السبت، 31 مايو 2025

نسيم الأرواح: في رهافة الوجدان وسموّ الصلات!

 
نسيم الأرواح: في رهافة الوجدان وسموّ الصلات!

ليست المسافات سوى سرابٍ يرسمه الزمن حين تتعانق الأرواح في فضاءٍ لا يعرف القيد، ولا يعترف بالبعد؛ فالمشاعر الصادقة لا تحتاج إلى جسرٍ من الكلمات، بل تهبط على القلب كنسيم الفجر: شفيفة، رقيقة، كأنها رسالة من عالمٍ أنقى. كم من مرةٍ أغمضنا الجفون، فوجدنا من نحبّ أكثر حضورًا من كل ما تدركه الحواس؟ الأرواح المتآلفة لا تفترق، حتى لو تناثرت بينها القارات، لأنها تتخاطر بلغةٍ لا تحتاج إلى حروف، لغةٍ تُسمع بالقلب وتُقرأ بالوجدان قبل أن يبلغها العقل.

وهناك، في الملاذ السري من النفس، حيث تسكن السكينة كشعلة لا تذبل، نجد طمأنينةً لا تُشبهها طمأنينة. كأنّما الروح تتنفس لأول مرة حين تلامس روحًا أُخرى تكملها، لا بالكلام، بل بالحضور الخفيّ، بالصمت المليء بالمعنى. هو الارتياح الذي لا يحتاج إلى تفسير، كظلّ الوادي في قيظ الظهيرة، يأويك دون أن ينتظر عرفانًا. كلما اشتدّ ضجيج العالم، ازداد هذا الصمت عمقًا وجمالًا، كأنه لغة أخرى لا يفهمها إلا من عرف أن النظرات أبلغ من الكلمات، وأن الصمت أحيانًا أكثر وفاءً من آلاف الجُمل.

ولا ينحصر الأمر في رقة الشعور، بل يتجاوزها إلى دهشةٍ أمام تلك الصلابة الهادئة التي لا تنكسر. كالسنديانة العتيقة التي لم تنحنِ لعواصف القرون، هناك أرواحٌ يكون ثباتها كالجبل، لا لأنها لا تتألّم، بل لأنها اختارت أن تكون ملاذًا في وجه الفقد، وصخرةً في نهر الحياة. نراهم فنتعلّم كيف يكون الشموخ بلا قسوة، وكيف نحمل العواصف دون أن نفقد اخضرارنا. هم كالنجوم التي تُرى من بعد، لكنّ نورها يخترق الظلمة، ليذكّرنا أن العتمة ليست نفيًا للضوء، بل تمهيدًا لسطوعه الأصدق.

وما أقسى النسيان... لكنّ الذاكرة تبقى ذلك البستان السرّي، حيث نخزّن وجوه من عبروا بنا ولم يرحلوا منّا. لا يهمّ إن غابوا عن أعيننا، فالحضور الأعمق لا يكون بالجسد، بل بالروح. من يسكن ذاكرتنا لا يغيب، بل يتحوّل إلى جزءٍ من نسيجنا، كالعطر الذي يظلّ عالقًا في المكان بعد ذبول الزهرة. وكم من غائبٍ هو أقرب إلينا من حاضر، لأنّ القرب الحقيقيّ هو أن تجد صوتهم في هدوئك، ولمستهم في صمتك، وأن تصادفهم في تفصيلٍ بسيط لم يكن ليعنيه أحد سواهم.

وفي خضمّ هذا التيه، يأتي اليقين كالنجم الهادئ الذي يهدي السفن في عتمة البحر. الثقة بأننا اخترنا دربنا، وأنّ الصدق الذي نحمله في أعماقنا لا يُشترى ولا يُستعار. إنه العطاء الخفي الذي نمنحه لأنفسنا، كالشمس التي لا تطلب إذنًا لتشرق. نعلم في قرارة أرواحنا أن ما بنيناه من محبّة ونقاء هو البناء الوحيد الذي لا يسقط، لأنه وُلد من الصدق، وسُقي بالنية الصافية.

فليكن الحبّ، بكل ما فيه من شجاعة ورقّة، هو الجواب على كل سؤال لم يُسأل بعد؛ وليكن الإيمان بالمشاعر هو المصباح الذي نحمله في زمنٍ يحاول أن يطفئ كلّ ضوء. ففي النهاية، ليست الحياة إلا تلك اللحظات التي جعلت قلبك ينبض بشيءٍ أعظم من ذاته، ولعلّها وحدها التي تستحق أن تُروى.


جهاد غريب 
مايو 2025

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

صهيلُ الحبرِ... نارٌ على السحاب!

  صهيلُ الحبرِ... نارٌ على السحاب! انشقي أيتها السماوات... واسمعي يا أرضُ! ها هو صدى القلبِ المثقلِ يهزُّ عروشَ الصمت! يا ربّ... متى تنفضُ غ...