الثلاثاء، 20 مايو 2025

الهدايا الخفية في زمن الراكضين!

 
الهدايا الخفية في زمن الراكضين!

في زمنٍ يُقاس فيه كل شيء بالسرعة، نمرّ على لحظاتنا كما لو كنا نعتذر من الوقت لا نعيشه!، نُمسك بالكثير، لكن القليل فقط يلمس أرواحنا. وسط ضجيج الركض، ثمة هدايا لا تُرى إلا حين نُبطئ، نُصغي، ونسمح للحظة أن تهمس لنا بما أخفاه التسرع.

لحظة تنبض بالحضور:
كلما حاولت أن أقبض على اللحظة، وجدت أن بيني وبينها طبقة خفية من التفكير؛ التفكير في ما سبقها، أو في ما يليها، أو في معناها، وكأن الحاضر لا يُمنح كما هو، بلا شروط، بل ينتظر مني أن أفرغ رأسي تمامًا كي يدخل. لكن من ينجو من ذلك الرأس المزدحم؟ من تلك الأفكار التي تزحف خلسة حتى إلى كوب القهوة الصباحي، أو إلى لحظة الاستلقاء على السرير بعد يوم طويل؟ يبدو أن العقل، رغم كل محاولاته للتركيز، لا يعيش اللحظة، بل يفسّرها، يقارنها، يعيد تشكيلها.

ربما لهذا يمر الحاضر كطيف، لا كزيارة!، نسمع وقع خطاه لكنه لا يبقى، أو نُمسك طرف ثوبه ثم نفلت، أو بالأحرى: ننشغل عنه؛ ونحن نظن أننا نعيش الآن، بينما نحن في الحقيقة نُدوّن في دفتر الأمس، أو نُعدّ خريطة الغد.

ورغم هذا الزحام، ثمّة ومضات تخترق ضباب اليوم، تُذكرنا بأن الحياة لا تُقاس بطولها، بل بكثافة الشعور فيها، بلحظة صافية، بضحكة غير محسوبة، بنظرة تصنع بينك وبين العالم صلة لا تُرى؛ نعيش الزمن كأنه عدو، لا كرفيقٍ يهمس إلينا بأسراره. 

وفن إدراك الجمال ليس ترفًا فكريًا ولا رفاهية شاعرٍ حالم، بل هو فن البقاء في عالمٍ يمرّ بسرعة الضوء: فن التوقف أمام زهرة، فن السكون في حضرة المطر، فن التماهي مع غروبٍ يُذيب القلب قبل أن يُذيب الأفق.

من يتقن الإصغاء إلى همسات اللحظة، يعرف أن الحضور ليس حالة جسدية، بل فعلٌ روحي، اختراقٌ عميق للسطح نحو جوهر التجربة. ربما لا نذكر الأيام كما عشناها، لكننا نذكر لحظة شعورٍ خالص، لحظة عرفنا فيها أننا أحياء، لا لأننا نتنفس، بل لأننا كنا هناك، بكامل ما فينا، نحب، نشعر، نندهش.

نحتاج إلى أن نفتح نوافذنا للحواس، وقلوبنا للدهشة، وعقولنا للفهم البطيء، لأن الجمال لا يُصرخ، بل يُهمس. فقط عندما نتوقف عن الركض، وننصت لما بين الأصوات، نكتشف أن اللحظة التي كنا نظنها عابرة، كانت في الحقيقة بيتنا الوحيد.

دهشة التفاصيل وصوت اللحظة:
عندما نستعيد الذكريات، نحن لا نستعيد الوقائع، بل الروائح التي عبّقت المكان، الألوان التي التمعت، النبض الذي كان في صدرنا. قد ننسى ما قلناه تحديدًا، لكننا لا ننسى كيف جعلنا الآخرَ يشعر، ولا كيف شعَرنا نحن حينها.

في حياةٍ تمضي كالسهم قبل أن نراها تمر، ننسى أحيانًا أن نعيش ببطء الصوت. اللحظة تمر، لا لأنها خفيفة، بل لأننا لم نكن حاضرين بما يكفي لنسمع وقع خطواتها. التفاصيل الصغيرة التي تتناثر كحبات المطر، ليست بقايا عابرة من يوم مزدحم، بل هي المعنى نفسه الذي يختبئ في الزوايا.

اللحظات لا تُصوَّر بالكاميرا، بل تُلتقط بالحسّ!، فكم من صورة فوتوغرافية لم توقظ فيك شيئًا، وكم من عطرٍ عابر جعلك تقف وسط الشارع لأن قلبك سُحب إلى مقعد قديم، في مكان لا يعرفه من حولك.

ليس من الضروري أن تكون شاعرًا لتشعر، لكن من الضروري أن تتوقف، أن تنظر، أن تترك قلبك يتورط في دهشة ما هو بسيط. كوب قهوة يُشرب دون استعجال، ظل شجرة يلامس الأرض بنعومة، يد دافئة تصافحك دون مناسبة، كلها رسائل. لكنها لا تُقرأ بالعين، بل بالبصيرة.

نحن نعيش اللحظة الآن، نعم، لكنها في الحقيقة تُهيّئ نفسها لتكون ذكرى غدًا. فهل نمنحها من الصدق ما يكفي لتستحق أن تعود؟ هل نُضيف فيها لمسة تجعلها أكثر من مجرد عبور؟ اللحظة ليست فقط ما يحدث، بل كيف نستقبله. حين نُصغي بكامل روحنا، حين نضحك دون أن نلتفت للزمن، حين نُحب دون أن نحسب كم تبقى من الوقت... حينها فقط، تكون اللحظة جديرة بأن تُحفظ في الذاكرة، لا كواقعة، بل كأثر.

الجمال لا يُعلن عن حضوره، بل يأتي هامسًا، يشبه صديقًا قديمًا لا يطرق الباب، بل يدخل دون أن يحدث صوتًا، فيفتح النافذة، ويترك نسمة تتسلل إلى قلبك، ولعل أعذب ما في الجمال أنه لا يشبه أحدًا، ولا يتكرر أبدًا. مشهد الغروب الذي تراه اليوم، قد يتكرر شكله، لكن إحساسك فيه لا يعود. لأنك أنت لم تعد كما كنت. وهذا ما يجعل اللحظة كنزًا لا يُعاد.

حين نتعلم أن نعيش اللحظة كما هي، لا كما نريدها أن تكون، يصبح العالم أكثر رحمة، وحين نُحب كما لو أن الحب يُكتشف لأول مرة، نغفر كما لو أن الغفران هدية لأرواحنا، لا للآخرين، ونصمت كما لو أن الصمت صلاة، نلامس جوهر الحياة. ليس من العدل أن نختزل الحياة في إنجازاتنا، ونُهمل ما لم يُكتب، ما لم يُصوّر، ما لم يُعلَن.

هناك حكمة قديمة تقول: "الحياة لا تُقاس بعدد الأنفاس التي نأخذها، بل باللحظات التي تُدهشنا حتى ننسى أن نتنفس." والدهشة ليست حدثًا خارقًا، بل شعور داخلي يولد عندما نسمح لأنفسنا بأن نكون موجودين تمامًا.

نحتاج أن نُبطّئ خطانا. أن نمشي دون هدف أحيانًا. أن نحدّق في لا شيء، فقط لأن في اللاشيء كل شيء. أن نُصغي للصمت كأنه صوت، وننظر إلى الظل كأنه ضوء. حينها فقط، نبدأ في تذوق الحياة لا كشيء نملكه، بل كهدية نُدهش بوجودها كل مرة من جديد.

ولعل أعظم أشكال الامتنان هو أن نعيش وكأننا لن نُمنح هذه اللحظة مرتين. أن نلمس الوردة لا لنقطفها، بل لنشعر بخجلها. أن نستمع لصوت المطر لا كخلفية، بل كأغنية كُتبت لنا نحن فقط. أن نكون بسطاء بما يكفي لنندهش، وعميقين بما يكفي لنفهم أن ما نعيشه الآن... هو الحياة.

نُهدهد اللحظة كي لا تهرب:
نحن لا نعيش الحياة مرة واحدة، بل نعيشها كلما تذكرنا، كلما أدهشتنا تفصيلة، كلما احتضننا مشهدٌ عابرٌ بشعورٍ غيرِ عابرٍ، ولهذا، فإن أجمل ما في اللحظة ليس حضورها، بل قدرتها على البقاء فينا بعد أن ترحل. قد لا نمتلك قدرةً على إيقاف الزمن، لكننا نملك ما هو أعمق: أن نكون شركاء في دهشته، شهودًا على معجزاته الصغيرة.

ليست الحياة شيئًا نؤجله حتى تتحسن الظروف، أو ننتظره في عطلة نهاية الأسبوع، أو نكتبه في قائمة المهام. الحياة تُقاس بالحضور، بالحساسية تجاه كل ما لا يُرى، وبالانتباه لما لا يُقال، ربما لهذا تبدو الطفولة أجمل مراحل العمر، لأن الطفل لا يفكر في الأمس، ولا يتوقع الغد، بل يغمره الآن كأنه العالم كله.

فلنحاول، على الأقل، أن نستعيد شيئًا من تلك البراءة. أن نُبطئ قلبنا قليلًا، ونمنحه فرصة أن يفرح دون تفسير، أن يحزن دون مقاومة، أن يصمت دون شعور بالنقص، لأن أعظم شجاعة، في هذا الزمن الذي يركض، هي أن نقف. أن نُصغي. أن نعيش كما لو أن الحياة تهمس لنا: "أنا هنا، لا تمرّ بي بسرعة."

نعم، نحن نحتاج إلى الإنجاز، وإلى الأهداف، وإلى السعي... لكننا نحتاج أكثر إلى أن نضع أرواحنا في هذه الرحلة، لا أن نتركها على الرصيف. نحتاج إلى أن نُمسك باللحظة كمن يُمسك بريشة، لا بحبل. أن نهدهدها كي لا تهرب، ونشكرها لأنها جاءت رغم الزحام، رغم الفوضى، رغم التعب.

قد لا يعرف أحد كم لحظة جميلة مرت بنا، ولا كم مرة ابتسمنا لأن ظل شجرة حرّك فينا شيئًا. لكننا نحن نعرف، ونحن، في النهاية، من يُشكّل الحياة بذاكرتنا، لا بأحداثها فقط.

فليكن حضورنا في لحظتنا هو أعظم ما نُهديه لأنفسنا.

جهاد غريب 
مايو 2025

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ما لا يمكن أن تكتبه الآلة: بين لهب الشعور وبرودة الشرارة!

  ما لا يمكن أن تكتبه الآلة: بين لهب الشعور وبرودة الشرارة!  في غابةٍ هادئةٍ تُغني فيها الأشجار بصمت، وتتموّج فيها الأعشاب كما لو كانت تهمس ...