الأربعاء، 28 مايو 2025

أوراقٌ لا تُقرأُ إلّا بالقلب!

 
أوراقٌ لا تُقرأُ إلّا بالقلب!

في زوايا هذا العالمِ، حيثُ تتساقطُ الأقنعةُ كأوراقِ الخريفِ المُتعبَة، يظلّ الجوّ محمّلًا بتلك الحقيقة المُرّة التي نراوغها طويلًا: أنّ كثيرًا مما نُظهره ليس نحن، وأنّ كثيرًا مما نسمعه ليس لهم. كم من ضحكةٍ ارتدت قناع المجاملة؟ وكم من وجهٍ اعتاد على التزيين لا ليُعجب نفسه، بل ليضمن موطئًا وسط حشودٍ لا ترى إلا الواجهة؟ تبقى بعضُ الكلماتِ في هذا الضجيج كندى الصباحِ على جبينِ الزمنِ، نقيّة، صادقة، لا تستعرضُ نفسها كبقية الأصوات، بل تأتي همسًا، رقيقةً كلمسةِ أمٍّ على جبينِ طفلٍ نائم، تروي عطشَ الأرواحِ الظمأى لمعنى، لانتماء، لصدقٍ لا يحتاج إلى شرح.

كم مرّةً وقفنا أمامَ مرآةِ الثناءِ لنكتشفَ فجأةً أنّ انعكاسَنا فيها أشبهُ بلوحةٍ باهتةٍ، رسمَها آخرون بأيدٍ لا تعرفُنا؟ كلمات المديح التي تُقال أحيانًا لا تصفنا، بل تصف صورةً أرادوها لنا، وارتضيناها، خوفًا من فقدان الحبّ المشروط أو المكانة المصطنعة. نُضطرّ أن نُصفّق لأنفسنا بتصفيقِ الآخرين، بينما نحن في الداخلِ نبحثُ عن صوتٍ واحدٍ صادقٍ يقول: "أنا أراك كما أنت، دون بهتان، دون رتوش". هل هناك أصعب من أن تُعامَل على أساس تصوّر لا يشبهك؟ من أن تُحبَّ بطريقة لا تفهمك؟ أن تجد نفسك محاصرًا في هويةٍ خُلقت من ظلالِ الآخرين؟

الصمتُ هنا ليس فراغًا، بل هو الفضاءُ الذي تسبحُ فيهِ الكلماتُ الحقيقيةُ، تلك التي لم تجد بعدُ لسانًا يجرؤ على النُطق بها. إنّه اللغةُ التي يفهمها القلب، عندما تعجز الحروف عن الترجمة. الكلمات الصادقة تُشبه الأسماكَ الفضيّة، تنسابُ في أعماق النفس بخفةٍ ودهشة، لا تُحدِثُ ضجيجًا، لكنها تُحرّكُ شيئًا دفينًا فينا. أحيانًا، تكونُ الكلمةُ الأصدقُ هي التي لم تُقلْ بعدُ، لأنّها تخافُ من أن تُفهم خطأ، أو تُبتر في منتصف شعورها، فتختار أن تعيش في الصدر، كالسرّ الجميل، تنتظرُ اللحظةَ التي يكون فيها البوحُ خلاصًا لا خطرًا، نورًا لا حريقًا.

وتلكَ الغربةُ التي تحملُها بينَ ضلوعِك، كطائرٍ مهاجرٍ في سماءِ بلادٍ لا تعرفُها، لا تحتاجُ إلى شرحٍ في قواميس التحليل النفسي. الغربةُ الحقيقية ليست في المسافات، بل في فقدان المعنى، في أن تكون محاطًا بالبشر وتشعر أن لا أحد يرى ما خلفَ عينيك. أن تضحك معهم وتبكي وحدك. أن تُسأل عن أحوالك، لا ليسمعوك، بل ليُكملوا حديثًا بدأوه في رؤوسهم. هذه الغربة هي الشعور بأنّك تُلقي كلماتك في بحرٍ من الزجاج، كل شيء يبدو قريبًا لكنه لا يُلامَس. وجوهٌ تُشبه الشوارعَ المزدحمةَ، تعجّ بالحركة، لكنّها فارغةٌ من التلاقي، من الدفء، من الإنصات. والمجاملةُ؟ قد تكون أكثر أشكال الغربة قسوة، لأنّها تُظهر الاهتمام وتخفي اللامبالاة. كعباءةٍ مطرّزةٍ بالذهبِ، خفيفة، باردة، لا تُغني عن دفء حقيقيّ.

لكنْ، في زحامِ هذهِ الأصواتِ، وفي ظلّ الوجوهِ التي لا تُشبهنا، يظلّ هناك نورٌ ما، خافتٌ كشمعةٍ في غرفةٍ بعيدةٍ، لا يُضاءُ ليراهُ أحدٌ، بل لأنّ الظلامَ لا يُطاق. إنه الإيمان بأنّ الجمال ما زال ممكنًا، والصدقِ لم يمت، والحبّ النقيّ لم ينقرض. هذا النور لا يحتاج إلى تصفيق، لا يُروّجُ لنفسه، بل يتسرّبُ مثل النسيم، من ثغراتِ الحواجز، ومن النوافذِ المغلقة. قد تكون كلمةٌ واحدةٌ صادقةٌ كفيلةً بإحياء ما مات فينا، بتليين ما تصلّب، بزرعِ أملٍ في أرضٍ ما عادت تؤمنُ بالمطر. الكلمةُ التي تخرج من القلب لا تحتاجُ إلى صياغةٍ فاخرة، تكفيها نيّتها.

هل نجرؤُ يومًا على أن نكونَ كما نحن، دونَ أقنعةٍ، دونَ تبريراتٍ؟ هل نملك شجاعة أن نقول: "هذا أنا، بخوفي، برجفتي، ببدايتي التي لم تكتمل؟". كثيرًا ما نعيش ككتبٍ مغلقةٍ، نُزين الغلاف، ونخشى أن يفتحنا أحدٌ فيقرأ الفصول التي لم نجرؤ على قراءتها نحن أنفسنا. نحتاج إلى قارئٍ يقرأنا بالقلب، لا بالعَين، قارئٍ لا يُحلّلنا كمعادلة، بل يحتضننا كقصة. فالعالمُ يصرخُ بألفِ صوتٍ، يطلب الانتباه، يُزايد بالمشاعر، لكنّ أعذبَ الأصواتِ، ذلك الذي يأتي من الداخلِ، هادئًا، صادقًا، كأنينِ القيثارةِ حينَ تعزفُ لحنَها الأخيرَ… لا لتُدهش، بل لتُودّع.

في النهايةِ، ليستِ الحياةُ إلّا مرآةً، لا تعكسُ ملامحنا بقدر ما تعكسُ نوايانا. إنْ حدّقتَ فيها بقلبٍ مفتوحٍ، رأيتَ الجمالَ الكامنَ خلف التجاعيد، خلف الغبار، خلف الألم. رأيتَ نورًا صغيرًا يقول لك إنك لست وحدك. وإنْ أغمضتَ عينيكَ خوفًا من الحقيقةِ، فلن ترى إلّا الظلالَ، ستعيش في وهمِ الحماية بينما أنت غارقٌ في العتمة. فلتكنْ كلمتُكِ كالوردةِ، تُزهِرُ حتى لو لم يشمّها أحدٌ، لأنّ العطرَ الحقيقيّ لا يحتاج جمهورًا. وليكنْ صمتُكِ كالنهرِ، يبدو ساكنًا، لكنه يحملُ في أعماقهِ أسرارَ الأرضِ، حكمتَها، وحنينَها الأزليّ للبحر.

جهاد غريب 
مايو 2025

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الخروج من الظل: سيرة الوعي بين الفقدان والاكتشاف!

  الخروج من الظل: سيرة الوعي بين الفقدان والاكتشاف!  في زوايا الروحِ حيثُ ينسابُ الضوءُ خافتًا، تُولدُ الصحوةُ، كأنّما كنتَ نائمًا في قفصِ ا...