الأربعاء، 21 مايو 2025

كذبة الصبر المنعزل!

 
كذبة الصبر المنعزل!

حين يردد البعض بثقة: "من اعتاد على تجاوز حزنه بمفرده، لن يؤثر فيه بقاء أحد أو غيابه"، فإنهم في الحقيقة لا يروون حقيقة، بل يتحدثون عن مشهد ناقص، عن ألم لم يتجاوز جلده، عن جرح سطحي بالكاد وخز الشعور، ثم مر. 

هذه العبارة وإن بدت قوية عند أول وهلة، إلا أنها، في عمقها، مغلوطة حد السذاجة. لا لأن الإنسان ضعيف، ولا لأن الحزن يستقوي عليه، بل لأن هذه المقولة تنكر أمرًا بدهيًا: أن الإنسان كائن اجتماعي، مخلوق من تفاعل، من علاقات، من تضامن، من خذلان أحيانًا، ومن عناق كثيرًا. من يزعم أنه يتجاوز حزنه بمفرده لم يجرب حزنًا حقيقيًا.

لا يعيش أحد بمفرده في هذا الكوكب، ولا أحد يتجاوز الألم دون أن تمتد له يد، وإن لم تُرَ تلك اليد، فربما كانت في كلمة، في نظرة، في صوت من بعيد، أو حتى في ذكرى حُفرت من شخص لم يعد موجودًا. 

فمن الذي يحزن أصلًا؟ أليس هو من خُذل من صديق، أو فارق حبيبًا، أو انفصل عن شريك، أو خسر سندًا؟ ومن ذا الذي يسبب الحزن إن لم يكن الآخر؟ كيف إذًا يقال إننا نتجاوز ما سببه الآخر بأنفسنا وحدنا؟ ما هذا التناقض العاطفي الفادح؟

الحزن العميق لا يُزال بالجلوس في العزلة وتأمل الجدران. بل إن الحزن الحقيقي يعيد تشكيل الروح، يبعثر الإنسان، يقلبه من الداخل، ويحتاج لترميم طويل لا يقوم به عقل منعزل مهما ادعى الصلابة. من تألم لفقدان زوجته، من خانه صديقه، من انكسر في عمله، من خذله أبناؤه، من خسر وطنه، هل يُقال له: تجاوز بمفردك؟ 

من يعيش في سجنه الخاص، أو على هامش المجتمع، أو بين أفراد لا يفهمونه، لا يحتاج إلى مزيد من العزلة كي يشفى، بل إلى صوت يربّت عليه، إلى إنسان لا يطلب تفسيرًا، بل يقدم حضوره.

ثم من قال إن تجاوز الحزن هو انتصار؟ ربما التجاوز دون فهم، دون مواجهة، دون مشاركة، هو في حقيقته قمع وتأجيل وترحيل للوجع، لا شفاء منه. من اعتاد أن يخنق حزنه بصمت، لا يعني أنه قوي، بل ربما يعني أنه اعتاد أن يُترك، أن يُهمَل، أن يُخذَل، فصار يتعامل مع حزنه كما يتعامل المتشرد مع البرد: يحاول أن يدفن نفسه باللا شيء، ويقنع نفسه بأن البرد لا يوجعه.

هذه المقولة، في جوهرها، تُمجّد الوحدة في غير محلها، وتحتفي بالعزلة كأنها بطولة، بينما هي، في الحقيقة، غالبًا رد فعل على الخذلان أو على تكرار التجاهل. نعم، قد يبدو بعض الناس قادرين على تجاوز الألم وحدهم، لكنهم لا يتجاوزونه، بل يدفنونه، ولا أحد يعلم متى ينهار هذا الدفن.

ثم إن الحزن ليس ساحة نخوضها بمفردنا. هو معركة تحتاج حلفاء. فحتى الذين كانوا في الكهوف، في السجون، في أقسى لحظات الوحدة، لم تكن ذاكرتهم فارغة من الوجوه، من الأصوات، من الرسائل، من فكرة شخص سيعود، من حلم لقاء، من انتظار حياة أفضل. الإنسان لا يمكنه أن يعيش دون أثر للآخر. فكيف له أن يتجاوز ألمه دون الآخر؟

لا شيء في الإنسان يُبنى بمفرده، ولا حتى القدرة على الصبر. كل صبرٍ خلفه تجربة، وكل تجربة شارك فيها أحد. من يتجاوز الحزن وحده؟ لا أحد. وإن وُجد، فإنه تجاوز حزنه السطحي، لا ذلك الحزن الذي ينزع القلب من مكانه، ولا ذاك الذي يتركك تتنفس بصعوبة وتنام بدمعة.

لو كانت هذه المقولة صحيحة، لما احتيجَ لمعالج، ولا لصديق، ولا لزوجة تحتضن، ولا لأخ ينصت، ولا لعين تسأل دون كلام: هل أنت بخير؟ من قال إن البقاء أو الغياب لا يؤثر؟! الغياب وحده حزن. والوجود أحيانًا شفاء. والعبارات التي تصف البشر كأنهم آلات تتعافى بمجرد زر، هي عبارات لا تليق بهذا الكائن الرقيق العجيب المعقد.

لا، لا نتجاوز حزننا بمفردنا. نحن نتجاوزه حين نجد من يصدق وجعنا دون أن يستخف به. نتجاوزه حين لا نُترك. نتجاوزه حين نُرى، ونُفهم، ونُحب رغم تصدعاتنا. وكل ما عدا ذلك مجرد خداع ناعم يُقال بصوت بارد في صور أنيقة على شاشات مضاءة. 

أما في العمق، فالحقيقة عارية: لا أحد يتجاوز حزنه العميق بمفرده. وإن ظنّ أنه فعل، فليعد إلى نفسه بعد حين، سيجد أن الحزن نائم في الزاوية، لم يرحل، بل كان ينتظر اللحظة المناسبة ليذكّره أنه ما زال هناك، ينزف، بصمت.

جهاد غريب 
مايو 2025


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

نداء ما قبل الانفصال: رسالة في عتمة الغفلة!

  نداء ما قبل الانفصال: رسالة في عتمة الغفلة! ليست هذه الكلمات محكمة إدانة ولا صك اتهام، بل هي مرآة هادئة، نضعها برفق أمام بعض النساء، علّها...