جمرة الروح في مسرح الظلال!
في عالمٍ تحكمه المشاهد المتقنة والتصفيق المعلّب، نرتدي أقنعتنا الخشبية يوميًا ونعتلي الخشبة كأننا نمثّل أدوارنا لا نعيشها، نختار بحذر ملامح الوجه، نحدّد بدقة مواضع البكاء والضحك، نؤدي واجب التهذيب والتسامح والمرح، وننسى في زحمة هذا التمثيل الطويل كيف يبدو صوتنا الحقيقي حين لا نؤدي أحدًا.
الخشبة ليست خشبًا فحسب، بل تلك الحياة المائلة بيننا وبين ذواتنا، تلك التي نعيشها ونحن نحاول أن نبدو كما يُنتظر منا، لا كما نحن!؛ الأقنعة ليست كذبًا، بل ضرورة مؤلمة، حاجة اجتماعية لا نجرؤ على خلعها حتى في أقرب المجالس، وربما لهذا، حين نخلد إلى وحدتنا، نشعر بارتباك غريب، كما لو أننا ضيوف في بيتنا، نمر بجانب المرايا فنخفض رؤوسنا، كأننا نخشاها أن تفضح.
وحين نغيب، تبدأ فصول أخرى لا نشهدها بأعيننا، لكنها تُكتَب بلغة الغياب؛ تُدوّن أشياء لا نعلمها؛ تُلتقط ملامحنا في غيابنا أكثر مما تُلاحظ في حضورنا!، هناك دائمًا مشاهد تُعرض ونحن بعيدون، تهمس بها الأرواح قبل الألسنة، وتُسجّل في دفاتر غير مرئية!، الغياب هنا لا يعني الاختفاء فقط، بل اختبار الحضور: من يفتقدك؟ من يذكرك؟ من يضع صورتك في قلبه حين تغيب عن عينيه؟
وهكذا، في غيابنا، نعرف وزننا الحقيقي!، يُراقَب الحاضر من خلف ستار، وتُصاغ المواقف على هيئة حكايات صامتة، وكأن هناك مَن يدوّن سطرًا جديدًا كلما غبنا عن الأنظار؛ الغريب أن هذه المشاهد أكثر صدقًا من آلاف اللقاءات المصطنعة، لأنها لا تُروى للعرض، بل تُفهم بالصمت.
ومع كل مشهد من مشاهد الغياب، تسقط ظلال الكراسي من حولنا؛ ظلال تُخيّل لك أنك جالس بين أصدقاء، بينما الحقيقة أنك محاط بانعكاساتهم لا بحقيقتهم؛ الكرسي له ظل، لكنه لا يمنح دفئًا؛ والمجلس له ضحك، لكنه لا يحمل في جوفه حبًا؛ كم من مرة جلست حيث ظننت أنك في مأمن، بينما كانت الظلال تحيك خلفك مسرحًا آخر، حيث الأعين لا تُظهر ما تراه، والقلوب لا تقول ما تشعر به؟
تُخدع ظلال الكراسي كما تُخدع الأحلام في يقظة مضللة، تُربّت على كتفك وهي تُخفي عنك خناجر الظنون، وتكتشف متأخرًا أن بعض المجالس لا تُعاش، بل تُحتمل، وتدرك أن أكثر ما يرهق القلب ليس الجلوس وسط الغرباء، بل بين من يشبهونك مظهرًا ويخالفونك روحًا.
ووسط هذه الخشبة، والظلال، والمشاهد الصامتة، لا ينجو سوى من حفظ جمرة الصدق في قلبه؛ تلك الجمرة الصغيرة التي، رغم لهيبها، تمنحك نورًا يكشف زيف المسرح وزيف الكلام؛ الصدق ليس طُهرًا لغويًا، بل مخاطرة؛ أن تكون صادقًا، يعني أن تحمل جمرة تضيء، لكنها قد تحرق يدك إن أفرطت في لمسها.
وفي عالم يهاب الحقيقة، لا يُكافأ الصادق، بل يُراقَب، يُساء فهمه، ويُرمى بألف قناع، ومع ذلك، تظل جمرة الصدق هي النور الوحيد الذي لا يمكن زيفه، لأنه لا يحتاج تصفيقًا ليكون حيًا، ومتى ما كان في قلبك هذا اللهيب الخفيف، فإنك لا تتوه، ولا تنطفئ.
وحين يُخفت النور، وتعلو الضوضاء، لا يبقى سوى قنديل الصمت مضاءً في الزوايا؛ الصمت ليس خنوعًا، بل تأمل، واحتضان داخلي لصوت لا يحتاج إلى جمهور، وحين يهدأ الخارج، يُسمع الداخل، وتلمع الحقائق الصغيرة التي ابتلعتها الضوضاء؛ قنديل الصمت لا يصدر وهجًا يُبهر، بل نورًا دافئًا يشبه صوت المطر حين يُطبطب على سقف روحك المتعبة.
في هذا النور الخافت، نُشفى، نُراجع، ونفهم أن بعض الحوارات لا تنجح إلا حين تُقال بلا صوت، وأن بعض الإجابات لا تُنطق، بل تُحس.
ثم، هناك في أعماق الظلام، حيث لا أحد يرشدك، ولا نص يضيء الطريق، تظهر لآلئه!، تلك الحكم التي وُلدت من الألم، من التجربة، من المرور الطويل داخل النفق دون وعدٍ بنهاية؛ لآلئ الظلام لا تُقطف من رفوف الكتب، بل تُنتزع من عتمة التجربة، من لحظات الهزيمة والانكسار والانتظار الطويل.
هناك، تحت سقف العتمة، نولد من جديد!، تصبح كل لحظة ظلمة دربًا إلى حكمة، وكل تأمل موجع طريقًا إلى ضوء داخلي لا يُطفأ!، وفقط حين نعتاد على العتمة، نميز الضوء الذي لا يخدع، والنور الذي لا يُشترى.
ففي النهاية، لا ننجو بالحضور ولا بالتصفيق، بل بالصدق، بالصمت، وبالقدرة على تمييز اللؤلؤ وسط الرماد؛ الحياة ليست مسرحًا للانبهار، بل نصٌ طويلٌ من التناقضات، تُقرأ مع الوقت، وتُفهم فقط حين نعيد النظر في كل ما ظنناه واضحًا.
لا نحتاج أقنعة لنُحَب، بل قلوبًا ترى، وأرواحًا تسمع، ونورًا لا تصنعه الأضواء، بل يولد من الداخل، وما يبقى، في وجه هذا العالم المُمثل، هو أن تظل صادقًا حتى لو احترقت، صامتًا حين يعلو الضجيج، وباحثًا عن الحكمة في أشد اللحظات ظلمة، لأن من لا يخشى الظلال، هو من يعرف كيف يصنع النور.
ابقَ نقيًا، لأن الطين مهما التصق بك، لا يستطيع أن يُطفئ جمرة الروح إذا كانت مشتعلة بالصدق.
جهاد غريب
مايو 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق