جيل الصمت والضوء!
كأننا وُلدنا وسط شاشة... لا أرض تحت أقدامنا، ولا سماء تحمينا من ضوء زائف يتلألأ بغير دفء. جيلٌ يُحسن التحديق في الضوء، ويغفل عن اللهيب المتخفي خلف البريق. نكبر أمام مرآة الهاتف، وتذبل أعيننا في حفل تنكريّ دائم، حيث تُرتدى الوجوه لا الأقنعة، وحيث تُباع المشاعر مغلفة بألوان فاقعة لا تُظهر الصدأ.
في زمنٍ يُشبه المرآة المُشقَّقة، نرى فيه وجوهنا مكسورةً إلى ألف انعكاس، كلٌّ منها يصرخ بحقيقةٍ مختلفة، وكلٌّ منها يُريدنا أن نكون صدىً لصوته لا أكثر. لا أحد يطلب منك أن تفكر، بل أن تتفاعل. لا أحد ينتظر منك موقفًا، بل أن تضع قلبك في صندوق تعليقات ثم تمضي. جيلٌ يرى الحقيقة تنهار تحت وطأة التصفيق للباطل، يرقب الظلم في كل زاوية، ويُصفّق له البعض بدافع الخوف، والبعض الآخر بدافع العادة.
الصمت لم يعد هدوءًا، بل عجزًا. العالم يرى، يسمع، يكتب المنشورات... ثم ينام. ومن تحت أكوام الظلم، يصعد صدى خافت، فينهض من تبقى له قلب لم يُقشره التبلد. غضبٌ لا يصرخ، لكنه يشقّ الصخر بنظرة. نبيلٌ، لا يشتم ولا ينهار، لكنه يعرف أن السكون أحيانًا خيانة، وأن الكلمة سلاح حين تُقال في الوقت المناسب، وباللغة التي تعبر دون أن تشرح. فالغضب النبيل لا يعني الصراخ، بل يعني القدرة على زرع شجرة وسط الإسفلت، على رفع الراية حين يتكسر الخشب في يدك ويضحك من حولك، على الإصرار أن الكلمة قد تُنقذ يومًا ما إنسانًا في أقصى الأرض.
جيلٌ يتقن الإعجاب السريع، ويعجز عن الحب الصادق، يخلط بين الشهرة والجدارة، بين الصورة والمضمون، بين من يضيء كلمح برق، ومن يشتعل كالنجوم القديمة في سماء بلا ضجيج. يسير في بحرٍ من الرمال المتحركة، كلُّ خطوةٍ يُقابلها ابتلاعٌ بطيء. السرُّ في الصمود ليس في العضلات، بل في لحظةٍ يقرر فيها أحدهم أن يكون صخرةً لا تذوب، أن يقول "لا" حين تبتلع الكلمة أفواه الجميع، أن يحب حين يصير الحب ضعفًا، وأن يحلم حين يصير الحلم ترفًا.
لكن من أين تُصنع الأحلام في هذا الصخب؟ كيف لمن تاهت قدماه بين الرغبة في أن يُرى، والخوف من أن يُكشف، أن يبني قصرًا فوق الرمال ولا يخشى انهدامه؟ وحدهم من عرفوا أن الحلم لا يحتاج تصفيقًا، بل إصرارًا، من ينهضون. أولئك الذين يشبهون الأشجار، يقفون صامتين، ولكن جذورهم تملأ الأرض حركة. وأولئك هم الذين يغيرون العالم دون أن يصيحوا، فقط يواصلون.
الغريب أن من يبدؤون الصعود لا يجدون التصفيق، بل نظرات الشكّ، وهمسات التقليل، كأن النقاء تهمة، وكأن الطهر ضعف. لماذا يخاف الناس من الأبيض؟ ربما لأنه يكشف بقع قلوبهم، وربما لأن النور حين يسطع، يفضح الظلال التي ظنوها مأمنًا. نُثبط أصحاب السرائر البيضاء لأنهم يذكّروننا بما فقدناه، لأنهم يحملون براءة لم تعد فينا، ولأن الطين حين يرى الندى، يشعر بالعار.
ومع هذا، يظهر صاحب الهمّة، من يشق الجدار بيده العارية، لا ليهرب، بل ليفتح ممرًا لغيره. الغريب، أن أول من يسير خلفه ليس مثله، بل من حاول تقليده بدافع النجاة لا القناعة. ومع الوقت، تتحول المحاكاة إلى رغبة، والرغبة إلى سعي، والسعي إلى معجزة صغيرة تغير مسار إنسان. هكذا تبدأ العدوى الجميلة... فكرة واحدة تنقذ من كان على شفا الانطفاء.
لماذا لا نشجّع أولئك الذين يشبهون الماء العذب؟ يمرّون بيننا دون أن نشعر، يزرعون الجمال ثم يختفون. هؤلاء الذين يحملون قلوبًا نقيّةً كالندى، وسرائرَ بيضاءَ كالصحائف التي لم تُكتَب عليها خطايا العالم، هم الذين يجب أن نمضي خلفهم، لا أن نتركهم وحدهم في مواجهة العاصفة.
لكن التناقض سيد هذا العصر: نرفع من لا يستحق، ونطمر من يضيء. نُطيل الوقوف في صفوف الوهم، ونمضي مسرعين حين نلمح الحقيقة. نُشيد بالضجيج وننسى الصوت الخافت الذي يهمس بالحكمة في زوايا القلب المنسية. نحن بحاجة إلى من يفهم أن الضوء ليس عدواً، لكن المبالغة فيه تعمي، وأن الغموض ليس جاذبًا، بل ستارٌ للفراغ.
ربما لن نصل جميعًا، لكن يكفينا أن نستمر في السير، أن نحمل راية الوعي في زمن التزييف، أن نربي أبناءنا على أن العظمة لا تقاس بعدد المتابعين بل بمدى التأثير الصامت الذي يزرع في الأرواح بذورًا لا تُرى ولكنها تنبت حين تحتاج الأرض إلى حياة.
لأن الحياة ليست انتظارًا للعاصفة أن تمر، بل هي تعلُّمٌ للرقصِ تحت المطرقة والسندان. وسنظل نرفع راياتنا حتى لو مزّقها الريح، وننثر بذورَ الكلمات في أرضٍ قد لا تُثمرُ اليوم، لكنها غدًا ستنبتُ غابةً من الأمل.
ما دام فينا من يؤمن بالنقاء رغم كل ما يُغري بالتصنع، سيبقى لهذا العالم أمل، وسيبقى للحق وجه لا تحجبه الفلاتر. لأن الأرضَ تدور، والليلَ ينجلي، ولا يبقى إلا أولئك الذين أصرّوا على الوقوفِ حين ارتضى الجميعُ بالسقوط.
جهاد غريب
مايو 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق