الجمعة، 30 مايو 2025

الذنب والمغفرة: رحلةٌ من الظلمة إلى النور!

 
الذنب والمغفرة: رحلةٌ من الظلمة إلى النور! 

في أعماقِ الروح، حيثُ تُخْبِئُنا ظُلَمُ ذنوبِنا عن أنفُسِنا، تَبرُزُ التوبةُ كفجرٍ يُزيلُ بِخِفَّةٍ سُتورَ الليل. ليستْ كلماتٍ تُقالُ، بل انكسارٌ يُشبهُ سقوطَ أوراقِ الخريفِ بعدَ عِتابِ الريح، استسلاماً لحكمةِ الأرضِ التي تعلمُ أنَّ كلَّ سقوطٍ هو بذرةُ نهوض. هنا، حيثُ لا تُسمعُ أصواتُ العالمِ الخارجيّ، يتحوَّلُ الندمُ إلى ندىً يُحيي ما أجدبَ فينا، ويُعيدُ للقلبِ نقاءَهُ الأوّل، كطِفلٍ يعودُ إلى حضنِ أمِّه بعدَ عناء.  

الذنبُ ليسَ شبحاً يُطارِدُنا، بل مرآةٌ تُريكَ وجهَكَ دونَ زيف. هو ذلكَ الظلُّ الذي يطولُ كلَّما هربتَ منه، ويَقصرُ كلَّما وقفتَ أمامَ الشمس. نحنُ نُجادلُ أنفُسَنا كالمحامينَ أمامَ قاضٍ غيرِ موجود، ننسى أنَّ الحقيقةَ لا تحتاجُ إلى دفاع، بل إلى شجاعةِ الاعتراف. الذنبُ الحقيقيُّ ليسَ في الخطيئة، بل في الهروبِ منها، كمن يُطفئُ النورَ لئلا يرى الغُبارَ على ثيابِه.  

ولكنْ، ماذا نفعلُ بهذا الثقلِ الذي يُثقِلُ أجنحةَ الروح؟ كيفَ نحملهُ دونَ أنْ نسحقَ أنفُسَنا تحتَ وطأتِه؟ الجوابُ بسيطٌ وعسير: أنْ ترفعَهُ إلى السماءِ كعُصفورٍ جريح، وتقولَ: "ها أنا ذا، اعترفُ بأنِّي ضعيف". ففي لحظةِ الصدقِ هذه، يُصبِحُ الذنبُ جسراً، لا حاجزاً؛ وهنا، في سياقِ الإيمان، تتجلّى المغفرةُ كعطاءٍ إلهيٍّ يمنحُ الروحَ سلامًا وسكينةً تتجاوزُ حدودَ الفهمِ البشريّ.  

والمغفرة؟ ليستْ كلمةً تُقالُ، بل نهرٌ يجري بلا ضفاف. هي كالشمسِ التي لا تنتظرُ من الزهورِ أنْ تفتحَ لها قلوبَها كي تُشرق. نخطئُ حينَ نعتقدُ أنَّ المغفرةَ تحتاجُ إلى طلبٍ، أو أنَّها صفقةٌ بينَ الجاني والضحيّة. الحقيقةُ أنَّ المغفرةَ الحقيقيةَ تُعطى كالماءِ للعطشان، لا لأنَّه يستحق، بل لأنَّ العطشَ يكفيهِ عقاباً؛ وما أعمقَ أثرَها على النفسِ حينَ تُحرِّرُها من سجنِ الماضي، فتُشرقُ بالسلامِ الداخليّ، كأنّها نسمةٌ تُذيبُ جليدَ القلبِ بلا صوت.  

وما أقسى أنْ نغفرَ للآخرينَ بينما نحنُ لا نغفرُ لأنفُسِنا! كأنَّنا نُطفئُ النارَ في بيتِ الجارِ ونتركُ بيتَنا يحترق. المغفرةُ تبدأُ من الداخل، كبذرةٍ تُزرعُ في تربةِ القلبِ قبلَ أنْ تُثمرَ في حياةِ الآخرين. إنَّها كالنسيمِ الذي يحملُ عطرَ الزهرِ دونَ أنْ ينتظرَ شكراً. بيدَ أنَّ الاعترافَ بالذنبِ يتبعهُ وعيٌ بالمسؤوليةِ وسعيٌ صادقٌ لتجنبِ الوقوعِ فيهِ مرةً أخرى، فالتوبةُ الحقيقيةُ فعلٌ مستمرٌّ لا مجردُ كلمةٍ عابرة.  

في النهاية، الذنبُ والمغفرةُ ليسا نقيضَين، بل هما كالليلِ والنهار: يتعاقبانِ كي تبقى الحياة. الذنبُ يُذكِّرُنا بأنَّنا بشر، والمغفرةُ تُذكِّرُنا بأنَّنا قادرونَ على أنْ نكونَ أكبرَ من أخطائِنا. الفرقُ بينَ التائبِ وغيرِه كالفرقِ بينَ من يرى في الكأسِ شرخاً، ومن يراها قادرةً على أنْ تمتلئَ مرةً أخرى.  

فلنعترفْ، ولنغفر، ولنعشْ كما تعيشُ الأشجارُ: تسقطُ أوراقُها دونَ خوف، لأنَّها تعلمُ أنَّ الربيعَ آتٍ. فما أقسى الذنبَ إلا رحمةٌ مُقنَّعة، وما أجملَ المغفرةَ إلا ذنبٌ تُحوِّلَهُ المحبةُ إلى نور.  


جهاد غريب 
مايو 2025

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

من خطواتهم نعرفهم!

  من خطواتهم نعرفهم! هل تأملت يومًا كيف تخبرنا الخطوات بما لا تقوله الشفاه؟ في زحام الأرصفة، تحت ظلال المباني التي تحجب الشمس وتتركنا لأنفسن...