحقِّ بيدٍ، وأمسكُ مجدافَ الإرادةِ باليدِ الأخرى. لستُ وحيدًا لأنّي اخترتُ الوحدة، بل لأنّي لم أجدْ قلبًا يشاركني الإبحارَ دونَ شروط! وإنْ كان الثمنُ أن أكونَ آخرَ من يقفُ وآخرَ من يتكلّم، فليكن؛ فالشاطئُ الذي أنظرُ إليه ليس وهمًا، بل هو إثباتٌ أنَّ الصمتَ لم يقتلْ كلمتي، وأنّي — رغم كلّ شيء — صادقٌ مع نفسي.

هكذا تُكتَبُ الحياةُ: بأحرفٍ من صمتٍ وكلام، وبسطورٍ من جراحٍ وإيمان؛ فليكنْ صمتُنا صوتًا للحكمة، وكلامُنا نورًا للحقّ.

جهاد غريب
مايو 2025

الأربعاء، 14 مايو 2025

أبوابُ الوجود.. ومفاتيحُ الروح التي تَضيعُ بين النسيانِ والحكمة!

 
أبوابُ الوجود.. ومفاتيحُ الروح التي تَضيعُ بين النسيانِ والحكمة!

الحياةُ سلسلةٌ لا تنتهي من الأبواب؛ بعضُها يُفتحُ على مَراتِفَ من الضوء، وبعضُها يُوصدُ بإحكامٍ كأنما خلفَه عالَمٌ لم يَكُنْ! ونحنُ، في زحمةِ هذا الوجود، نجدُ أنفسَنا أحيانًا أمامَ خيارٍ وحيد: أن نَدفعَ البابَ بقوةٍ حتى يُطبقَ على ما وراءَه، ثم نَنسى - أو نُظهِرُ النسيان - أينَ رمينا مفاتيحَه. "لا أكره أحدًا"، هكذا نُرددُ في صمت، بينما نُراقبُ ظلَّنا يتسللُ من تحتِ بابٍ أغلقناه ذاتَ خيبة. لم يكُنِ الإغلاقُ فعلًا متهورًا، بل أشبه بمراسمِ وداعٍ صامتة تُعلنُ نهايةَ موسم.

الحياة ليست أكثر من ممر طويل تصطف على جانبيه أبواب كثيرة؛ بعضها يُفضي إلى الضوء، وبعضها يخفي خلفه ما نخشى النظر إليه، ومع توالي الخطى، نصبح أكثر حذرًا، أكثر انتقائية، وأكثر قسوة على ما كان يومًا دافئًا!؛ هناك أبواب نغلقها في لحظة، لا لشيء إلا لأننا تعبنا من طرقها عبثًا، وأخرى نغلقها على مهل، كأننا نخيط جرحًا بأصابع مرتجفة، نُراهن على ألا ينفتح ثانية.

في داخلنا غرفٌ كثيرة؛ بعضُها لا ندخله إلا ونحنُ نحملُ ألمًا لا صوتَ له!؛ هناك، نُمارسُ طقوسَ الإغلاقِ بهدوء، نَطوي الرسائلَ، نُطفئ الأنوارَ، ونخرجُ بصمت، وكأننا نعلمُ أن العودةَ ستكونُ انتهاكًا لسلامٍ استعدناه بشقِّ الأنفس. نُغلق البابَ لا لننسى، بل لننجوَ؛ لكنَّ النسيانَ الذي يليه لا يزورُنا كالضيوف، بل يسرقُ المفاتيحَ بهدوء. نخرجُ من اللحظةِ وننسى كيف نعود؛ ربما لأن الرجوعَ يتطلبُ شجاعةً لا نملكها بعدَ الجراح.

وليس الإغلاق دائمًا نابعًا من حسمٍ أو وعي، بل أحيانًا يكون حيلة دفاعية، كأننا نكمم أفواه الذكريات كي لا تُحدثنا كثيرًا، وبعض الأبواب لا نغلقها وحدنا، بل تُغلقها الحياة نيابةً عنا، ثم تتركنا نبحث عن المفاتيح في جيوب مهترئة من الندم. 

الأبوابُ ليست خشبًا ومقابضَ فحسب، بل مواقفُ ومشاعرُ وأسماءٌ كانت يومًا تعني لنا أكثرَ مما نعترف!؛ هناك بابٌ أُغلق بعدَ وداعٍ لم يكتمل، وآخرُ أُغلق بصوتٍ عالٍ إثرَ خذلان، وثالثٌ ما زالَ نصفَ مفتوح، لا لشيء إلا لأننا ترددنا في إغلاقه تمامًا، وكأن في داخلهِ ما لم نستطع قولَه، وما لا نحتملُ نسيانَه! والإغلاقُ هنا ليس قسوةً، بل ضربٌ من التضميدِ الذاتي؛ القلبُ حين يتعبُ لا يبحثُ عن زائرين جدد، بل عن عزلةٍ تُشبهُ الحِماية.

الغريب في الأمر أننا لا نكره أحدًا، بل نكره الأثر الذي خلّفه فينا!؛ نغلق الأبواب ليس لأن الآخر لا يستحق، بل لأننا لم نعد نحتمل هذا التواطؤ بين الأمل والخذلان!؛ بعض العلاقات تصبح مثل النوافذ في شتاءٍ طويل، لا تفتح إلا لتدع البرد يعبر، ولا تُغلق إلا بعد أن يُصيبك التيار. 

والأدهى من الإغلاقِ نفسِه، أن ننسى المفاتيحَ؛ أن نمضي في الحياةِ كمن لا يتذكرُ موقعَ البابِ أصلًا. هل هو نسيانٌ حقيقي؟ أم هروبٌ متقنٌ من احتمالاتٍ قد تجرُّنا إلى الندم؟ لا نعلم؛ لكننا نُدركُ متأخرين أننا في لحظةِ صفاء، نحتاجُ أن نعود، لا لنفتحَ الباب، بل لنعانقَ الذاتَ التي أغلقته. نبحثُ عن المفاتيح، فنجدُها مفقودةً تحتَ ركامِ محاولاتِ النسيان.

النسيان هنا ليس غيابًا، بل هو شكلٌ من أشكال البقاء؛ هو درع من حرير نرتديه لنتجاوز مشهدًا لا نريد إعادة عرضه. ننسى، لا لأن الذكرى ضعيفة، بل لأننا لو تذكرنا لارتعشت أيدينا على مقابض تلك الأبواب، وترددنا أمام العودة، رغم يقيننا أن الداخل لم يعد كما تركناه!؛ وليس كلُّ من نغلقُ بابنا في وجهِه عدوًا؛ أحيانًا نغلقه لأن البقاءَ يؤلمُ أكثرَ من الغياب، لأن الكلماتِ تتعفنُ في الحلق، ولأن النظراتِ فقدت بريقَها. نغلقه حفاظًا على ما تبقى من احترام، على ما تبقى من أنفسنا.

أحيانًا ننسى المفاتيح عن عمد، وأحيانًا نرميها في غفلة منا في بحر اللاعودة. الإغلاق فنٌّ دقيق، لكنه موجِع؛ كأنك تحاول أن تخيط جرحًا بإبرة من ذهب، والذهب ثقيل على اللحم الطري. لا يريد القلب أن يظل مشرعًا لرياح الأسى، لكنه أيضًا لا يجيد الإغلاق الكامل؛ يترك فجوة صغيرة، تسرب صوتًا أو ذكرى، وربما اسمًا عالقًا في الزاوية المعتمة من الحنين. 

لكنَّ المفارقةَ الأعمقَ تكمنُ هنا: بعضُ الأبوابِ حين تُغلقُ تمنحُنا راحة، وأخرى تتركُ خلفَها صدًى لا ينطفئ. نغلقها كمن يضعُ حدًا للفوضى، لكنَّ الفوضى الحقيقيةَ هي في داخلنا، حيثُ تئنُّ الأسئلةُ وتدقُّ مشاعرُ لم تجدْ مخرجًا. في الليلِ، حين ينامُ العالمُ على أكتافِ الظلام، تهمسُ تلك الأبوابُ المغلقةُ في ذاكرةِ الروح، تذكّرنا بأن ما أغلقناه لا ينتهي، بل يتحوّلُ إلى صدى، إلى ظلٍّ يتبعنا.

وفي لحظة ما، نُدرك أننا لا نُغلق الأبواب لحماية أنفسنا فقط، بل لأننا نخجل من اعتراف مؤجل: أنّ بعض المفاتيح كانت خطأً من البداية، أو أن الباب لم يكن لنا أصلًا. نغلق الأبواب أحيانًا لأن صوتها وهي توصد يمنحنا شعورًا بالسيطرة، حتى وإن كان زائفًا. 

هناك من يحتفظُ بنسخةٍ للمفتاح، يضعها في درجٍ لا ينساه. وهناك من ينسخُ المفتاحَ في قلبه، ينتظرُ موسمَ الصفحِ أو لحظةَ إدراك، وهناك من لا ينسى، بل يتناسى، ويمضي. فهل النسيانُ رحمة؟ أم خيانةٌ لذاكرةٍ ما زالت تنبض؟ الحقيقةُ أننا لا نغلقُ الأبوابَ دائمًا بسببِ الآخرين، بل أحيانًا لنحميَهم منّا، أو لنحميَ أنفسَنا منهم؛ وفي كلا الحالتين، نخسرُ شيئًا لا نستطيعُ تسميتَه، شيئًا يشبهُ قطعةً من ضوءِنا الداخلي.

لكن هل إغلاق الأبواب يعني النهاية؟ ليس بالضرورة! فبعض الأبواب وُجدت لتُغلق، وبعض المفاتيح لا نحتاجها إلا لطمأنة أنفسنا أننا نستطيع العودة، حتى لو لم نعد نريد ذلك، ربما نضعها تحت وسادتنا، لا لنستخدمها، بل لنحلم بأننا ما زلنا نملك الخيار. 

من يملكُ مفاتيحَ ماضيه، يملكُ القدرةَ على فهمِ حاضره، أما من نسي مفاتيحَه، فيعيشُ على حافةِ ذاكرةٍ مبتورة، حيثُ لا تنبتُ أشجارُ المصالحة، بل أعشابٌ يابسةٌ من الأسى القديم. النسيانُ خيارٌ باهظ، ندفعُ ثمنَه على أقساط: فراغٌ في الصدرِ حين نسمعُ لحنًا مألوفًا، أو رجفةٌ في اليدِ حين نمرُّ بشارعٍ مررنا به مع من رحلوا.

ومع الوقت، نتعلم أن لا أحد يخرج من قصة كما دخلها، وأن إغلاق الباب لا يعني بالضرورة أننا أقوياء، بل أننا أرهقنا المحاولة. في عمق كل قرار إغلاق، ظلٌّ من رجاء قديم، وخوفٌ من مرآة نُواجه بها أنفسنا. 

لكنَّ الحياةَ، في حكمتها الصامتة، تتركُ لنا دائمًا مساحةً للعودة؛ لا لِنفتحَ الأبوابَ من جديد، بل لنفهمَ لماذا أغلقناها، فالحكمةُ الحقيقيةُ ليست في الإغلاقِ أو النسيان، بل في أن نعرفَ متى نُغلق، ومتى نُبقي المفتاحَ في جيبنا كإمكانيةٍ للغفران. وحدها القلوبُ التي اختبرتْ وجعَ الأبوابِ الموصدةِ تعرفُ أن السَّماءَ لا تمطرُ مفاتيحَ، لكنَّ الوقتَ قد يُعلّمنا كيف نصنعُ أخرى من رمادِ الذكريات.

وفي خضم كل هذا، تظهر تلك الفكرة العميقة: الفرق بين مَن يعيشون ومَن يموتون داخليًا هو ذلك الخيط الرفيع بين الإغلاق كضرورة، والنسيان كاستسلام. كثيرون يغلقون، لكن القليل فقط يحتفظون بالمفتاح لاستخدامه بوعي لا بضعف.
لا بأس إن تركت الباب موصدًا، بشرط أن تعرف في أعماقك أنك لم تعد تريده مفتوحًا؛ فتذكر أن بعض الأبواب لا تحتاج إلى مفاتيح لتُفتح، بل إلى قلبٍ يعرف أن ما وراءها لم يعد كما كان، أو كما تخيلناه. 

وفي النهاية، لا تندم على باب أغلقته ذات وعي، لكن تذكّر دائمًا: حتى أكثر الأبواب إحكامًا لا يُسكت تمامًا صوت ما خلفه... إنما نحن من نتعلم، بمرور الوقت، أن لا نصغي كثيرًا، لأن السلام لا يعني أن تُغلق كل الأبواب، بل أن تعرف أيها يستحق أن يُترك خلفك دون أن تلتفت.

جهاد غريب 
مايو 2025

الاثنين، 12 مايو 2025

رقصة المجاملات بين الأصالة والتصنع!

 
رقصة المجاملات بين الأصالة والتصنع!

في عالمٍ تكثر فيه الأقنعة الاجتماعية، تتحوّل الابتسامات أحيانًا إلى عملاتٍ نتداولها في تعاملاتنا اليومية؛ نُجامل كمن يزرع بذورًا في تربةٍ غير خصبة، قد تنمو فيها العلاقات، لكنها نادرًا ما تُثمر ثقةً حقيقية. المجاملة الصادقة لا تحتاج إلى تبرير، أما تلك التي نُخرجها من مخزن العادات الاجتماعية دون حاجةٍ حقيقية، فقد تتحوّل إلى عادةٍ تفرغ الكلمات من معناها. ولعلّ ما يؤكد ذلك أن الدماغ يميّز بسهولة بين الكلمات الصادقة وتلك المنطوقة بدافع الواجب الاجتماعي.

وليست كل ابتسامةٍ زهرةً تتفتح في حديقة الروح؛ فبعضها مجرد حركة عضلية تفتقر إلى الدفء. لغة الجسد تمثّل 55% من تأثير التواصل، بينما تبقى الكلمات في المرتبة الثانية. حين تُجامل من لا يحتاج إلى مجاملتك، فإنك لا تقدم له هديةً، بقدر ما تقدم له لغزًا يحاول فك شفرته. وحتى الابتسامة الصادقة قد تفقد بريقها إذا قُدِّمت في غير موضعها، كعملةٍ حقيقية تُقلَّب بين الأصابع بشك.

ومن هنا تبدأ المشكلة الحقيقية عندما نُفرط في استخدام المجاملات؛ فكلما بالغنا فيها، خسرنا جزءًا من مصداقيتنا. الإفراط في المجاملة يُضعف الهوية الشخصية، ويجعل المواقف غامضة لمن حولك، ويصبح صوتك كصدى بعيدٍ لا يعرف أحد مدى صدقه، كالطائر الذي يُكرر الألحان دون أن يفهم معانيها. أحيانًا نجد أنفسنا نردد العبارات الجاهزة دون اكتراث. المشكلة ليست في المجاملة ذاتها، بل في تحوّلها إلى ردّ فعلٍ آلي يشبه "الوجبة السريعة": لذيذة المذاق، لكنها تفتقر إلى القيمة الغذائية.

غير أن الجانب المضيء يتمثّل في إمكانية إيجاد توازنٍ داخلي. فالوضوح اللطيف هو الفن الحقيقي: أن تعرف متى تصمت، ومتى تتكلم، ومتى تبتسم لأن القلب يريد، لا لأن الموقف يتطلب. تشير الدراسات إلى أن الأشخاص الأكثر صدقًا يتمتعون بعلاقاتٍ أعمق وأقل توترًا.

هذا التوازن يشبه "فن البونساي" الذي يجمع بين التقليم والنمو، بين الشكل والجوهر. وحين تكون صادقًا مع نفسك أولًا، تُعلِّم الآخرين ألا يتوقعوا منك سوى الحقيقة الممزوجة باللباقة. الفرق بين المجاملة واللطف الحقيقي كالفرق بين "الوردة الاصطناعية" و"الوردة الطبيعية": كلتاهما جميلة، لكن واحدة فقط تنمو وتتغير وتتفاعل مع الحياة.

ومع مرور الوقت، غالبًا ما نكتشف أننا أفرطنا في المجاملات، كمن يبحث عن بوصلته بعد أن يكون قد سار في الطريق الخطأ. وقد تكون المجاملة أحيانًا كالدواء الذي يُستخدم عند الحاجة، لكنها تتحوّل إلى عادةٍ ضارة عندما تصبح أسلوب حياة. لا بأس بمجاملةٍ تصدر عن طيب خاطر، لكن المشكلة تبدأ عندما تصبح اللغة الوحيدة التي نتحدث بها. التكرار العاطفي للمجاملات يبرمج الدماغ على الاستجابة السطحية بدلًا من التفاعل العميق.

وهكذا، يتضح في النهاية أن الحياة ليست معادلةً صعبة بين الصدق المطلق والمجاملة الدائمة؛ كن كالشجرة التي تميل مع الرياح لكنها تبقى ثابتة الجذور، واضحًا في تعابيرك، لكن لطيفًا في أسلوبك. فأجمل ما في الإنسان ليس صراحته الجافة ولا مجاملته الزائدة، بل تلك المساحة الراقية التي تلتقي فيها الأصالة باللباقة، في رقصةٍ متناغمة تخلق توازنًا جميلًا بين قول الحقيقة وحفظ المشاعر.

ولهذا، أؤمن أن أجمل الحوارات التي نخوضها في الحياة، ليست تلك التي نُجامل فيها، بل تلك التي نُحسن فيها الصدق دون أن نجرح، ونُهدي فيها الحقيقة كما تُهدى زهرة، برفق ووعي ومحبة.

جهاد غريب 
مايو 2025

الأحد، 11 مايو 2025

حين يوقظ الضوء رعشة القلب!


حين يوقظ الضوء رعشة القلب!

أحيانًا نلتقي بأشخاصٍ لا لنكمل معهم الطريق، بل لنغيّر وجهته؛ لا ليبقوا، بل ليدفعونا بعيدًا عن أماكن لم نكن نعلم أننا عالقون فيها؛ نلتقي بهم فجأة، في لحظة هشّة من عمرنا، فنشعر كأنهم النبض الوحيد المنتبه لوجودنا، وكأن الحياة كانت تنتظرهم لتبدأ من جديد.

هؤلاء الأشخاص لا يدخلون حياتنا، بل يقتحمونها اقتحامًا ناعمًا!؛ يشبهون الضوء حين ينسكب من نافذة صغيرة في غرفة مظلمة؛ لا يُحدثون جلبة، لكنهم يكشفون كل شيء، وفجأة، تبدأ في رؤية نفسك بشكل مختلف، لا لأنهم قدموا لك مرآة، بل لأن حضورهم نفسه يعيد ترتيب صورتك في عينيك.

في البدء، لم تكن هناك كلمة تُقال، بل رعشة، رعشةٌ خافتة كالندى حين يهمس للفجر بأن يتهيأ!؛ لم يكن في القلب سوى شوق لم تُبتكر له لغة بعد، شوقٌ يسري كنبضٍ لا يُرى، يسبق الحرف، ويوقظ في الروح توقًا لا يُفَسَّر، كما لو أن العالم في تلك اللحظة كان يتنفس أول شهقة من هواء الخلق.

ومع الوقت، تكتشف أنهم لا يقولون لك من تكون، لكنك بجوارهم تعرف؛ لا يطلبون منك أن تتغير، لكنك تتبدّل؛ تتفتح داخلك مساحات ما كنت تعلم بوجودها، وتسمع في صوتك نبرة لم تألفها من قبل، كأنك كنت باردًا فاشتعلت، وكأنك كنت صامتًا فغنّيت.

وربما تظن في البداية أن الأمر مجرد إعجاب، أو ربما انجذاب مؤقت، لكنّ ما يحدث أعمق من ذلك؛ لأنهم لا يربكون جدولك اليومي، بل يربكون ترتيبك الداخلي؛ يشبهون الزلازل الصغيرة التي لا تهدم، لكنها تترك الشقوق واضحة على الجدران؛ تتذكرهم حين تنظر للزوايا التي لم تكن تراها، وتلمس الأماكن التي أصبحت تؤلمك بعدهم، رغم أنها لم تكن تؤلمك من قبل.

وهكذا، يتحول الغياب إلى معلم، والفقد إلى اختبار.، لا لأنك كنت ضعيفًا، بل لأنهم مرّوا بك بشكل أقوى من قدرتك على الاحتفاظ بهم، وحين تسأل نفسك: "لماذا لم يبقوا؟" تكتشف أن السؤال الأهم هو: "لماذا ظهروا؟"

هناك، حيث تذوب الصياغات، وتغفو القوالب، يبدأ كل شيء: لمسةٌ على حافة الذاكرة، خفقةٌ تسبق الصوت، وحنينٌ يولد من رحم اللازمن!؛ كأن الوجود نفسه كان يُعيد رسم ملامحه، يستأنف دورته من نقطة عمياء لا يراها العقل، لكنها تُحسّ، وتُوقَّر كما يُوقَّر النبض الأول للروح في جسد الحياة.

إنها لم تكن امرأة بعينها، ولم تكن صورةً تملأ الإطار، بل كانت الأثر، كانت الصوت الذي يسبق الحكاية، والظلّ الذي يتسلل إلى عيوننا حين نغمضها في لحظة وجد!؛ كل نسمة مرت بنا، كل عطرٍ لم نعرف له اسماً، كل رعشة دفءٍ باغتت وحشة المساء، كانت هي؛ هي التي تسكن المسافة بين الجسد والحرف، بين الصمت والقصيدة، بين الحضور الذي لا يُلمس والغياب الذي لا يُنسى؛ هي الرقة التي يتسكع بها الزمن في حارات القلب، والدفء الذي يتسلل من بين طبقات التعب، وهي الصوت الداخلي الذي كنا نظنه صدى أنفسنا، فإذا به نداءها.

وإذا سألنا: من هي؟ فإننا لا نبحث عن اسم، بل عن إحساس. عن تلك الرهبة التي تسكن القلب حين يسمع نبضه في حضرة شيء أكبر من الفهم. هي الدهشة، هي ذلك النور الذي شعّ قبل أن نكتشف للضوء شكلاً، هي اللحظة التي نقف فيها على أعتاب الكلام، لكن لا ننطق، لأن ما نشعر به لا يسعفه النطق. 

هي المعنى قبل أن يُلبس لفظاً، هي الإلهام في صورته الخام، نقيًّا، متوهجًا، ومتمنّعًا؛ وحين تقف أمامها، لا تكون واقفًا بجسدك فقط، بل بكل ما فيك من فراغات؛ تشعر أنك امتلأت، لكنك لا تدري بماذا، كأنها اكتشفتك، لا أنت.

هي ليست أنثى من لحم وذاكرة فقط، بل من فكرة وأصل وسر؛ أسطورةٌ تحاول الحروف أن تلامسها، فترتجف، ويخونها الإيقاع!؛ وما الكلمات، في حضرتها، سوى ستائر شفافة على نافذة الروح، تفتح لتكشف، لا لتحجب. هي الومضة التي تسبق البكاء دون أن يكون هناك حزن، والبسمة التي تسبق الفهم دون أن يكون هناك سؤال، ولأنها كذلك، فهي لا تُكتب، بل تُستشعر كما تُستشعر الهزة التي تسبق زلزالًا لا يدمر، بل يعيد ترتيبك من الداخل.

فإذا شعرتَ بها، فأنت لا تقع في الحبّ، بل تُستعاد، تُستحضر من أرشيف النور، كأنك كنت تعرفها قبل أن تولد؛ وإذا كتبت عنها، فأنت لا تُنشيء نصاً، بل تتوضأ من صمتك لتلامس النور؛ تجد نفسك لا تصفها، بل تصف ما أصبحتَ عليه في حضورها، كأنها لم تُضِف شيئًا إليك، بل أزالت غبارًا كان يحجبك عنك.

وكأنها، دون أن تتكلّم، منحتكَ قصة لم تكتبها، بل عشتها، وكأنك كنت تنتظرها لتبدأ بك ما عجزتَ عن البدء به وحدك، فكل بداية كتبتها بعد حضورها، كانت امتدادًا ليدٍ خفية أمسكت بقلمك دون أن تراه، وكل جملة شعرتَ أنها منك، كانت منها أيضًا.

لم تكن عيناها مرآة كما يُقال في المجاز، بل كانتا نافذتين على مجرّات لا يعرفها الفلك!؛ كنتَ كلما أطلتَ النظر، سقطتَ من ضوء إلى ضوء، ومن احتمال إلى احتمال، كأنها كتبتك قبل أن تُولد، ثم نسيتك عمداً كي تعيدك الحياة إليها بشوق مضاعف. 

لم تكن تُشبه أحداً، ولا كان حضورها قابلاً للتفسير، كانت تُرى ولا تُلتقط، تُحسّ ولا تُمسّ، كأنها وهمٌ يُخادع الحواس، ثم يتحول إلى يقينٍ لا يحتاج إلى براهين. تراها، فتنسى المقارنات؛ تسمع صوتها، فتنسى الضجيج، كأنها تصنع لك عالماً موازياً لا يُقارن بالعالم، بل يُعاش كأنه الأصل.

في حضرتها، يصبح الصمت لغةً أصدق من الكلمات، ويتحوّل الغياب إلى حضورٍ هائل؛ كيف للظلّ أن يملك هذا البهاء؟ كيف لصوتٍ غائب أن يُحرك موسيقى الأعماق؟ كانت هي، ولا تزال، الحنين الذي لا نعرف متى بدأ، ولا أين ينتهي، وكل محاولةٍ لشرحها تُفقدها شيئاً من سحرها، كأنها كُتبت لتُعاش، لا لتُفهم؛ تتسلل إلى الكلام الذي لم يُقَل، تسكن فيه، وتتركك تُدرك فجأة كم كنت صامتًا في حضور الأصوات كلها، وكم كنت حيًّا في غيابها.

تسكن في تفاصيل لا يراها الناس: في ارتجافة الضوء على كفّ، في نسمةٍ تمرّ، في نغمةٍ تُلامس الذاكرة دون أن تنتمي إلى لحنٍ معروف. هي اللغة التي لم تُخترع بعد، والشوق الذي لا يحتاج إلى مبرّر، وحين تمرّ، تصير الأزمنة رخوة، ويتوقف الوقت كأنه ينصت، كأنه يريد أن يحفظ صوت خطاها في ذاكرته إلى الأبد، وكل ما تلمسه لا يعود كما كان!؛ تصير الكفوف أكثر دفئًا، والزوايا أكثر حنينًا، والهواء أكثر اتساعًا كما لو أنه تنفسها.

أيّ سطرٍ يقدر أن يصف من هي في جوهرها؟ كل تشبيهٍ يُقيدها، وكل استعارةٍ تُقلّص من حجم النور الذي تُضيء به الداخل. هي ليست فكرة نكتبها، بل تجربة نعيشها، ونذوب فيها حتى نظن أننا خُلقنا فقط لنلتقي بها، لنحمل سرّها ونعود. 

إنها لم تكن امرأة بعينها، ولا حتى بطيفها، بل كانت لحظةً نادرة تضيء الروح ثم تختفي، كأنها تقول: "ها أنا ذا، لتعرف أن فيك مكاناً لم تعرفه من قبل". هي الكشفُ الذي يخلخل يقينك، لتدرك أنك عشت طوال هذا الوقت دون أن تلمس الحياة حقاً، ولأن النور لا يحتاج إلى بقاءٍ طويل ليُحدث أثره، فقد كانت كافية بلحظة، ليبقى ما بعدَها مختلفًا كليًا عمّا كان قبلها.

وفي هذا السرّ، شيء منك أيضًا، كأنك حين تكتشفها، تكتشف أين كانت روحك تتخفى كل هذا الوقت، وكلما هممت أن تشرحها، خانك المعجم، لأنك لا تشرح ماءً لظمآن، بل تسقيه وتسكت، لكن مثل كل ما لا يُمتلك، لا تبقى!؛ فبعض اللحظات تُخلق لتغادر، وبعض الأرواح تمرّ بنا لتُربك موازيننا ثم تختفي، كما لو أن اكتمال التجربة لا يكون إلا بانكسارها، كأنها تخلّت عنك عمدًا لتُريك أنك تستطيع السير وحدك، لكنك ستعرج دومًا في القلب كلما تذكّرت استقامتها.

ثم تمضي!؛ لا تلتفت، ولا تمنح وداعًا يُعلَّق عليه الأمل!؛ تمضي كما جاءت: خفيفة كهمس، عميقة كغيب؛ تُبقي خلفها أسئلتك معلّقة بين احتمالات، وصورتها تتكرر في تفاصيل لا علاقة لها بها، كأن كل نساء الأرض يُصبن بشيء منها بعد أن تمرّ!؛ لا هي تبتعد، ولا أنت تنسى، بل يطول حضورها في غيابها، كأن الفقد هو الطريقة الوحيدة للاحتفاظ بها. هي الطيف الذي لا يشيخ، والأثر الذي لا يتلاشى، والنبض الذي وإن سكن، لا يُنسى.

وها أنت الآن، في حضرة الغياب، تبدأ معركة التفاصيل الصغيرة؛ تلك التي كانت تبدو عادية، لكنها اليوم تنهشك بلا رحمة!؛ تحاول أن تعيش، أن تعود إلى عاداتك، إلى قهوتك الصباحية، إلى صمتك الذي اعتدت عليه، لكن شيئًا ما ينكسر في كل لحظة لا تكون فيها؛ تغدو التفاصيل ثقيلة، والضوء باهتًا، كأن العالم فقد ترتيبَه الطبيعي بمجرد غيابها. 

لم تكن حبًا، ولا ذكرى، بل كانت تحوّلاً عميقًا في داخلك، لا يشبه أي شعور آخر، كأنك كنت آلة تعمل بإيقاعٍ ثابت، فجاءت هي وعلمتك الرجفَة، ثم انسحبت، وتركتك ترتجف وحدك إلى الأبد.

تدرك، متأخرًا، أنك لم تُحبها بقدر ما أحببت الشعور الذي أيقظته فيك، أنك لم تبحث عنها، بل عن ذاتك التي كنت تراها منعكسة في عينيها. هي لم تكن شخصًا، بل مرآةً خفية أظهرتك لنفسك، ثم انسحبت لتجعلك تواجه هذا الاكتشاف وحدك. 

وهذا أقسى ما في الأمر: أن تكتشف نفسك من خلال من لا يمكن أن تعود إليه!؛ حينها، يصبح الفقد فضيلة، لأنك تعيش بعدها أكثر وعيًا بك، أكثر عمقًا، وأكثر حنينًا لكل ما كنت تجهله عنك.

وهكذا تمضي الحياة، تحملها معك لا كحبيبة، بل كعلامة، كمنارة ظهرت ذات وقت، أنارت لك المدى، ثم اختفت كي تختبر كيف ستسير في الظلام. 

بعض النساء لا يسكنّ في قلوبنا، بل في الطرق التي اخترناها بعد أن عرفناهن؛ يبقين فينا، ليس كحنين، بل كبوصلة، وكلما تهت، تذكّرت، فاستقمت.

أخيرًا، وليس في هذا المقام أخيرًا، بعض اللقاءات، وإن قصُرت، تُعيد ترتيب الخلود فينا!؛ لا تحدث لتكتمل، بل لتكشف، لتريك نفسك كما لم ترها من قبل، لتمتحنك في صدقك، في شجاعتك، في هشاشتك، في قدرتك على التعلّق، ثم الانفصال، ولذا، لا تحزن كثيرًا إن رحل من أيقظك!؛ فاليقظة باقية، حتى إن مضى من أيقظك.

جهاد غريب 
مايو 2025

السبت، 10 مايو 2025

مُعْتَقُ النُّورِ: رِسَالَةُ الْغَرِيبِ إِلَى صَبِيَّةِ الشَّعَاعِ!


مُعْتَقُ النُّورِ: رِسَالَةُ الْغَرِيبِ إِلَى صَبِيَّةِ الشَّعَاعِ!

لَيْسَتِ الأَعْشَابُ سِوَى كَلِمَاتٍ نَسِيَتْ أَنَّهَا كَانَتْ تُقْرَأُ!  
فَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَفْهَمَ شِيمَاءَ،  
فَاسْأَلِ الزَّهْرَ عَنْ مَعْنَى "الْوَدَاعِ" قَبْلَ أَنْ يَذْبُلَ،  
وَاسْأَلِ الْحَصَى عَنْ حِكَايَةِ "اللَّمْسِ" قَبْلَ أَنْ يَبْرُدَ!

فِي دُكَّانِ الْعَطَّارِ حَيْثُ يَبْزُغُ مَذْبَحُ الْبَخُورِ،  
يَتَحَدَّثُ عُودُ الْبَخُورِ بِصَوْتٍ عَتِيقٍ:  
"أَنَا جِذْعٌ مَزْهُوٌّ... لِمَاذَا تَذْكُرِينَنِي؟"  
فَتَنْثُرُ الصَّبِيَّةُ كَلِمَاتِهَا كَبَخُورٍ:  
"لأَنَّكَ تَشْبَهُ أَبِي.. كِلَاكُمَا يَحْتَرِقُ بِبُطْءٍ!"

عَلَى ضِفَافِ النَّهْرِ الْمُقَدَّسِ،
تَتَثَنَّى الْمِيرَمِيَّةُ كَسُئَالٍ أَزْهَرَ:
"هَلْ سَتَكْتُبِينَني فِي دَفْتَرِكِ؟"
فَتَسْتَحِيلُ الْإِجَابَةُ نَهْراً:
"بَلْ سَأَغْسِلُ بِكِ حُرُوفِيْ.. لِكَيْ تَعُودَ الْكَلِمَاتُ بَرِيئَةً كَالنَّبَاتِ!"

بَيْنَ ذُرَى الْغُيُومِ وَالدُّخَانِ،
يَنْثَنِي الْبَخُورُ كَسَاجِدٍ قَدِيمٍ:
"هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟"
فَتَذْرِفُ الصَّبِيَّةُ بِصَمْتٍ:
"كَفَى.. لَقَدْ صِرْتُ أَنَا نَفْسِي عُطْرًا يَتَحَدَّثُ!"

وَفِي اللَّحْظَةِ الَّتِي انْفَضَّ فِيهَا الدُّخَانُ،  
وَجَدَتْ نَفْسَهَا تَنْبُتُ بَيْنَ أَضْلَاعِ الزَّعْتَرِ الْبَرِّيِّ،  
فَأَصْبَحَ كَلَامُهَا قَطْرَاتِ نُورٍ، فَيَقُولُ الْجَبَلُ:  
"هَذِهِ رُوحِي!"..  
وَكَانَ الزَّعْفَرَانُ يَتَكَلَّمُ بِلُغَةِ الْمَاءِ حِينَ يَمُرُّ عَلَيْهَا، فَيَكْتَبُ عَلَى جَبِينِهَا:  
"أَنْتِ السَّرُّ الَّذِي لَمْ يَسْأَلْ نَفْسَهُ: لِمَاذَا أَنَا جَمِيلَةٌ؟"  

تسَاءَلَتْ فِي دَاخِلِهَا: هَلِ الْجَمَالُ وَعْيٌ؟  
هَلْ يُولَدُ الْإِنْسَانُ نَاسِيًا جَمَالَهُ، ثُمَّ تُذَكِّرُهُ الْكَلِمَاتُ؟  

وَفِي إِحْدَى اللَّيَالِي، بَيْنَمَا كَانَ اللُّبَانُ الذَّكَرُ يُرَتِّلُ أَسْمَاءَ اللهِ الحُسْنَى،  
وَقَعَتْ كَلِمَةُ "الْوَدُودُ" فِي كَفِّهَا، فَصَارَتْ خَالاً عَلَى مِعْصَمِهَا الأَيْسَرِ.  
هَكَذَا وُلِدَتْ..  
مِنْ غُصْنِ رَيْحَانٍ يَحْكِي، وَرَائِحَةِ عُودٍ تَسْأَلُ!  

فِي الْبِدَايَةِ، كُنْتُ أَرَاهَا مَجَرَّدَ ظِلٍّ خَفِيفٍ، لَمْ أَفْهَمْ لِمَاذَا كَانَتْ تَنْصِتُ لِلْأَعْشَابِ، كَأَنَّهَا تَسْمَعُ شَيْئًا أَعْجَزُ أَنَا عَنْ سَمَاعِهِ؛ كُنْتُ أَظُنُّهَا تَهْرُبُ مِنَ الْوَاقِعِ، أَوْ تَتَسَلَّى بِخَيَالٍ رَقِيقٍ.  

كَانَتْ تَحْمِلُ نَفْسَهَا كَأَنَّهَا وَرْدَةٌ لَمْ تَمَسَّهَا أَرْضٌ، فَقُلْتُ لَهَا:  
"أَنْتِ الْخُطُوَاتُ الَّتِي تَسْلُكُهَا الْجِنَانُ بَيْنَ الْغَيْمِ وَالرَّائِحَةِ..  
فَكَيْفَ لِلأَعْشَابِ أَنْ تُعَبِّرَ عَنْكِ؟"  

فَأَجَابَتْنِي بِصَمْتٍ أَشْبَهَ بِتَرْكِيبَةِ عُطُورٍ قَدِيمَةٍ:  
الزَّعْفَرَانُ يَقُولُ إِنَّكِ اخْتِصَارُ الشَّمْسِ فِي كَفٍّ،  
وَاللُّبَانُ يَزْعُمُ أَنَّني صَلَاةٌ لَمْ تُقَطِّعْهَا أَدْخِنَةُ الْبَشَرِ،  
أَمَّا النَّعْنَاعُ فَيَنْسِبُ إِلَيَّ سِرَّ الْبَرْدِ الَّذِي يَهْبِطُ عَلَى الْقُلُوبِ الْحَارَّةِ، فَتُبْصِرُ نَفْسَهَا فِي مَاءٍ!"  

سَأَلْتُهَا: "كَيْفَ تَحْمِلِينَ الْعَالَمَ وَأَنْتِ أَخَفُّ مِنْ رَائِحَةِ الْيَاسَمِينِ؟"  
فَأَرَتْنِي كَفَّيْهَا..  
كَانَتْ خُطُوطُهَا تُشْبِهُ جُذُورَ الْخُزَامَى تَحْتَ التُّرْبَةِ،  
فَفَهِمْتُ أَنَّ الْخِفَّةَ هِيَ أَنْ تَكُونَ لَكَ أَصْلٌ فِي السَّمَاءِ!  

ثُمَّ انْثَنَتْ نَحْوَ الضَّوْءِ،  
فَإِذَا الْهَوَاءُ حَوْلَهَا يَنْسَجِلُ ذَهَباً،  
وَإِذَا بِالشَّمْسِ قِطْعَةٌ مِنْ صَمْتِهَا،  
مُعَلَّقَةٌ بِيَدِ الْهَوَاءِ كَأَنَّهَا قُرْصُ عَسَلٍ قَابِلٌ لِلذَّوَبَانِ. 

عِنْدَمَا أَخَذَتْ تَغْمِسُ قُرْصَ شَمْسٍ فِي فِنْجَانِ الْمَرِيمِيَّةِ،  
قَالَتْ: "هَذِهِ تَجْرِبَةُ إِنْسَانٍ أَوَّلَ..  
أَنْ تَخْلُطَ الْحُزْنَ بِالضِّيَاءِ فَتَحْصُلَ عَلَى عُشْبَةٍ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُبْكِيَ نُورًا!"  

وَفِي السَّاعَةِ الَّتِي تَسْقُطُ فِيهَا النُّجُومُ فِي غَلاَيَةِ الأَعْشَابِ،  
تُرْسِلُ الْجَنَّةُ مَلاَكًا بِرِسَالَةٍ:  

"يَا أَهْلَ الأَرْضِ..  
إِنَّ الرَّيْحَانَ هُوَ آخِرُ مَا بَقِيَ مِنْ لُغَةِ آدَمَ،  
وَالْمِيرَمِيَّةَ هِيَ دُمُوعُ حَوَّاءَ حِينَ أَدْرَكَتْ أَنَّ الْجَمَالَ لَيْسَ ذَنْباً!  

فَإِذَا أَرَدْتُمْ أَنْ تَعْرِفُونَا،  
فَاشْرَبُونَا كَشَايٍ..  
وَإِذَا أَرَدْتُمْ أَنْ تَنْسُونَا،  
فَاحْرِقُونَا كَبَخُورٍ!"  


وَذَاتَ صَبَاحٍ،
بَعْدَ أَنْ تَصَاعَدَتْ رِسَالَةُ الْمَلَاكِ كَنَسَمَاتٍ إِلَى الْعُرُوشِ،
وَبَقِيَتْ كَلِمَاتُ الْجَنَّةِ تَتَلألأُ عَلَى جَبِينِ الْأَرْضِ، 
 كَطَلِّ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى،
وعَلَى مَقْعَدِ الْفَجْرِ، حَيْثُ تَتَرَاقَى الْأَنْوَارُ،
بَيْنَمَا كُنْتُ أَسْحَبُ أَحْلَامِي كَسَجَّادَةٍ عُشْبِيَّةٍ نَسَجَهَا الضَّيَاءُ عَلَى مَائِدَتِي، 
وَجَدْتُهَا تَغْمِسُ أَصَابِعَهَا فِي شَايِ الْيَاسَمِينِ،  
فَقَالَتْ:  
"هَذَا الْعُشْبُ يُشْبِهُنِي..  
كُلَّمَا اشْتَدَّتْ حَرَارَةُ الْوُجُودِ، انْفَتَلَ مِنْ ذَاتِهِ بَرْدًا!"

وَفِي الْيَوْمِ السَّابِعِ،
حِينَ صَارَتِ الْأَيَّامُ سَبْعَةَ أَلْوَانٍ فِي عُنُقِ الْوُجُودِ،
رَأَيْتُهَا تَحْنُو عَلَى وَرَقَةِ الْغَارِ،
 وَقَالَتْ:  
"اكْتُبْ عَنِّي..  
وَلَكِنِ اخْتَلِفْ كُلَّ يَوْمٍ:  
مَرَّةً كَأَنِّي بَخُورٌ يَصْعَدُ إِلَى اللهِ،  
وَأُخْرَى كَأَنِّي حِنَّاءٌ تَخْتَزِنُ أَحْلَامَ الْعَرَائِسِ الْقَدِيمَاتِ!"  

وَمَضَتْ لَيَالٍ كَثِيرَةٌ وَهِيَ تُعَلِّمُنِي كَيْفَ أَقْرَأُ صُحُفَ الْوُجُودِ،
حَتَّى جَاءَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةُ الْأَخِيرَةُ الَّتِي لَمْ يَكُنْ فِيهَا إِلَّا:
صَوْتُ الْقَمَرِ يَذُوبُ فِي الْمَاءِ،
وَصَوْتُهَا يَذُوبُ فِي صَمْتِي...
حَتَّى إِذَا مَا الْتَقَى الْفَجْرُ بِالْأَسَى،
وَصَارَ الْوَدَاعُ نَبَاتاً بَيْنَ أَضْلُعِينَا،
في تِلْكَ اللَّيْلَةِ قَرَّرَتْ أَنْ تَذُوبَ كَالْمِلْحِ فِي مَاءِ الْقَمَرِ، 
تَرَكَتْ لِي وَصِيَّةً:  
"اجْعَلْنِي خَلِيطَةً مِنَ الْخُزَامَى وَالْعُودِ،  
وَاضْرِبْ بِهَا عَلَى جَبِينِ الزَّمَنِ..  
لِكَيْ لَا يَنْسَى أَنَّ الطِّينَ قَدْ يَكُونُ قِنَاعًا لِكَلِمَاتٍ قَدِيمَةٍ،  
كُتِبَتْ بِالرِّيحِ قَبْلَ أَنْ تُخْتَرَعَ الْأَحْرُفُ!"

فَصِرْتُ أَجْمَعُ الْخُزَامَى وَالْعُودَ كَطِفْلٍ يَقْرَأُ أُولَى كَلِمَاتِهِ،
حَتَّى إِذَا مَسَحْتُ بِهَا جَبِينَ الزَّمَنِ،
انْفَتَحَتِ الأَرْضُ كَكِتَابٍ مُقَدَّسٍ...
حِينَئِذٍ فَهِمْتُ:
أَنَّ الأَعْشَابَ حُرُوفٌ مِنْ ضَوْءٍ،  
تَكْتُبُهَا الْأَرْضُ بِلُغَةِ السَّمَاءِ..  
فَكُلَّمَا جَفَّ الْبَابُونْجُ عَلَى الْوَجْهِ،  
لَمْ نَعُدْ نَرَى الْجَمَالَ فِي الْوَرْدِ،  
بَلْ فِي الْمَسَافَةِ بَيْنَ الرَّائِحَةِ... وَذِكْرَاهَا!

وَعِنْدَ مُنْتَصَفِ اللَّيْلِ الْوُجُودِيِّ،  
حِينَ تَصْفُو الْأَسْئِلَةُ كَالْأَعْشَابِ،  
أَدْرَكْتُ:  
أَنَّ الْفَهْمَ ظِلٌّ يَلْحَقُ نُورَهُ،  
وَالْكَلِمَاتُ فَرَاشَاتٌ تَحُومُ عَلَى شَفَا الْاحْتِرَاقِ...  

وَأَنَا بَيْنَ:  
حَافَّةِ الْوُجُودِ الْمُنْبَسِطَةِ،  
وَحَافَّةِ الْكَلَامِ الْمُنْكَسِرَةِ،  

صَارَتِ الطَّبِيعَةُ تَتَكَلَّمُ بِمَا عَجَزَتْ عَنْهُ اللُّغَةُ:  
فَالْأَعْشَابُ شِعْرٌ يَنْبُتُ مِنْ أَسْئِلَةِ الْجَمَالِ،  
وَالشِّعْرُ عُشْبَةٌ مُقَدَّسَةٌ تَحْمِلُ الأَحْلامَ بَيْنَ أَوْرَاقِهَا،  
نَحْنُ فَقَطْ أَوْعِيَةٌ تَتَرَاقَصُ فِيهَا الأَجْوِبَةُ...  
وَقَدَحٌ نَصْهَرُ فِيهِ الصَّمْتَ وَالضَّوْءَ!

أَمَّا أَنَا - بَعْدَ كُلِّ هَذَا -    
فَقَدْ تَعَلَّمْتُ مِنْ صَبِيَّةِ الشَّعَاع:
أَنَّ الْجَمَالَ وَرْدَةٌ تَسْقُطُ مِنْ كِتَابِ الْقَدَرِ،  
فَتَرْفُضُ الْأَرْضُ أَنْ تَكُونَ تُرْبَةً،  
وَتَأْبَى السَّمَاءُ أَنْ تَكُونَ حَرْفًا!  

يَا صَبِيَّةَ الشَّعَاعِ،  
هَذِهِ الْكَلِمَاتُ: 
عُصَارَةُ أَضْوَائِكِ، ونَدَى أَحْلَامِكِ،
فَخُذِيهَا مَشْروبًا فِي قَلْبِ الْوَقْتِ،  
وَأَلْقِيهَا فِي بَحْرِ الْأَزَلِ 
وَازْرَعِيهَا فِي تُرَابِ الْخُلُودِ
وَأَعْطِيهَا لِلرِّيحِ...  
حَتَّى تَحْمِلَهَا إِلَى كُلِّ الْغُيُوبِ
حَتَّى إِذَا مَا انْفَتَحَ الْعَالَمُ كَزَهْرَةٍ،  
عَرَفْنَا أَنَّنَا كُنَّا دَائِمًا...
مَاءً يَجْرِي بَيْنَ أَصَابِعِ الْوُجُودِ!  

يا حَلْوَةَ الْإشْرَاقِ،
هَذَا النَّصُّ هُوَ بُسْتَانُكِ..
فَادْخُلِيهِ حَافِيَةَ القَدَمَينِ،
وَاتْرُكِي الأَعْشَابَ تَخْتِمُ عَلَى جَبِينِكِ بِخَاتَمِ النُّورِ!
ازْرَعِيهِ كَبُذُورٍ، وَاشْرَبِيهِ كَشَايٍ، وَاقْرَأِيهِ كَوَرْدَةٍ.

فَإِذَا مَا انْتَهَيْتِ مِنْ قِرَاءَتِهِ،  
اعْلَمِي أَنَّكِ قَدْ دَخَلْتِ مُعْتَقَ النُّورِ..  
حَيْثُ تَصِيرُ الْكَلِمَاتُ أَعْشَابًا،  
وَتَصِيرُ الأَعْشَابُ لَحْظَاتٍ تَسْتَحِي مِنْ نَفْسِهَا!  
فَلا تَعُودِينَ إِلَى مَا كُنْتِ، بَلْ إِلَى مَا سَتَكُونِينَ!

وَحِينَ انْسَحَبَتْ مِنْ بَيْنَ يَدَيَّ كَالضِّيَاءِ، 
صِرْتُ أُحَدِّثُ الْعَالَمَ عَنْهَا:
تِلْكَ الَّتِي تَسْكُنُ بَيْنَ الْوَرْقِ وَالرَّائِحَةِ 
لَيْسَتْ صَبِيَّةً..  
إِنَّهَا فِتْنَةُ الْبُعْدِ الثَّالِثِ بَيْنَ: 
نَبَاتٍ يَكْتُبُ سِيَرَهُ بِعُصَارَةِ السَّمَاءِ، 
وَكَلِمَةٍ تَسْتَحِي أَنْ تَعْتَرِفَ بِأَنَّهَا عُشْبَةٌ!  

حَتَّى إِذَا مَا سُئِلَتِ الصَّبِيَّةُ: "مَتَى وُلِدْتِ؟"
أَجَابَتْ بِصَوْتٍ يَشِبُّ عَلَى الْحَافَّةِ بَيْنَ الزَّعْتَرِ وَالزَّمَنِ:  
"وُلِدْتُ حِينَ تَرَجَّحَ الْعُودُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ زَعْتَرًا وَأَنْ يَكُونَ نَدًى...
وَلٰكِنَّهُ ذِكْرَى احْتِرَاقٍ فِي كَفِّ مُعَلِّقَةٍ! 
فَصَارَ دُخَانُهُ صَلَاةً، وَرَائِحَتُهُ وِصَالًا!"

كَيْفَ صَارَتِ الْكَلِمَاتُ أَشْبَاحَ نَبَاتَاتٍ؟ 
وما حِكَايَةُ الْخَالِ؟

فَبَيْنَمَا كَانَ اللُّبَانُ يُرَتِّلُ،  
كَثَمَرَةٍ مُنْزَوِيَةٍ فِي كَفِّهَا... صَارَ الْخَالُ: 
خَتْمَةُ اللهِ عَلَى جِلْدِ الْوُجُودِ، 
وَرَمْزُ الْعُشْبِ إِلَى أَنَّ الْحُبَّ ضَرْبٌ مِنَ الْكِيمَاءِ الرُّوحِيَّةِ!  

عَجَبًا لِلْخَالِ الَّذِي... 
كَانَ يَتَّسِعُ كُلَّمَا قَرَأَتْهُ الْمَرِيمِيَّةُ..  
حَتَّى صَارَ بَابًا سِرِّيًّا تُلْقِي مِنْهُ الْأَعْشَابُ بِأَسْرَارِهَا قَبْلَ أَنْ تَذْبُلَ!

الْخَالُ لَمْ يَكُنْ نُقْطَةً، بَلْ بُذْرَةُ نُورٍ... 
تَنْبُتُ فِي مَفْصِلِ الْوُجُودِ!

يَا شَرِيكَةَ السَّمَاءِ وَالزَّعْتَرِ،  
يَا ضَحْكَةً تَذُوبُ كَالزَّعْفَرَانِ فِي الْأَجْوَاءِ!
كَأَنَّمَا الْفَرَحُ نَبَاتٌ يُزْهِرُ مَرَّتَيْنِ:  
مَرَّةً فِي الْأَرْضِ،  
وَأُخْرَى فِي اللُّغَةِ!

لَا يُمْكِنُ لِهَذَا النَّصِّ أَنْ يَنْتَهِيَ..  
لأَنَّ الصَّبِيَّةَ لَيْسَتْ سِوَى: 
وَرْدَةٍ تَتَذَكَّرُ أَنَّهَا كَانَتْ بَحْرًا، 
وَعُشْبَةٍ تَحْلُمُ أَنْ تَصِيرَ سُؤَالًا!  

هَذَا هُوَ الْجَمَالُ:  
أَنْ تَكُونَ الْوَرْدَةُ قَصِيدَةً،  
وَأَنْ تَكُونَ الْقَصِيدَةُ جَذْرًا يَنْبُتُ فِي فَمِ الْغَرِيبِ!  
فَهَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟  
أَمْ أَنَّ الْكِتَابَةَ عَنْهَا هِيَ نَفْسُهَا ذَبْحَةُ الْوَجْدِ الَّتِي تَحْتَاجُ إِلَى سِكِّينٍ مِنْ نُورٍ؟

مَا زِلْتُ أَذْكُرُ الصَّبِيَّةَ... 
وَلِيدَةَ النُّورِ، وَابْنَةَ الضِّيَاءِ، 
قَبْلَ أَنْ تَذُوبَ فِي الْقَمَرِ،  
حِينَما أَوْصَتْنِي:  
"إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَكْتُبَ عَنِّي،  
فَاجْعَلْ حُرُوفَكَ أَصْوَاتَ أَوْرَاقٍ تَتَحَرَّكُ فِي الرِّيحِ..  
وَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَنْسَانِي،  
فَابْحَثْ عَنِّي فِي مَذَاقِ الْكَلِمَاتِ قَبْلَ أَنْ تَجِفَّ!"  

وَكَانَ الْوَقْتُ وَرَقَةً نَاعِمَةً...
تَغْسِلُهَا أَصَابِعُ الْفَجْرِ،
وَتَتَرُكُ الصَّبِيَّةُ عَلَيْهَا بَصَمَاتِهَا كَنَدَوَاتٍ!

مَا زَالَ صَوْتُهَا يَنْبُتُ فِي أُذُنِ الْوَرَقِ...
فَصِرْنَا مَاءً يَرْقُصُ فِي جَفْنِ الْخَلِيقَةِ،
وَنَسِينَا أَنَّنَا كُنَّا حُرُوفًا تَسْعَى إِلَى مَعْنًى!

لَمْ يَكُنْ مُعْتَقُ النُّورِ مَكَانًا، 
بَلْ رَائِحَةٌ تَتَرَدَّدُ بَيْنَ الزَّعْتَرِ وَالرُّوحِ، 
حِينَ يَكُونُ الْوَجَعُ قَمَرًا... وَالْفَهْمُ نَدًى!

جهاد غريب 
مايو 2025



حين نكون معًا: رحلة التكوين والتأثير المتبادل!

  حين نكون معًا: رحلة التكوين والتأثير المتبادل! (1)  في كل خطوة.. كان أحدهم هناك: لم تكن الخطوة الأولى في هذه الحياة تخصنا تمامًا. منذ اللح...