الثلاثاء، 18 فبراير 2025

 

عندما يتحدث العقل قبل الأوان: الليلة التي هزمت خوفي!

 

حين يسبقك عقلك إلى المواجهة!

هل جربت يوماً أن تفكر في موقف قبل وقوعه بلحظات، ثم تفاجأ بأنه يحدث أمامك تماماً كما تخيلته؟ تلك اللحظة التي يتسارع فيها نبض قلبك، ويحتد تركيزك، وكأن شيئاً في داخلك كان يستعد لهذا الحدث قبل أن تدركه!، في لحظات الوحدة والظلام، حيث يغيب الصوت البشري ويحل الصمت المطبق، تبرز أسئلة وجودية عميقة حول طبيعة الخوف والشجاعة!، كيف يمكن للإنسان أن يواجه المجهول وهو وحيد في مكان بعيد عن أي مساعدة؟ هل الشجاعة مهارة يمكن اكتسابها، أم أنها فطرة تولد معنا؟ وهل يمكن للحدس أن يكون جسراً يربط بين الحاضر والمستقبل؟

 

الليلة التي هزمت خوفي!

في إحدى الليالي الموحشة، وجدتُ نفسي وحيداً في مزرعة تبعد عن أقرب نجدة بكيلومترات، مستغرقاً في أفكار عن الخوف، عن مواجهته، عن التصرف حياله، وبعد لحظات فقط، وجدتني أمام اختبار حقيقي له. ترى، هل كان ذلك محض صدفة؟ أم أن العقل قادر على استشعار أحداث لم تحدث بعد، كأنه يسبقنا إلى المواجهة؟ هذه الأسئلة وغيرها تدور في أذهاننا عندما نجد أنفسنا في مواقف تختبر قوتنا الداخلية وقدرتنا على المواجهة. في هذا المقال، سنتناول قصة واقعية حدثت قبل أكثر من 25 عاماً، لنستخلص منها الدروس الفلسفية والنفسية حول الخوف والشجاعة، ونحاول تفسير الظواهر التي قد تبدو غريبة، ولكنها تحمل في طياتها حكمة عميقة.

 

بعد أن تخرجت من الثانوية العامة، كنت أنتظر قبولي في إحدى الجامعات، فقررت قضاء بعض الوقت في مزرعة والدي، التي تقع في محافظة المزاحمية، على بُعد حوالي 70 كيلومتراً من مدينة الرياض. كنت بحاجة إلى عزلة قصيرة، إلى مكان بعيد عن ضجيج السيارات وضوضاء الحياة اليومية، حيث أستطيع التفكير بهدوء في خياراتي المستقبلية والتخصص الذي سأختاره في الجامعة.

 

المزرعة كانت واسعة، وتحيط بها أشجار النخيل العالية، تتمايل بهدوء تحت لمسات الرياح المسائية. في النهار، كانت الشمس تغمر الأرض بوهجها الذهبي، فتظهر الأعشاب الصغيرة المتناثرة بين المسارات الرملية بلونها الأخضر الباهت، بينما تملأ رائحة الطين الممزوج بالماء المكان كلما تم تشغيل مضخات الري من المزارع المجاورة، أما في الليل، فكانت المزرعة تتحول إلى عالم آخر، حيث يسود الصمت! إلا من نسمات الهواء التي تمر بين الأغصان، وصوت صرصور الليل يتردد في الأرجاء، والظلال تمتد بفعل ضوء القمر، فتصبح الأشجار كأنها مخلوقات صامتة تراقب المكان، بينما كان الهواء البارد يتسلل عبر الأبواب والنوافذ، ليشعرني برعشة خفيفة كلما جلست بجوار نافذة الغرفة.

 

لم يكن في المزرعة سوى الحارس الباكستاني، "رشيد خان"، رجل تجاوز الخمسين، بملامح هادئة ووجه يحمل آثار السنين!، كانت لحيته الرمادية الطويلة تمنحه مظهراً مهيباً، وعيناه الصغيرتان دائماً ما تشعّان بحكمة غامضة!، كان يتحدث العربية بلكنة ثقيلة، لكن كلماته البسيطة كانت تحمل دفئاً غريباً، وكأنه أب يتحدث إلى ابنه. كان يحب الجلوس بجانب المصباح المعلق على الجدار الإسمنتي، يحتسي شايه الثقيل في كوب زجاجي صغير، ويراقب السماء بصمت، كأنه ينتظر رسالة تأتيه مع الريح.

 

في إحدى الليالي، وبينما كنت جالساً على عتبة الغرفة أراقب الظلام يبتلع أطراف المزرعة، اقترب مني "رشيد" بصمت، وناولني كوباً من الشاي، ثم جلس بجانبي، فأشار بإصبعه نحو السماء، وقال بصوت خافت: "الليل هنا… فيه هدوء، لكن أيضاً فيه قصص كثيرة، لو سمعت الريح جيداً، يمكن أن تخبرك عن ناس مرّوا من هنا." ابتسمت لكلماته الغامضة، ثم أغمضت عيني للحظة، أصغي إلى صوت الريح، وأفكر… هل سأكون يوماً شخصاً لديه قصة تستحق أن تروى؟

 

في إحدى المرات، أخبرني الحارس أنه يريد زيارة قريب له في مزرعة مجاورة، ودعاني لمرافقته، لكنني فضلت البقاء في المزرعة بمفردي، وبينما كنت جالساً في الغرفة، بدأت أفكار كثيرة تتزاحم في رأسي!، كانت الفكرة تروح وتأتي: ماذا لو حدث شيء ما؟ كيف سأواجه الخوف؟ كنت أتنقل بين الكتابة والاستماع إلى الموسيقى الهادئة، نعم، كانت الموسيقى هادئة جداً حتى أتمكن من سماع أي حركة خفيفة في الخارج، ولكن كانت الهواجس لا تنتهي: ماذا لو اقتحم أحد المكان؟ ماذا لو تعرضت لخطر ما؟ كنت أتمنى ألا يطول غياب الحارس الباكستاني، لكن الوقت كان يمر ببطء، وكأن الليل يريد أن يختبر قوتي.

 

في خضم هذه الأفكار المتراكمة، بدأت أفكر بجدية في مواجهة الخوف، وكنت أحاور نفسي: هل سأبقى هنا خائفاً، مختفياً في الغرفة، مغلقاً الأبواب وكأنني سجين؟ أم سأواجه ما أخاف منه؟ اقتنعت بيني وبين نفسي أن الخوف لا يُهزم بالاختباء، بل بالمواجهة، وقررت أن أتحداه، وأن أخرج من قفص الخوف الذي صنعته لنفسي. فكرت: "إذا كان هناك خطر، فلماذا لا أواجهه، بدلاً من أن أنتظر؟ لماذا لا أكون أنا من يتحكم في الموقف، بدلاً من أن أكون ضحية للظروف؟"

 

كانت هذه القناعة تزداد قوة كلما استمعت إلى صوت الرياح خارج النافذة، أو كلما سمعت صوتاً غامضاً من بعيد، وكنت أقول لنفسي: "الخوف لن يحميك، بل سيجعلك أضعف!، المواجهة هي التي ستجعلك أقوى"، وهكذا، بدأت أستعد نفسياً لأي طارئ، وأخذت أخطط، لكيفية التصرف لو حدث شيء ما، وكنت أعلم أن الاختباء لن يحل المشكلة، بل سيزيد من شعوري بالعجز، لذلك، قررت أن أواجه الخوف، مهما كان الثمن.

 

مرت اللحظات ببطء، وكنت أترقب عودة الحارس، ففتحت نافذة الغرفة لأستطلع الأمر، لكن كل ما رأيته كان ظلاماً دامساً، وفجأة، لاحظت ظلاً يتحرك في الخارج!، كان الظل على هيئة بشر، لكنه كان يلف وجهه بقطعة قماش، وكأنه يحاول إخفاء نفسه!، فكلما اقترب، ازدادت قناعتي بأنه شخص حقيقي!، في تلك اللحظات، قررت أن أواجهه، بدلاً من أن أختبئ.

 

خرجت من الغرفة أبحث عن عصا، أو أي شيء يمكنني استخدامه للدفاع عن نفسي!، وكانت الأفكار تتسابق في ذهني: هل هذا مجرد مزاح ثقيل من الحارس؟ أم أن هناك شخصاً آخر يتسلل إلى المكان؟ كان الظلام يحيط بالمزرعة كستار من الغموض، والهواء البارد يمر بين الأغصان بصوت خافت كأنّه همس خفي!، كنت أشعر بأنني أسير داخل مشهد سينمائي، لكن هذه المرة لم أكن متفرجاً، بل كنت البطل الذي لا يعلم كيف سينتهي المشهد.

 

تقدّمت مسرعاً نحو البوابة الرئيسية للمبنى، كانت عصا طويلة في يدي، ونبضات قلبي تتسارع مع كل خطوة، وفجأة، ظهر أمامي شخص يمسك سلاحاً أبيض يشبه العصا!، تملكني التوتر، وارتعشت يدي قليلاً، لكنني تمسّكت بعصاي وكأنها طوق نجاة!

 

كان يقترب مني ببطء، وكأنّه يقيس ردّ فعلي، وفجأة، حين رفعت عصاي بحذر، قفز الشخص إلى الخلف وسقط أرضاً، متفادياً الضربة المحتملة، في تلك اللحظة، سمعت صوتاً متقطّعاً بين الضحك واللهاث: "كفى، كفى! أنا أردت أن أخيفك، لكنك أنت الذي أخفتني!". تجمّدت مكاني للحظة، أحاول أن أستوعب ما يحدث!، كشف وجهه أخيراًهاني!، ومن خلفه، سمعت صوت ضحكة مألوفة، ضحكة تحمل مزيجاً من التسلية والارتياح، فريد الناصر، يقف واضعاً يديه على خصره، وهو يهز رأسه ضاحكاً: "كنت أخشى أن تضرب أخي بالعصا، فنضطر إلى أخذه إلى المستشفى، لأن الخائف حين يضرب لا يرحم!". أخفضت العصا ببطء، بينما كنت أتنفس بعمق، شعرت بأنني عشت لحظتين متناقضتين في أقل من دقيقة: الرعب والضحك.

 

بدأنا نضحك جميعاً، لكن في داخلي، كنت أسمع صوتاً آخر، صوتاً يسألني بهدوء: "ماذا لو كان هذا الشخص حقيقياً؟ ماذا لو لم يكن هاني، بل شخصاً يحمل نوايا مختلفة؟". نظرت إلى العصا التي لا تزال ترتعش بين أصابعي، كانت قبل لحظات رمزاً للقوة، لكنها الآن بدت وكأنها تحمل وزن كل تلك التساؤلات التي تدور في رأسي!، الظلام الذي كان قبل قليل مرعباً، أصبح مجرد ستار خلفي لمشهد كوميدي غير متوقع، لكنني كنت أعلم أن الظلام الحقيقي لم يكن حولي… بل داخلي.

 

هاني، وهو ما زال يلهث من الضحك، ربت على كتفي، وقال: "لقد تفاجأت بردة فعلك". ابتسمت، وقلت بصوت خافت، بالكاد سمعته أنا: "أحياناً، لا نعرف كيف سنتصرف حتى نكون في قلب الحدث… ربما لهذا السبب يولد الشجعان في أحلك الظروف."

 

لم يكن هاني فقط صديقاً يحب المزاح، بل كان أيضاً مرآة عكست لي شيئاً لم أكن أراه في نفسي، لقد صنع لحظة غير متوقعة، لكنها جعلتني أفكر فيما يمكن أن يحدث لو كنت في مواجهة حقيقية!، هل سأقف وأواجه؟ أم سأهرب؟ كنت لا أزال لا أعرف الجواب الحقيقي، لكنني كنت واثقاً من شيء واحد: هذه الليلة لم تكن مجرد مزحة… كانت درساً.

 

قال لي فريد وهو يضحك، وعيناه لا تزالان تحملان أثر الدهشة: "كنت أراقبك من بعيد، وظننت أنك ستختبئ في الغرفة، لكنك فاجأتني بشجاعتك!". ابتسمت له بهدوء، وأنا أشعر بخفقان خفيف في صدري، ليس من الخوف، بل من الانتصار على شيء داخلي لم أكن أستطيع تسميته حتى تلك اللحظة، فأجبته بصوت ثابت: "كنت على استعداد لمواجهة أي شيء، حتى لو كان خطراً حقيقياً".

 

تأملني فريد للحظة، ثم قال بنبرة أقل مرحاً وأكثر جدية: "لكن كيف؟ كيف لم تتردد؟ أنت وحدك هنا، والمزرعة معزولة، ولو كان هناك خطر فعلي، لربما كان الأمر مختلفاً تماماً!". شعرت أن كلماته تطرق باباً داخلياً كنت أغلقه دائماً!، لم أكن قد فكرت بجدية في ذلك من قبل، لكن الآن، وسط هذه الليلة الهادئة، والضوء الخافت الذي يلقي بظلالنا على الجدار الإسمنتي، وجدت نفسي أفكر بصوت عالٍ: "لا أعرف، لكنني شعرت أنني إن هربت الآن، فسأهرب دائماً!، كنت أتحدث مع نفسي قبل مجيئكم، كنت أواجه خوفي بالفعل، وكان عليّ أن أحسم الأمر: هل سأكون ذلك الشخص الذي يختبئ دائماً، أم ذلك الذي يواجه؟".

 

ساد صمت قصير، كأن الهواء نفسه يتوقف ليستمع إلى أفكاري، ثم قال فريد، وقد تلاشى بعض المرح من صوته: "إذن، الأمر لم يكن فقط عن اللصوص أو الموقف ذاته… بل عن شيء أعمق، عن مواجهة النفس". هززت رأسي موافقاً، وقلت بهدوء: "الخوف ليس في الخارج، هو في الداخل، في أعماقنا، وكل مرة نهرب، يكبر أكثر، يطاردنا في كل موقف، وفي كل قرار، وإذا لم أواجهه هنا، الآن، فمتى؟". نظر إليّ نظرة طويلة، ثم ضحك بخفوت، وقال وكأنه يعترف بشيء لنفسه قبل أن يعترف لي: "يا لك من مجنون… لكنك محق". عشنا لحظات من الضحك والمرح بعد أن زالت حالة الرهبة والمفاجأة، لكن في داخلي، كنت أعلم أن شيئاً ما قد تغير، لم يكن الأمر مجرد ليلة عابرة في المزرعة، بل كان اختباراً صغيراً للحياة نفسها.

 

الشجاعة: أغنية في الظلام!

تلك اللحظات جعلتني أفكر بعمق في ماهية الشجاعة والخوف!، هل الإنسان بالفعل هو القادر على أن يتحلى بالشجاعة من خلال مهارات يتدرب عليها ويكون المعلم الأول هو ذاته؟ هل القناعات تلعب دوراً؟ هل الجينات تلعب دوراً في مواجهة الخوف والتحلي بالشجاعة؟ ما هو الخوف؟ وما هي الشجاعة؟ أسئلة كثيرة تدور في رأسي ولا أكاد أجد لها إجابة.

 

تساءلت مع نفسي: هل الحوار الداخلي عن أي أمر هو مجرد خطب ما، أو ربما رسالة، أو رمز، أو إشارة، أو وحي، تأتي كهمسات من هذا الكون؟ كيف لي أن أفكر في مواجهة الخوف، بينما ينتظرني شيء لا أعلمه؟ كيف كنت أفكر في اللحظة التي أحتاج فيها إلى مواجهة بينما كنت وحدي، ولا أعلم عن زيارة أصدقائي؟

 

مضت الأيام، وكبرنا، وكل منا سلك طريقه في الحياة، لقد أصبح صديقي فريد الناصر دكتور أخصائي علاج طبيعي، وأخوه هاني، قرر السفر إلى مسقط رأسه في قطاع غزة، وهو يواجه اليوم أكبر تحدي للخوف جراء الحرب على غزة، وأتمنى له أن يكون بخير، ويعود السلام لينعم به.

 

لكن هذه القصة بقيت عالقة في ذهني منذ أكثر من 25 عاماً، كنت أتساءل: كيف يمكن للإنسان أن يتحلى بالشجاعة وهو وحيد في مكان بعيد عن أي مساعدة؟ هل الشجاعة مهارة يمكن اكتسابها، أم أنها فطرة تولد معنا؟ وهل يمكن للحدس أن يكون جسراً يربط بين الحاضر والمستقبل؟ هذه الأسئلة بقيت تدور في ذهني، ولم أجد لها إجابة واضحة.

 

الخوف والشجاعة: رحلة في ليل طويل!

هذه القصة تبدو غريبة بعض الشيء، ولكن ربما تكون هناك ظواهر تفسر كيف يمكن للإنسان أن يفكر في لحظة معينة، وبعد وقت قصير، يواجه بالفعل الموقف الذي كان يفكر فيه. يبدو أن الإنسان لديه قدرة غريبة على الاستعداد للّحظات المجهولة، وكأن العقل الباطن يعمل كرادار يستشعر ما قد يحدث، فيبدأ في تحضيرك للمواجهة قبل أن تحدث.

 

ربما يكون هذا نوعاً من الحدس، أو ربما يكون العقل البشري قادراً على قراءة إشارات خفية من المحيط، وعندما تفكر في موقف ما، وتخطط لكيفية التعامل معه، فإنك تسبق الحدث بخطوتين أو أكثر، وعندما يأتي الموقف الحقيقي، تكون قد فكرت فيه مسبقاً، وبدأت في تطبيق ما خططت له، سواء في المواجهة، أو في أي تصرف آخر، فهذا يجعل المواجهة أسهل، لأنك لم تترك نفسك فريسة للارتجال أو الذعر، بل كنت مستعداً، وكأنك مررت بتجربة مشابهة في عقلك قبل أن تحدث في الواقع.

 

هذا ما حدث معي في تلك الليلة في المزرعة، كنت أفكر في كيفية مواجهة الخوف، وقررت أن أتحداه بدلاً من الاختباء، وعندما جاءت اللحظة الحقيقية، كنت قد سبقتها بخطواتي الفكرية، فتصرفت بثقة وشجاعة، وهذا ما جعلني أشعر بأن الخوف يمكن التغلب عليه من خلال التخطيط والاستعداد. تلك الليلة علّمتني درساً مهماً: الشجاعة ليست في عدم الشعور بالخوف، بل في القدرة على مواجهته والتغلب عليه عندما يقترب منك.

 

الخوف: غريزة أم بوصلة خفية؟

الخوف غريزة إنسانية محفورة في أعماقنا منذ الأزل، لكنه ليس مجرد إحساس سلبي يُشلّ حركتنا، بل قد يكون وقوداً يدفعنا إلى الاستعداد والتكيف. قال الفيلسوف اليوناني أرسطو: "الخوف هو الألم الناتج عن توقع الشر". لكنه في ذات الوقت قد يصبح محفزاً للتفكير والتحرك، فالخوف ليس دائماً عائقاً، بل قد يكون الدافع الذي يحثنا على مواجهة المواقف الطارئة بعقلانية وحذر، مثل جرس إنذار داخلي يوقظ فينا الحذر والحدس في اللحظات الحاسمة.

 

يقول سقراط: "الحياة غير المختبرة لا تستحق العيش". وكأن فهم الخوف والتعامل معه هو جزء من اختبار الحياة نفسه، لكن هل يولد الإنسان شجاعاً، أم أن الشجاعة مهارة مكتسبة؟ ربما كلاهما، إذ إن الجينات قد تمنح بعض الأشخاص قدرة فطرية على المواجهة، لكن التجارب الحياتية والتدريب الذهني هما ما يعززان تلك القدرة، وفي القصة التي ذكرتها، لم يكن الخوف عائقاً، بل كان القوة التي دفعتني إلى التفكير السريع واتخاذ القرار. قال نيلسون مانديلا: "الشجاعة ليست غياب الخوف، بل القدرة على التغلب عليه."

 

لكن ماذا لو كان الخوف هو الشرارة التي تشعل الحدس؟ عندما نكون في حالة تأهب نفسي، فإن عقولنا تعمل بشكل مختلف!، تزداد حساسية الحواس، ويبدأ الدماغ في ربط أحداث قد تبدو منفصلة، ليخلق صورة شبه متكاملة عن المستقبل القريب!، الخوف هنا لم يكن مجرد شعور سلبي يشلّ الحركة، بل كان إنذاراً مبكراً، كما قال سينيكا: "الخوف من الألم أشد من الألم نفسه."

الخوف، في جوهره، جزء لا يتجزأ من الطبيعة البشرية، وهو الذي يساعدنا على البقاء، في تلك الليلة، كان هو الدافع الذي جعلني أستشعر الخطر المحتمل، وأفكر في كيفية المواجهة بدلاً من الهروب. قال إرنست همنغواي: "الشجاعة هي نعمة تحت الضغط". ربما لا ندرك متى سيضعنا القدر أمام اختبار صعب، لكن عقولنا - بطريقتها الخاصة - قد تكون قد استعدت له بالفعل، بطرق غير واعية، إنه ليس مجرد إحساس بالرهبة، بل بوصلة خفية توجهنا إلى اتخاذ القرار الصحيح في اللحظة المناسبة.

 

الشجاعة: ميراث أم صناعة؟

هل يولد الإنسان شجاعاً بالفطرة، أم أن الشجاعة تُكتسب من خلال التجربة والتدريب؟ قد يبدو الأمر وكأنه صراع بين الطبيعة والتنشئة، لكن الحقيقة تكمن في التوازن بين الاثنين، فالشجاعة ليست غياب الخوف، بل القدرة على التحرك رغم وجوده، كما قال مارك توين: "الشجاعة هي مقاومة الخوف، والسيطرة عليه، وليس غيابه."

 

قد تمنحنا الجينات استعداداً فطرياً للإقدام، لكنها لا تصنع الشجاعة وحدها، فالعقل، كما وصفه الفيلسوف جون لوك، "لوحة بيضاء تُكتب عليها التجارب". يولد البعض بميلٍ أكبر للمواجهة، لكن التربية والخبرات الحياتية تظل العامل الأكثر تأثيراً. في كثير من الأحيان، تتشكل شجاعتنا من خلال قناعاتنا، والتجارب التي نخوضها، والتدريب المستمر على مواجهة المواقف الصعبة.

عندما اقتنعتُ بأن مواجهة الخوف هي السبيل الوحيد للتغلب عليه، وجدت نفسي قادراً على التحرك دون تردد. لم يكن القرار بالمواجهة مجرد استجابة غريزية، بل كان نتيجة حوار داخلي عميق مع النفس، حيث أدركت أن التراجع لن يزيد الخوف إلا ثقلاً!،. مثلما يتعلم المرء السباحة بعد تكرار المحاولات، فإن الشجاعة تتعزز بالممارسة والتجربة.

 

قال نيلسون مانديلا: "الشجاعة ليست غياب الخوف، بل هي الانتصار عليه". فالشجاعة تنمو مع كل خطوة جريئة، ومع كل قرار نواجه فيه الخوف بدلاً من الفرار منه، قد يكون لدينا ميراث فطري من الشجاعة، لكنه يظل مادة خام لا تكتمل إلا عندما نصنعه بأنفسنا، عبر قراراتنا وقناعاتنا وتجاربنا الحياتية.

 

الحدس: عقل يتحدث قبل الأوان!

لماذا كنت أفكر تحديداً في الخوف والمواجهة قبل أن أجد نفسي في قلب الحدث؟ هل كان ذلك مجرد صدفة، أم أن العقل يمتلك وسائل لفهم المستقبل دون أن ندري؟ يقول كارل يونغ: "ما لا نستطيع التعبير عنه بالكلمات، يظهر في أحلامنا وإشارات حدسية في حياتنا". ربما لم يكن ذلك التفكير العابر مجرد خواطر، بل كان رسالة من اللاوعي، أو ربما من الكون نفسه، تدفعني إلى الاستعداد لمواجهة لم أدرك بعد أنها قادمة.

 

الحدس هو ذلك الصوت الخفي الذي يخبرنا بما نعجز عن تفسيره منطقياً، إنه إدراك غير معلن، لكنه في لحظات معينة يصبح أكثر وضوحاً من أي منطق!، ففي القصة، كان لدي شعور غريزي بأن شيئاً ما على وشك الحدوث، وكأن العقل الباطن أطلق إنذاراً مبكراً!، والحوار الداخلي الذي خضته مع نفسي لم يكن مجرد أفكار عابرة، بل كان وسيلة لاستيعاب الموقف واتخاذ القرار. قال سقراط: "الحياة غير المفحوصة لا تستحق العيش". كان الحوار الداخلي هنا أشبه بفحص ذاتي، اختبار للحدس، وتوجيه خفي نحو المواجهة بدلاً من التراجع.

 

ما حدث لي في تلك الليلة في المزرعة كان أشبه بمسرحية نفسية غامضة!، إذ كنت أفكر في الخوف، ثم وجدت نفسي أمام اختبار حقيقي له. هل كان ذلك مجرد مصادفة، أم أن هناك قوة خفية في عقولنا تجعلنا نلتقط إشارات غير مرئية لما سيحدث؟ يُعرف هذا الشعور في علم النفس بـ"الحدس" أو "الاستشعار المسبق"، وهو قدرة الإنسان على قراءة أنماط خفية في محيطه واتخاذ قرارات بناءً عليها دون وعي مباشر، وفي بعض الأحيان، يكون الحدس نتيجة تراكم خبرات غير مدركة، حيث يجمع العقل إشارات متناثرة ويوحدها في إحساس مبهم لكنه قوي. قال ستيف جوبز: "اتبع حدسك، فهو يعرف بالفعل ما تريد أن تكون عليه."

 

الحدس والحوار الداخلي وجهان لعملة واحدة!، كلاهما ينبع من أعماق العقل، وكلاهما يرشد الإنسان إلى الطريق الذي قد لا يدركه وعيه المباشر، ربما لا يكون الأمر مجرد مصادفات، بل انعكاسات لعمليات عقلية أعمق مما نتصور. العقل يتحدث إلينا بطرق مختلفة، أحياناً عبر أفكار تبدو عابرة، وأحياناً عبر مشاعر مبهمة لا نفهم مصدرها، لكنها تقودنا إلى القرارات الصحيحة في اللحظات الحاسمة، وبينما نحاول فك شفرة هذه الإشارات، يبقى السؤال مفتوحاً: هل الحدس مجرد نتاج لعقولنا، أم أنه بالفعل رسائل من الكون تسبق الأحداث بخطوة؟

 

بين الحذر والشجاعة!

قد لا يكون الخوف عدواً يجب القضاء عليه، بل معلّماً يحمل لنا دروساً غير متوقعة!، أحياناً يكون حدساً يحذرنا مما هو آتٍ، وأحياناً يكون شرارة توقظ الشجاعة الكامنة فينا، وبين الحدس والاستعداد، وبين الجينات والقناعات، يتشكل مفهوم الشجاعة الحقيقي. فالشجاعة ليست غياب الخوف، بل هي القدرة على التصرف رغم وجوده!، ويمكن للخوف أن يكون وقوداً للتفكير والاستشعار، تماماً كما يمكن للحدس أن يكون جسراً يربط بين الحاضر والمستقبل، يقودنا نحو قرارات شجاعة تمكننا من مواجهة المجهول.

 

ربما لم أجد إجابة قاطعة لكل هذه التساؤلات، لكنني تعلمت شيئاً واحداً: عندما يطرق الخوف بابك، لا تهرب، بل افتحه، وانظر في عينيه، فقد تكتشف أنك كنت تستعد لهذا اللقاء منذ زمن طويل. قال الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه: "ما لا يقتلنا يجعلنا أقوى". فالشجاعة هي نتاج مواجهة المخاوف والتحديات، وهي التي تجعلنا ننمو ونصبح أكثر قوة وحكمة.

 

هذا المقال حاول أن يقدم تفسيراً فلسفياً ونفسياً لظاهرة الخوف والشجاعة، معتمداً على قصة واقعية لتوضيح الأفكار، ونأمل أن يكون قد أضاف بعداً فكرياً وأدبياً لتجربة القراءة، وأن يكون مصدر إلهام للقارئ في مواجهة مخاوفه وتحويلها إلى قوة دافعة نحو النمو والتطور.

 

جهاد غريب

فبراير 2025

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

قصيدة تمشي على الأرض!

  قصيدة تمشي على الأرض! ماذا لو كانت الحياة قصيدةً لا تُقرأ.. بل تُحيا؟! ليست كل الأبيات تُكتب بالحبر، ثمة أقدام تنسجها على رصيف الزمن، وخط...