الثلاثاء، 20 مايو 2025

نحن والعابرون... والظلّ الذي لا يُنسى!

 
نحن والعابرون... والظلّ الذي لا يُنسى!

في زمنٍ ترتفع فيه أصوات الفردية ويهتف فيه الجميع بـ"أنا" على حساب "نحن"، يغيب عن وعينا أن كل ما نحن عليه الآن هو نتاج سلسلة طويلة من العطاءات التي لم نخترها، لكننا كنا دوماً على الجانب الآخذ منها. 

تلك اليد التي تربّت على كتفك ذات يأس، النظرة التي أنقذتك من تيه، الكلمة التي لم تقلها لكن فهمها أحدهم عنك.. كل ذلك شكّلك أكثر مما تظن. قد يبدو الاكتفاء الذاتي أمراً بطولياً حين نردده على هيئة شعارات مضللة، لكنه في الحقيقة وهمٌ تواطأنا جميعاً على تصديقه كي لا نشعر بالضعف. 

نحن لا نولد بأسوارٍ حول أرواحنا، بل نبنيها خوفاً من انكشاف حاجتنا للآخر، بينما تلك الحاجة هي أعظم ما يجعلنا بشراً. 
تأمل يديك للحظة، هل كنت أنت من صنع قدرتهما؟ هل صنعت عقلك، ذوقك، إحساسك، حتى حزنك؟ كل شيء فيك كان هبة من آخرين، فلولاهم، لما كنت كما أنت الآن، لا في حضورك، ولا في غيابك. بعضهم لا تعرفهم، وبعضهم نسيتهم، لكنهم ما زالوا يسكنون داخلك.

الحياة ليست ساحة معركة للفرد الأقوى، بل نسيج معقد من الأخذ والعطاء، من الظل الذي منحه أحدهم لغيره دون أن يشعر، من الجسر الذي بُني من تعب الآخرين لتعبر عليه دون أن تتعثر. 

وقد نغفل، في خضم هذا التصور البطولي للذات، عن حقيقة جوهرية. نعيش متخيلين أننا جزر معزولة، بينما نحن، في جوهرنا، طرقٌ متقاطعة، لا نكتمل إلا حين يمر الآخرون بنا، ونمنحهم المعبر الآمن إلى حيث يجب أن يكونوا. كم من مرة كنت بحاجة لإنقاذ، فكان العابر المجهول هو اليد التي أمسكت بك؟ وكم مرة عبر بك آخر، دون أن تدري أنك كنت طوق نجاته؟

حتى من آذونا، ربما منحونا حكمة، أو كشفوا لنا وجهاً خفياً فينا، فأثروا فينا من حيث لا يدرون. إن الإنسان الحقيقي لا يخشى أن يكون مكشوفاً، هشاً، محتاجاً، لأنه يدرك أن العطاء لا يعني القوة فحسب، بل يعني الاعتراف المتبادل بالضعف والإنسانية. 

ليست الحياة معادلة رياضية تُحلّ بذكاء فردي، بل فسيفساء هائلة، كل قطعة فيها تكمل الأخرى، لا بقيمتها وحدها، بل بقدرتها على الانسجام. نظن أن البقاء في الظل ضعف، بينما الحقيقة أن الظل هو ما يمنح الآخرين راحة الوجود. ليست كل الأدوار بطولية، لكن كل دور ضروري. 

لست بحاجة لأن تكون الأذكى أو الأنجح أو الأكثر تأثيراً، بل أن تكون ذلك الشخص الذي يدرك أن قيمته تكمن في كونه جزءاً من لوحة أكبر، لا تكتمل بدونه، وإن لم يُذكر اسمه في الأسفل، فالمجتمع لا يعمل بترسٍ واحد، وكل ترس – مهما صغر – إما أن يحرك المنظومة أو يعيقها.

المشكلة لا تكمن في الأخذ، بل في أن نرفض العطاء بعده. حين نغلق على أنفسنا أبوابنا ونختبئ خلف أقنعة الاكتفاء، نكتشف بعد فوات الأوان أننا أصبحنا مثل شجرة بلا ظل، واقفة وحدها، لا أحد يحتاجها، ولا تعرف هي نفسها من تحتاج.
ومن يعتقد أنه محايد، لا يؤذي ولا ينفع، يغفل أن حياده هذا هو موقفٌ مؤذٍ من نوعٍ آخر، لأن الحضور دون أثر هو الغياب بعينه.

وحين تهدأ الضوضاء، وتنطفئ الأنوار من حولك، وفي نهاية كل يوم، حين تضع رأسك على وسادتك، ستدرك أن الأهم لم يكن ما أنجزته لنفسك، بل كم مرة كنت جسراً لغيرك. كم مرة كنت اللحن الخفي في موسيقى أحدهم، دون أن تطلب الاعتراف بذلك، لأن الحياة، في عمقها، لا تقاس بعدد الخطوات التي خطوتها وحدك، بل بعدد الأقدام التي مشَت بثقة لأنك كنت الطريق.

لا تخف من حاجتك للناس، ولا تستحِ من عطائك لهم، فأنت لم تُخلق مكتفياً، ولم تكن وحدك يوماً. ولعل أعظم قوتك هي أنك لست وحدك، ولم يكن عليك أن تكون كذلك أصلاً.

جهاد غريب 
مايو 2025

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الثقة: قلب أغمض عينيه ونام بين يديك!

  الثقة: قلب أغمض عينيه ونام بين يديك!  كانوا يقولون: "أثق بك"، وكأنها وردة تُمنح دون أشواك. لكنهم لا يعرفون أن هذه الكلمة لا تنمو...