ومضات تُنيرُ أعماقَ الوجود!
ذات يومٍ، بينما كنتُ أسيرُ في طرقات الحياة مُحمَّلًا بأسئلةٍ بلا أجوبة، تسلَّلَ إليَّ مشهدٌ صغيرٌ – كظلٍّ مرسومٍ على جدارٍ عتيق، أو ابتسامةٌ طائشةٌ مِن روحٍ غريبة – فدخل قلبي كقطرةِ ندى تُضيءُ ورقةً يابسة.
لم يكُن اللقاءُ مُتوقَّعًا، كضيفٍ خجولٍ يطرقُ البابَ عند الفجر، لكنَّه حملَ في طيّاته ومضةً إلهيةً، كشفَت لي أنَّ الكونَ يُخبئُ تحتَ عباءتهِ طبقةً مُذهلةً مِن الجمال، لا تُرى بالبصرِ بل تُحسُّ بأناملِ الروح، كَنغمةٍ موسيقيةٍ تذوبُ في الفراغِ دون أن تطلبَ إثباتًا.
تلك اللحظاتُ العابرةُ – التي تمرُّ كفراشةٍ تلمعُ في الظلام ثم تختفي – هي حكايتي معك اليوم، لا كخطابٍ عابرٍ، بل كهمسَةٍ سرّيةٍ بين جناحيْ فراشتين التقتا على زهرةٍ واحدة.
وكما تَهمسُ الطبيعةُ بألغازها، هناكَ جمالٌ لا يُفسَّرُ بل يُعاش: رائحةُ الأرضِ بعدَ أولِ مطرٍ، كأنَّ السماءَ تُرسلُ قبلةً إلى ترابٍ ظمآن، أو غيمةٌ تذوبُ في زرقةِ البحرِ وكأنها دموعُ عروسٍ سماوية.
شجرةٌ ترتجفُ أوراقُها مع الريحِ كأيدي طفلةٍ تُلوِّحُ لوالدتها، أو طائرٌ يُحلِّقُ وحيدًا عند الغروبِ ككلمةٍ لم تُنطقْ في قصيدةِ الوداع. هنا تُصبحُ الأرصفةُ تتنفَّسُ تحتَ الأقدام، والنوافذُ ترمشُ بالنسماتِ كلغةٍ لا تُنطق، وكأنَّ العالمَ كتابٌ مفتوحٌ نقرؤهُ بأقدامنا قبلَ أعيننا.
الفنُّ العظيمُ ينسابُ إلى الروحِ كضوءٍ يخترقُ زجاجًا ملونًا، فيحوِّلُ الظلالَ إلى ألوانٍ. هذه اللحظاتُ تُعيدُ ترتيبَ أوراقِنا الداخليةِ كيدِ القدرِ الناعمةِ التي تنسجُ من الفوضى لوحةً.
إنها تدفُّقٌ بديعٌ للكلماتِ لا يسمعُه أحد، يهطلُ في الأعماقِ كمطرٍ خفيفٍ يغسلُ زجاجَ الروحِ، ويُذكِّرنا أنَّ حتى الظلَّ العابرَ للطائرِ، أو الضوءَ المتسللَ من بين الستائرِ، قادرٌ على إحياءِ الدهشةِ في قلوبٍ تجمَّدَت. لوحاتٌ حيّةٌ لا تُرسمُ بالألوانِ بل بالأثر، كلُّ ومضةٍ منها تفتحُ كتابًا جديدًا في مكتبةِ الروحِ التي تمتلئُ بكتبٍ لم تُفتَح بعد.
والجمالُ العابرُ كالضوءِ في يدَي طفلٍ – لا يُمسكُ به، بل يُضيءُ وجهَهُ ثم يفرُّ. هو غيمةٌ تذوبُ قبل أن تُلمسَ، أو حلمٌ يُغادرُك عند الفجرِ مُبتسمًا. لكنَّه حين يمرُّ، يتركُ وراءهُ صدىً لا ينتهي، كموجةٍ تتصادمُ مع الشاطئِ إلى الأبد.
وهنا يُلقي الجمالُ سؤالَهُ الوجوديَّ: "هل نرى؟ أم أننا نمرُّ على الحياةِ مغمضي القلب؟". إنَّ إجابةَ هذا السؤالِ ليست بكلمةٍ، بل بزهرةٍ تتفتحُ في صمتٍ داخلَ مَن يُدركونَ أنَّ اللحظاتِ الثمينةَ لا تصرخُ، بل تهمسُ، وتحمِلُ في جوهرِها كنوزًا من المعنى، كحجرٍ صغيرٍ يُخبئُ جوهرةً في قلبهِ.
ولأنَّ الجمالَ الحقيقيَّ لا يُقاسُ بالكمِّ بل باللقاء، فهو لقاءٌ صامتٌ بين العينِ والروحِ، وبين اللحظةِ والأبديةِ. إنَّه إحساسٌ يتغلغلُ فينا ويُصبحُ جزءًا من نسيجِ ذكرياتنا، شيءٌ لا يُرى بل يُستَشعر، كأنَّ الضوءَ نفسَهُ قررَ أن يهمسَ بدلَ أن يُبهِر.
فلنحفظْ هذه الومضاتِ في قلوبنا كجواهرَ في صندوقٍ سري، ولنُبقِ أعيننا مفتوحةً على أسرارِ الكونِ، ليس بحثًا عن إجاباتٍ، بل احتضانًا للغموضِ الذي يجعلُ الحياةَ قصيدةً لا تُقرأُ مرتين بنفسِ الإيقاع.
فالعابرُ الجميلُ لا يرحلُ أبدًا، بل يتحوَّلُ إلى وشمٍ على جدارِ الروح، يُذكِّرنا أنَّ كلَّ لحظةٍ تحملُ في جعبتِها كونًا من الإمكانيات.
وفي النهاية، فإنَّ ما نعتقدُ أنَّه زائلٌ، قد يكونُ البصمةَ الوحيدةَ التي تبقى حينَ يتبخَّرُ كلُّ شيءٍ. لأنَّ الجمالَ لا يُكتَبُ، بل يُتلقَّى، ولا يُحتفَظُ به، بل يُعاش، ويجعلُنا نَشعرُ أننا كنّا في حضرةِ شيءٍ أكبرَ من الإدراكِ، وأقربَ من الدمعةِ.
جهاد غريب
مايو 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق