الجمعة، 23 مايو 2025

الصمت لا يُثمر حين يُروى بالذل!


الصمت لا يُثمر حين يُروى بالذل!

ليس المهم أن يتحدث القريب، ولا الأهم أن ينطق البعيد؛ فالقرب لا يمنح العصمة، والبعد لا يهب قداسة. القرب لا يصنع الأنبياء، والبعد لا يهب الحكمة اليعقوبية. نحن لم نكن نتكئ على صلة رحم ولا نرفع أحدًا بقرابة دم، بل بميزان الشرف والعدل والعقل. كنا منذ نصف قرن كالبنيان المرصوص، يشهد لنا القاصي والداني بنقاء اليد، وطهر اللسان، ونبل المعشر، وسخاء القلب، وعظمة الإدراك. وهذا ما أبقانا واقفين، رغم محاولات الزمن أن يكسر فينا العزم.

لكن، ما كل دوام فضل، ولا كل صبر ثواب. فلكل أمة لحظة صدع، إما بقدرٍ يكتبه الله في صحائف الناس، أو بظلمٍ يستعجل الزوال. والزوال يأتينا اليوم لا لأننا ضعفاء، بل لأن الجهلاء منا هم من أمسكوا بالدفة، ومن جلسوا على صدر الحُكم والنُصح دون أن يفقهوا وزن كلمة ولا معنى مقام.

نعم، أقولها اليوم علنًا: أعلنت العصيان. أعلنت العصيان على أولئك الذين كنا نحن ظلهم فصاروا سيفًا على رقابنا. تمردت على سكوتٍ جعلني شريكًا في خيبتهم، مطالِبًا بحقٍ أضعناه في مجاملة الأغبياء ومهادنة الجهلاء. لقد أعطيناهم منابر لم يستحقوها، ورفعناهم فوقنا لأننا ظننا أن في الكِبَر حكمة، فخانوا الحكمة، وخانوا الكبَر.

لقد انتهى زمن المجاملة، لم نعد نُجيد الابتسامات الزائفة، ولا نملك شغف تلميع وجوه الطين. لا، لقد انهكني الصمت. كَسرني أن أراك عظيماً في مخيلتي وأنت في حقيقتك لا تساوي حتى ظلّ رجل عظيم. أعلنت عليكم التمرّد، أعلنت أن اليوم ليس لكم، بل علينا أن نرد الدين الذي أثقل أرواحنا، دين الاحترام الذي لم تكونوا أهله.

كل من ظن نفسه فوق الناس لأنه خُدع بأدبنا، عليه اليوم أن يضع رقبته تحت سيف العدالة. لن نترك له مجالًا أن يظن أن خيبته تمر بلا حساب. سنأخذ بحقنا، لا كما يُؤخذ اللطف بالرجاء، بل كما تُنتزع الحقوق من بين أنياب التمرد.

لا نريد منهم اعتذارًا، بل قصاصًا. لقد وضعوا أقدامهم على رؤوسنا دهورًا، فآن أن نضع رؤوسهم تحت أقدام الحقيقة. لا نطلب إلا جزاءً على خيبتهم. سننزع عنهم جلد الطهر الذي لبسوه زورًا، وسنتركهم عراة أمام ضمائرهم، وأمام الأجيال القادمة التي ستعرف من أسقط المجد ومن هدم الرفعة.

كنا نحن الذين رفعناهم، فتوهموا أنهم عظماء. كنا نحن من نفخ في جمرهم كي لا يخبو، فظنوا أنهم شموس. والآن نقولها: ما عادت الشعارات تهمّنا، ولا الرايات تُغري أعيننا. لم يعد عندنا وقت نضيعه في صبر لن يُثمر. لقد قطفوا الثمار، وتركوا لنا العطش والتراب.

اليوم نحاسب. اليوم نحاكم. اليوم نقتص.
سندكّ أسوارهم التي ظنوا أنها مجد، وهي في الحقيقة بيوت عنكبوت. سنكسر سيوفهم الخشبية التي رفعوها علينا، وسنكتب على جباههم: كنتم خيبةً وكنّا وفاءً. لن ندع لهم سبيلًا إلا تحت صليل الحق، وسنُذيقهم مرارة الكبرياء الذي سرقوه من أعيننا.

وليعلم كل جاهل، كل فاجر، كل سقيم النفس، أننا لم نكن ضعفاء، بل نبلاء. لكننا اليوم غير الأمس. اليوم نحن وقتهم. نحن لحظتهم. نحن نهايتهم.

وأنا العظيم الذي سيكتب على رقابهم: هالكون... أبدًا.

جهاد غريب 
مايو 2025

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

من خطواتهم نعرفهم!

  من خطواتهم نعرفهم! هل تأملت يومًا كيف تخبرنا الخطوات بما لا تقوله الشفاه؟ في زحام الأرصفة، تحت ظلال المباني التي تحجب الشمس وتتركنا لأنفسن...