الجمعة، 30 مايو 2025

الفخر: نهضة الروح من بين الرماد!

 
الفخر: نهضة الروح من بين الرماد!  

في ساحةِ الحياةِ، حيثُ تتهاوى التماثيلُ الوهميةُ التي ننحتُها لأنفسِنا، يبرزُ الفخرُ الحقيقيُّ كطائرِ الفينيقِ الذي ينهضُ من رمادِ تجاربه. ليس تيهاً ولا تبجحاً، بل شموخٌ صامتٌ كالجبلِ الذي يَحمِلُ آثارَ العواصفِ على صدرِه، لكنّه يبقى شامخاً بكرامتِه. الفخرُ ليس أن تسيرَ بلا عثرات، بل أن تلتفتَ إلى الوراءَ فترى كلَّ سقطةٍ قد تحوّلتْ إلى حجرٍ في طريقِ صعودِك.  

كم من مرةٍ سمعنا أن الفخر هو مرآة الهوية؟ إنه الشعور الذي يربطنا بجذورنا وإنجازاتنا، فيصنع منا كائناتٍ متماسكةً قادرةً على مواجهة العالم. الفخرُ هو ذلك الخيطُ الخفيُّ الذي ينسجُ نسيجَ هويتنا، فرديةً كانت أم جماعية. فحين يعترفُ المرءُ بإنجازاته، حتى الصغيرة منها، فإنه يبني صورةً ذاتيةً قويةً تقاومُ رياحَ التشكيكِ الخارجية. وفي المجتمع، يصبح الفخرُ الجماعيُّ جسراً للانتماء، كما نرى في قصصِ الشعوبِ التي حوّلتْ آلامَها إلى مصادرَ للقوةِ والوحدة.  

لكنّ الفخرَ ليس مفهوماً واحداً في كلّ الثقافات. فبينما ترى بعضُ المجتمعاتِ فيه وقوداً للتقدم، تحذّرُ أخرى من تحوّله إلى غرورٍ يعمي العيون. في اليابان مثلاً، يُقدَّر التواضعُ حتى عند الإنجاز الكبير، بينما في ثقافاتٍ أخرى، يكون الفخرُ علنياً كعلامةٍ على الثقةِ بالنفس. هذا التنوعُ يذكرنا بأن الفخرَ الحقيقيَّ لا يحتاجُ إلى ضجيجٍ ليثبتَ وجوده، بل يكفيه أن يكونَ صادقاً في أعماق النفس.  

كيف ننمي الفخرَ الحقيقيَّ في النفوس؟ تبدأ القصةُ منذ الطفولة، حين يعلّمنا الأهلُ أن نرى الجمالَ في محاولاتنا، وليس فقط في نتائجنا. فطفلٌ يشعرُ بالفخرِ لأنّه تعلمَ ربطَ حذائه بنفسه، سيكبرُ ليكونَ إنساناً يقدّرُ الجهدَ ويعرفُ قيمةَ نفسه. أما عندما يُربَّى الإنسانُ على أن الكمالَ هو المعيارُ الوحيد، فإنّ أيّ خطأٍ سيشعرُه بالخزي بدلاً من الفخرِ بالتعلّم.  

وهنا يأتي السؤالُ الأهم: متى يتحولُ الفخرُ إلى غرور؟ الفرقُ بينهما كالفرقِ بين النهرِ العذبِ والبحرِ المالح: الأولُ يروي ويُنعش، والثاني يغرقُ من يسبحُ فيه. الفخرُ الإيجابيُّ هو أن تقول: أنا ممتنٌ لما حققته، أما الغرورُ فهو أن تظنَّ أنك وصلتَ بلا معين. قال الحكيم: لا تكنْ كالقشةِ التي تطفو على الماءِ فتبالغُ في اعتدادها، بينما جذورُ الشجرةِ العظيمةِ تخفي نفسَها في الأرضِ وهي ترفعُ أغصانَها إلى السماء.  

وكما تختلفُ مياهُ النهرِ عن ملوحةِ البحر، يختلفُ الفخرُ عن الغرورِ في أعماقِ تأثيرهِ على النفسِ والآخرين. لكنّ السؤالَ الأبقى: هل يمكنُ للفخرِ أن يصبحَ جسراً نحو التواضعِ بدلاً من أن يكونَ حاجزاً أمامه؟ بل إنّ الفخرَ الحقيقيَّ يمكن أن يكونَ تواضعاً! كيف؟ حين تعرفُ أن إنجازَك هو ثمرةٌ لجهودٍ كثيرةٍ: دعمِ الأهل، تضحياتِ المعلّمين، وحتى تحدياتِ الحياةِ التي صنعتْ منك ما أنت عليه. أليستْ أروعَ لحظاتِ الفخرِ هي تلك التي تشعرُ فيها بالامتنانِ لكلّ من ساعدَك في الطريق؟  

تخيّلْ معي شجرةَ البلوطِ العتيقة: كلّ حلقةٍ في جذعها تحكي قصةَ عاصفةٍ تجاوزتها. هكذا يكونُ الفخرُ وقوداً للمرونةِ النفسية. حين تفخرُ بأنك استطعتَ النهوضَ بعد فشلٍ مرير، فإنّك تبنى داخلَك حصناً ضدّ اليأس. وكما كتبَتْ الشاعرةُ الأمريكيةُ مايا أنجيلو: لقد تعثرتُ فسقطتُ، لكنّي نهضتُ بفخرٍ لأنّ السقوطَ لم يهزمْ روحي.  

تذكّرْ معي المهندسَ الذي فخرَ ببناءِ جسرٍ صغيرٍ في قريته قبل أن يصمّمَ أعظمَ الجسور. أو الطالبةَ التي فخرتْ بخطواتها الأولى في القراءة قبل أن تصبحَ كاتبةً مشهورة. هؤلاء لم ينتظروا إنجازاتٍ ضخمةً ليشعروا بالفخر، بل عرفوا أن كلَّ خطوةٍ تستحقُ الاحتفال.  

في النهاية، الفخرُ الحقيقيُّ هو أن تعيشَ حياتَكَ كلّها كقصيدةٍ تكتبها بأناملك، لا كصورةٍ يحكمُ عليها الآخرون. هو أن ترى في كلِّ جرحٍ إمكانيةً لولادةٍ جديدة، وفي كلِّ فشلٍ بدايةً لمحاولةٍ أخرى.  

فليكنْ فخرُك كالشمسِ التي تُشرقُ دونَ أن تنتظرَ إعجابَ الناظرين، وكالوردةِ التي تزهرُ بين الصخورِ لأنّها تعرفُ أن الجمالَ حقٌّ لها، حتى لو لم يرَها أحد. وتذكّرْ دائماً: أعظمُ انتصارٍ هو أن تظلَّ إنساناً يحملُ قلباً شجاعاً، يعترفُ بضعفهِ أحياناً، لكنّه يرفضُ أن ينكسر.  

فماذا ستختارُ اليوم؟ هل ستتركُ الحياةَ تكتبُ على جبينك سطورَ الخضوع، أم سترفعُ رأسَكَ بفخرٍ وتقول: هذه أنا... كاملةٌ بنقائصي، جميلةٌ بتحدياتي، وقويةٌ بقدرِ ما أعطيتُ لهذه الحياةِ من معنى؟

جهاد غريب 
مايو 2025

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

نداء ما قبل الانفصال: رسالة في عتمة الغفلة!

  نداء ما قبل الانفصال: رسالة في عتمة الغفلة! ليست هذه الكلمات محكمة إدانة ولا صك اتهام، بل هي مرآة هادئة، نضعها برفق أمام بعض النساء، علّها...