في حضرة النور الذي لا يُقاس، ولا يُشخصن!
كان هناك حضورٌ لا يُشبه أحدًا، نورٌ لا يتكئ على اسمٍ أو وجه، بل يتدفق كتيارٍ داخليّ يمرّ فينا جميعًا متى انفتحنا على احتمالات التعلم، وانكسر فينا كبرياء المعرفة الجاهزة. لا يمكن اختزاله في شخصٍ بعينه، لأنه ببساطة يُشبه فكرةً عليا؛ تشبه المطر حين يبلل أرضًا لم يكن يعلم أصحابها أنها عطشى. هو من تلك القوى التي لا نراها، ولكننا نلمس أثرها في طريقة جلوسنا، في طريقة إصغائنا، في الحروف التي نختار قولها والأخرى التي نؤجلها.
الامتنان الذي لا يُكتب، بل يُتجلى:
ليس من السهل أن نكتب عن الامتنان، لأنه لا يُكتب. هو ليس شعورًا مريحًا كما يُعتقد، بل شيئًا يشبه الدمع الذي يتجمّع في طرف العين ولا يسقط. تلك اللحظة التي تفهم فيها أن ثمة مَن ساعدك أن ترى، لا بأن يريك شيئًا، بل بأن أعاد لك عينيك. لا نكتب عن ذلك لنردّ جميلًا، بل لنحاول فهمه. لأننا أمام مواقف كهذه، لا نقول "شكرًا"، بل نُصغي لصمتنا وهو يحاول أن ينطق.
عطايا تُربك قوانين الأخذ والعطاء:
ليس الكرم أن تُعطي فقط، بل أن تُعطي ما يُحرّك روح الآخر، لا ما يملأ يده. هناك مَن كانت كلماته بذورًا، يُلقيها دون أن يراقب إن نبتت، لكنه يعلم أن الأرض لا تخون خصوبتها. لم يكن يمنح أجوبة، بل أسئلةً ذكية تُربك ترتيبك الداخلي، ثم تهبك شكلاً جديدًا للوعي. يشبه ذلك الربيع الذي لا يطرق الباب، لكنه يدخل من الشقوق الخفية، ويملأ الزوايا بالضوء والعطر.
الجسر الذي لا يُبنى بالحجارة:
من النادر أن تلتقي بحضورٍ لا يريد أن يُنقذك، بل أن يُريك كيف تنقذ نفسك. لا يحملك، بل يعلّمك كيف تُصغي إلى صوت الخطى داخلك. هو الجسر الذي لا يُقام بين ضفتين، بل بين ذاتٍ وذاتها، بين روحٍ كانت تتعثر بكثرة الأسئلة، وبين يقينٍ ناعم يهمس: "لن تُضيّع الطريق، لأن الطريق بداخلك". بعض الأرواح لا تُعلّمنا كيف نصل، بل تجعلنا نعيد تعريف الوصول نفسه.
حين تصبح الحياة درسًا لا يُدرّس:
"الحياة تُعاش، لا تُروى"، هذه العبارة وحدها كفيلة بإرباك قارئٍ مهووس بالحكاية. لكنها في قلبها دعوة لأن تتحوّل أنت من راوٍ إلى راقص، من مراقب إلى صانع معنى. ليست الحياة فصلاً في كتاب، بل هي الكتاب المفتوح على طاولة قدرٍ واسع، كل صفحةٍ فيه تبدأ بسؤال: "هل أنت مستعد لأن تخطو دون أن تعرف إلى أين؟".
وهناك مَن كان يعلّمك كيف تُمسك بيد اللحظة، لا لتسيطر عليها، بل لترافقها. وكيف تُضيء شمعتك لا لتتغلب على الظلام، بل لتراه على حقيقته.
المعرفة: نسيجٌ من الضوء لا من الورق!
بعضهم لا يُعطيك معلومة، بل ينسج لك خيوطًا من إدراك. وكأنّ كل جملةٍ منه تُعيد ترتيب أثاث وعيك الداخلي. المعرفة عنده لم تكن مخزونًا، بل شُرفة. لا يتحدث لتُسجّل كلامه، بل ليجعلك تكتب أنت نصّك الخاص. وحين يتحدث عن التفصيل الصغير، يُشعرك أنه جزء من نسيج كونيّ أكبر، وأن لا شيء في الوجود يأتي صدفة، ولا أحد يمرُّ بلا أثر.
الضوء الذي لا يحتاج اسمًا!
إن ما يجعل هذا النور عزيزًا هو أنه لا يُنسب إلى أحد. لا إلى معلم ولا إلى صديق ولا إلى ملهِمٍ عابر، بل إلى تلك اللحظة الصافية التي يحدث فيها الاتصال بينك وبين أعمق ما فيك. لذلك، لا حاجة لأن نسميه. يكفي أن نترك الباب مفتوحًا ليدخل. يكفي أن نحمل في أرواحنا فسحةً لما لا يمكن وصفه، لأن ما لا يُسمّى، هو غالبًا ما لا يُنسى.
جهاد غريب
مايو 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق