هكذا كُنتُ... حتى سَقَطْتُ!
كنت أظن أنني أمشي بثبات، أن خطواتي الصغيرة نحو المجهول محسوبة، أن القلب الذي تعوّد الصمت قد تعلّم أخيرًا أن يكون أقوى من الصوت، وأهدأ من الريح.
لم أكن سعيدًا، لكنني كنت أتظاهر بالرضا كمن يحمل كأسًا مكسورًا ويتفنن في الشرب منه دون أن يجرح شفتيه.
ثمة نظرية في علم النفس تُشير إلى أننا نعيش معظم أيامنا على وضع التلقائي، لا لأننا نريد ذلك، بل لأن العيش بوعي مرهق.
كان كل شيء في حياتي يمضي بنظامٍ داخلي لا يُرى، يُشبه الساعة التي لا تُصدر صوتًا، لكنها تعمل... أو هكذا كنت أظن.
كنت أنا، ذلك الذي لا يسأل كثيرًا، ولا يعترض كثيرًا، ولا يحلم كثيرًا. كنت أراقب الحياة من خلف زجاجٍ نظيف، لا يلوثني الغبار، لكنه لا يدفئني أيضًا.
كان للوجوه المألوفة طمأنينة، وللأماكن القديمة راحة، وللروتين شكلٌ من أشكال الأمان الهشّ. كنت أعتقد أنني أعرف نفسي، أو على الأقل أعرف كيف أُسكتها حين تتمرد.
كانت الابتسامة على وجهي نوعًا من اللباقة، لا تنتمي إلى الفرح بقدر ما تنتمي إلى النجاة. وكنت أعتقد أن الحياة لا تحتاج أكثر من ذلك: قليل من الصبر، قليل من الإنكار، وقليل من الادعاء.
لكن شيئًا ما كان يتكسر فيّ بصمت. كأن الروح بدأت تفقد وزنها، وكأن المعنى انسحب من الحروف التي أرددها كل يوم دون وعي.
لم أكن أدرك أنني على شفا هاوية، لأنني كنت أجيد التوازن... فوق الحافة.
السقوط العظيم... والميلاد الأصدق!
لم يحدث الأمر بضجيج كما تتوقع الانهيارات، لم يكن هناك صراخ، ولا سقوط درامي من علو شاهق، بل بدأ كل شيء بتصدّع صغير، في لحظة عادية، بصوت داخلي خافت لا يسمعه أحد سواي: "هل هذا كل شيء؟"
كان سؤالًا بسيطًا، لكنه هزّ الجدار الذي كنت أتكئ عليه.
ثم بدأت الأشياء تتداعى: القناعات التي بنيت عليها حياتي، الوجوه التي كنت أطمئن لها، حتى الكلمات التي كنت أرددها وكأنها أنا... كلها بدأت تبدو غريبة، كأنني أراها للمرة الأولى من زاوية منكسرة.
في لحظة لا يمكن تأريخها، شعرت أنني أهبط داخليًا، دون مقاومة، دون خطة للنجاة.
كنت أُفلت من كل شيء، حتى من نفسي. شعرت بأنني أذوب من أطرافي نحو الداخل، كأنني أُمحى بصمت، بلا مركز أتكئ عليه، بلا هوية أتمسك بها حين تشتد العاصفة.
كنت أتفرّق على هيئة رجلٍ يبدو طبيعيًا، لكنه بلا نَفَس.
لم أعد أملك شيئًا، لا اليقين الذي كان يغطيني، ولا الرغبات الصغيرة التي كانت تُسكت الجوع الأكبر في داخلي. لكن الغريب أن في عمق هذا السقوط، وُلد إحساس غريب بالصدق.
يقول كارل يونغ: "لا يولد الوعي دون ألم".
كأنني لأول مرة أتعرّى من كل ما لستُ أنا، وأتلمّس ملامحي الحقيقية بعد طول انتحال.
كأنني لأول مرة أتعرّى من كل ما لستُ أنا، وأتلمّس ملامحي الحقيقية بعد طول انتحال.
في اللحظة التي فقدت فيها السيطرة، وجدت قلبي يهمس لي لا لينقذني، بل ليعرّفني على نفسي.
كان سقوطًا عظيمًا، لكنه كان ميلادي الأصدق.
سقطت، فاستيقظت. لم أعد كما كنت، ولن أكون.
الآن بدأت أرى الحياة من الأسفل، من حيث تتضح الأشياء وتفقد زيفها.
حين ينهار كل شيء... وتبدأ الحكاية!
لا تبدأ الحكايات دائمًا من البدايات الوردية، بل أحيانًا تنبثق من اللحظة التي لا يبقى فيها شيء لتخسره، من الأرض التي تلامس فيها جبينك لا سجودًا، بل استسلامًا عميقًا.
هناك، حين تتشظى التفاصيل، وتنهار العناوين التي كنت تُعرّف بها نفسك… تبدأ الحكاية الحقيقية.
حين ينهار كل شيء، تنكشف الأسرار: تكتشف أنك كنت تضع وجهك في قناع، وتعيش أيامك في غلاف مشدود من "كل شيء بخير"، بينما الداخل يتآكل بهدوء.
تنهار العادات، وتتساقط الأقنعة، وتنحلُّ العقد التي كنت تظنها جزءًا منك.
فجأة، تجد نفسك في مواجهة كاملة معك… بلا وسطاء، بلا مؤثرات، بلا أصوات خارجية تملأ الفراغ عنك.
كل شيء انهار، نعم، لكنّ فراغ الانهيار لم يكن خواءً… بل كان فراغًا خصبًا، جاهزًا لأن يُنبت شيئًا جديدًا.
وفي علم النفس الوجودي، يُعتبر الانهيار لحظة ولادة للذات الحقيقية، حين يتوقف الإنسان عن تمثيل دوره، ويبدأ في عيشه.
هناك، في وسط الركام، كان قلبي يمدّ إصبعه نحو الضوء، لا ليخرجه من العتمة، بل ليشير إليه: "انظر… ها هي الحقيقة، عارية، بسيطة، بلا زخارف".
لم يكن الانهيار نهاية، كما يوهمنا الخوف.
كان بداية. بداية لحكاية لا تُكتب بالحبر، بل بالشعور، بالندبة، بالصمت الذي يصنع لغة لا يقرؤها سواك.
كانت لغةً لا تُقال... بل تُنزَف.
لغةً لا تحتاج إلى كلمات، بل إلى أن تنهار بصمت لتفهمها.
لغةً خُلقت بيني وبيني، لا يفكّ شيفرتها سواي.
وهناك، في قاع كل شيء، بدأت أتكلم بصمتي، وأفهمني كما لم أفعل من قبل.
ومن هناك... بدأت أكتبني من جديد.
الانهيار الذي أعادني إليّ!
لم يكن الانهيار جرحًا فقط، بل مرآة.
مرآة كسرها الزمن، فعكستني بوجوهٍ لم أكن أعلم أنها لي.
في لحظة الانفصال عن كل ما كنت أظنه ثابتًا، لم أتبعثر... بل بدأت أتجمّع بطريقة جديدة، بطريقة تشبهني أكثر، رغم الألم.
اكتشفت أنني كنت أعيش متقمصًا نسخًا متعددة منّي، لأُرضي الآخرين، لأهرب من حزني، ولأخدع خوفي.
لكن حين انهارت تلك النسخ واحدة تلو الأخرى، لم يبقَ إلا أنا، وحقيقتي العارية.
يقول بعض الفلاسفة إنّ النفس لا ترى حقيقتها إلا حين تسقط عنها الأقنعة دفعة واحدة، لا أمام مرآة... بل أمام الفراغ.
أدركت حينها أن أصدق أشكالي هي تلك التي لم أسعَ يومًا لعرضها على أحد.
ويا لها من لحظة... لحظة التقاء المرء بذاته، خارج كل المسميات، والمجاملات، والادعاءات.
الانهيار لم يكن عدوي، كان صديقي المتخفّي، جاءني بصورة الخراب، لكنه حمل بيده مفتاحًا صدئًا، فتح به بابًا كنت قد أغلقته منذ زمن: باب الرجوع إلى نفسي.
رجعت لا على هيئة المنتصر، ولا الضحية... بل على هيئة إنسان تجرّد من كل شيء، فعاد إلى جوهره الأول.
أدركت أن الصلابة ليست في أن لا تنكسر، بل في أن تنكسر وتُعيد ترتيبك بصبر، لا كما كنت، بل كما يجب أن تكون.
لقد أعادني الانهيار إليّ، لا كعقوبة، بل كفرصة.
فرصة لأعرف من أنا، لا من أبدو عليه.
صوت الذات في صمت الانهيار!
حين تصمت الأشياء من حولك، ليس لأن العالم قرر أن يهدأ، بل لأنك أنت هو الذي كفّ عن الركض... تبدأ في سماع شيء لم تعهده من قبل.
ذلك الصوت الداخلي، الذي ظل لسنوات يتحدث من خلف الزحام، يظهر أخيرًا، واضحًا، نقيًا، كأنه خرج لتوّه من حنجرة روحك.
في صمت الانهيار، حين تسقط الضوضاء الخارجية، وتتوقف نصائح الآخرين، وتغيب ضجة المعايير، تسمع نفسك تقول: "أنا هنا… لطالما كنت هنا، تنتظرك".
ليس صوتًا عاليًا، لا يصرخ، لا يتوسل، لا يلوم.
هو مجرد همس، لكنه يعرف الطريق.
فبعض الأصوات لا تُخلق لتُسمع وسط الضجيج، بل لتولد في الهدوء، حين تصغي روحك أخيرًا لنفسها، لا لتُجيب… بل لتريك من يسأل.
ذلك الهمس، كان أول صوتٍ لا يطلب إذنًا ليكون.
إنه ليس الصوت الذي يقول لك ما يجب أن تكونه، بل يسألك: "من أنت حين لا يراك أحد؟ من أنت حين لا تنتظر تصفيقًا؟"
سؤال لا يُجاب عليه بالكلمات، بل بالارتجاف، بالبكاء أحيانًا، بالسكوت الطويل الذي يشبه الصلاة.
ذلك الصمت، الذي ظننته عزلة، لم يكن سوى مساحة نقاء.
وفي تلك المساحة، عاد كل شيء إلى مكانه…
الطفل الذي أضعته، الرغبة التي أنزلتها عن الرفّ، النبض الذي كتمته خجلًا… كلهم عادوا، وجلسوا إلى جانبي، كأنهم لم يرحلوا، بل كانوا ينتظرون أن أصمت.
حين خفَتَ ضوء الخارج، أضاء الداخل.
وحين هدأت العاصفة، خرجت الحقيقة من تحت الركام، تلبس صوتي، وتقول لي: "ها أنت".
حين يعيدنا الألم إلى أصلنا!
الألم لا يطرق الباب كما يفعل الفرح، لا يأتي خفيفًا أو مؤدبًا.
إنه يقتحمك، يجلس في منتصف صدرك، يفرض حضوره بلا دعوة… لكن ما إن يطيل الجلوس، حتى تكتشف أنه يعرفك أكثر مما تعرفُ أنت نفسك.
في البدء، تقاومه.
تخشى أن تنكسر، أن تنكشف، أن تسقط أمامه.
لكن شيئًا فشيئًا، يبدأ في نزع الأقنعة… لا برغبتك، بل بحقيقته.
وفي كل قناع يسقط، تُحس أنك تقترب، لا من الألم… بل من ذاتك التي نفيتها طويلًا.
الألم لا يُعرّفك على ضعفك فقط، بل على قوتك الحقيقية، تلك التي لم تأتِ من الإنجاز، بل من التحمّل… من القدرة على النظر في المرآة رغم الدموع.
هو لا يعيدك إلى الوراء، بل يعيدك إلى جوهرك، إلى تلك النسخة التي كدّست فوقها طبقات من التوقعات، والخوف، والتأجيل، حتى كدت تنساها.
هناك، حين لم يعد لديك شيء تدافع عنه، تبدأ في اكتشاف ما يستحق أن تعيش لأجله.
وحين لم يعد لديك ما تخسره، تعود حرًا…
حرًا بما يكفي لأن تصادق ألمك، لا كعدو، بل كمرشد غريب الأطوار، قادك إلى باب لم تكن لتصل إليه وحدك.
فالألم حين يبلغ ذروته، لا يزيدك وجعًا، بل يكشف لك خريطة العودة إلى ذاتك، وكأنك كنت تنحني طوال الوقت لتلتقط شيئًا أعمق من الشفاء: المعنى.
الألم ليس النهاية.
الألم بداية العودة… إلى ما كنت قبل أن تنشغل بكل ما ليس أنت.
حين يكون السقوط شرطًا للنهوض!
لم أفهم السقوط حين وقع.
كنت أراه كعقوبة، كفضيحة داخلية، كفشل نهائي.
لكن الزمن، ذاك الفيلسوف الصامت، علّمني أن بعض السقوط لا يحدث ليسحقك، بل ليزيل ما لا يُناسبك من قشورك، وليضعك في مواجهة ما كنت تؤجله دومًا: نفسك.
السقوط ليس الضدّ للنهوض، بل هو شرطه الأول.
فمن لم يعرف أرض القاع، كيف سيتقن التوازن على قمته؟
ومن لم يخسر شيئًا حقيقيًا، كيف سيعرف قيمة النهوض على شيء حقيقي أيضًا؟
إننا لا نصعد ونحن نتمسك بما أثقلنا، بل حين نُجبر على التخلي.
والسقوط يعلمك التخلي: عن كبرياءك، عن وهمك، عن تصوراتك المسبقة.
يعريك من كل ما ليس لك، لتنهض أخف، أصدق، أعمق.
أحيانًا، لا يمنحك الطريق إشارات كافية لتتوقف… فيرسل لك انهيارًا.
وفي عمق الانهيار، تتعلّم أن الصعود ليس قفزًا فوق الوجع، بل مرورًا عميقًا فيه، عبورًا لا يمكنك اختصاره، لكنه يُشكلك من جديد.
الذين لم يسقطوا أبدًا… غالبًا لم يتحركوا.
أما الذين نهضوا، فلن يحدث أن تنظر في أعينهم دون أن ترى أثر الأرض فيهم، وأثر السماء التي صعدوا نحوها.
السقوط لم يكن هزيمة، بل كان الباب الذي ما كان ليفتح إلا إذا سقطت أمامه.
من قاع السقوط إلى قمة الذات!
القاع ليس ظلامًا فقط…
بل صمتٌ كثيف، تتردد فيه أصداء صوتك وحدك،
بعيدًا عن التصفيق، وعن النظرات، وعن العناوين التي منحوك إياها ثم انتزعوها.
القاع مكان لا تُحسن التظاهر فيه، ولا يحتمل الكذب.
في القاع، تبدأ بتفكيك خرائطك القديمة، تلك التي قادتك إلى هنا،
وتدرك أن بعض الطرق لم تكن لك، وبعض الأهداف لم تكن أهدافك،
بل صدى لحلم أحدهم… والآن، في هذا العراء، تبدأ للمرة الأولى برسم خريطة تشبهك.
تنهض، لا لأن شيئًا حولك تغيّر، بل لأنك تغيّرت.
ولأنك أدركت أن القمة ليست مكانًا… بل لحظة تصالح،
لحظة وقوف على أرضك الداخلية، متحررًا من صراعات المقارنة، والتوقع، والهروب.
قمة الذات لا تُرى من الخارج.
لا تُقاس بالألقاب ولا بالمكاسب،
بل تُقاس بقدرتك على النظر إلى ماضيك دون سخط،
وبقوة سلامك مع نفسك، حين لا يحتاج هذا السلام إلى شهادة أحد.
الصعود لم يكن انتصارًا على السقوط،
بل كان امتدادًا له، كأن السقوط لم يكن إلا البذرة…
والقمة لم تكن إلا الإزهار الطبيعي بعد عمق الجذور.
من القاع، رأيت ظلي حقيقيًا للمرة الأولى،
ومن هناك، صعدت… لا فوق الآخرين، بل فوق نفسي القديمة،
كأن السقوط لم يكن انكسارًا، بل انحناءةً لالتقاط النور من موضعه الأصدق: داخلي.
الرحلة من الانكسار إلى الاكتشاف!
لم أكن أبحث عن إجابات حين بدأت السقوط،
كنت فقط أبحث عن مخرج… عن نفس أتنفسه دون أن أشعر بالضياع.
لكنني ما وجدت المخرج إلا حين توقفت عن الجري،
وما وجدت النفس إلا حين غصت أعمق في الانكسار.
الرحلة لم تكن عودة من الهزيمة،
بل كانت عبورًا منها، عبورًا جعل الهزيمة ركنًا من أركان النضج،
وصار الانكسار مرآة نقية، رأيت فيها وجهي خاليًا من الزيف.
اكتشفت أنني لا أُبنى عندما أكون قويًا فقط،
بل أُبنى أكثر عندما أُكسر،
حين تتشظى أفكاري القديمة، وتتبعثر صورتي عن ذاتي،
فتنبثق أنا الجديدة، لا من الخارج… بل من رماد الداخل.
تلك اللحظات التي حسبتها نهايات،
كانت في حقيقتها نقاط التقاء…
حيث التقَى الداخل بالخارج، والظاهر بالباطن، والقلق بالحكمة.
كل شيءٍ واجهته أعادني إليّ.
وكل ألمٍ منحني بوصلة.
وكل صمتٍ كان حوارًا.
لم أعد كما كنت…
ولا أرغب في أن أعود.
لأنني في كل سقوط،
كنت أخلع جلدًا لا يشبهني،
وفي كل نهوض، ألبس ذاتي الحقيقية.
وفي كل منعطف، لم أكن أضيع… بل أكتشف.
وهكذا…
تحوّل الانكسار إلى بوصلة،
والألم إلى درس،
والرحلة… إلى ميلاد،
لا يُشبه البداية، ولا يشبه النهاية… بل يشبهني.
جهاد غريب
مايو 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق