الاعتراف.. اللحظة التي تُغيّر المصائر!
في الصمت الذي يسبق الهمسة، وفي العمق الذي يختبئ وراء حجاب الذرائع، يولد الاعتراف كضوءٍ يعبر شقوق الروح المظلمة؛ ليس مجرد كلمات تُلفظ في لحظة انكسار، بل زلزالٌ يهزّ أركان الذات، يُعيد ترتيب الخريطة الوجودية للإنسان. إنه اللحظة التي يختفي فيها التمثيل، وينكشف الغبار عن المرآة، فنرى أنفسنا كما نحن، لا كما نتمنى أن نكون.
هنا، في هذا الكشف الصادق، تكمن المفارقة العظيمة: أن نعترف هو أن نتحرر، أن ننكسر هو أن نُصلح، أن نسقط هو أن ننهض من جديد. ففي قلب كل إنسان غرفة صغيرة معتمة لا يدخلها نور إلا حين يُفتح باب الاعتراف، ذلك الموت الوحيد الذي لا نخشاه، بل نشتاق إليه، لأنه موت الوهم الذي كنا نسميه حياتنا، وبعثٌ للحقيقة التي كانت تنتظر تحت الركام.
وحين تُسند ظهرك إلى الجدار لوهلة، لا تفعل ذلك ضعفًا، بل لتجمع القوة للاندفاع من جديد، والاعتراف هو تلك اللحظة التي تسبق القفزة؛ ليست المصائر هي التي تُكتب فقط، بل أنت الذي يُعاد تشكيلك من الداخل، فتُصبح أكثر قربًا من سكينة تستحقها، ومن حياة تنبع من معرفة حقيقية بالله. وما المغفرة إلا نتيجة حتمية لهذا الانحناء الطوعي، لهذا الصدق المقدّس، لهذا الاعتراف الذي لا يُقال للناس، بل يُقال لله وحده.
أن تعترف، هو أن ترى، ولأول مرة، نفسك كما هي، لا كما كنت تزينها لنفسك أو للناس. هناك في تلك اللحظة الفاصلة، لا يحتاج المرء إلى خطب ولا إلى شهود، فالعين تكفي لتشهد، والقلب وحده يكفي ليبكي. وما إن يُنطق الاعتراف، بصوت أو بدعاء أو حتى بندم خفي، حتى تبدأ المصائر بالتبدل. كم من سنوات نضيعها ونحن نهرب من اعتراف يستغرق ثانية واحدة؟ إنها المفارقة التي تحوّل عمرًا من التيه إلى لمحة واحدة من اليقظة.
الله لا يحتاج لاعترافنا كي يعرف، بل نحن من نحتاجه لنعرف أنفسنا. والاعتراف ليس طقسًا شكليًا، بل هو حركةٌ من الأعماق إلى السّماء. إنه الصدق الذي لا يُزيف نفسه بتبرير، ولا يُخفيه خجل، ولا يُشوهه كبرياء. تأمل في الكلمة نفسها: "اعتراف"، تحمل بين حروفها جذور "عرف"، أي المعرفة.
إنها ليست مجرد بوح، بل كشف لحقيقة داخلية، اعتراف بأن شيئًا ما لم يكن على ما يرام، وأنك رأيته الآن بوضوح. هذا البصر الجديد هو ما يُغيّر المصائر، لا الحدث في ذاته، بل ما يفتحه من أبواب، وما يهدمه من جدران، وما يبنيه من معابر بين القلب والله.
في القرآن، تتدفق آيات المغفرة كأنهارٍ لا تنضب، لكنها تلتقي دائمًا بشرط واحد: "إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا". التوبة هنا ليست مجرّد ندم، بل اعترافٌ يتحول إلى فعل، وكلمةٌ تتحول إلى مسار. حين يعترف الإنسان، فإنه لا يخترق سرًا لله، بل يخترق جدارًا في نفسه. كلما انكسرت أمام الحقيقة ارتفعت، وكلما اعترفت بضعفك قويت، وكلما أذعنت بالذنب تحررت.
ولكن، لماذا تكون هذه اللحظة بالذات هي المفصل الذي يفصل بين مصيرٍ ومصير؟ لأن الاعتراف هو اللحظة التي يموت فيها الكذب الداخلي، ذلك الكائن الطفيلي الذي يتغذى على أعذارنا الواهية. كم من إنسانٍ ظلّ يجرّ أذيال خطاياه سنواتٍ طويلة لأنه لم يجرؤ على قول: "نعم، أخطأت"؟ وكم من علاقاتٍ تحطمت لأن كلمة "آسف" ظلت حبيسةَ الغرور؟ الاعتراف هو الجسر الذي نعبره من عالم التبرير إلى عالم الحقيقة، ومن سجن الماضي إلى فضاء المستقبل.
في قصص الأنبياء والصلحاء نجد بصمات هذه اللحظة المصيرية. آدم عليه السلام، لم يجادل ولم يبرر، بل قال هو وحواء: "رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا"، فكانت تلك الكلمات المدخل الأول إلى الرحمة. وموسى، حين قتل رجلًا خطأ، قال: "رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي"، فلم تكن المغفرة بعد زمن، بل لحظية: "فَغَفَرَ لَهُ". وما بين "اعترفت" و"غُفر"، طريق لا يُقاس بالزمن بل بالصدق.
فالزمن خدعة إذا ما وُجد الصدق، واللحظة التي تُفتح فيها بوابة القلب لله هي لحظة تُكتب خارج دفاتر الوقت.
إنه السر الذي يجمع النبي التائب والعاصي الندمان، فليس بينهما إلا لحظة اعتراف صادقة جعلت من الخطيئة الأولى سلمًا إلى رحمة أرحم الراحمين. الاعتراف هنا ليس نهاية الطريق، بل هو البذرة التي تُزرع في تربة التوبة، فتنمو منها أغصان المغفرة.
إنه السر الذي يجمع النبي التائب والعاصي الندمان، فليس بينهما إلا لحظة اعتراف صادقة جعلت من الخطيئة الأولى سلمًا إلى رحمة أرحم الراحمين. الاعتراف هنا ليس نهاية الطريق، بل هو البذرة التي تُزرع في تربة التوبة، فتنمو منها أغصان المغفرة.
لكن الاعتراف ليس فقط إقرارًا بالذنب، بل هو أيضًا إقرارٌ بالنعمة. أن تعترف بفضل الله عليك هو نوعٌ آخر من التحرر، تحرر من وَهْم الاكتفاء الذاتي، ومن عمى الحقّ. كم من نعمةٍ بين أيدينا لا نراها إلا عندما نعترف بها؟ وكم من قلبٍ ظلّ جافًا لأنه لم يتعلم لغة الشكر؟ الاعتراف بالخير يفتح أبوابًا أخرى للمغفرة، لأنّه يُذكّرنا بأننا دائمًا في حاجةٍ إلى العفو، كما نحن في حاجةٍ إلى الهواء.
أمام هذا كلّه، ما الذي يمنعنا من الاعتراف؟ ربما الخوف من أن نبدو ضعفاء، أو الوهم بأننا نستطيع إصلاح الأخطاء بأخطاء جديدة. لكن الحقيقة التي لا مفرّ منها هي: لا شيء يُضعف الإنسان أكثر من الهروب من الحقيقة، ولا شيء يقويه أكثر من مواجهتها. الاعتراف شجاعة، والشجاعة هي التي تُعيد كتابة المصائر.
فإذا أردت أن تعرف متى يبدأ التغيير الحقيقي في حياتك، فابحث عن تلك اللحظة التي تقف فيها أمام المرآة بلا أقنعة، وتقول بصدق: "هذا أنا.. بعيوبي، بذنوبي، بضعفي، وبإصراري على أن أكون أفضل". عندها، ستسمع همسة المغفرة تُناديك من حيث لا تتوقع: "يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ".
ليس الاعتراف مجرد كلمات تقال، بل هو ذوبان الصقيع عن النافذة التي طالما حجبت عنك ضياء الصباح، حتى إذا انجلت، رأيت أن الباب لم يُغلق أبدًا، بل كان يدعوك طوال الوقت: ادخل، ففي رحاب المغفرة، كل الاعترافات تُقبل، وكل القلوب تُحضن.
فلا تؤجل تلك اللحظة، ولا تُكثر من الأعذار، لأن المصائر، لا تتغير بصوت مرتفع، بل بصوت خافت يهمس من القلب: "يا رب، أنا أعترف"، وبين الاعتراف والمغفرة، حكاية سرية لا يدركها إلا من جلس صادقًا على عتبة الله، وقال بقلبه قبل لسانه: أنا أعود إليك، فاجعل هذه اللحظة بداية لا نهاية.
جهاد غريب
مايو 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق