المال: النار التي تُدفئُ أو تُحرق!
في زحمةِ الحياةِ، حيثُ تتدافعُ الأرواحُ كأمواجِ البحرِ أمامَ صخرةِ المادّة، يقفُ المالُ كساحرٍ صامتٍ يُحرّكُ خيوطَ المشهدِ من خلفِ الستار. ليسَ شرّاً مطلقاً ولا خيراً مطلقاً، بل هو كالنار: يُدفئُ من يعرفُ كيفَ يُمسكُ به، ويُحرقُ من يظنُّ أنَّ قبضتَه قادرةٌ على احتواءِ لَظاه.
لطالما كان المالُ شاهداً على تحوّلاتِ البشرية. بدأَ قمحاً وملحاً في زمنِ المقايضة، ثم صارَ قطعاً معدنيةً تحملُ وجوهَ الملوك، وتطوّرَ إلى أوراقٍ نقديةٍ تختزلُ ثقةَ الأمم. واليوم، في عصرِ التكنولوجيا، أصبحَ أرقاماً تسبحُ في فضاءِ الإنترنت. لكنَّ جوهرَه بقيَ كما هو: وسيطاً للتبادل، ومقياساً للقيمة، وأداةً للقوة. هل تعلمُ أنَّ الإمبراطوريةَ الرومانيةَ سقطتْ جزئياً بسببِ التضخّم؟ وأنَّ دولاً نهضتْ من خلالِ نظمٍ ماليةٍ عادلة؟ المالُ ليسَ مجردَ عملة، بل هو سجلٌّ خفيٌّ لتاريخِ الصراعِ البشريّ بينَ العدلِ والجشع.
يقولونَ إنَّ المالَ لا يُغيّرُ الأشخاص، بل يزيحُ الستارَ عن حقيقتِهم. أعطِ إنساناً فجأةً ثروةً، وانظرْ كيفَ يتصرّف: هل يتحوّلُ إلى "قارون" جديدٍ يخبئُ الذهبَ في خزائنَه؟ أم إلى "حاتم الطائي" يوزّعُه على المحتاجين؟ العلمُ الحديثُ يخبرنا أنَّ هناكَ "جيناتِ سخاء" و"جيناتِ بخل"، لكنَّ البيئةَ والقيمَ تظلُّ الأقوى تأثيراً. دراساتُ علمِ النفسِ تُظهرُ أنَّ الأغنياءَ قد يصبحونَ أقلَّ تعاطفاً مع معاناةِ الآخرين، بينما يُحفّزُ المالُ عندَ البعضِ روحَ العطاء. السؤالُ الأهم: أيُّ وجهٍ من وجوهِك سيكشفُ المالُ لو ظهرَ فجأةً في حياتك؟
نعم، المالُ يشتري لكَ سريراً وثيراً، لكنّه لا يضمنُ نوماً هانئاً. يشتري لكَ طعاماً لذيذاً، لكنّه لا يمنحُك شهيةً لتذوّقِه. الأبحاثُ تقولُ إنَّ المالَ يزيدُ السعادةَ فقط إلى حدٍّ معين (حوالي 75 ألف دولار سنوياً في الدول المتقدمة)، بعدها تصبحُ المنافسةُ على المزيدِ سباقاً فارغاً. لماذا؟ لأنَّ السعادةَ الحقيقيةَ تُبنى من أشياءَ لا تُباعُ في الأسواق: لحظاتُ ضحكٍ مع أحباب، سلامٌ داخليّ، إحساسٌ بأنَّ حياتك لها معنى. الفيلسوفُ "أرسطو" كانَ محقاً: "الثروةُ وسيلةٌ للحياةِ الطيبة، وليستْ الحياةَ الطيبةَ نفسَها".
إنّ التعامل مع المال أشبه باحتضان جمرةٍ متّقدةٍ بين كفّيك، إن أمسكتها بحكمةٍ أدفأتْ روحك، وإن أفرطت في القبض عليها أحرقتْ وجودك. لا تجعل منه إلهاً يعبد من دون الحياة، فالحياةُ حين تتحوّل إلى سعيٍ محمومٍ وراء الأرقام تصبح سجناً ذهبياً، تُحسب فيه الأيامُ بأصفارٍ في الحساب، لا بضحكاتٍ في العيون. وتعلّم فنّ الموازنة بين ادّخار المستقبل وعيش الحاضر، فالمالُ مثل الماء، إن خزّنته ببخلٍ أصبح آسناً، وإن أفرطتَ في إنفاقه جفّت ينابيعُ الأمان. اشترِ ما تحتاجُه لكرامتك، لا ما يتطلّبهُ جشعُك، فالرفاهيةُ الحقيقيةُ ليست في تكديس الأشياء، بل في تحرير القلب من عبء التعلّق بها.
واستثمر في العملات التي لا تهبطُ أسعارها أبداً: الوقتُ الذي تمنحُه لمن تحب، الصدقُ الذي يبني جسور الثقة، المعرفةُ التي تُضيء العقل، العلاقاتُ الإنسانيةُ التي تصنعُ شبكةَ الأمان عندما تهتزّ أركان الدنيا. وتذكّر دائماً أنك حارسٌ للمال، لا مالكٌ أبديّ له، فهو أمانةٌ بين يديك، وسيأتي يومٌ تتركُه وراءك كما تركَه كلُّ من سبقك. الأجملُ أن تتركَ أثراً يُذكرُ بعدك: بسمةً زرعتها، يداً مسكتها، حلماً ساعدتَ في تحقيقه، فهذه هي الثروةُ التي لا تفنى، حتى عندما تتلاشى كلُّ العملات من الذاكرة.
في النهاية، المالُ كالظلِّ: إذا طاردتَه، ابتعدَ عنك. إذا مشيتَ في نورِ قيمِك، تبِعَك. لن تأخذَ معك إلى القبرِ إلا ما أنفقْتَه على الآخرين، لا ما جمعتَه لنفسك. فلتكنْ حكيمَ العطاءِ كالغيثِ، لا حريصَ الادخارِ كالصحراء. لأنَّ الحياةَ – في عمقِها – ليستْ رقماً في حساب، بل قصّةٌ تُروى بأفعالٍ تبقى بعدَ زوالِ العملات.
جهاد غريب
مايو 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق