الأحد، 20 يوليو 2025

حين تلمس السماء القلب!

 
حين تلمس السماء القلب! 

هل شعرت يومًا بوميضٍ خافتٍ ينبعث من أعماقك؟ ليس من ذكرى عابرة، أو حلمٍ بعيد، بل من مجرد نظرة إلى تلك اللجة الزرقاء، أو السواد المخملي المرصّع باللآلئ، إنها لحظة تتلقفها الروح فورًا، كأنها تعرفها منذ الأزل، حين تتجلّى السماء ليس كفضاءٍ شاسعٍ فوقنا، بل كمرآةٍ شفافةٍ تعكس أعمق الأسرار الكامنة في القلب.

هناك، حيث تلتقي اللانهاية بالمتناهي، ويتلاشى الفاصل بين ما هو مرئي وما هو محسوس، تولد تلك الرجفة التي لا تأتي من الشفق، ولا تذوب في زوال الليل، بل تبقى ساكنة، عميقة، كوشمٍ أبديٍّ على جدار الروح.

إنها رجفة ليست رجفة خوفٍ ولا برد، بل هي دهشة وجود، ارتعاشة صمت أمام عظمةٍ لا تُدرك كنهها العقول، لكنها تلامس شغاف القلب مباشرة. وكأن الكون، بكل اتساعه وسكونه، يهمس إلينا بسرٍّ قديمٍ عن أنفسنا، عن كوننا خيوطًا متشابكة في هذا النسيج الكوني.

ما الذي يجعلنا نرتجف أمام سماءٍ مليئة بالنجوم، أو عند رؤية شروق الشمس يصبّ ذهبه على الأفق؟ ليست الألوان وحدها، ولا الأبعاد الفلكية، بل هو ذلك الصدى الذي يتردد في أعماقنا، صدى الأصالة والجمال المطلق، الذي يوقظ فينا ما كان نائمًا، ويُعيد وصل ما انقطع بين الروح ومصدرها الأول.

تتسلل أشعة الشمس الأولى عبر نافذة الروح، فتُضيء زواياها المنسية، وتُبعث الحياة في كل خلية. السماء، بتجلّياتها المختلفة، ليست مجرد سقفٍ للعالم، بل صفحة قلبٍ كونيٍّ نُطالِع فيها أسرارنا. 

هي تُحدث فينا صحوةً لا تُشبه الصحوات المعتادة؛ صحوة تُلغي حدود الزمن والمكان، وتدعونا لنتجاوز حواسنا الخمس، لنُلامس ما لا يُلمس، ونُبصر ما لا يُرى بالعين المجرّدة، وكأن السماء لا تكتفي بأن تظل فوقنا، بل تسكن فينا لتُعيد ترتيب العالم من الداخل.

إنها تذكرة بأننا لسنا مجرد كائناتٍ مادية، بل نحن أرواحٌ تسكن أجسادًا، أرواحٌ تتوق إلى الوصال، إلى الاندماج في هذا الجمال الكوني العظيم.

تلك الرجفة التي تُلامس القلب، لا هي من رياحٍ عابرة، ولا من نورٍ خافت، بل هي من وهجِ الحقيقة، من لمسةٍ علويةٍ تجعلنا نُدرك أننا جزءٌ من كلٍّ أكبر، وأن سرّ وجودنا يكمن في هذا الاتصال الروحي العميق. هي ليست مجرد إعجابٍ بصري، بل هي تماهٍ صوفيّ، انصهارٌ للذات في بحر الكون اللامتناهي.

تُرى، أهي الرجفة نفسها التي تأتينا حين نرى البحر يتقاطع مع ضوء القمر، فيتوهج كأنفاس كائن سماوي؟ تلك اللحظة التي لا يكتفي فيها الجسد بالمشاهدة، بل تُنصت الروح، ويتسع القلب لأكثر من مشهد، لأكثر من إحساس. 

حين نصغي إلى حفيف الريح في جنح الليل، نشعر كأننا نسمع أنفاس كائناتٍ خفيّةٍ تتراقص بين النجوم. إنها لحظات لا يكتفي فيها البصر بالتأمل، بل تتوق الأذن لالتقاط سيمفونية الكون الخفيّة، وتتوق الروح للذوبان في وصالٍ حسي شامل، كأن الريح تُقلّب صفحات كتابٍ كونيٍّ مُذهّب.

لقد أدرك الأقدمون هذا السرّ، فنسجوا من النجوم حكاياتهم، وجعلوا السماء جسرًا بين عالمهم الفاني والماوراء الأبدي، كما فعلت الحضارات القديمة التي رأت في كل نجمةٍ قصةً، أو إلهًا، معتبرينها دليلًا لا على الطريق فحسب، بل على سرّ الوجود ذاته.

ما تظنه ضعفًا أمام اتساع السماء، هو في جوهره انتماءٌ صامتٌ لقوةٍ خفيةٍ تنبض بك. ما تلك الرجفة سوى توقيع الكون علينا، نحن أبناءه الشرعيون، المنتمون إليه أكثر مما نعي.

نحن لسنا مجرد مشاهدين على مسرح هذا الكون؛ نحن فاعلون فيه، متلقّون للّمسات، ومُشِعّون لها بدورنا. ويظل في القلب أثرٌ دافئ، ورجفة خفية، كأن الزمن توقف ليُصغي إلينا.

وعندما تُسدل السماء ستائرها الليلية، وتُضيء كواكبها ونجومها، لا يبقى في القلب سوى ذلك الأثر الدافئ، تلك الرجفة الهادئة التي تُخبرنا بأننا وُجدنا لنُحب الجمال، ونستشعره في كل ذرةٍ من هذا الوجود، وأن أرواحنا تتنفس من فيض السماء، وتُروى من غيثِ هذا الكون المعطاء.

في المرة القادمة التي ترفع فيها رأسك إلى السماء، تذكّر أنك لا تنظر إلى فراغ، بل إلى مرآة روحك، إلى إشاراتٍ صامتةٍ تُخاطبك بلغةٍ لا تُقال. دع تلك الرجفة تدبُّ في أوصالك، واستقبل همسات الضوء كما لو كانت رسائل موجَّهة إليك وحدك. فذلك الارتجاف الخفي... ليس من البرد، بل من الضوء الذي يعبر القلب قبل أن يلامس العين.

ألم يقل جلال الدين الرومي: لقد وُلدتَ بجناحين، فلماذا تُصرّ على الزحف؟ ارفَعْ رأسك، ليس لترى السماء، بل لتتذكّر أنك منها... وأن كل ما فيك يشتاق إليها، كما يشتاق الضوء إلى مصدره، والنجم إلى مجرّته. 


جهاد غريب 
يوليو 2025 

حين تمشي العتمة مع اليقين!

 
حين تمشي العتمة مع اليقين!

كأنك تسير في ممرٍ لا يُنبئك إن كان ينتهي ببابٍ أم بجدار. الخطى ترتجف بين الشك والانتظار، والهواء ثقيلٌ بحملِه كل الأسئلة التي لم تُنطق بعد. العتمة هنا ليست نقضًا للنور، بل ممرًا إليه، رحمًا يختلط فيه الغموض بالبصيرة، كي ينضج اليقين قبل أن يولد حقيقةً تتنفس.

نمشي، لا لأن الطريق واضح، بل لأن في التوقف خيانةً لذلك الصوت الخفيّ الذي لا يُسمع إلا عندما يصمت كل شيء. قد لا ندرك هل نسير نحو الحقيقة أم نحو وهمٍ يرتدي ثوبها، لكننا نخطو لأن الجهل بالوجهة أخفُّ وطأةً من اليقين الزائف، وأقل قسوةً من التجمُّد في دهاليز الخوف.

الشك لا يغزو القلب فجأة، بل يتسلل كحبرٍ في ماءٍ صافٍ، لا ليشوّهه، بل ليُظهر هشاشة وضوحه المزيف. ليس كلُّ وضوحٍ نعمةً، فكم من نورٍ أعمى العيون عن رؤية ما وراءه. وليست الأسئلة سياط تعذيب، بل مفاتيح نطرق بها أبوابًا لم نكن نعرف أنها مُغلقة. كم مرّة ظننتُ أني أبصرت الحقيقة، فإذا بي أفقد بصيرتي؟ وكم من يقينٍ هدأني، ثم تحوّل إلى قفصٍ مذهّبٍ جعلني أنسى اتساع الأفق وشهوة الطيران؟

حين تتوقّف عن مقاومة العتمة، وتُمسك بيدها كرفيقٍ لا كعدوّ، تبدأ في رؤية ما لم يكن مرئيًا تحت وهج الضوء: ارتعاشةُ القلب حين يخلو إلى نفسه، ووجوهُ الأحبة في طيّات الظلال، وحتى الفراغ يصبح انعكاسًا يفضح ما نحاول إخفاءه. هناك، في عمق الظلمة، تكتشف أن النور الذي تبحث عنه كان يسكنك طوال الوقت، لكنك كنت تقف خلف ذاتك، تتفرج.

السؤال ليس لعنةً، بل نافذةً تُجبرك على مواجهة صورتك الحقيقية بكل شقوقها. واليقين ليس دائمًا خلاصًا، بل قد يكون سجنًا يحجب عنك احتمالاتٍ أخرى لأن تكون، لأن تتغيّر، لأن ترى العالم بعينٍ لم تُبصر بعد. النور لا يولد دائمًا كصاعقةٍ تُبهر العيون، بل كأنفاسٍ خافتةٍ تصعد من أعماق الروح، من حيث الألم، لا من حيث الراحة.

عندما نعترف بأننا لا نسيطر على الطريق، ولا حتى على أنفسنا، تنبت فينا أجنحةٌ من فهمٍ جديد. يصبح اليقين ليس صخرةً نتمسّك بها، بل فضاءً نتعلم فيه أن نحلّق فوق الأسئلة، لا أن نغرق تحتها.

تسكن التموجاتُ الداخلية حين تدرك أن العتمة ليست عدوًا، بل كائنًا يُريك وجه خوفك الحقيقي كما لو أنك تراه لأول مرة، بلا أقنعة ولا مؤثرات. وأن النور لا يكمن في المصابيح، بل في الفهم الذي يولد من الصدق مع الذات. وأن الصوتَ الحقيقي لا يُسمع في الضجيج، بل في تلك اللحظة التي تنصت فيها إلى السكون كأنه اعترافٌ صادق.

لا نخرج من العتمة إلى الضياء، بل نوقظ الضوء من داخلنا، بأسئلتنا، بضعفنا، بشجاعتنا في أن نقف عراةً أمام أنفسنا. من يجرؤ على مواجهة الفراغ، لا ليملأه بعجلة، بل ليفهمه، هو وحده من يمنح الحياةَ معنى لا يتبدّد.

وفي لحظةٍ هادئة، عند مفترق طرقٍ بلا علامات، تسند ظهرك إلى جدار روحك، وتغمض عينيك كمن عاد من رحلةٍ طويلة، وتهمس: لم أكن أبحث عن يقينٍ ثابت، بل عن دفءٍ لا يرتعش في حضن السؤال.

وهكذا، لا تشكر النور وحده، بل تشكر العتمة لأنها قادتك إلى حيث يُخلع كل قناع، وحيث يُكتشف أن القلب كان دليلَه الخاص طوال الوقت.


جهاد غريب 
يوليو 2025 

همسات الوجود وصدى القلب!

 
همسات الوجود وصدى القلب! 

أحيانًا، لا نحتاج إلى إجابة. نحتاج فقط أن يُربّت الوجود على قلوبنا، أن يهمس لنا: "أنا معك"، دون أن يقول شيئًا.

في اللحظة التي ينساب فيها الكون إلى جوف القلب، يصبح كل شيء أغنية بلا كلمات. هناك، حيث يذوب الحاجز بين الداخل والخارج، تُولد لغة أخرى: لغة الهمس الذي لا يحتاج إلى صوت. الوجود لا يتكلّم، بل يُناجيك بإشاراته الصامتة، عبر نسيمٍ عابر، أو ومضةٍ مفاجئةٍ في عينيك، كأنما يضع يده على كتفك ويقول: "أنت هنا، وأنا هنا، وهذا يكفي".

القلب ليس مجرّد مضخة دم؛ إنه صياد الخفايا، ومترجم اللامرئي. حين يصمت العقل، يبدأ القلب في الرؤية. يسمع دبيب النملة على ورقة، ويرى الظلّ الذي تتركه الفكرة قبل أن تولد. في أعماقه، تتكسر الأضواء إلى ألوان لم تُسمَّ بعد، وتصير الأصوات ذبذبات تهز الروح دون أن تُسمَع. فالقلب لا يفسّر الوجود، بل يحسّه، يعيشه، ويذوب فيه.

هل شعرت يومًا أنك تسمع النجوم؟ ليس بالأذن، بل بذلك الموضع الغامض خلف الضلوع. قد تكون واقفًا تحت سماء صافية، أو بين جدران عادية، وفجأة يغمرُك إحساس بأن الكون ينشد لك أغنية قديمة، كأن كل الذرات من حولك ترقص على نغمة واحدة. في تلك اللحظة، لا تكون مستمعًا فحسب، بل العازف، والآلة، والأغنية ذاتها.

لكي تسمع همس الوجود، عليك أن تصمت أكثر مما تتكلم. السكون ليس فراغًا، بل وعاء يمتلئ بالمعنى. حين تهدأ الضوضاء الداخلية، تبدأ الأصوات الحقيقية بالظهور: صوت النهر وهو يسعى نحو البحر، صوت الزهرة وهي تتفتح عند الفجر، صوت الروح وهي تتمدد كالظلّ تحت شمس اليقين. في هذا السكون، تصير الكلمات زائدة عن الحاجة؛ فالصمت حوار، والغياب حضور، والوحدة لقاء.

وفي النهاية، لا يهم إن كنت قد فهمت الكون أم لا. المهم أنك شعرت به. أنك وقفت تحت سمائه، أغمضت عينيك، وسمعت قلبك يهمس بكلمة واحدة: "أنا موجود". وهذا يكفي. يكفي أن تدرك أنك جزء من أغنية كُتبت قبل أن تولد، وسيستمر صداها بعد أن ترحل، فالوجود لا ينتهي، والقلب لا ينسى. إنه فقط يُغمض عينيه... ويستمع. وكلما استمع، أدرك أنه لم يكن يومًا وحيدًا.

جهاد غريب 
يوليو 2025 

السبت، 19 يوليو 2025

شرنقة اللهب... ومنارة القلب!

 
شرنقة اللهب... ومنارة القلب! 

في أعماقك، حيث لا يُبصر الساهرون، ينبت الفانوس الذهبيّ. لا يشبهه إلا ما يُشبه النورَ حين يلامس النور. قلبه يتنفّس ضياءً، وحوله تدور الأسرار كعوالم صغيرةٍ تبحث عن يدٍ تسكن فيها. هذا هو فانوسك، لا زجاج يحميه ولا ريح تطفئه، لأنّ النور الذي ينبع من الأعماق لا يُسرَب، ولا يُستعار. 

في الظلّ، حيث تتدلّى الخيوطُ الأخيرةُ من النهار، يبدأ الضوءُ بالانتصاب كشجرةٍ عتيقة. لا تخدعك العتمة، فكلّ ظلمةٍ هي مجرّد نورٍ لم يجد بعدُ طريقه إلى العينين. والقلبُ الذي عرف الجرحَ، يعرف أيضًا كيف يخيط جراحه بخيوطٍ من شمس. هكذا تُنبِت الظلمةُ ضوءَها: كبذرةٍ تشهق نحو الضوء، أو كطفلٍ يتعلّم المشيَ على أرضٍ غير مضمونة، لكنّ خطواته — رغم ذلك — تترك أثرًا يُضيء.

وإذا صمتَّ قليلًا، ستسمع الكونَ يصغي. الأنهارُ تهمسُ باسمك، والنجومُ تترنّم بلغةٍ لا تحتاج إلى أذنٍ كي تُفهم. قلبُك المضيءُ ليس غريبًا هنا، إنّه الصديقُ القديمُ للفراغِ الذي يملأ السماء، وللصمتِ الذي يسبق الكلامَ العظيم. في هذا الكون، حيث كلّ شيءٍ يُناجي كلَّ شيء، أنت لستَ زائرًا، أنت الندى الذي يروي الأرضَ، والقصيدةَ التي تنتظر قارئها.

لا تخف من العتمة، فالنورُ الحقيقيُّ لا يخافُ السقوط. حتى لو التُفَّ القلبُ بالليلِ كالشرنقة، فداخله فراشةٌ من لهب، وكلّما اشتدّ الظلامُ، تذكّر: أنت لم تُخلقْ لتُحاط، بل لتُضيء. النورُ الذي فيك لا يُقاسُ بكمّية الهواء حوله، ولا بمسافة السماء فوقه، بل بقدرته على أن يظلّ يُغنّي حين تخرُّ كلُّ الأصوات.

وفي النهاية، حين تُلملم الأشياءُ ظلالَها، وتعود الكلماتُ إلى مناجاةِ الصمت، ستُدرك أن النور لم يكنْ مجرّدَ ضوءٍ عابر، بل كان القلبَ نفسه. قلبًا صار منارةً، ليس لأنّه لم يعرف الظلمة، بل لأنّه — وببساطةٍ موجعة — لم يجد بدًّا من أن يُشرق.

لأن النور لا يُستعار… بل يُولد في لحظة صدق، حين يصغي الإنسان إلى ما يُضيء فيه، فيكتشف أن في داخله شمسًا لا تغيب.

جهاد غريب 
يوليو 2025 

البوح الصادق: ملاذٌ في صمت المعنى!

 
البوح الصادق: ملاذٌ في صمت المعنى!

في زمنٍ ضجّت فيه الأصوات، وتكاثرت فيه الكلمات حتى بات الصمت عملة نادرة، يصبح البوح الصادق غايةً يُشقى لأجلها، ومنشودًا يُرتجى في متاهة اللفظ، لا ذاك البوح الذي يتكئ على ضجيج الفراغ، ولا ذاك الكلام الذي يترنّح في أروقة المجاملات، أو يُزيَّف بزينة العبارات الخاوية، إنما هو بوحٌ مشدودٌ كوترٍ على حبلٍ من صدق، لا يخدع بزيف، ولا يرتجف أمام الوجوه الخاوية، ولا يتجمل بقناع من ذهب على وجهٍ من طين.

يسكن هذا البوح صمتٌ ثقيل، لكنه ليس صمت الموتى، بل صمت الحكماء، أولئك الذين يعرفون أن الكلمة زهرة لا تتفتح إلا في تربة التأمل. صمتٌ عامرٌ بالمعنى، كأن اللغة نفسها اختبأت في مساماته، خجلاً من أن تنطق قبله. 

هو الصمت الذي يسبق الكلمة كما يسبق الغمام المطر، يُختمر فيه الكلام كما تُختمر الخمر في جرار الزمن، حتى إذا نطق، نطق نقيًّا كندى الفجر، ثقيلًا كدمعة الندم. إنه صمت لا يفرغ القلب، بل يُثقل الكلمة بالروح والمعنى، ويمنحها مقامها قبل أن تصل إلى الشفاه.

وفي عالمٍ تتداعى فيه الجسور بين البشر، يصبح البوح الصادق الجسر الأخير الذي يُبنى عليه الرجاء، حجرًا فوق حجر. فما جدوى الكلام إن لم يكن جسرًا يعبر من قلبٍ إلى قلب؟ وما نفع العلاقات إن قامت على طقوس باردة، وعبارات لا تشبه أرواح أصحابها؟ 

إن الصدق هنا ليس مجرد فضيلة، بل هو الروح التي تُبقي العلاقة حيّة، هو النور الذي يمنع الحب من أن يتحول إلى ظلٍّ بلا جسد، والصداقة من أن تصبح مجرّد إجراءٍ اجتماعي، وهو الهواء النقي في رئة العلاقات، والماء العذب في بئر التواصل.

وما أقسى العيش في عالمٍ يغيب عنه هذا البوح! حيث تتراكم المشاعر كالسحب الركامية، لكنها لا تمطر. وحينها، تتحول الكلمات إلى أقنعة، والمجالس إلى مسارح، ويصير الصمت جدارًا لا يحمي، بل يعزل. ليس صمت الحكمة، بل صمت الخوف والشك وسوء الفهم، حيث تنمو الضغائن كأعشابٍ ضارة بين أحجار لا تتكلم، وقلوب لا تصدق، وعيون تتوارى خلف ابتساماتٍ لا روح فيها.

لكن، كيف نعبر من ضجيج العالم إلى جزيرة البوح الصادق؟ لعل البداية في التوقف، تمامًا كما يفعل المسافر حين يضيع منه الطريق وسط الزحام. نسأل أنفسنا: هل ننطق لنُسمِع، أم نقول لنفهم أنفسنا أولًا؟ 

إن البوح الصادق لا يولد من اللسان، بل من جرأة القلب وصفاء النية. يتطلب شجاعة الغواص الذي يغوص في أعماق البحر بحثًا عن لؤلؤة، وسط الظلام والتيارات الخفية. ويتطلب كذلك صفاء من ينظف مرآة قلبه كل صباح، حتى لا يشوّه الغبار صورة الحقيقة.

ولنعترف بيننا: ليس كل كلام بوحًا، وليس كل صمت حكمة، فالثرثرة عاصفة من الكلمات التي لا تحمل إلا الفراغ، أما البوح الصادق، فهو قطرة ندى تسقط على ورقة يابسة فتنهض خضراء من جديد. هو الناي الذي يُخرج النغم من قلبه، لا كالعاصفة التي تخرج من فراغها، وتبعثر كل شيء دون أن تقول شيئًا. الفرق بينهما هو الفرق بين الحياة والتقليد، بين المعنى والصدى، بين روحٍ تُمنح وروحٍ تُستنزف.

وفي النهاية، يبقى البوح الصادق هو الكنز المفقود في عالمٍ يلهث وراء البريق ويغفل عن الجوهر. هو الكلمة التي تُولد من رماد الزمن، لا من عادة اللسان. هو الصوت الذي لا يخشى الصمت، بل ينبثق منه، كما ينبثق النور من رحم الظلام. إنه الملاذ الذي نلجأ إليه، حين تتعرى الحقيقة فلا تجد ما تخفيه، وحين نكتشف أن الكلمات ليست حجارة نرميها في بحر الحياة، بل أشرعة نُبحر بها نحو شواطئ المعنى.

فلنصغِ لهذا الصمت، ولنحترم مقام الكلمة، حتى إذا بُحنا، صدقنا.


جهاد غريب 
يوليو 2025 

الثلاثاء، 15 يوليو 2025

ها أنا... كما أريد، لا كما أرادوا!

 
ها أنا... كما أريد، لا كما أرادوا!

هل شعرت يومًا أنك تركض بلا توقف، لكنك لا تقترب من وجهتك؟ كأنك تصطدم بحاجزٍ شفاف، لا تراه لكنه يمنعك من الارتفاع؟

نُحمّل الطريق المسؤولية، فنبدّل الاتجاهات، نخطط لهروب كبير، نبحث عن أبواب جديدة... بينما تكمن المشكلة في تفصيلة صغيرة منسية: مفهوم قديم لم نتجرأ على مراجعته. أحيانًا لا تحتاج الحياة إلى ثورة، بل إلى نافذة صغيرة تُفتح في جدار ظنناه مغلقًا إلى الأبد. يكفي أن تنظر من خلالها، لتكتشف أن الضوء كان ينتظرك منذ البداية.

نحن نحمل عبارات مثل: "هذا مستحيل"، "هذا قدري"، "الناس سيقولون..." كأنها حقائق لا تقبل الشك، بينما هي في الأصل أفكارٌ زُرعت فينا مبكرًا، فكبرت معنا مثل شجرة جذورها مدفونة في أساس البيت. صارت جزءًا منا دون أن ننتبه. جرّب اليوم أن تكتب ثلاثة معتقدات تُوجه قراراتك، ثم اسأل نفسك: ماذا لو كان العكس هو الصحيح؟
قد تندهش حين تكتشف أن بعض السقوف التي منعتك من التحليق، لم تكن إلا ظلالًا من أوهام، وأن المفتاح كان في يدك منذ البداية.

لكن العقبة لا تكمن في المعتقدات وحدها، بل أيضًا في تلك "البوصلة" التي نُهملها وسط الزحام. نضع أهدافًا واضحة، نرسم خططًا دقيقة، ونسير بإصرار... لكننا ننسى أن نسأل أنفسنا: هل ما زلتُ أريد هذا الطريق؟ كأنك تسافر بعيدًا، ثم تكتشف فجأة أنك لم تعد تُحب السفر. 

الالتزام بالخطة لا يعني أن تتجاهل تحوّلاتك الداخلية. توقّف قليلًا، أخرج بوصلة ذاتك واسأل: هل ما زالت هذه القيم تعبّر عني؟ أم أنني أسير فقط وفاءً لنسخةٍ قديمة مني؟ العودة إلى الذات ليست تراجعًا، بل علامة نضج، وحنوّ على الروح.

ولا تحتاج هذه العودة إلى انقلاباتٍ عنيفة. التغيير الجذري قد يبدو مخيفًا، لكن التغيير الهادئ – التدريجي – كالماء، يتسلل من أضيق الشقوق ويصنع مجرى جديدًا. 

ابدأ من تفاصيلك الصغيرة: غيّر روتينك الصباحي، قل "لا" لشيء كنت تقول له "نعم" مجاملةً، أعد ترتيب غرفتك. غالبًا ما تكون الفوضى من حولنا انعكاسًا للفوضى في دواخلنا. وكما قال جلال الدين الرومي: "أنت لست قطرة في المحيط، بل المحيط كله في قطرة". يكفي أحيانًا ثقب صغير، حتى يفيض منه النور.

وهذا النور لا يأتي من الخارج، بل ينبت من الداخل، حين تعثر على صوتك الخاص وسط ضجيج التوقعات. المجتمع يصرخ فيك: "كن هكذا!"، لكن الحكمة أن تكتشف ما يُحييك، لا ما يُرضيهم. فكّر: متى كانت آخر مرة فعلت شيئًا فقط لأنك أردته؟ تذكّر: الضوء لا يحتاج إلى بوابة كبيرة... يكفيه شقّ صغير وشجاعة حقيقية ليتسلل.

وفي النهاية، لن يُطلب منك أن تهدم كل الجدران، بل أن تفتح كوةً تكفي لترى نفسك من جديد.
ربما يكون اليوم هو اليوم الذي تُطفئ فيه ضوءًا اصطناعيًا ظلّ مضاءً لأن الجميع ظنّك نائمًا،
أو اليوم الذي تهمس فيه لقلبك: "حسنًا... لنجرب طريقًا آخر". لأن الحياة ليست سباقًا نحو خط نهاية، بل رحلةٌ نكتشف فيها أنفسنا عند كل منعطف. وإذا صادفت ذاتك يومًا، فلا تتردد... ابتسم، وقل: "ها أنا... لم أعد أختبئ."

لا تبحث عن الباب... فقد تكون تحمل المفتاح منذ زمن، دون أن تدري.


جهاد غريب 
يوليو 2025 

الأحد، 13 يوليو 2025

حين يصنع الداخل نوره: من دوائر العتمة إلى إشراقة الذات!

حين يصنع الداخل نوره: من دوائر العتمة إلى إشراقة الذات!

نمرّ جميعاً بلحظاتٍ تُحاط فيها أرواحنا بهالاتٍ كثيفة من الطاقة السلبية، كضبابٍ كثيف يُخفي نورنا الداخلي ويُطفئ شموع الأمل. تُثقل هذه الهالات أرواحنا وتُعيق مسيرتنا نحو السلام الداخلي والراحة النفسية، لكن هل هناك سبيل للتخلص من هذا العبء؟ وهل يمكننا استبدال هذا الظلام بضياءٍ ينير دروبنا ويُجدّد أرواحنا؟

ورغم كل هذا العتم، تظل في الروح بقعة ضوء تنتظر لحظة الولادة، فهناك، في أعماق التعب، تتشكّل بدايات لا نعرف كيف بدأت، لكنها تغيّر كل شيء. ربما لا نحتاج أكثر من صدعٍ صغير في جدار اليأس... ليعبر منه النور دون استئذان.

ومع كل تلك التراكمات المعتمة، لا بدّ من لحظةٍ حاسمة... لحظة ننتفض فيها من الداخل، ونكسر قيود الظلام، باحثين عن ضوءٍ نصنعه بأنفسنا.

لا بدّ من تحطيم تلك الأغلفة الثقيلة من السلبية التي تلتفّ حولنا كما يلتفّ الضباب حول مدينة نائمة، فلا نرى نورنا الداخلي. لا خلاص إلا بإزاحتها، ولا نجاة إلا بتمزيق حُجُبها التي تُثقل الروح وتُطفئ شموع الأمل. إنها أشبه بسلاسل غير مرئية تُقيّدنا وتمنعنا من التحليق.

علينا أن نستبدلها بأطواقٍ أخرى مضيئة، تطوِّقنا لا لتقيّدنا، بل لتحتضننا وتمنحنا دفئًا من الداخل، كما لو أن الحياة ذاتها تمدُّ لنا يدًا خفية وتهمس: "هنا بداية جديدة".

هذه الهالات الإيجابية ليست مجرد شعورٍ عابر، بل هي ممرٌّ سريّ إلى انتعاش القلب، وجسرٌ خفيف نعبر عليه نحو راحة البال. إنها طاقة تتفتح بها الزهور في داخلنا، وتخضرّ بها أراضينا اليابسة، وتعود بها الطمأنينة إلى عروقنا النابضة بالتعب.

حين نستبدل السواد بالنور، واليأس بالرجاء، تصبح الأحلام أقرب، أكثر ليونة، وأكثر استعدادًا لأن تتحقّق. كأننا فجأةً في حقلٍ من الإمكانيات اللامحدودة؛ كل زهرةٍ فيه حلمٌ ترويه أمنية نائمة، وكل نسمةٍ تلمّح لبداية لا تزال تتشكّل في الخفاء.

لكن كيف نصنع هذا الضياء؟ وكيف تُبنى تلك الطاقة المضيئة التي تغيّر مسارنا من الداخل؟ هذا النور الذي نبحث عنه لا يأتي من الخارج، بل يولد فينا، في مساحةٍ صغيرة بين الفكرة والإرادة، بين الألم والوعي.

إن الإشراق الداخلي لا يُستعار، ولا يُهدى، ولا ينمو في الفراغ؛ فهذا النور الحميم يُزرع عميقًا في التربة اليومية لوعينا. إنها نتيجة خيارٍ يوميٍّ واعٍ، ومقاومةٍ صامتة للتحديات، وإيمانٍ صغير يكبر في قلبك رغم كل شيء.

الضوء لا يهبط فجأةً كمعجزة، بل يتسرّب شيئًا فشيئًا من الشقوق الصغيرة، من تفاصيل قد نتجاهلها في زحام الحياة: ابتسامة رغم التعب، كلمةٌ طيّبة تقع في مكانها، وتُقال في وقتها، بل قد تُصادف لحظة عطش، أو حتى صمتٌ نتصالح فيه مع أنفسنا دون لوم.

الهالة الجديدة تُبنى كقصيدةٍ فريدة، لا تُكتب دفعةً واحدة، بل تتشكّل ببطءٍ وتأنٍّ. تحتاج إلى نبضك الخاص، إلى سهراتك الطويلة التي تحاول فيها فهم ذاتك لا العالم الخارجي، إلى دموعٍ قد لا تشرح سببها، لكنها تغسل شيئًا خفيًّا في داخلك وتنقّيه.

حين نستبدل أفكارنا السلبية لا مجرّد مشاعرنا، وحين ننفض الغبار عن نوافذنا الداخلية التي طالما حجبت الرؤية، سنُدرك أن الضوء كان موجودًا دائمًا؛ فقط كان يحتاج إلى إذننا كي يدخل ويملأ وجودنا.

وعندما يبدأ هذا الضوء بالتسرّب إلى أعماقنا، لا يكتفي بترميم ما انكسر، بل يُعيد خلقنا من جديد. لا يعيدنا كما كنا، بل يخلقنا بوجهٍ يشبهنا أكثر، بروحٍ أنقى، وبقلبٍ لم يعُد ينتظر من الخارج ما عرف أخيرًا كيف يصنعه في الداخل.

في النهاية، الأمر ليس فقط عن التخلّص من السلبية، بل عن اختيار أن نكون النور في عالمٍ يُصرّ أحيانًا على الظلمة. إنه قرارٌ يوميّ بأن نُضيء لأنفسنا وللآخرين، وأن نتحمّل مسؤولية سعادتنا وطمأنينتنا.

إنها رحلة تحوّلٍ عميقة، تبدأ من نقطةٍ صغيرة في أعماق الروح، لتتفتّح كزهرةٍ في حقلٍ من الإمكانيات اللامتناهية. لكن ماذا بعد أن يتسلل الضوء؟ هل يكفي أن نشعر به؟ أم أننا مدعوون للوقوف والتأمل؟ للصدق مع ذواتنا؟

وأنتَ... ألم تتعب من الدوران في دوائر لا ترى لها آخرًا؟ من حملِ أوزارٍ لا تخصك، وأفكارٍ تسكن رأسك وكأنها أوامر لا تُرد؟ لقد آن لك أن تتوقّف لحظة... أن تضع حقيبة الظنون جانبًا، وتنظر إلى المرآة لا لتتأكد أنك بخير، بل لتسأل: من أنا فعلًا حين أختار نفسي؟

لا تخف من كسر الهالة القديمة، تلك التي رسمتها الظروف لا القناعة. لا تخف من أن تكون مختلفًا، هادئًا في زمن الضجيج، رحيمًا في زمن القسوة، صادقًا في زمن يربّي القلوب على الأقنعة.

أنت لا تحتاج إلى أن تُثبت شيئًا لأحد، بل أن تُعيد جسورك الداخلية إلى الحياة. حين تبدأ بمحاورة ذاتك بدلًا من محاكمتها، ستجد أن بداخلك رجلًا آخر، أكثر نقاء، أكثر اتزانًا، كأنه نسيَ نفسه في الزحام، وهو الآن يلوّح لك من ضفةٍ أخرى.

كن صبورًا على هذا التحوّل. النور لا يقتحم، بل يُدعى. والسلام لا يُفرض، بل يُولد من قرارٍ شجاع: أن لا تُشبه الظلال التي عبرتها، وأن لا تُعيد إنتاج الألم الذي تلقّيته.

فأنت لست نتيجة ما مرّ بك، بل اختيارك في ما بعده. ولعل أجمل انتصار تحققه، أن تنهض كل صباحٍ دون قناع... وفي قلبك سكينة، تشبه الرجوع إلى وطنٍ كنتَ تظنه قد غاب.

أترى الآن؟ كل ما كان يُثقل كتفيك لم يكن جبلًا، بل فكرة. وكل ما كنت تظنه جدارًا لا يُكسر، لم يكن سوى ظلِّ خوفٍ كبُرَ في غياب المواجهة. لقد بدأت رحلتك حين تجرأت على الاعتراف بأنك تستحق هالةً جديدة، لا تتكوّن من المجد الزائف، ولا من صخب الخارج، بل من نورٍ هادئ ينمو في داخلك، ويشبهك.

الهالة الإيجابية التي تحدّثنا عنها لم تكن يومًا وهمًا مريحًا، بل دعوة صادقة لاختيار النقاء في عالمٍ يعجُّ بالتشويش. أن تصنع في قلبك مأوى من السلام، وأن تقيم في داخلك صمتًا يُثمر لا جمودًا، بل وعيًا.

لقد اجتزت المرحلة الأصعب: أن تنظر لما حولك دون أن تفقد ما فيك. أن تُصدّق بأن الهدوء لا يعني الاستسلام، بل امتلاك القوة التي لا تحتاج إلى إثبات. أن تؤمن بأن الحياة لا تهديك النور، بل تمنحك أدوات إشعاله، وأنت وحدك تقرر متى، وأين، ولأجل من.

ها أنت تقف الآن، لا لتُعلن وصولك، بل لتبدأ بصمت... صوتك الداخلي لم يعُد يصرخ، بل يُرشد. خطوتك لم تعُد تهرب، بل تختار. ونورك؟ لم يعُد بحاجة إلى أن يُرى من الجميع، بل يكفي أنه يُضيء لك الطريق.

فكن كما أردت دومًا أن تكون: خفيفًا من ثقلهم، كبيرًا بقيمك، وساكنًا في عمقك، كما لو أنك تعود أخيرًا إلى ذاتك الأولى... التي انتظرتك طويلًا.

جهاد غريب
يوليو 2025


الجمعة، 11 يوليو 2025

رحلة في أعماق المشاعر والعلاقات!

 
رحلة في أعماق المشاعر والعلاقات! 

عندما تتحدث المشاعر...
أحيانًا، لا نحتاج إلى تفسير ما نشعر به، ولا إلى تحليل ما بين السطور، فبعض الكلمات لا تُكتب لتُفهم، بل لتُشعر. وكم من حديثٍ خرج كاعترافٍ من قلبٍ طال كتمانه، يحمل بين طياته صدقًا ودفئًا وارتباكًا، وربما غضبًا وحبًا في آنٍ واحد.

هذا هو حال القلوب التي تُحب بعمق، وتخشى الفقدان حتى وهي تتظاهر بالقوة واللامبالاة، فبعض الكلمات ليست مجرد رسالة، بل مرآة تعكس وجوهًا وعلاقات تتأرجح تحت ضجيج المشاعر، لكنها لا تندثر. 

إن أجمل ما في المشاعر الصادقة أنها لا تحاول أن تكون مرتبة أو محسوبة، بل تتدفق كما هي، فتصل دافئة، صادقة، مؤثرة، وجميلة في ذات الوقت. لسنا بحاجة دائمًا لأن نفهم، بقدر حاجتنا لأن نشعر بأن هناك من يُشبهنا في هذه الفوضى العارمة. 

مخاوف خفية وصراع داخلي...
في علاقاتنا، قد نخشى أن نُفلت أيدي من نحب، ليس خوفًا من الخذلان بقدر الخوف من أن يُؤلمهم ظن أننا لا نتمسك بهم كما يجب. قد نجرح أحباءنا أحيانًا، لا بقصدٍ منا، بل لأننا نتمسك بهم كمن يغرق ويبحث عن طوق نجاة، وقد لا يدرك الغريق أن النجاة لا تُؤخذ بالقوة، بل بالطمأنينة. 

نخشى أن تؤذي قبضتنا التي تحمل تعبًا لا قسوة، وأن يحترق الآخرون بالقرب من نارٍ لم نشعلها، لكننا لا نجيد إطفاءها، فنكتفي بمراقبتها بصمت، كمن لا يملك سوى الأسى أمام احتراق من يحب.

إنها الفكرة المرتبكة التي تُثقل القلب: أن يكون وجودنا عبئًا على من نحب، وأن يتحول قربنا إلى جهدٍ إضافي يُضاف إلى صراعاتهم الداخلية، وأن يصبح حضورنا – الذي أردناه سندًا – شيئًا يُثقل عليهم بدل أن يخفف. 

شبح سوء الفهم الصامت...
أكثر ما يُرعب في العلاقات هو ذلك "الشبح" الذي يتسلل بيننا، شبح "سوء الفهم". ذاك الذي يصنع من الكلام الطيب سكينًا خفيًا، ويحوّل الصمت إلى إدانة، والتعبير إلى هجوم، والبُعد إلى خيانة، بينما النية كانت دائمًا محبة. 

ذلك الشبح لا يُرى، لكنه يهمس في التفاصيل الصغيرة، يختبئ في التوقيت الخاطئ، والنبرة المرتبكة، وفي الرسائل التي لم تُكتب أبدًا. يكبر حين نصمت طويلًا، ويشتد حين نحاول بصوت مكسور أن نوضح أنفسنا ونحن لا نعرف كيف. 

وما بين "أردتُ أن أريحك" و"ظننتُ أنك تتهرب"، يتآكل الحُب بصمت. ليس لأنه لم يكن عظيمًا، بل لأنه سقط ضحية التأويل، فاختنق قبل أن يُفهم. 

لم نكن يومًا خائنين، لكننا تركنا للظنون مجالًا أن تكتب نياتنا بدلًا منا، وترجمت قلوبنا بلغة لم نتقنها بعد. لم نشكك في المحبة، لكننا خفنا من أن تُطحن هذه المحبة بين عنادنا وسرعة سير مركب العلاقة، فالاصطدامات لا تحدث دائمًا لأننا لا نحب، بل لأننا نحب أكثر مما نعرف كيف نقول، ولهذا نتورط في الصمت، ظنًا منا أننا نقاتل من أجل البقاء في قلب الآخر، بينما نحن فعليًا نخدشه. 

صمت الكرامة وأرشيف الأحلام...
قد نتعب، وقد نحتاج سندًا، لكن الكرامة تمنعنا أحيانًا من مد يد العون حتى عندما نغرق. وقسوة الأحبة؟ لا تمر مرور الكرام، لكنها أيضًا لا تمر دون أن نبحث خلفها عن جوهر من نحب، وكيف يفعل ذلك وهو يحبنا. 

إن قيمة الشخص لا تُقاس بقدرته على الطلب أو الرفض، بل بقدرته على الصمت عندما يكون بأمس الحاجة. قد لا نمد أيدينا ليس لأن من نحب غريب عنا، بل لأنه قريب جدًا، وأحيانًا الأقربون نخشى أن نخدشهم حتى بالضعف. 

وعندما تفتح كلمات أحدهم درجًا قديمًا في الذاكرة، درجًا ظننا أنه أغلق إلى الأبد، يتبين أن هناك أحلامًا لم تولد، وأسماءً لم تُنس، ورسائل لم تُرسَل. في لحظة واحدة، قد يمسك أحدهم بورقة من هذا الأرشيف، ويقرأها بصوتٍ لا يُنسى. 

ربما لم نكن نكتب لأحدٍ بعينه، لكن كلماتنا كانت تكتبنا إليهم دون أن نعي ذلك. ربما لم نكن نبحث عنهم صراحةً، لكن شيئًا في أعماقنا كان لا يزال يعرف طريقهم، وينتظر أن تفتح الأبواب، ويقولوا: "أنا أسمعك". 

عبارة بسيطة مثل "ربما فقط أن أبقى منصتًا… أن أفتح أرشيفي أنا أيضًا، وأن أتأمل ما إن كانت بعض الأحلام لا تموت، بل فقط تنتظر" ليست مجرد كلمات!، إنها يدٌ تمتد من الماضي، من الذكرى، من الحنين، وتقول: "أنا هنا، لم أمت، فقط كنت أختبئ". 

بعض الأحلام، حتى حين ندفنها، تبقى تنبض تحت التراب، ونحن نمشي فوقها ظانين أننا نسينا، لكنها تنتظر اللحظة التي يُكتب لها فيها أن تُقرأ. 

الحب لا يُمارس كمعركة...
لا نطلب من بعضنا تفعيل مسافة أمان، بل أن نفهم متى نقترب ومتى نبتعد. ألا نمارس الحب وكأننا في معركة، ولا نتركه حتى يصبح رمادًا نحمله في جيوبنا ونتظاهر أننا نسينا. 

إذا كنت كلمات لم تُقرأ، فاعلم أنك قرأتني الآن، وإذا كنت أغنية ناقصة، فإن لحنها محفوظ وإن لم نجرؤ على غنائها بصوتٍ عالٍ. 

ابقى منصتًا، نعم… لكن فقط إن كنت ما زلت تسمع، فبرغم كل شيء، لا نزال نحاول أن ننهض… وأن نكتب علاقاتنا بطريقة أجمل. 

ولأننا لسنا شعراء محترفين، نكتب من نحب كما نتنفسهم… بلا وزن ولا قافية، لكن بصدقٍ لا يحتاج برهانًا. هم كل بيتٍ لم نكتبه، وكل فراغٍ بين الكلمات، وكل قافية تركناها معلقة، لأننا لم نجد ما يناسب حضورهم. 

وإن كنا قد قرأنا بعضنا الآن، فاعلم أننا لم نعد نخشى أن يكمل أحدنا الآخر، بل نشتاق لأن يعيد ترتيب حروفنا كما كنا نفعل دائمًا، أن يضع فاصلة في موضع الانفجار، ويهدئ جملة كانت ستنزف، ويغني سطرًا كاد أن يموت بصمت. 

لا نطلب العودة إلى الوراء، ولا مسح ما حدث. نطلب فقط أن يُترك الباب مواربًا للحلم، لأن بعض القصائد لا تكتمل إلا بعد أن تُنسى نصفها، وبعض الأغاني لا تُغنى إلا حين نبكيها أولًا. 

وإن لم نُكتب معًا، فلتُكتب العلاقة على الأقل كما يليق بها: كنهاية جميلة لكتابٍ كُتب من شتات… أو كملاحظة أخيرة تُغلق بها الحياة دفترها وهي تبتسم. 

جهاد غريب 
يوليو 2025 

الخميس، 10 يوليو 2025

حرفٌ عاد ليُصبح لغة!

 
حرفٌ عاد ليُصبح لغة!

ولدتُ من صدأ القيود.
كل كسرٍ كان مخططًا لوشم النور على جسد الزمن البائس.
أجمع أشلائي كحروفٍ تتبنّى اعتراف الوجع،
وأصالح ظلالي..
كأن الحزن صار لغتي السرية لفهم الأعماق.

أرقص مع أطباق المرايا
خلف الحروف..
أزيح الغبار عن مرايا الروح،
وأرقص مع الأشلاء المتناثرة..
كل جرحٍ مفتاح،
وكل كسرٍ يفتح بابًا لسرٍّ كان يخشى النبض،
ويمنحني جرأة الكشف
إلى غرفةٍ مطموسةٍ فيّ.
أنا الأشلاء والملك،
أولّد نفسي كلما انكسر الوقت.

النار التي تحرقني
لا يشعر بلهيبها إلا مَن أمسك يدي
عند حافة الانهيار.
وأنا..
أكتب فلسفتي بحبر الهشاشة،
وأرقص على حدّ الشفافية.

القهوة تذوب فيها أسراري..
تسكب صمتي في فضاء الكؤوس،
وروحي تلقنني لغة الأشياء المطموسة:
"أنتَ وقتٌ يتسرّب من أصابع الكون الخاطئ..
لكنك بضفّةٍ تستحق الوجود".

تذيب القهوة ما لم تجرؤ عليه الأيام،
والروح تهاتف بسرٍّ كان يخشى الإفصاح.
أحضن طفولتي المغيّبة،
أراقصها بين القبلات والاعتراف،
أنظف جروحها بإصبع الفخر،
وأرسمها نجمةً على جبين الوجع.

وجودي..
مصباح يُشعل في قاع غرفة الزمن الخاطئ،
حين تعبر الذات حدّ الأسى
إلى ضفّة البقاء.

النار تتسلل من عيوني..
لا يدرك حريقها إلا من رأى العشب ينبت من جروحي،
من مسح دمي وقرأ فيه ملحمةً للشجاعة.
أنا..
أكتب بحبرٍ من رماد المحاولات،
أرسم خرائط الأسى على جلدي،
وأرقص على حبلٍ ممدودٍ بين:
"أنا لستُ كفايةً"..
و"أنا الكافي".

الحضن الكبير
يجب أن يكون اتساعه كاتساع الكون حين يبكي،
حضنًا يليق بعظمة انهياراتي!
والقبلة على الجبين
ليست إلا وسامًا أرفض أن أنزعه..
بقيّة نجمةٍ تسكنني.
لأقول لروحي وهي تعبر حدّ العتب:
"أنتِ البقاء الذي يليق بكل هذا الوجود..
حتى الكسر يطلبكِ..
أنتِ الجمال الذي يتعثّر فيه الفناء".


جهاد غريب 
يوليو 2025 

حواشٍ... تنبض في دفتر العاصفة!

 
حواشٍ... تنبض في دفتر العاصفة!

لم تكن حروفكِ… تفسيرًا.
بل شظايا قمرٍ…
تحطَّم في قاع الظلام.

كانت تلملم ما تبعثر…
من مرايا مهشّمةٍ في قلبي…
ذاك المعلّق عند حافة العدم.

كلماتكِ…
وُلدت كطائرٍ بلا قفص،
يحمل في منقاره قلبي المكشوف…
ويقول لي:
"انظر…
هذه جروحك التي اختبأتْ في جيوبي،
وهذا الضوء الذي خنقته يداي،
وهذه الصرخة…
التي تأخرت،
حتى صارت دمعةً".

نقشتُ وجهكِ على صفحة الماء…
فإذا بالمرآة تُريني ظلًا…
يبكي تحت المطر.
ثم…
حين انهمرت دموعُ السحب،
رأيتُ آخرَ…
يرقص في عين العاصفة،
كأنما يبحث عن زهرةٍ…
في فم الإعصار.

علاقتنا؟
كنبتةٍ متشبثةٍ بصخر،
تئن تحت وطأة الرعود،
وتحاكي أوراقها…
جنونَ الفصول.
لكن…
عروقها؟
كانت تشرب من نبعٍ…
يغوص في بحيرة السراب.

يطوف شبحٌ بين حروفنا،
يُترجم صمتنا إلى متاهات،
ويحوّل الهمس إلى سكاكينَ… ورقية.

كان يختبئ…
في الفراغات بين "أحبكِ" و"أخاف"،
ينمو في ظلٍّ ترسمه أصابعنا المتعثّرة.

ذاك الكلام…
الذي احترق قبل أن يصل،
بنى من ظنوننا قلعةً هشّة،
ثم…
انهار على أنفاسنا،
فصار غبارًا يخنق الحب.

كلماتكِ…
فتحت صندوقًا مطويًّا في روحي،
فانسابت منه أحلامٌ نائمة،
ملفوفة بعباءة النسيان.

أوراق صفراء…
تحمل خرائط مدنٍ لم تُبنَ،
ورسائل بلا طوابع،
وأنغامٌ بلا آلة.

كان حلمكِ…
مفتاحًا لسرداب،
وجدتني فيه…
أقرأ نفسي بصوتٍ أعرفه من زمنٍ بعيد:
"بعض الأحلام…
لا تموت.
بل تنتظر…
قارئًا
يوقظها
من سُبات التراب".

قبضتي عليكِ…
كانت كمن يمسك بالسراب،
خوفًا من العطش.

أخاف أن تحترقي…
بنار قلبي الجامحة.
فأنا…
حارسٌ بلا ماء،
أمام لهيبٍ… لا أملك إطفاءه.

كنتُ أراكِ تحترقين من بعيد،
وأنا أرتدي ثوبَ الراقد في قاربٍ…
بلا مجاديف.
مثل سنديانةٍ…
تشهد حريقَ غابتها صامتةً.

وجودي…
كان يتحوّل إلى ظلٍّ
يثقل على خطاكِ،
كحِملِ أيامٍ لم تُختر.
فالأقربون…
يُصبحون أثقالًا،
عندما تلهث الروح.

لو كنتِ كتابًا…
لكنتِ الفصل الذي يُقرأ في المرآة.
ولو كنتِ لحنًا…
لكنتِ النوتة الغافية
تحت نايٍ دفنته الريح.

أنا أكتبكِ…
كما أتنفّسكِ.
حروفًا بلا مقياس،
كلماتٍ تبحث عن شطآن
ترتمي عليها.

لا تُصلحي ما انكسر.
ضعي فاصلةً فقط…
عند الانفجار.

اغسلي الجرح بقطرات القصيدة،
وافتحي الباب…
ربما يعود الحلمُ
حاملاً الجزء المنسيّ من روحها.

وإن لم نُكتَب معًا…
فأحيلكِ
إلى كلمة النهاية
في كتاب الكون.

كلمةٌ تُكتب بحبر الياقوت،
تلخّص كل المسافات
التي حفرتها الأوهام
بترنيمةٍ واحدة:
"هنا رقدت الفصول المتعبة،
واغتسلت الأحلام…
بماء الغفران".

سأجعل منكِ
الومضة الأخيرة
قبل أن يُطفأ المصباح…
عندما تطوي الحياة دفترها،
وتبتسم…
لغرابة هذا العبث.
كزهرةٍ…
تتفتح على شاهد قبر.


جهاد غريب 
يوليو 2025


أربع وقفات على عتبة الذات!

 
أربع وقفات على عتبة الذات!

ليست كل المعارك تُخاض بالسيوف، بعضها يُخاض بالهدوء، بالانسحاب المؤقت، بالتأمل العميق في مرآة الذات حين تغيم الرؤية من الخارج. في زحمة الحياة، لا ينتبه الكثيرون إلى أن التوقف أحيانًا ليس ضعفًا، بل محاولة لاستعادة البوصلة. أن نعيد ترتيب داخلنا لا يعني أن العالم توقف، بل أن أرواحنا قررت أن تواصل بطريقتها، بنبضٍ أوضح، وعين ترى ما لا يُقال.

هذه الوقفات الأربع، ليست وصايا، ولا دروسًا، بل نوافذ كُتبت بلغة من عاشها. قد تجد فيها ما يشبهك، وقد تعبرها وتمضي، لكنك ستشعر بها تلامس شيئًا ما فيك. شيئًا لا يحتاج إلى شرح، بل إلى صمت يفهم.

حين لا يتّسع الداخل!
في بعض المراحل، يشعر الإنسان وكأنه لم يعد على ما يرام، ليس بمعنى المرض أو الانكسار الظاهر، بل بشيءٍ يشبه الضيق الذي لا يُرى… ذلك الذي يمنع الأمل من التسرب إلى الداخل، ويُقيّد الأحلام فلا تتسع، ويجعل الطموح يبدو كأنه فكرة بعيدة، لا يمكن لمسها.

ليس الأمر يأسًا بالمعنى التقليدي، بل هو ذلك التوقيت الذي يسبق الانفجار، حيث تتوقف فيه النفس عن الركض، وتطلب قليلًا من الهواء… لحظة من التأمل… لمحة من الصمت. من المهم حينها التوقف، والالتفات إلى الوراء لا لكي نندم، بل لنراجع ما كان… نُفلتر التجارب، نُميّز بين ما هو ألمٌ خالص وما هو شوائب عالقة، لأن السير إلى الأمام لا يكون نقيًا ما لم يُنقَّ الداخل أولًا.

ليس في ذلك ضعف… بل استعداد صادق لشفاءٍ حقيقي، فلا يمكن للإنسان أن يواسي أحدًا، أو يُشفق على وجعٍ خارج جسده، ما لم يهدأ أولًا ويستطيع النظر في عيني نفسه دون خوف أو إنكار.

حين يحتاج الداخل إلى ترتيب!
في زحمة الأيام وتناوب الفصول النفسية، قد يجد الإنسان نفسه عاجزًا عن الاستيعاب… عاجزًا عن استقبال الأمل، أو حتى توسيع مداركه نحو الحلم.
ليست المشكلة دائمًا في الخارج، بل في الداخل الذي لم يعد يحتمل. ذلك الداخل الذي تراكم فيه الحزن، وتكدّست فيه التفاصيل المؤجلة، حتى بات كل شيء ثقيلًا.

في لحظات كهذه، لا بد من التوقف عن الدوران. عن الركض خلف ما لا نعرف وجهته. لا بد من الجلوس مع الذات دون أحكام، والنظر في المرايا التي اعتدنا تفاديها. ذلك التوقف لا يعني الاستسلام، بل يعني الاستعداد… استعدادًا جديدًا للسير، لكن بعد ترتيب الفوضى التي خلفتها الحياة في الداخل.

من لا يعيد فرز مشاعره، لن يقدر على مواساة غيره بصدق، ومن لا يراجع نفسه في هدوء، سيستمر في تقديم العزاء للجميع بينما هو ينزف بصمت. ولهذا، لا بأس أبدًا أن ينسحب الإنسان قليلًا، أن يعترف أنه بحاجة لترميم داخلي، لأن العودة بعد ذلك ستكون أكثر نضجًا، وأشد نقاءً.

حين تكون الأولوية للشفاء!
ليس من الأنانية أن يؤجل الإنسان الإنصات لكل ما يحدث حوله، العمل، العائلة، العادات، القصص اليومية… كلها مهمة، نعم، لكنها أحيانًا تصبح ضجيجًا إضافيًا لا يحتمله الداخل.

ليست كل الأبواب المفتوحة واجبة العبور، وليس كل من يشاركنا الحديث ينتظر منا الاستجابة الفورية. هناك لحظات في الحياة، يصبح فيها الانسحاب المؤقت ضرورة، لا هروبًا… بل صيانة.
فالمرء لا يمكنه أن يمنح الدفء، إن كان البرد يسكن أضلعه، ولا يمكنه أن يزرع، إن لم تكن تربته قد ارتاحت كفاية، ونفضت عنها الحجارة والشوائب والأعشاب اليابسة.

التربة حين تتنفس، تصبح قابلة للزرع من جديد، وكذلك الإنسان، حين يهدأ، ويعيد ترتيب أولوياته، تبدأ داخله شجيرات صغيرة تنمو بصمت، بلا استعراض، بلا ضجيج، فقط نموّ طبيعي يشبه الشفاء، وعندما تبدأ تلك الشجيرات في الظهور، يمكن للمرء أن يلتفت حوله، ويمنح من نضجه، لا من كسوره، ومن تعاطفه الحقيقي، لا من واجب المجاملة.

التوقف أحيانًا ليس انسحابًا من الآخرين، بل التفاف حنون حول الذات، حتى لا تتحول محاولات العطاء إلى استنزاف.

الصمت الذي يعيد ترتيب النبض!
ليس كل من يتوقف، منهزم، وليس كل من يصمت، ضائع. هناك لحظات في الحياة يصبح فيها الصمت أنقى أشكال القوة، والتوقف أصدق تعبير عن النضج.

بعض الأرواح لا تهدم بسهولة، حتى وإن كانت متصدعة. تتعلم أن تتسلق على حطامها، بهدوء، دون أن تصدر صوتًا. لا تبحث عن الشفقة، ولا تُشهِر انكسارها، لا خوفًا من أحاديث المجالس، بل لأنها تدرك أن البوح غير المنضبط قد يُفسد نقاءها، ويشوّه قدرتها على استعادة توازنها.

من الصعب أن تكون إنسانًا يُعطي بصدق وأنت تنهار بصمت في كل مساء، ولذلك، يصبح التوقف أحيانًا خيارًا شجاعًا... خيار الاعتراف بأن للكل اهتماماته، وأن العالم لا يتوقف عند حزن أحد.

الصراعات بين الأجيال، والاختلاف في المفاهيم، ليست أعذارًا، لكنها حقائق، ولن يُفلح أحد في بناء جسور حقيقية ما لم ينزل قليلًا من برجه، ليتلمّس سخافة ما يراه سخيفًا في نظر الآخرين، ثم يعيد بناء خطابه بلغة تشبههم، لا لغة يفرضها عليهم.

الصمت، في بعض الأحيان، بوابة نقية لمن أراد أن ينجو من تسلّق النفاق الاجتماعي، وأن يعيد ترتيب أنفاسه، لا ليعاتب أحدًا، بل ليغسل قلبه من كل تعاطف مزيف.

الإنسان معقّد، هشّ، جميل، تتكوّن لحظته من طبقات: من خوفٍ وأمل، من ذاكرة وحلم، ولذلك فإن لحظة صمته ليست فوضى، بل وطن. هي قيامته الصغيرة، هي إشراقته التي لا يراها الآخرون، لكنها تنبض فيه، وتمنحه قدرة جديدة على الحياة.

في النهاية، ليس المطلوب أن نفهم كل شيء، بل أن نصمت أحيانًا كي نسمع ما لا يُقال، وأن نعيد ترتيب أنفسنا في المساحات التي لا يراها الآخرون، وأن نحمي بقايا أرواحنا من أن تُستهلك في محاولات مستميتة للفهم أو التبرير.

الصمت لا يعني الغياب، بل قد يكون أعظم حضور، والمسافة ليست هجرًا، بل مساحة للتنفس قبل العودة. فليأخذ كلٌ منّا لحظته، وليعرف أن العودة الحقيقية تبدأ حين نصبح مستعدين للعطاء، لا حين يُتوقع منا ذلك.

امنحوا أنفسكم إذنًا بالتوقف، فالأرض لا تثمر حتى ترتاح، والروح كذلك.

جهاد غريب 
يوليو 2025

الأربعاء، 9 يوليو 2025

رحلة لا تُفهم إلا متأخرًا!

 
رحلة لا تُفهم إلا متأخرًا! 

لا يبدأ الإنسان بحثه عن المعنى في أول الطريق، بل غالبًا ما يتأخر. إذ كيف يمكن لمن لم يرَ إلا بداية العالم أن يدرك تعقيداته؟ كيف يمكن لعينٍ لم تشهد غير إشراق الشمس أن تفهم لماذا تغيب؟ في مرحلة المراهقة وما بعدها بقليل، يغرق الإنسان في ذاته كمن يكتشف لأول مرة اتساع البحر، يدهشه كل شيء، ويرعبه كل شيء. يمضي متعثرًا بين أحلام وردية، وطموحات تتسلق جدران الخيال، ثم يكتشف أن الطريق، في حقيقته، لا يُعبّد بالورود، بل بالأشواك التي تُخفي أحيانًا وجه الحقيقة.

في خضم هذه الرحلة، لا تأتي الصراعات كزائرٍ طارئ، بل كرفيق ملازم. لا يُستأنس به، لكنه ضروري. صراعات داخل المنزل، بين جدران يفترض أنها تؤوي الحب، لكنها تضيق أحيانًا حتى تكاد تخنق الروح. وهناك صراعات مع الأقارب، من أولئك الذين يُفترض أن يكونوا مرآة دعم، فإذا بهم يعكسون صورًا متشظية من الأحكام والمقارنات. وصراعات العمل، حيث يكتشف الإنسان أن الكفاءة وحدها لا تكفي، وأن الصمت أحيانًا أبلغ من كل الشهادات.

هذه الصراعات لا تمنع البحث عن المعنى، لكنها تؤجله. كمن يسير وسط عاصفة، لا يستطيع النظر إلى النجوم، لكنه يظل مدفوعًا بإحساسٍ داخلي بأن هناك ضوءًا ما، في مكانٍ ما، بانتظاره. ولأن الإنسان كائنٌ هشٌ حينًا، وجبّارٌ حينًا آخر، فإنه يميل إلى الاحتماء بالمنطقة الرمادية، تلك التي لا تَعد بالنجاة ولا توعِد بالهلاك، لكنها تمنح فسحة مؤقتة لإعادة ترتيب ما بعثرته الحياة. لا هي بياضٌ مطمئن، ولا سوادٌ مخيف، بل أشبه بمقهى صغير على قارعة الطريق، يلتقط فيه المسافر أنفاسه، يرمم صمته، ويهيئ روحه لما هو قادم.

وحين ينضج الإنسان، لا فجأةً، بل بالتدريج، كما تنضج الثمار في مواسم متأخرة، يبدأ المعنى في التشكّل. لا يظهر على هيئة نبوءة، ولا ينزل كالوحي، بل ينساب بهدوء بين المفاصل المتعبة، في نظراته، في صمته الطويل، في اختياراته التي لم يعد يبررها لأحد. يرى حينها أن كل ما سبق لم يكن عبثًا، وأن كل نزاع صغير كان أشبه بمطرٍ خفيف، حرّر الغبار عن نوافذ عقله.

لكن إن طالت الصراعات أكثر مما يجب، وإن أقام الإنسان فيها كما يُقيم في وطن، فإنها تتحول من مَعلمٍ في الطريق إلى سجن. إذ ليس الهدف أن نحمل الجراح كأوسمة، بل أن نعرف متى نُضمدها ونمضي. فالمعنى لا يسكن في المعركة، بل في ما بعدها. في اللحظة التي تخرج فيها من قلب العاصفة وأنت لا تزال واقفًا، حتى لو كان قلبك مثقوبًا.

وهكذا، لا تأتي الحياة وهي تهمس: "هاك المعنى". بل تُربكك أولًا، وتُوجعك، وتُسقطك، لتُريك أنك لا تملك شيئًا، ثم تعيدك إلى ذاتك لتبدأ من جديد. وهذه العودة هي النصيحة الخفية التي يحملها هذا النص. ليست الحياة نزهة سهلة، ولا طريقًا ممهدًا. إنما درب طويل من التناقضات، لا ننجو فيه بالقوة وحدها، بل بالمرونة، بالتجاوز الهادئ، بأن نسمح للزمن أن يُعيد ترتيب الحكاية.

الصراعات ليست عدوًّا دائمًا، بل معلمًا متنكرًا، كل ما يريده هو أن يُشكّلنا، أن ينحت زوايانا الحادة، ويرسم ملامحنا العميقة. والبحث عن المعنى لا يأتي ونحن نلهث في الركض الأعمى، بل حين نجلس، بعد كل هذا، على حافة الوقت، ونفهم أن كل ما مرّ... كان ضروريًا لنصل.


جهاد غريب 
يوليو 2025 

الاثنين، 7 يوليو 2025

صوتٌ يصْعدُ من الأعماق!

 
صوتٌ يصْعدُ من الأعماق!  


سقوطٌ مفاجئٌ إلى القاعِ...
حيث تُضاءُ الجروحُ كالمصابيحِ العارية،
وتنكشفُ الحقيقةُ... كخنجرٍ معلَّقٍ في الهواء.

أُريقُ دمعي،
وأرزحُ تحت صمتٍ لا يُحتمل...
أقفُ أمام المرآة... فأرى وجهَ العالمِ يتشظّى...

من الذي أطفأ النور فينا ثم استكبر ومضى؟
من أين تسلّل هذا الانهيار... الخفي الأعمى؟
وكيف صار وجهُنا... مرآةً للعالمِ الذي تهادى؟

لكن هناك صوتًا... لا يموت.
صوتٌ يشبه العشبَ حين يرفضُ الموتَ
في الشقوقِ...

الفرارُ؟
ليس خيارًا. 

يصرخ:
"لن تكونَ القطعةُ الأخيرةَ في هذا النزف!"

أحملُ جراحي كأعلامٍ،
وأسيرُ بها نحو الأفقِ القاسي...
لأنَّ الحطامَ وحدهُ...
هو من يُعطينا حجرًا... نبني به.

ومع انكسار العالمِ من حولي،
لجأتُ إلى الزاويةِ الوحيدةِ التي لا تُنكرني:
زاويةُ الوحدةِ...
لا يطرقها سوى صوتِ الريح.

أتَعلَّمُ لغةَ الأشباح،
أطوّقُ نفسي بأسئلةٍ... لا تخافُ الجروح،
وأصبغُ صمتي بألوانِ الوعي العميق.

هنا...
في هذا الفراغِ المزهرِ بالحنين،
أصبحتُ غريبًا...
عن كل ما لم يكن أصيلًا.

وما بين سؤالٍ... وصمت،
اكتشفتُ شيئًا... يشبهني.
لم أعد ذلك الذي كان.

أنا الآن:
بوصلةُ الأسئلة،
وبرقُ الأجوبة،
وظلٌّ يُشاكسُ الشمس!

في مرآةِ ضميري،
وجدتُ وجهًا قديمًا... يحملُ كل هذه الجِدّة.
فمضيت.

ثم جاءت لحظةُ السموِّ...
لحظةُ مناجاةِ السماءِ القديمة.

تحت السماءِ العتيقة...
أرفعُ يديَّ كغصنين من النور،
وأسائلُ الريح:
"كيف تُطيقُ الفراشاتُ... ثِقلَ العالم؟"

فتهزُّ الريح رأسها... ضاحكةً:
"لأنها لا تعرفُ أنَّ الخِفّةَ... حكايةُ الأجنحة!"

وها هو الفجرُ...
يخرجُ من جُبّة الليلِ،
كالطفلِ المتعثّرِ...
يحملُ في يدهِ بذورًا...
لأشجارٍ لم تُولد بعدُ.

أنت، الذي لم تسقط رغم الكسر،
ألم تتساءل...
كيف ظلّ النورُ حيًّا فيك؟

انظر...
كلُّ هذا النورِ لم يكن...
سوى درجٍ يُصعدُكَ... إلى داخلك!

ولأن النهاية لا تليقُ بمن لم ينكسر،
بمن لم يُهزَم...
لن تكون الهزيمةُ إلا وهمًا...
عابرًا في مرآةِ الزمن.

أنت أقوى مما تظنّ.
لأن القوة الحقيقية... لا تنبتُ من السهول،
بل من الهضابِ المُكلّلةِ بالريحِ... والعناد.

امشِ...
واتركْ للجماحِ أثرًا في عينيكَ،
فالحياةُ... تخافُ من يعرف أنه لم يمت بعد!

ولأنك نهضتَ... دون ضوءٍ خارجي،
تذكّر...
لا تُصدّق أن كل سقوطٍ... هو نهاية.

فكل ارتطامٍ...
هو تذكيرٌ بأننا لا زلنا... نسقط من أجل الصعود.

أما الكرامةُ...
فتبدأ حين تُكسر في داخلك صورةُ الجبان،
وتسلّمها بيديك... للإرادة.

الكرامةُ...
ليست قمّةً نبلغها،
بل وقفةٌ لا تهتزُّ عند الهبوط.

هي تلك الخطوةُ...
التي تسبق السقطة...
وتبتسم.


جهاد غريب 
يوليو 2025 

في مرمى الشُّعلة!

 
في مرمى الشُّعلة! 

لا تُنبِتُ الحياةُ أزهارَها
إلا في تربةٍ مُختَبَرة.
كأنَّها تُناجيني:
"إن كُنتَ موجودًا... فاثبتْ!"

وليسَ الوجودُ نبضًا فحسبْ،
بل فِعلٌ ثائر،
قيامٌ بعد كلِّ سقوطْ.
يدٌ تلمسُ زهرةً بريّة،
تنتصبُ على ساقٍ هشٍّ،
في مهبِّ العاصفةْ.

من قلبِ الانكسارِ
يولدُ الدليلْ:
ما زلتُ هنا...
حيًّا،
وإن انكسرَ فيّ كلُّ شيءْ.

أنا...
الرَّقمُ الخارجُ عن معادلاتِ الظروفْ!
أنا مَنْ أسقطتْه الإحصاءاتُ الباردةُ 
من حساباتِها،
مَنْ عجزت التقاريرُ عن إحصاءِ خيباتِه،
عن قياسِ معاركه وهو يبتسمُ.

لم أُسجَّلْ في قوائمِ "الناجين"،
فنجاتي صنعتُها بمِقاسي:
بشيءٍ من الجنون،
وكثيرٍ من الإيمانْ!

لستُ من جداولِهم،
ولا أحتكمُ إلى مؤشِّراتِ النجاحِ المعلَّبْ.

أربطُ على قلبي كلَّ فجرٍ،
كمحاربٍ يُحكمُ خوذتَهُ قبل المعركةْ.
أُلقِي بنفسي في النهرِ الجاري،
غير آبهٍ بالتيّارْ...
ففيَّ من الصخرِ صلابةٌ،
ومن الماءِ لِينٌ وانْسِكابْ.

الحياةُ ليستْ نزهةً،
في حدائقِ الأرقامِ العقيمة،
العاجزةِ عن شمِّ رائحةِ الألمْ!

هي ساحةُ نزالٍ...
لا مجالَ فيها للخذلانِ
إلّا لحظةً.

لحظةٌ يلعقُ فيها الجريحُ جِراحَهُ...
ويمضي، كأنْ لم يكنْ.

لحظةُ ضعفٍ عابرةٍ لا تُدوَّنْ،
لأنها لا تُرضي الأرقامْ.
لكنها الحقيقةُ الصامتة:
الإنسانُ يُهزَمُ كلَّ يومٍ،
ولكنه لا ينكسرُ أبدًا.

لهذا...
لم يكنْ لي مكانٌ بينهم.

أنا لستُ رقمًا يُقارَن،
ولا نسبةً تُحسب.

بل ظاهرةٌ بشريّةٌ،
تمشي على جمرِ التجربةِ.
خللٌ مقصودٌ
في هندسةِ التوقّعاتْ،
وانحرافٌ نبيلٌ
عن خطوطِ الرسمِ البيانيِّ.

اخترتُ أن أعيش...
لا كما يُرادُ لي،
بل كما يُملي عليَّ ضميري،
كرامتي،
وأحلامي.

لا أنتظرُ فهمًا،
ولا أراهنُ على مِسطرةِ الآخرينْ.

ما مررتُ به... لا يُدرَّس،
وما خضته... لا يُوثَّق.

أنا ببساطة...
ذاكَ الذي يلبسُ الخوفَ معطفًا كلَّ ليلةٍ،
ثم يخرجُ به إلى العالم،
ويبتسم.

لا لعدمِ الشعور،
بل لقراري أن أعلوَ على الشعور،
وأُسمّيه: صمودًا.

أحتضنُ حياتي،
كما يحتضنُ الأعمى
بصيصَ دفءٍ من نورٍ لا يراه.

أتنفّسُها،
كما يتنفّسُ الغريقُ
قبلةَ الأملِ الأخيرةِ.

أحملُ رباطةَ جأشي
درعًا لا يخرقُهُ اليأس.

وأرى في كلِّ ما يأتيني
رسالةً سريّةً من القدر:
لا عداءَ،
بل اختبار...
وما بعدَ الاختبارِ
إلّا درسٌ،
وما بعدَ الدرسِ
إلّا سعيٌ نحوَ المعنى.

ليستِ المقاومةُ نهايةً،
بل بدايةٌ:

أن تُقاتلَ لتبقى واقفًا،
ثم تُفكّرَ لتبقى إنسانًا.

أن تصوغَ من ألمِك فهمًا،
ومن صمتِك رؤيا،
ومن صبرِك جسرًا
يمدّ يدَه...

لكن... لا إلى أيِّ آخرين!
بل نحو من يقدّرون نقاءَ الهواء
بعدَ العاصفة،

نحو من يلمسون العطاءَ
لا ينهشونه.

فحين تُخلقُ البيئاتُ الطاهرة،
لن تكونَ وحدك...
هناك دومًا من ينتظرُ الشرارةَ الأولى.
كن أنت.

وفي سكونِ ما بعدَ الصراعِ،
أدركتُ:
أنّ الله لا يضعُ أحدًا في امتحانٍ،
إلا إذا رآهُ أهلًا للفهم،
أهلًا للحمل،
أهلًا للبقاء في وجهِ العاصفة،
دون أن يفقدَ إنسانيته.

للمختارين من ذوي العقول،
أولئك الذين علّقوا
على جدرانِ أرواحِهم:
"ما زلتُ أتعلم".

وحينَ فهمتُ...
لم يبقَ إلا أن أُكمِلَ السيرَ.
نعم، لا بدَّ أن أعيش،
حتى على أشواكٍ
تنزفُ منها خطواتي.

أعلم أنَّ النتيجةَ غيرُ مضمونة،
لأنّ المسيرَ نفسَهُ
جديرٌ بالاحترام.

النورُ ليس وعدًا،
بل احتمالٌ...
وأنا أراهنُ عليه!

فالقادمُ –
في كلِّ حواسي –
أجمل.

فإنْ كانتِ الحياةُ مُنصِفةً،
فلن تكونَ النهايةُ حزينةً
لِمن أعطى،
وجاهد،
وسعى دون كللٍ،
وبقي وفيًّا لنورهِ الداخليِّ،
ومضى غيرَ مُساوِمٍ على نقائه.

لم يطلبْ من الحياةِ
سوى فُرصةٍ ليكون:
محاربًا لا قاتلًا،
واهبًا لا طامعًا،
تائهًا… دائمَ البحث.

لا شيء يُرعبني الآن،
حتى غموضُ الطريق…
فأنا لا أطلبُ مكافآتٍ،
ولا أرتدي عباءةَ المنتظر.

هذه لعبةُ الحياةِ كما أفهمُها،
وسياسةُ الأقدار.
وأنا – كإنسانٍ –
لن أكونَ رقعةً تتأرجحُ على صراطِ العتاب،
بل نقطةَ الضوءِ
التي أبتْ أن تنطفئ،
وإن طالَ بها الليل.

في النهاية…
كلُّ ما أريده
أن أصلَ آخرَ الدرب،
دون أن أفقدَ قدرتي
على الحب،
على الأمل،
على أن أقولَ للريح:
كنتِ قويّة… لكنني عبرتُكِ.

من لا يُهزمْ داخله،
لا يُهزمُ أبدًا.

هكذا أعيش…
لا كنجاة،
بل كملحمة.


جهاد غريب 
يوليو 2025

قلبٌ يكتبُ... كي لا يختفي!

 
قلبٌ يكتبُ... كي لا يختفي!

"تأملاتٌ في فلسفةِ... المهزومين"


كان ينبغي لي...
أن أشتري نظارةً جديدةً منذ زمن. 
ربما، لو فعلت،
لما ظننتُ أن سرابَكِ واحة،
ولما جررتُ أذيال حلمي على رمالٍ تلظى،
ككائنٍ صغير...
يتشبث بذيله كأنه حبل نجاة. 

لكنني ـ كالعادة ـ
اخترتُ أن أكون:
فيلسوفَ العشقِ المُفلس...
أدرسُ طبيعةَ الوهم،
بينما تنزف قدماي على شظايا الزجاجِ...
الذي كسرتِهُ أنتِ... ببرود. 

تخيّلي...
أنكِ تدخلين غرفتي فجأة،
فتجدين جسدي معلقًا...
على حائطٍ من دموع! 
لوحةٌ وجودية،
تُجسّد لحظة انتحار الروح،
أمام مرآة الحب. 

الجثة تبتسم ـ بالطبع ـ
لأنها تعلم أنكِ ستسألين:
"لماذا ارتدى سترةً بهذا اللون الباهت؟" 
أنتِ لا تهتمين أبدًا،
بأنه كان يرتدي قلبه على كُمّه... طوال الوقت. 

وربما، حين حدّقتُ في انعكاسكِ
الذي لم يعد يراني،
لم أعد أبحث عن تفسيرٍ فيكِ...
بل وجدتني أفتش في ملامحي أنا،
عن شيءٍ... ضاع منذ زمن. 

تذكرتُ:
كم مرةً بحثتُ في عينيكِ عن خلاص،
بينما كنتِ تبحثين في ابتسامتي... عن سبب للغياب. 

عندها فقط،
أدركتُ ـ متأخرًا ـ
أن اللعبة لم تكن مشهدًا دراميًا...
بل حياةً كاملة،
نراهن عليها...
في محطةٍ لم تُوجَد قط. 

الحب؟
هو أن تدفعَ كل ما تملك،
ثمنًا لتذكرة قطار...
ثم تكتشف أن المحطة كلها... وهمية. 

لكننا نستمر في الصف...
لأننا كبشر،
نؤمن أن الخداع الجماعي...
يشبه الديمقراطية:
كلنا نعرف أنها مربكة،
لكننا نُصفق...
كي لا نضطر للاعتراف بالهزيمة. 

وكلما طال الانتظار،
ازددتُ يقينًا...
أن الحظ ليس غائبًا،
بل كان يجلس يراقبني... ويضحك. 

وفي أحد الأيام،
قررت أن أجري حوارًا مع حظي العاثر.
سألته:
"لماذا تختارني دائمًا ضحية؟"
فضحك...
وقال: "لأنك الوحيد الذي لا يشتري!" 
ثم ناولني كوبًا من المُر،
فشربتُه مبتسمًا،
ظننتُه قهوة. 

هكذا يعلّمنا العارف،
أن السكران...
لا يُفرّق بين العلقم والنبيذ. 

ومن ذلك الضحك،
تولد داخلي صورةٌ للفراق،
لا تشبه النهايات المعتادة. 
لوحةٌ من رماد...
يحاول أن يشتعل... رغم فقدانه لروحه. 

لو كان لي أن أرسم فراقنا،
لرسمتُ حديقةً من الشموع المُطفأة،
تنبتُ بينها أزهارٌ بلا رائحة. 

في المنتصف...
يقف رجل،
يحاول إشعال النار بأضلاعه،
بينما تمرين أنتِ، كظلٍ بلا جسد،
تسحبين الهواء من حوله...
ثم تهمسين،
وكأنك لا تدرين...
أن الهواء الذي سحبتيه،
هو ما كان سيشعلُه. 

نحن كائنات مهووسة بالمعنى. 
نبحث عنه حتى في ركام انكساراتنا.
نزين الألم بشيءٍ من البلاغة،
ونكتب القصائد على جدران السجن...
كي نخدع أنفسنا أننا أحرار. 

نحن لا نُقر بأننا نحب سجاننا،
بل نقول:
نكتب له...
كي نغويه إلى باب الهروب. 

وهكذا،
يتحوّل العشق إلى فلسفة المهزومين:
ننزف...
كي نثبت أننا لم نمت بعد.
ونُعلن عن حضورنا الأبدي... بالغياب. 
نُغلق الأبواب خلفنا...
كي يسمعوا صوت الرحيل.

لا لأننا نريد الذهاب،
بل لأننا نرجو...
أن يركض أحدهم خلفنا. 
ولو لمرة...
واحدة.


جهاد غريب 
يوليو 2025 


تراتيل الانطفاء!

 
تراتيل الانطفاء! 
(نشيدُ البوح الناضج… حين يصبح الانكسار شعرًا، والحب فلسفة، والغياب هدوءًا مقدسًا)


(1) 
الصمت الذي يُدين! 


كان صمتهُ كحجرِ رَحىً يُطحنُ في قلبها،
يدورُ بلا كللٍ على أنفاسِها المبلّلةِ بالانتظار،
حتى صارتْ ذكرياتُهما غبارًا يختنقُ في حلقِ الزمن.

كلُّ همسةٍ لم تُنطَقْ،
كانتْ في عينيهِ: سكونَ الغاباتِ قبل العاصفة،
وفي عينيها: قبورٌ مفتوحةٌ على البكاء،
تُردّدُ أسماءً لم تندثر،
وتنتظرُ من يعتذرُ عنها… أو لها. 

بينهما صمتٌ،
لا يَكسرهُ سوى صريرِ أقلامِ القُضاةِ الخفية،
يكتبون في الهواءِ براءته،
كأنها الحُكمُ الوحيدُ الذي لا يُستأنف،
أما إدانتها… فكانت أنها الوحيدة التي ظلّ قلبُها يصرخ،
أعلى من ضميره،
وأشدَّ من صمته. 

الحجارةُ - حين يُطيلُها الضغط - لا تختار الصبر، بل الانفجار،
فماذا عن القلوب،
إذا نُسجتْ من أعصابِ البراكين،
ونُهِكَتْ من الصمتِ حدّ الحمم؟


(2) 
الصدقُ الذي يُوجِع! 


لم تعُدْ ترضى بأنصافِ ظلالٍ تتلوّى كالأفاعي على جدارِ الوقت،
تُريد كلمةً واحدة… لا تَرتجف،
تُزيحُ بها الجبالَ المتراكمة فوقَ صدرِها،
أو صرخةً تمزّقُ الصمتَ كما تُمزّقُ الصواعقُ جلدَ السحاب،
تُعيدُ ترتيبَ النجومِ في فراغِها،
وتنثرُ معناها على طاولةِ الحياةِ بلا أقنعة.

أما هو، 
فرأى في صراحتِها مطرقةً تهوي على رأسِ المعنى،
وكأنها تُطالبهُ بأن يخلعَ جلدَه،
كي يُدرك دفءَ عظامِها التي نسيتْ أن تُدفأ. 

الوضوحُ…
ذاك النورُ الذي لا يُغفر،
تلبسهُ الحقيقةُ كالمِقصلة،
وتتدلّى تحتهُ رقابُ التوقعات.

أليسَ الصدقُ أحيانًا وجهًا آخرَ للقسوة؟ 
أليسَ طلبُ الوضوحِ المطلق،
هو أقسى أبوابِ السيطرة… حين يُفتح باسم الحب؟


(3) 
محكمةُ الرماد! 


تحوَّل الحبُّ إلى قاعةِ محكمةٍ بلا سقف،
يعلو فيها دخانُ الكلمات، 
وتُلقى على طاولةِ الزمنِ الأخرس رمادُ الأيام التي احترقتْ ولم تشتعلْ.

هي تتّهمهُ بأنه جعلَ من قلبِها مزمارًا ينوحُ في مواسمِ الخذلان،
وأنها عزفتْ، مكرهةً، لحنَ الألمِ أمام جمهورٍ لم يطلب سوى النشاز،
تحمّلهُ كلَّ الخيبات،
كأنّه كان وحده الريح، والمطر، والطوفان!

وهو يقف، لا كمدان، بل كمن تعب من تلقي الصفعات دون محاكمة:
"أين كنتِ، حين كنتُ أنا أشتعلُ بصمت،
وأصيرُ رمادًا يُصفّقُ له الآخرون؟". 

حتى النار، 
تتلكأُ قبل أن تلتهمَ الحقول،
فكيف يُطلَبُ من عاشقٍ أن يحترقَ دون أن يُسأل… لِمَ اشتعل؟ 


(4) 
قلعة الزجاج! 


بنتْ حولَ نبضِها سورًا من زجاجِ الدم،
شفّافًا...
لكنه يَجرحُ كلَّ مَن يحاولُ الفَهمَ دون إذن،
وكتبتْ على بوّابتِه بصمتٍ لاذع:
"ممنوعُ الاقتراب… إلّا بحكمِ الموت،
أو بدعوةٍ من الندم المتأخر".

هو لم يُحاول الاقتحام، 
بل وقفَ يراقبُ ظلَّها يتمدّد كظلِّ اعتذارٍ لا يُقال،
ثم ألقى مفتاحَه في نهرِ الصمتِ، وقال:
"لن أكونَ السجّانَ الذي يبحثُ عن سجينٍ في أطلالِ نفسِه،
ولا الطبيبَ الذي يكتبُ وصفةً لقلبٍ اختارَ أن يَشفى وحده".

أتعلمينَ كم يَزنُ الوادي،
حين يَحملُ دمعَ جبلين لم يعُد بينهما جسر؟


(5) 
حكمةُ الجروح! 


أخيرًا، 
قبلَتْ أن الغيمَ لا يُصاغُ بالأمنيات،
ولا يتبعُ خرائطَ العاشقين،
وأن بعضَ الحبّ، كالكريستال، 
لا يُشرقُ إلا حين ينكسر…
فتنكشفَ داخلهُ ألوانٌ لم نرها،
حين لم يكن مكسورًا… 
فبعضُ الانكسارِ يُفصحُ عن اللونِ الأصدق.

قالت بهدوءٍ أشبهَ بالحقيقة:
"ربما لم تكن العلاقةُ خاطئة،
لكنها لم تكن لصالحي…
والله لا يَمنحنا الألم عبثًا". 

فأومأ هو،
مُبتسمًا كمن اعترف بها بينه وبين نفسه: 
"صدّقيني،
حتى القمرُ…
كان سيجرحنا لو اقترب أكثر". 

أتعلمين؟
حتى الشموع، تُضيءُ نفسَها أولًا،
قبل أن تمنحَ النورَ للآخرين،
ثم تذوب بصمت،
وكأن التضحية جزءٌ من فتنتها... لا من ضعفها.


(6) 
وداعُ الفراشات! 


حزمتْ فراشاتُ الذاكرةِ أمتعتَها الخفيفة،
تلك التي لا تُرى،
لكنها ترفرفُ طويلًا في زوايا الروح.

وهو، 
واقفٌ هناك،
يُلوّحُ لها بيدٍ لا تُمسك بشيء،
إلّا صدى ما كان،
كشجرةٍ خريفية،
تخلعُ أوراقَها لا أسفًا،
بل احترامًا لدورةِ الحياة.

قالَ بهدوءٍ لا يشبه العتاب:
"لا تندمي…
فالحبُّ الذي لا يُؤلمنا،
هو وردةٌ لم نجرؤ على شمِّ عبيرها اللاهب،
والقلب الذي لم يُكسرْ،
لم يعرف كيف ينبضُ لنفسه كما يليق به وحده". 

ثم ابتسم، 
كما يفعلُ من قرأ آخر صفحةٍ في روايةٍ أحبها،
ولم يُرِد أن يغيّر نهايتها.

"أتذكُرين؟
كنّا نُراقصُ الموتَ ونحن أحياء،
لأننا ظننا أن الحُبّ يمنحنا الخلود…
فاكتشفنا أنه كان يُدرّبنا على الفناء برفق". 

جهاد غريب 
يوليو 2025


نص إبداعي: انكساراتُ... الضوءِ البارد!

 
انكساراتُ... الضوءِ البارد! 

في الأعماقِ،
حيث تنكسرُ المرايا على حافةِ الصمت،
تولدُ الأسئلةُ كنُدوبٍ قديمة...
تلمع في الظل.

هناك،
حين يتوقّف الزمنُ عن عدّ أنفاسه،
يُصبحُ السقوطُ... تحليقًا،
ويغدو الضياعُ طريقًا...
إلى بيتٍ لم تعرفه من قبل.

كل شيءٍ هنا،
يقطرُ شفافيةً مؤلمة: 
الجدران زجاجية،
الأصوات تتدلّى كقطرات ندى،
على خيط الفجر.

حتى الضوء...
الذي كان يدفأُ ككفٍّ حنون،
صار باردًا،
كشَفرةِ ماضٍ لم يُدفن بعد.

في هذه العزلة الشفافة،
حيث لا أحد،
سوى صدى نفسكَ المُتعب...
تُدرك أن الحقيقة،
ليست سوى جرحٍ تعلّم الغناء.

الكلمات؟
كلها تسقط الآن،
كسُتراتٍ مبلولةٍ في خريفٍ داخليّ.

اللغة تعجز...
لكن الصمت؟
يبدأ بنحت كيانٍ جديد،
من رحم الفراغ.

هل سمعت يومًا صوت الظل،
حين يتحوّل إلى مرآة؟
هل رأيتَ الذكريات،
وهي ترسو كسفنٍ ساكنة،
على سطحٍ متجمّد...
تنتظر ذوبانًا... لن يأتي؟

في اللحظة التي تظنّ أنك انكسرت للأبد،
يخرج من بين عظامك...
نداءٌ خفيّ،
يقودك إلى حافة الوجود.
وهناك...
حيث لا شيء يُمكن الوقوف عليه،
تتعلّم أن تكون هواءً...
لا ينكسر.

الانهيارُ الهادئ؟
ليس نهاية...
بل فجرٌ ينسج نفسه بخيوط عنكبوت رقيق.

كل من يذوب ظلّه لا يختفي...
بعض الأرواح،
لا تُولد إلا بعد أن تمرّ في النار... كقطع الزجاج.

وفي النهاية...
حين تُلملم الأشياء نفسها،
وتصبح اليد التي تمسكها... خاوية، خفيفة،
ينساب دفءٌ غريب،
كدمعةٍ... لم تسقط.

ربما... لأنك أخيرًا،
فهمت.
كل هذا السقوط،
لم يكن سقوطًا...
بل كان رحيلًا...
إلى بُعدٍ آخر،
في نفس المكان.


جهاد غريب 
يوليو 2025 


رسالة إلى من سرق قلبي... ثم نسيه في درج المطبخ!

 
رسالة إلى من سرق قلبي... ثم نسيه في درج المطبخ! 

الخيانةُ...
كعلبةِ طعامٍ منتهيةِ الصلاحية...
تفتحُها بشهيةٍ عارمة،
ثم تكتشف – متأخرًا –
أنك التهمتَ نصفها...
قبل أن تُدركَ طعمَ التعفن!

وما إن تدركَ الطعم...
حتى يبدأ الغثيان.
لا في الجسد،
بل في الذاكرة!

إنها لحظة...
تشبهُ اكتشافك أن الطاولة التي تجلسُ عليها عامرة،
لكنها مليئةٌ...
بما يُميتك ببطء.

لم تكن غبيًا حين وثقتَ بها...
فالقلوب لا تُحاسب على طيبتها،
بل على من تسللَ من خلفها خلسة،
كظلٍّ... خائفٍ من النور.

كنتَ تظنّها...
هديةَ القدر.
لكنها...
كانت كمن يُقدّم لك طبقًا من الذكريات المرّة،
على صينيةٍ من الابتسامة.

هي بارعة...
بارعة في تغليفِ السمِّ بأشرطةٍ ملوّنة
من الكلماتِ اللطيفة...
والضحكاتِ المطمئنة...
تمامًا كهدايا الأرصفة:
مغرية من الخارج...
زائفةٌ في العمق!

وأعترف...
لم أكن أتوقع أن ينتهي الحب...
مثل قسيمةِ خصمٍ منتهيةِ الصلاحية...
يُكتشف فجأة...
أنها بلا قيمة!
تحديدًا... في اللحظةِ التي تحتاجها فيها... لتنجو.

في تلك الليلة...
حين تكسّرت الحقيقة في وجهي،
كمرآةٍ قديمة...
تحوّل سريري إلى قاربٍ ورقيّ هش...
يطفو فوق محيطٍ من الشظايا الخفيّة.

أردتُ إيقاظَ قلبي... لأصرخ بها:
لماذا؟
لكنه كان قد هرب...
فرَّ إلى جيبِ سترتها،
مثل طائرٍ مذعور،
لجأ إلى أولِ مَهربٍ دافئ...
ولو كان... مزيّفًا!

أسوأ الخيانات...
حين يتواطأ قلبك مع الذي أوجعك.
في تلك اللحظة، 
لم يعد لديّ من أعاتبه...
فهي خانتني،
وقلبي خانني معها.
فلم أبحث عن العزاء...
بل أردت أن أرى الصورة كاملة، 
ولو تألمت.

قررتُ أن ألاحقها...
لا لأستعيدها،
بل لأفهم...
كيف يُباع الحبُّ المسروق
في أكشاكِ القهوة السريعة؟!

كيف تُطبع القلوبُ
على أكوابٍ ورقية...
تذوبُ عند أولِ دفءٍ عاطفي؟

وجدتُها هناك...
تبتسمُ لشخصٍ آخر...
بينما تمسحُ ذاكرتي بمنديلٍ ورقيّ...
وتُمحى ملامحي من عينيها
كما يُمحى اسمُ ضيفٍ زائد
من قائمةِ الحضور...

عندها فقط... فهمت:
لم أكن فصلًا في روايتها...
بل مجرّد هامش،
على طرفِ قصةٍ قصيرة...
ومن يُكتب في الهامش...
غالبًا... ما يُقلَب عليه الصفحة
دون أن يُلاحظ أحد.

والآن...
وأنا أجمعُ أشلائي
من تحت الأريكة...
– حيث تختبئ الأشياء التي لا نبحث عنها
إلا حين... نفقد أنفسنا –

أتساءل...
في داخلي:
هل كان حبُّنا
خطأً مطبعيًا في روايةِ الكون؟
أم كان مجرّد حلمٍ...
زائدٍ عن الحاجة؟

لا أدري...
لكنّي أعلم...
أنني، في المرّةِ القادمة...
سأحرص...
على ألّا أضع قلبي...
إلّا في يدٍ
تُجيد الإمساك بالقلب...
لا فتحَ علبةِ تونةٍ...
فارغة!


جهاد غريب 
يوليو 2025 


مرايا الرماد!

 
مرايا الرماد! 

في غرفةِ القلب،
التي صارت قفصًا من زجاجٍ مُهشَّم...
وقفتُ أراقب "كرامتي"،
وهي تتلاشى كصقيعٍ يذوب،
تحت شمسٍ غريبة... لا أعرفها.

لم تكن مجرّد شعور،
بل طائرًا من كريستالٍ رقيق،
في صدره جمرةٌ... تنفث لهبًا باردًا.
كان يرفرف بخفةٍ نقيَّة،
فوق بحيرةٍ من دموعٍ مُتجلِّدة،
كلُّ قطرةٍ... توثِّق زفرةً مختنقة،
علقت بين الاحتراق والانطفاء.

هي لم تكسرني، لا.
بل مرَّت بأنفاسها... على مراياي الداخلية،
فانعكست صورتي... مشوّهة. 

رأيتُ ذاتي تنزلق،
فوق سطحٍ جليديٍّ من نظراتها،
وأنا... أتواطأ مع السقوط.

لأن يديَّ – بغفلةِ القلب الهائم –
كانتا تُلقيان الثلوج تحت قدميّ.
كل لمسةٍ... كانت خدشًا في جدار الكرامة البلّوري،
وكل ابتسامة، جُرحًا وامضًا...
ينزفُ ضوءًا باردًا، لا صوت له.

وفي ليلةٍ صامتة،
كان الألم ينسجُ خيوطه... من ظلي على الجدار.
تحوّلت أحزاني إلى ثعابينَ من دخانٍ أسود،
تلتهم أوراق ذاكرتي الذهبية.

مراكبُ ورقية، من رسائلي،
تغرق في بحرٍ راكدٍ من العتاب الصامت،
تجرفها تياراتٌ من صمتٍ خانق.
وفي الزاويةِ الأكثر عتمة...
رأيتها.
جالسةً على كرسيٍّ من أشواكٍ متشابكة،
تبتسم ابتسامةً... تُذيب الثلج،
وتُشوّه الكريستال.

فجأة،
سقطت دمعةٌ متجمِّدة.
ارتطمت بأرض الغرفة البلّورية.
لم تُصدر رنينًا،
بل... انفلقت.
كبذرةٍ غاضبة.

نبت منها ساقٌ شائكٌ من شرر.
وما إن لامس الشررُ،
جناح الطائر الزجاجي الواهن...
حتى حدث أمرٌ غريب:
المادة التي بدت هشَّة،
لم تنكسر.
بل بدأت... تبتلع الشرر.
وتتحوّل، شيئًا فشيئًا.
لم يعُد طائرًا،
بل لوحًا صغيرًا... صلبًا... مستديرًا،
لا يعكس شيئًا،
إلا شعاعًا صافياً، ينبثق من الأعماق.
بريقٌ لا يخبو،
لأنه ببساطة...
وهجُ الذات حين تتطهّر.

الكرامةُ... لم تتبخّر.
كانت فقط تخلعُ قشرتَها الهشّة،
وتتخلى عن هيئة الضحية القابلة للكسر.

انسحبت الثعابين الدخانية،
خائفةً من ذلك الشعاع الداخلي،
وغاصت المراكب الورقية،
في أعماق النسيان.
أما مقعد الندوب القديمة...
فقد انهار.
وتحوّل إلى رماد،
تذروه أنفاسي الأولى... بعد الخلاص.

ما بدا انكسارًا...
كان طقوسَ تحوُّل.
ثمّ...
حدث النور.
لم أعد أبحث في وجهها عن اعتراف،
ولا في صداها عن تبرير.
لقد انطفأت في داخلي...
الحاجة لأن أُرى من خلال عينيها.
لا انعكاس بعد الآن.
ولا خيال.

الكرامة... لا تصرخ.
لا تُقارن.
لا تردّ الصفعة بالحُجّة.
الكرامة — حين تنجو —
تصبح صمتًا... يُحرج الضجيج،
وضوءًا... لا يطلب تصفيقًا.

أما هي؟
فثابتة في مكانها.
لا تتحرك.
لأن الزمن... لا يحمل من لا يتغيّر.
وأنا؟
في المقابل،
لا أعود إلى الوراء...
لأتفقد الرماد.

إنها ليست معركةً ربحها أحد،
بل يقظة...
نفضت عن القلب رماده،
وتركته أخيرًا... يعكس ذاته،
بنقاءٍ لا يحتاج مرآة،
ولا يطلب شاهدًا.

جهاد غريب 
يوليو 2025 

حوار على حافة الضوء... بين ظلّين يعرفان بعضهما!

 
حوار على حافة الضوء... بين ظلّين يعرفان بعضهما!

"صوتان في حاشية كتاب قديم يكشفان أكثر مما يعترفان"

*
ـــــــــــــــــ
جلسا متقابلين
كما لو أن الزمن توقف ليمنحهما لحظة صدق خالصة.

بين يديهما كوبان من القهوة،
يبردان ببطء،
وقد علقت في بخارهما نوايا الحديث الذي لم يُولد بعد.

حواء تنظر في عيني آدم
كما لو كانت تبحث عن انعكاسها فيه،
وآدم يُنصت كما يُنصت فيلسوف
لصدى نفسه وهو يتحدث على لسان غيره.

لم يكن بينهما شيء عادي،
لا الكلمات،
ولا الصمت،
ولا حتى المسافات.

كان اللقاء أشبه بمحاولة إعادة تشكيل الذات
عبر مرآة الآخر.

وفي لحظةٍ بدا فيها كل شيء أكثر شفافية،
التقطت حواء السؤال من بين أنفاسها...

حواء (وهي تطرق بأصابعها على طرف الكوب):
قل لي، ما الذي لا أقوله؟
ما الذي تراني عليه ولا أراه؟

كانت كلماتها ناعمة،
لكنها تحمل بين ثناياها رجفة اعتراف خفي.

هي لا تبحث عن مجاملة،
بل عن مرآة،
حتى لو عكست تجاعيد الروح.

آدم (بصوت خافت):
أخشى أن أضعكِ تحت مشرط الحقيقة،
فتنزفين أكثر مما تحتملين.
أنتِ لستِ مرآة مكسورة، بل شمعة...
تذوب لتضيء الآخرين،
دون أن تنتبهي للنار التي تأكلكِ برفق.

كان صوته يحمل دفئًا وتحذيرًا في آنٍ.
لم يشأ أن يجرح شفافيتها المتعبة،
لكن صدقه أبى أن يصمت.

حواء (بعينين دامعتين وابتسامة صغيرة):
جميلة هي كلماتك...
تؤلمني دون أن تذبحني.
هل تعلم؟
أفضّل هذا النوع من الألم على راحة الغفلة الجميلة.

في تلك اللحظة،
لم تكن تطلب منه إنقاذًا،
بل اعترافًا.

كانت تتوسل للحقيقة أن تزورها،
حتى لو جاءت على هيئة شوكة في باقة ورد.

سكنت الكلمات قليلًا،
لكن النظرات تابعت الحديث...

تبدّل الضوء،
وتسلّل ظلٌ خفيف إلى الملامح،
كما لو أن اعترافًا كان يشقّ طريقه في الصمت.

آدم (كأنما يبوح بشيء يعرف أنه لن يُقال مرةً أخرى): 
أنتِ لا تغفرين بالكامل...
بل تُلبسين الجراح ثوبًا من السخرية
كي لا تنكشف هشاشتكِ.
ضحكتكِ دائمًا تحمل خلفها صدىً لا يُشاركه أحد،
كأن القلب يتذكّر شيئًا في غير وقته.

كانت كلماته مثل نسمة دافئة في غرفة باردة،
توقظ شيئًا نائمًا.

حواء (وهي تميل برأسها):
أأبدو لكِ بهذا الوضوح؟
لم يخبرني أحد بذلك من قبل.
أنتَ لا تصفني،
بل تكشفني.

كان قلبها يطرق على جدران الصمت.
لم تكن معتادة على من يقرأ ما وراء عينيها،
على من يرى جراحها لا كضعف،
بل كحقيقةٍ نبيلة.

آدم (بهدوء نادر):
ليس كل من يرى،
يعرف كيف يُمسك بالحقيقة دون أن يكسرها.
وأنا...
لا أريد أن أكون السبب في سقوط دمعة
لم تُجهّزي لها منديلًا.

ورغم نبرته الرزينة،
خُيّل لحواء أن في قلبه غرفة مغلقة،
تحتفظ باسمٍ،
ووعدٍ،
وظلِّ امرأةٍ لم تكتمل.

انعكست في عينيها مرآة أخرى...
أعمق، وأصدق.

حواء (بصوت يشبه الدعاء):
لو كان بيننا وعدٌ ما،
هل كنتَ ستوفي به؟

كان السؤال أشبه بمفتاح صدى،
يُلامس شيئًا قديما في القلب…
صمتٌ ثقيل تمدد كوردة ذابلة على خدّ الفكرة،
كأن الجواب يعرف الطريق… لكنه يتريث.

آدم (بعد صمت طويل):
أقسمتُ مرة،
أن أظلُ وفيًا لحقيقة شعرتُ بها مدى العمر...
لكنها لم تنضج كفاية لتصبح أكثر من مجرد حب،
ولا كانت هشة كفاية لتموت.

كان يتحدث
كما يهمس رجلٌ لحضورٍ لا يتجسّد،
ما زال يسكن في فصول قلبه،
لا يغيب تمامًا...
ولا يأتي بكامله.

حواء (بابتسامة حزينة):
وهل أنا تلك الحقيقة؟

لم تنتظر جوابًا.
كانت تعرف أن بعض الأسئلة
خُلقت لتظل معلّقة،
كقمر لا يكتمل.

غادرا المكان بصمت،
لكن شيئًا ما تغير.

حواء، 
حملت معها مرآة من كلماته،
تنظر فيها لتفهم،
لا لتلوم.

وآدم،
ترك لها جزءًا من حكمته المغلّفة بالحذر،
وظل يمشي بعيدًا،
كأن كل خطوةٍ
اتفاقٌ سريّ على البقاء...
في حدود العقل،
لا في بركان القلب.

كان لقاؤهما درسًا في الحب المؤجل،
في الحوار الذي لا يريد أن يتحول إلى اعتراف،
وفي العلاقات التي تنمو في الظل،
وتحمل من الضوء ما يكفي كي لا تموت،
وما لا يكفي كي تُزهر تمامًا.

حواء وآدم،
لم يكونا عاشقين فقط…
بل روحين تواطأتا على كشف الحقيقة،
كلٌّ بطريقته.

وصارت العلاقة
كظلّين على مسافة من الضوء،
لا ليهربا من وهجه،
بل ليبقيا في حافّة الضوء الهادئة،
حيث لا نارٌ تلتهم،
ولا دفءٌ يكفي لتزهر الروح.


جهاد غريب 
يوليو 2025 

الأحد، 6 يوليو 2025

حين تتنفس السماء من صدرك!

 
حين تتنفس السماء من صدرك! 

كانت الغيوم تمرُّ كسفنٍ من قطنٍ مبلل، تجرّ خيولها الخفية خيوطًا من ضوء شاحب على مرآة البحر. وقفتُ على حافة الهاوية الرملية، حيث يلتقي الفناء بالخلود في قُبلةٍ مائيّةٍ أبدية. كل موجةٍ تلفظها الأعماق، هي زفرةٌ كونيّة، همسةٌ قديمةٌ تُكتبُ بلغة الملح والرغوة على سطر الشاطئ، ثم تمحوها اليدُ ذاتها بلا تردد.

تأملتُ المدى، فإذا بي أرتدُّ إلى الداخل، وكأنّ كلّ موجةٍ تلامس قدمي، كانت توقظ موجةً أخرى في أعماقي. شعرتُ أن البحرَ في الخارج لا يختلف كثيرًا عن البحرِ الذي في داخلي.

في صدر الإنسان بحرٌ آخر. أمواجه ذكرياتٌ متلاطمة، وقيعانه أسرارٌ غارقة، ومدّه وجزره نبضٌ واحد بين الفرح والحسرة. كم مرّةً ألقيتُ في أعماقي حجر سؤالٍ ثقيل، فلم يرجع إليّ سوى صدى صمتي المتراكم، كصوتِ نايٍ ينفخ فيه العدم؟ هل المعنى يغرق دائمًا في قاع اللا معنى، أم أننا نبحث عنه بمصابيح مطفأة؟

وحين أغمضتُ عيني عن صخب الأسئلة، رأيتُ وجهها. لم يكن وجهًا، بل كان منظرًا طبيعيًّا للروح. عينان كبُحيرتين مسائيّتين، تعكسان آخر شعاعٍ للشمس قبل أن يغرق في ظلمة الأفق. ابتسامتها كانت كفراشةٍ تهبط على شفة كأس، خفيفةً لكنها تُقلب توازن العالم الداخلي. ذاك هو التناقض الأبدي: أكثر الأشياء جوهريّةً هي الأكثر هشاشةً، كالضوء، كالحب، كذاكرة عابرة على جلد الزمن.

ومن وجهها، امتدّ الشعاعُ نحو ما هو أبعد، نحو الحقيقة الكبرى التي تتنفس فينا. الوجودُ يتنفسّ من خلالنا. نحن لسنا سوى قصبة الوجود الهوائيّة، يَصْفِرُّ الكونُ أنغامه عبر فراغات أرواحنا. كل ضحكةٍ طفلةٍ هي انفجارٌ صغيرٌ للانفجار الأعظم، وكل دمعةٍ حزينةٍ هي قطرةٌ من ذلك المحيط البدئي الذي انبثقنا منه. نحمل في داخلنا ذرات النجوم، وصراخ المخلوقات الأولى، وصمت الأولين.

 وبرغم هذا الانسجام العميق، ظلّ سؤالٌ قلبيٌّ ينقر دون كلل: لماذا، إذن، هذا الشعور بالغربة؟ كأنّ الروحَ ترتدي ثوب جسدٍ لا يُقيها برد الوجود ولا حرّ الأسئلة؟ ربما لأننا نسينا لغتنا الأولى، لغة النور قبل تشكّل الحواس، لغة الصمت قبل ولادة الكلمات. نسينا أننا أبناء السماء قبل أن نكون أبناء الأرض.

ها هي الشمس تغيب الآن، تذوب كشمعٍ ذهبيّ في محراب الغرب. الظلّ ينسج عباءته فوق المدينة. في هذه الوهلة الغسقيّة، حيث تتلاشى الحوافّ، أسمع همسًا داخليًّا: 
"لا تخف من العتمة، فهي الحاضنة التي منها انبثق النور الأوّل. 
الغربةُ وهمٌ، والبحثُ ذاته هو الوطن. 
احمل قلبك كفانوسٍ مضيء، فالكونُ بأكمله يترنّم داخل صدرك". 

وها هي الرجفة الدافئة تأتي... ليست من دفء الشفق، بل من يقينٍ مفاجئٍ يهبط كطائرٍ وديع: أنَّ هذه العزلةَ الظاهرة هي اتصالٌ أعمق، وأنَّ هذا السؤالَ الذي لا جواب هو الجوابُ الأجمل. 

في صميم الوجود، في تلك النقطة السرّية حيث يتلاشى كلّ شيء، هناك حضنٌ كونيٌ دافئ ينتظرنا جميعًا. فقط علينا أن نتجرّأ على السقوط... نحو الأعلى. فأثرُ السماءِ لا يُمحى، طالما القلبُ صفحةٌ مفتوحةٌ للضوء. 

هكذا نكتشف أن السماء لم تكن يومًا فوقنا فقط... بل مطبوعةً في صدورنا، فما نسعى إليه في الخارج، كان دومًا يهمس من الداخل. 

جهاد غريب 
يوليو 2025 

 

السبت، 5 يوليو 2025

أطياف الوجود: حين ننسى وجوهنا في متحف الضياع!

 
أطياف الوجود: حين ننسى وجوهنا في متحف الضياع!

"كلما اقتربنا من المرايا، انحرفت وجوهنا إلى ظلال... فهل كنا نحن؟ أم مجرد أطيافٍ تحلم أن تتذكّر شكلها القديم؟"

في مدينةٍ تطفو على سحابةٍ من الأسئلة، حيث تُباع الأقنعةُ في أسواق النهار، وتُحرقُ الهوياتُ في مواقد الليل، نبدأ رحلتنا. هنا، في هذا الفضاء الذي يذوب فيه الواقعُ كحلوى مُرّة، يُولد السؤال الأزلي: كيف نمسك بظلّنا بينما تنزلق الأصابعُ في الفراغ؟  

كانت المرآةُ تتحدث إليه كل صباح بصوت أمه الراحل: "أنت كاملٌ كالقمر". لكن القمرَ يتشظى ليلًا في نهر السحابة، وهو يعرف ذلك. 

في المدينة المُعلَّقة، حيث تُطرّز الأقنعةُ بشرر النجوم، صار "البقاء كما أنت" لعنةً ساخرة. رأى نسخته الباهتة تتسول عند تقاطع الزمن والنسيان، بينما هو يرتدي جلدَ وحشٍ جميلٍ صنعته أيادي المجتمع. "أبقِ صورتك الأصلية"، تُنادي لافتاتُ الساحات، لكن أحدًا لم يعد يعرف أين دُفن "الأصل". 

وحين سقطت آخرُ شظايا وجهه الحقيقي في نافورة الذاكرة، انتهى به المطافُ عند مقهى "اللامنتهي". هناك، حيث الأكوابُ الشفافةُ تكشفُ فراغَ مَن بداخلها، اكتشف أن الأشباحَ وحدها تذكرنا حين نذوب. 

صارت عظامنا خفافًا كغبار الذاكرة، لكنهم ما زالوا هناك: أشباحٌ ترتدي أرديةً من ضجيج. في زاوية المقهى، يلعبون الورقَ بأيدٍ وهميةٍ فوق طاولةٍ من ضباب. "أنتم أوطاننا!" يهتفون لشبحنا الجاثم. ضحكاتُهم تثقب السقفَ وتنزلق إلى عالمٍ موازٍ تُخزّن فيه الأصداء. حتى حين تذوب أصابعنا في ريح الغياب، يمدّون إلينا أوراقًا باهتة: "وقّع هنا على وجودك البائد".  

وفي تلك اللحظة، بينما كان يلمس القلمَ بأطرافٍ أشبه بالدخان، سمع همسًا يأتيه من مستشفى الأحلام المُشوَّهة: "تعالَ... هنا نحبّك حين تنكسر".  

في جناح الألم رقم 7، يزوره كل ليلة. لا يحمل زهورًا، بل سماعاتَ طبيةً تلتقط أنين أعضائه. "أحبك لأنك تشبه جرحي القديم"، يهمس وهو يربط شرايينه بخيوطِ قيثارةٍ مكسورة. حين حاول أن يبتسم، كسرَ محبُّه فكَّه "كي لا تتغير ملامح الوجع". وفي الصباح، كانت رسائله منحوتةً على جدران قلبه: "لا تبرأ... فالشفاءُ هروبٌ من قدسية الألم".  

وعندما حاول الفرارَ من المستشفى، قادته خطواتُه إلى "متحف الأرواح المتشابهة". هناك، بين المرايا التي تُقلّب الأرواحَ مثل أوراق اللعب، رأى ظلًا يلمع في الزاوية كشظيةٍ ضائعة. 

يُقال أن الكونَ انسكب من ساعةٍ رمليةٍ انكسَرت منذ الأزل. في دهاليز المتحف، بحث عن شظيته الضائعة. وجد قلبًا ينبضُ بإيقاع جرحه، يحمل ندوبًا تُطابق ندوبه، وحتى الدمُ في شرايينه كان يغنّي نفسَ أغنية الطفولة المحطمة. لكن حين مدّ يده، انسحب القلبُ كظلٍ في شفقٍ أحمر. وقف حائرًا: أهو انعكاسٌ أخيرٌ قبل الفناء؟ أم أننا نحن الظلالُ التي تبحث عن جسدٍ يمنحنا معنى؟  

وفي النهاية، بينما كانت المدينةُ العائمةُ تُغيّر أقنعتها تحت ضوء القمر المتشظي، أدرك أن البحثَ نفسه هو الوطن. ربما لن نجد الشظيةَ الضائعة، لكننا سنظل نرسم صورتها على جدران الفراغ. وحين يعود صباحًا إلى مرآته الصامتة، سيسمع همسًا جديدًا: "لا تبقَ كما أنت... ابحثْ عنك في كلّ انكسار"، فالوجودُ ليس سوى متحفٍ كبيرٍ للظلال، وأجملُ اللوحاتِ تلك المرسومةُ بخيوطِ الضياعِ والانتظار. 

جهاد غريب 
يوليو 2025 

حلمٌ تذكَّر أنه مات!

 
حلمٌ تذكَّر أنه مات! 

شاهدتُ الساعةَ تذوبُ على جدارِ الغرفة، كشمعٍ تحت لهيبِ نسيانٍ لا يرحم.
عقاربُها، فجأةً، لم تعد تقيسُ الزمن، بل تحوَّلت إلى أسماكٍ صغيرةٍ فضّية، تسبحُ في بحرٍ من ضوءِ قمرٍ متسرّبٍ من شقٍّ في الستائر.
ذلك الضوءُ كان شريانَ العالمِ الوحيدِ الباقي.

ثم... فتحتُ بابَ الخزانة.
لم تكن ثيابي أو ذكرياتي المعلَّقة تنتظرني، بل كانت الصحراءُ: رمالٌ ذهبيةٌ بلا أفق، تمتدُّ إلى ما لا نهايةٍ، تحت سماءٍ أرجوانيةٍ صامتة.

ومن بين طيّاتِ معطفي القديم، الذي تحوَّل إلى كثبانٍ متماوجة، حدَّقتْ بي عينانِ عميقتان، حزينتان، تنتميان إلى جملةٍ وحيدة.
نظرةٌ سألتني، دون كلمات: "أأنتَ ضائعٌ مثلي؟".
في تلك اللحظة، لم أعد أعرف أين ينتهي البيتُ، وأين يبدأ الوجودُ كلُّه في التفتت.

تلك الوحدةُ الصحراوية، التي تسلّلت من خزانةِ غرفتي، علّمتني أن الفقدان ليس مكانًا نذهب إليه، بل هو شيءٌ نحمله في جيوبنا.
وفي جيبي، يا لِلمفارقةِ القاسية، حبّةُ القمرِ التي سقطتْ تلك الليلة، ما زالت تتلألأ بخجل.

هي ليست مجرّد حصاةٍ مضيئة، بل هي قبلةٌ متجمّدةٌ من جنّيّةٍ اختفتْ مع الفجر.
تُذكّرني بوعدها الذي نسيتُه تحت وطأةِ الواقع: أجنحتُها كانت من زجاجٍ رقيقٍ يتكسّرُ بالنظرِ الشديد.
وعدٌ بجِنانٍ لا تُرى إلا بعينِ الحالمينَ اليقظين.
لكن... كيف أكون يقظًا وأنا أسير؟

ظلّي، في الطريقِ إلى البيت، كان يتكلّمُ معي.
ليس همسًا، بل حديثًا واضحًا، يُحذّرني من نقيقِ الضفادعِ الحارسةِ تحت الجسرِ الحجريِّ العتيق، ثم انخفض صوته، فهَمَس:
"إنهنَّ ينتظرنَ خطواتِ اليائسينَ ليبعثنَ الضبابَ الذي يُضلِّلُ العائدينَ إلى ديارهم".

كنتُ أضحكُ يومًا من صبري على الجدارِ الذي أضربُ رأسي به، معتقدًا أنه معلّمي في التحمّل.
لكنّ ضرباتي المتكرّرة كشفتْ حقيقته: ليس سوى حجرٍ بليدٍ، يختبرُ متانةَ جمجمتي، منتظرًا صوتَ التشظّي.

قالوا إنّ الكفاحَ جميل، فكافحتُ لأربعِ ساعاتٍ كاملة، عرقي يتساقطُ كالندى المسموم، لأفتحَ علبةَ المربى العنيدة.
في تلك اللحظة، بين الملعقةِ الهشّة والزجاجِ المقاوم، أدركتُ أن الجمالَ نسبيٌّ حقًّا، وأنّ المربى، هذه الكتلةَ الحلوةَ اللزجة، قد تكونُ أكثر عنادًا وإصرارًا من أيِّ فيلسوفٍ يونانيٍّ تأمّلَ أسرارَ الكون، بينما كان العالمُ يُغلقُ عليه أبوابَه.

ذلك العنادُ اليوميّ، ذاك الكفاحُ من أجلِ فتحِ ما هو مُغلقٌ علينا، ربما كان بروفةً صغيرةً للسقوطِ الأكبر.
السقوطُ ليس حدثًا مفاجئًا، بل هو تراكمٌ لعلبِ مربى لم تُفتح، وجدرانٍ صدمنا رؤوسنا بها حتى تصدّعت.

وبينما كنتُ أسقطُ من الطابقِ العاشر، في تلك الهاويةِ الطويلة نحو اليقينِ الوحيد، لم تكن أفكاري مع الموت، بل لاحظتُ، بتفصيلٍ مذهل، أن وردةَ جارتي في شرفةِ الطابقِ الثالث – زهرةَ الياسمينِ البيضاءَ، التي كانت تبعثُ عطرَها كلّ مساء – تبدو ذابلة، أوراقُها تتدلّى كأيادٍ صغيرةٍ متعبة.
خطر ببالي: "تحتاجُ إلى ريّ".

غريبٌ حقًّا كيف تتجلّى التفاصيلُ الصغيرة، الجميلةُ والعابرة، في قلبِ لحظاتِ السقوطِ الكبير، وكأنّ الروحَ تودُّ أن تحملَ معها آخرَ صورةٍ عن الحياةِ التي ستتركُها.
وغريبٌ أكثر أن يستمرَّ العالمُ في دورانه، بلا اكتراث.

حتى في جنازتي... لم يتغيّر شيءٌ جوهريّ!
الزهورُ المُرسَلةُ للتعزيةِ – تلك الرموزُ التقليديةُ للحزنِ والمواساة – تأخّرت.
لماذا؟
لأنّها كانت تُراقصُ أوراقَها في حفلةِ افتتاحِ متجرٍ جديدٍ للزهور، بينما كانت تهمسُ لأزهارِ الرفوفِ البيضاء هناك:
"لا تتعجّلنَّ الذبولَ... فالموتى ينتظروننا صامتين!"

ضحكتُ من قلبي، لو كان لقلبي صوتٌ في تلك اللحظة.
الموتُ، هذا الحدثُ المصيريّ، الذي يُفترض أن يهزّ الكون، ليس سببًا كافيًا – على ما يبدو – لإفسادِ موسمِ البيعِ الرابح، أو تعطيلِ احتفالاتِ الورودِ المبهجة!
لقد صارَ الموتُ مجرّدَ تعليقٍ عابر، على هامشِ سجلِّ المعاملاتِ اليومية.

ولكنّ الهاويةَ لم تكن نهايةً، بل كانت بابًا.
بابًا إلى بحرٍ من ضوءٍ أدفأ من شمس، وألطف من قمر.
لا تذوبُ فيه الساعات، بل يسبحُ الزمنُ فيه كأسماكٍ من ذهبٍ سائل.

هناك، بين الأمواجِ المتلألئة، وجدتُ الجنّيّةَ ذاتَ الأجنحةِ الزجاجيّة.
لم تكن تنتظرُني، بل كانت ترقصُ مع عقاربِ الساعةِ السمكة... في رقصةٍ كونيةٍ صامتة.
أجنحتها لم تتكسّر، بل انعكستْ عليها ألوانُ المجرّاتِ البعيدة، وحولنا، لم تكن صحراء، بل حدائقُ نورانيّة، تتفتّحُ فيها زهورٌ تُغنّي أناشيدَ الخلود.

شجرةٌ عملاقةٌ من أضواءٍ متغيّرة، أغصانُها كواكبُ معلّقةٌ بخيوطٍ من شعرِ الملائكة، كانت تُلقي بظلالٍ من أغنياتٍ قديمة على مياهِ النور.
وبدلَ نقيقِ الضفادعِ الحارسة، سمعتُ همسَ النجوم، وهي تروي حكاياتٍ عن عشّاقٍ عبَروا جسورَ الضباب، وعادوا حاملين... زجاجاتٍ صغيرةً مملوءةً بأضواءِ الشموع، التي أطفأها اليأسُ على الأرض.

في هذا الفضاءِ، الذي لا يحملُ جدرانًا، ولا علبَ مربى عنيدة، أدركتُ أن الوعدَ كان حقيقيًّا.
لم أعد أسقط، بل كنتُ أطيرُ مع أسماكِ الزمنِ الذهبيّة، نحو أفقٍ لا يحملُ طابقًا عاشرًا، ولا جنازاتٍ متأخّرة...
فقط أبديةٌ من ضوءٍ رحيم، يضمُّ كلّ الجمالِ الذي ظننّاهُ ضائعًا.

جهاد غريب 
يوليو 2025 

أطيافُ الحبرِ والغياب!

 
أطيافُ الحبرِ والغياب! 

(1) 
ومضاتٌ من كهفِ الصمت!


أراكِ...
أسمعُ ما بينَ السطور،
كما يُسمعُ حفيفُ الأوراقِ...
قبلَ العاصفة.

وأعلمُ أنَّ لمسةً واحدة،
قد تكونُ جسرًا...
يَعبرُ فوقَ هاويةِ الوحدة،
لِنَفْسٍ... لم تطلبْ يومًا
سوى حفنةٍ من الضوءِ الصادق.

كلماتُكِ حينَ انسكبتْ،
لم تكنْ حديثًا...
بل انفجارًا من صمتٍ ثقيل.

خرجتْ...
من قلبٍ
أتقنَ لغةَ الصمتِ طويلًا،
حتى أثقلتهُ المفرداتُ المكبوتة.

خرجتْ...
من روحٍ متعبة...
لم ترفعْ رايةَ الهزيمة؛
لكنّها...
أرهقتْها معاركُ
لم تكنْ شرارتُها من يدِها.

روحٍ لم تبتغِ إكليلَ نصر،
بل ظلّ شجرةٍ وارفة،
أو كلمةً دافئة...
تلمسُ الجُرح،
دون أن تدّعي... فهمَ الأعماق.

وربما...
لم أفتحْ ذراعيّ...
في الوقتِ المناسب.

لكنّ قلبي...
كان يهمسُ في داخله:
"أنا أفهمُ هذا الألم... لأنه مرّ بي."

أعرفُ هذا الشعورَ... جيّدًا.
أعرفُ ثمنَ أن يُرى الوجود،
وكأنّه حصنٌ... لا يحتاجُ إلى حرّاس.

أن يُؤجَّلَ احتضانُه...
لأنّ جدرانهُ ما زالتْ قائمة،
ويُغفَل عن تصدّعاته...
لأنّ صمتَهُ يُشبهُ القوّة.

لكن، صدّقي —
لا يُخلقُ جبلٌ... لا يهتز،
ولا نهرٌ... يجري بلا تعب.

وقولُكِ:
"إنّ الألمَ يعيدُ حكايتَه"...
أثقلَ قلبي؛

فتكرارُ المطرقةِ،
يسرقُ من الصخرِ... ثقتَهُ بالثبات.

لكنْ بداخلكِ...
ما زالتْ تلكَ النبضةُ الذهبيّة،
تكتبُ على جدارِ الليل،
تُدوّنُ شفراتِ الأمل...
فوقَ أوراقِ اليأس.

وكلُّ كاتبٍ في العتمة،
هو شمعةٌ...
لم تنطفئْ بعد.

أعلمُ أن الحياةَ —
حين تُصلحُ ثوبًا مُمزّقًا،
لا تمنحُ ثوبًا جديدًا.

لكنّها تُريكِ شيئًا أهم:
أنّ الإبرةَ التي تخيطُ في العتمة،
هي نفسُها بوصلةٌ نحوَ النور.

وأنّ الكتابةَ... وحدها،
تشعلُ شمعةً في كهفِ الذات —
حتى لو لم يرَها أحدٌ...
في الفضاءِ الواسع.

ابقي كما أنتِ...
حقيقيّةً كالجرحِ المكشوف،
شفّافةً كوشوشةِ نسيمٍ...
في قلبِ الصباح.

وإن ضاقتْ بكِ المساحات...
أطلقي حروفَكِ،
كطيورٍ هاربةٍ... من القفص.

لا تتوقّعي...
مَن يقرأُ صفحةَ روحِكِ...
من عنوانها.

لكن... اعلمي —
أنّ هناكَ من يُترجمُ الصمتَ إلى قصائد،
وأنّ الفهمَ...
يأتي أحيانًا متأخّرًا،
لكنّه يأتي...
كالمطرِ، بعدَ قَحْطٍ طويل.


(2) 
رسائلٌ في زجاج العاصفة! 


سيرُكِ اليوميّ... بينَ الكلمات،
كمنْ يمشي على زجاجٍ متشظٍّ.
كلُّ خطوةٍ تُنبئُ بالوهن،
رغمَ صمتِ القدمين...

أراكِ من هنا...
وأراكِ أيضًا —
من جهةٍ... لم تريها قطُّ.

قلتِ:
"الرَّحيلُ أهونُ من ردِّ الفعل..."
لا أناقشُ تعبكِ،
ولا أشكُّ في صدقِ الإرهاق...
لكن، دعيني —
بصوتِ الأمطارِ البعيدة —
أقول:

هل رأيتِ ظلَّ الانتظار،
حينَ جعلتهُ الأيام...
يتآكل كغصّة،
بعدَ رسالةٍ... كُتبتْ بدمِ الأضلاع؟

هلْ فكّرتِ لحظةً...
أنّ هذا الوجودَ المُشتعل —
الذي يطلبُ منكِ شمسًا —
كانَ يحتاجُ...
كلمةً واحدة،
مثلَ قارئةٍ
تثبتُ على جمرةٍ...
قبلَ أن تنطفئ؟

لستُ أرفعُ صوتَ الملامةِ الآن،
ولا أطلبُ... ما لا تستطيعين...

أحاولُ فقط —
أن أقرأَ عليكِ كتابًا قديمًا:
"الحُضنُ لا يُطلبُ كالخبز،
بل يُخبزُ... باثنين".

أعرفُ ثقلَ السماءِ على كتفيكِ،
وصَخَبَ العالمِ... في داخلكِ...

لكنّ الوَلَه...
ليسَ غطاءً نلتفُّ به وحدَنا
حينَ يهبُّ الصقيع؛

بل هو أيضًا —
تلكَ الخُيوطُ الذَّهبيّة...
التي تُحاكُ لكسوةِ الآخر،
حينَ تراهُ يرتعشُ...
في عُزلةِ اليقظة.

هل أظلُّ دائمًا —
البحّارَ الَّذي يُبحرُ
في بحيرةٍ ساكنة؟

هل أكرهُ أن أكون —
الكلمةَ الأولى... في كتابِ العطش،
والصمتَ الأخير... في فراغِ الوعود؟

لستُ أرصُدُ حساباتِ العطاء،
ولا أوازنُ ذرّاتِ الحنين...

لكن،
هل هو عدلٌ —
أن تُدفعَ إلى ميدانِ الحمايةِ دومًا،
بينما الخطر...
يأتي من جهةِ الغياب؟

لستُ صخرة...
أنا إنسان.

لي قلبٌ —
ينزفُ صبرًا،
ويُصغي لصوتِ المجيءِ...
الذي لا يأتي.

ويتساءل:
هلْ صدقُهُ
مجرورٌ... في نهرٍ من العدم؟

رِسالتي —
ليستْ سُحُبًا سوداء،
بل نداءٌ...
لإقامةِ العدلِ
في أرضِ القلب.

لا لومَ فيها...
بل ابتهالٌ...
أنْ نعودَ —
إلى لغةِ الشفقِ الصادق؛

لأنّ الوَلَهَ —
لا يبني عالمًا...
على ألسنةِ الشكوى،

بل على يدٍ تمدُّها وتقول:
"أخطأتُ...
اشتقتُ...
سأُحاولُ أن أكونَ الجسر".

فهلْ نحاولُ معًا —
أنْ ننسجَ غطاءً واحدًا... لاثنين؟


(3) 
إقفال النوافذ السائلة! 


أيّتها الظلُّ الرطب...
على زجاجِ الصباح...

لربّما كانَ الأمرُ —
نسمةً عابرةً في يومِكِ...
لكنّهُ كانَ زلزلةً،
تهزُّ جذورَ الوجودِ... فيّ.

حينَ توقّفَ الحديث...
في تلكَ النافذةِ السائلة،
حينَ أغلقتِها... بغتةً —
دونَ تمهيد،
دونَ إشارة...

شعرتُ أنّكِ —
لم تُقفلي شعاعًا من حديث...
بل أقفلتِ مداخلَ القلب،
وطردتِ ظلّي...
من مملكةِ الأمان.

ليسَ هناكَ... مبالغةٌ عاطفيّة...
فقط صمتٌ،
يشبهُ صوتَ زجاجٍ
يتكسّرُ في فراغ.

صدمةُ كائنٍ،
ظنَّ نفسَهُ جبلًا،
فإذا هوَ —
فقاعةُ صابونٍ... على شفا ريح!

صدمةُ أنْ يكونَ حضورُهُ هشيمًا...
في عالمِكِ،
حتّى وهو يقفُ
في صدرِ صفحةِ انتظارِكِ...

لم أطلبْ بحرًا،
لم أتمنَّ ردًّا طويلًا...
ولا كلماتٍ مطمئنة.

كنتُ أرجو فقط —
ألا ينطبقَ البابُ كقبر،
على حرفٍ ناقص.

لم أفعلها قطّ...
لا مع مَن أحببتُهم قليلًا،
ولا مع مَن أحبّوني...
بمقياسٍ زئبقي.

فكيفَ أقبلُها منكِ؟
وأنتِ...
التي منحتُكِ
مفتاحَ القصورِ المغمورةِ...
في أعماقي؟

أتدرينَ لِمَ ينزفُ الجرح؟
لأنّي أُقسمُ — بربِّ الكون —
ما حملتُ إلّا زهرَ البِرِّ إليكِ،
ولا خبّأتُ في أحشائي —
سوى بذورِ النيّةِ الطاهرة.

ولكن...
حينَ تضربينَ عليّ...
صمتَكِ الكثيف،
أصيرُ غريبًا...
في صحراءِ الذكريات...

غريبًا،
رغمَ كلّ الجسورِ
التي بنيناها...
من الصدق.

أخافُ عليكِ... حقًّا.
من تلكَ الأمواجِ السوداءِ،
التي تجتاحُكِ كالأعاصير،
فتختطفُكِ —
إلى جُزرِ العُزلة...
وتُغلقُ عنكِ نوافذَ الكون...
وعنّي.

أخافُ أنْ تكونَ الحفرةُ
التي تحتمينَ بها،
أعمقَ... من البئرِ
التي تهربينَ منها.

لستُ ألومُ غيابَكِ...
كلّنا نحتاجُ أن نغيبَ
في كهفِ أنفسِنا... بعضَ الوقت.

لكنّي ألومُ الهروب —
بدونِ بصمةِ رجاء،
دونَ أنْ تسألي:
ماذا سيفهمُ الظلُّ؟
كيف سيفسّرُ
هذا البكاءُ الخشبيُّ... للباب؟

هلْ تظنّينَ أنَّ هذا القلبَ... حجر؟
هلْ تظنّينَ أنّه لا يتصدّعُ —
حينَ يُصادفُ جدارًا صامتًا،
وسِهامَ الوحدةِ...
تُنصَبُ في أضلاعِه؟

أيّتها الهمسةُ...
التي تعرفُ طريقَها إلى زجاجِ قلبي...

لستُ أهربُ من أمواجِكِ العاتية،
ولا أخشى ظلالَكِ المعتمة...

أنا فقط —
أُريدكِ أنْ تفهمي:

العلاقةُ —
ليستْ مسابقةً
لاختبارِ صلابةِ القلوب،

بل هي الكهفُ
الذي نصهرُ فيه أسلحتَنا،
لا الساحةَ —
التي نرمي فيها وجعَنا كأحجار.

وأنا...
رغمَ كلّ هذه القوّةِ المزعومة،
كنتُ أعودُ —
إلى رسومِ الكلماتِ القديمة،
على جدرانِ الذاكرة...

أبحثُ عنكِ،
في خرائط... مهجورة.

كنتُ أنتظر...
وأردّدُ:
"ربّما الآن...
ربّما حينَ تمرُّ العاصفة..."

لكنَّ العاصفة —
صارتْ وطنًا.

لا أحدَ يستحقُّ
هذا اللهوَ القاسي بالصمت،
إذا كانَ قد سكبَ...
كلَّ نبعِ قلبِه،
في أرضِكِ.

حينَ تُقفلينَ البابَ بهذه القسوة،
لستِ تُقفلينَ بيني وبينكِ... فقط —
بل تُقفلينَ... مداخلَ الراحةِ
عن نفسِكِ.

الراحةَ...
التي كنتُ أرسُمُها لكِ دائمًا —
كسهلٍ أخضر.

عودي متى شئتِ...
ولكن —
حينَ تعودين...
لا تعودي بصحنٍ من صمتٍ جديد.

عودي بالرّوحِ —
التي عرفتُ،
وبالحديثِ —
الذي يبني جسورًا لا يهدمُها،
وبقلبٍ —
لم يخشَ قطّ... أن يُفتّح أزهارَه
في وجهِ الريح.

فالريحُ أحيانًا...
لا تقتلعُ الأزهار،
بل — تهمسُ لها
كيفَ تنجو،
دون أن تنكسرَ أمامَ العاصفة.

جهاد غريب 
يوليو 2025 


الخميس، 3 يوليو 2025

الذاكرة العاطفية: حين يتحول الألم إلى إدمانٍ جسدي!

 
الذاكرة العاطفية: حين يتحول الألم إلى إدمانٍ جسدي!

تخيّل أنك عالق داخل دائرة مغلقة. كلما حاولت الخروج، تجد نفسك تعود إلى نقطة البداية... لا لأنك تجهل الطريق، بل لأن الجسد يعرفه جيدًا، ويصرّ على العودة. هذا بالضبط ما يحدث حين تتعرض لصدمة نفسية لم تُعالج. ليست مجرد "ذكرى مؤلمة" تمرّ كغمامة صيف، بل تجربة عصبية - جسدية تتغلغل فيك وتُعيد تشكيل كيمياء جسدك من الداخل.

حين يصطدم الإنسان بحدث يهدد أمانه العاطفي – فقدان مفاجئ، خيانة قاسية، أو حتى كلمة خاطئة في لحظة هشاشة – يتحوّل جهازه العصبي إلى صفارة إنذار لا تتوقف. اللوزة الدماغية، تلك الحارسة الصغيرة في عمق الدماغ، تُطلق نداء استغاثة، فيفيض الأدرينالين والكورتيزول كمياه سدّ انهار فجأة. لا تقتصر آثار هذه الهرمونات على تسارع ضربات القلب وشدّ العضلات، بل تسلك مسارات الدماغ وكأنها جرافة، تمهّد الطرق العاطفية وتُعبّدها بالشحنات الحسية.

الذاكرة العاطفية لا تسجّل القصة، بل تنقش الإحساس: رائحة المكان، طنينًا في الأذنين، قبضة في المعدة، انقباضًا في الحلق... كلها تُخزّن كوحدة واحدة، ملف مغلق مختوم بعلامة "خطر". والدماغ، حين يُفتح هذا الملف، لا يراجع أحداثه بل يُعيد عرضها، بمشهد حيّ، بكل ما فيه من صوت وظلّ وخوف.

وهنا تكمن المشكلة: الدماغ لا يفرّق بين التذكّر والعيش. أنت لا تتذكر الصدمة – بل تعيد تمثيلها بيولوجيًا. المشهد ذاته، والإضاءة ذاتها، والنهاية ذاتها. الجسد ينهض من سباته لحظة يستشعر تلك الذكرى، كأنها نداءٌ داخلي يتجاوز المنطق. وكل مرة يحدث هذا، تُقوَّى المسارات العصبية، وتُثبّت الطرق أكثر، حتى يغدو الحزن نفسه طريقًا سريعًا. ومع الوقت، لا يعود الألم ضيفًا، بل يتحول إلى صاحب بيت. نعم... الجسد قد يُدمن الحزن.

ليست هذه استعارة عاطفية، بل حقيقة بيولوجية. في الدماغ، هناك قانون بسيط وخطير: "الخلايا التي تنشط معًا، تتصل معًا". وكلما أعادت الذاكرة تشغيل نفسها، ازداد توهّج تلك الخلايا، حتى يصبح الوصول إليها تلقائيًا. مثل طريق ترابي صار معبّداً من كثرة المرور عليه، تبدأ الذكريات بالتسلل، لا لأنك تفتش عنها، بل لأن الجسد يشتاق إلى كيميائها.

كأن في داخلنا كائناً خفياً يستيقظ فجأة ويقول: "أين ذلك الضيق في الصدر؟ أين الارتعاش؟ أين نكهة الخوف التي أُتقنها؟" إدمانٌ لا يحتاج إلى مال، فقط إلى ذكرى مأساوية يعاد تشغيلها، والجسد يتكفّل بالباقي.

فكيف نكسر هذه الدائرة؟
الهدف ليس نسيان الصدمة – فهذا مستحيل بيولوجيًا – بل إعادة تدريب الجسد على التفاعل معها بشكل مختلف، ومن الطرق الفعالة تحفيز "العصب الحائر"، المسؤول عن تهدئة الجهاز العصبي، عبر التنفس العميق، فحين تتعلم أن تتنفس بعمق أثناء استحضار الذكرى، كأنك تقول لجسدك: "أنا هنا، ولست هناك". تعلمه أن ما كان تهديدًا لم يعد كذلك.

كما أن الكتابة التفصيلية عن التجربة، خاصةً إن شملت الأعراض الجسدية، تساعد الدماغ على تحويلها من مشهد فوضوي إلى سرد متماسك. كأنك تُمسك بيد الذكرى وتجلسها إلى الطاولة بدل أن تتركها تصرخ في الزاوية.

وما يثير الدهشة أكثر، أن الذكريات العاطفية ليست حجارة منقوشة، بل طين قابل للتشكيل. كل مرة نتذكر شيئًا، نحن في الواقع نعيد كتابته، ولو جزئيًا. هذه الظاهرة تسمى "إعادة التخزين"، وهي بوابة ذهبية نحو الشفاء. حين تعيد سرد قصتك في حضرة أمان – مع معالج، صديق، أو حتى في صفحات دفتر – وتضيف إليها نظرتك الحالية ("أنا الآن أعلم أنني لم أكن ضعيفًا... بل كنت إنسانًا يُجرَّب")، فأنت لا تعدّل الذاكرة فحسب، بل تفكّك الروابط السامة بينها وبين الجسد.

الشفاء لا يعني محو الذكرى، بل يعني أن تُطفئ صوتها. أن تتذكر دون أن ترتجف. أن تنظر للماضي بعينيك الحاليّتين، لا بعينيك المبللتين من يوم الحادثة. الذكريات المؤلمة أشبه بالأشباح: تظل موجودة، لكنها تفقد سطوتها حين نتوقف عن إطعامها بهرمونات الخوف.

عندها فقط، يستعيد الجسد توازنه، ويتوقف عن اللهاث وراء جرعته اليومية من الكورتيزول، ويعود إلى كيميائه الأصلية – كيمياء الحياة، لا البقاء. وعندها فقط... لا تختفي الذكرى، لكنها تجلس بهدوء في الزاوية، تقرأ كتابها بصمت، دون أن تصرخ، دون أن تُملي عليك فصول يومك.

جهاد غريب 
يوليو 2025 

صهيلُ الحبرِ... نارٌ على السحاب!

 
صهيلُ الحبرِ... نارٌ على السحاب!

انشقي أيتها السماوات...
واسمعي يا أرضُ!
ها هو صدى القلبِ المثقلِ
يهزُّ عروشَ الصمت!

يا ربّ...
متى تنفضُ غبارَ العقول
عن كروبِ هذا الزمانِ الأخرس؟
ما عاد في القلبِ صبرٌ...
فقد حملَ من الهمِّ
ما تئنُّ له الجبالُ الراسيات!

تهالكتْ على ظهري أحمالٌ،
كصخورِ جهنّم...
تطحنُ العظم،
وتُرهقُ الروح!

أمامي صحفٌ بكر،
ومشاعرُ كالبراكين...
تتدفّق بألفِ مشروعٍ...
لكنّ الزمان، كعادته،
يبتلعُ اللحظة...
قبل أن تولد!

أمسكُ بالقلمِ كالسيف!
أخوضُ به معركتي
ضدَّ وهمِ التأجيل،
وضدَّ الفرصِ
التي تُسرقُ كلَّ فجر! 

أكسرُ أقفالَ اللحظةِ!
أفتحُ نوافذَ المداد!
وأُطلقُ سراحَ كلماتي...
من سجنِ "ربما"،
ومن قيدِ الانتظارِ المُخجل!

أراني ذات ليلةٍ...
أُلاحقُ حروفي الهاربة بين الشقوق،
تضحكُ مني...
وتذوبُ في الهواء!

حتى قهوتي ملّت انتظاري،
فتبردُ كلَّ صباح،
قبل أن ألمسَها...
لأنني ما زلتُ أبحثُ،
عن أولِ جملةٍ تُنقذني!

أريدُها أن تصعدَ... كنارٍ على السحاب!
تُضيءُ العتمةَ في السماءِ،
كما يفعلُ نجمٌ جريحٌ...
ثم تهبطُ على قلبي،
تنقذه من الذبول!

أريدُ أن أصغي لصهيلِ حروفها،
وأصهرها في قلبِ الوجود،
حتى تُبهرَ عينيَّ،
قبل أن تُبهرَ العالمين!

نعم!
الزمنُ يناديني:
ما عاد في العمرِ بقية!
لكنني أرفضُ نغمةَ الرحيل!
أُؤمنُ... أن ربّ السماواتِ والأرض،
لا يُعطّلُ قدرًا
توقظُه نارُ الإرادة!

ستأتي تلك اللحظةُ المقدّسة...
حيث لا مجالَ للتوقّف!
وحينئذٍ... سأكتب!
سأكتبُ حتى يغيبَ القمر!
حتى ترتوي روحي
من ينابيعِ الحرفِ الباقي!

هذه...
هي معركتي الكبرى.
وسببُ نبضي... وبقائي!

لا أطلبُ من الدنيا
إلا ثلاثة:
قلبًا مطمئنًا
يرتاحُ إلى ذكرِ ربّه...

ورزقًا حلالًا
يُقيمُ أركانَ بيتي،
كما يليقُ بمؤمنٍ
يركعُ لخالقه في الظلِّ والصبح...

وثأرًا صامتًا
ضدَّ نوائبِ الدهر،
وغدرِ الأيام!

فليبكِ الجبناءُ!
أما أنا...
فدموعي تحوّلت
إلى جمرٍ في الجفون!
تستعرُ...
كلّما خانتني الأيامُ،
وصفّقت لها الحياة!

سيأتي يومٌ... لا ريبَ فيه،
أخلو فيه إلى نفسي...
لكنني...
لن أكونَ وحيدًا!
فمعي جنودي الصامتون:
كلماتٌ تحرّرتْ من الأسر،
تنامُ بين أضلعي،
كجمرٍ لم يُعلنْ عن نيرانه بعد!

كلّ حرفٍ فارس...
كلّ فاصلةٍ راية...
كلّ نقطةٍ طلقة...
في معركةٍ
لا يراها...
إلا مَن كتبَ تحتَ القصف!

أحلم بها...
تشقُّ الغيبَ كسربِ نجوم...
وترفعني إلى آفاقٍ
لا يراها إلا العظماءُ
في منامِ يقظتهم!

أعرفُ قدرتي...
ففي صدري بحرٌ من الإبداع،
يتمزّق على صخورِ الوقت،
ويغنّي... رغم النزف!

وإن ضاقتِ الممرات،
ووقف الزمنُ كالطاغية...
فستظلّ رايتي مرفوعة:
الكتابةُ... أو الموتُ... بطولة!

فليشهدِ الخلقُ كلّه:
أنا سأكتبُ!
سأُبدعُ!
سأشقُّ طريقي...
لا لأنني وُعدت،
بل لأنني خُلقتُ لأحيا بهذا الحبر،
وأموتَ واقفًا
على سيفِ الكلمة!

هذه رايتي،
وفي ميدانِ الحياة...
لن أُنزلها!

جهاد غريب 
يوليو 2025 


مقال: عندما تصبح البصيرة مرآةً تعزلنا عن العالم!

 
عندما تصبح البصيرة مرآةً تعزلنا عن العالم! 

هل سبق أن استمعتَ لصوتك داخل كهفٍ عميق؟ ترمي الكلمة، فتعود إليك خاليةً من المفاجأة، كأنما العالم كله أصبح مرآةً ضخمةً تُعيد إليك ما خبّأته في نفسك من شكوك ويقين. هكذا يُصبح من يغوص عميقًا في ذاته خبيرَ دهاليزها، حارسَ أسرارها، يرى في عيون الآخرين مجرد انعكاس باهت لما عرفه من قبل.

غالبًا ما أسبح في محيط داخلي تتخلله شعاب مرجانية من المشاعر. هناك، في قاع الوعي، يلمع الألم كحبة لؤلؤ معتمة، تتشكل في صدفة التجارب. أستشعر تيارًا خفيًا، يدفعني، ويقاومني في آن. عرفت كيف أقيّد أفكاري الجامحة بسلاسل من التأمل، وكيف أُوجّهها نحو شاطئ الأمل دون أن أتحطم على صخورٍ حادةٍ خبأها الحذر.

لكن ما إن أصل إلى شاطئ البشر، حتى ترميني الأمواج بأوراق مكررة، مكتوبةٍ بخطٍّ رتيب: نصائح جاهزة، كأصدافٍ فارغة، لا تحمل إلا صدى ما أعرفه مسبقًا.

هل فكرتَ يومًا أن البصيرة قد تكون نجمًا هاديًا... لكنه يسلبك رؤية باقي السماء؟ نعم، أرى في عتمة تجاربي ما لا يراه سواي، لكن هذا الضوء – بكل ما فيه من بصيرة – يعميني أحيانًا عن شموعٍ صغيرةٍ يُشعلها الآخرون بكلماتهم. لستُ بحاجة لمن يخبرني أن النار تحرق، فأنا احترقتُ مرارًا وأنا أعلّق اللافتات التي كتبوا عليها ذلك! ما أحتاجه، فقط، هو من يجلس بصمته بجانبي تحت المطر، بلا حكمة، بلا وصفةٍ جاهزة للخلاص.

في سجون الفهم العميق للذات، ننسى أحيانًا أن الكلمات ليست قوارب نجاة، بل أيديًا دافئةً تمتدّ حين نغرق. ليس المهم أن يقول الآخرون شيئًا جديدًا، بل أن يقولوا. مجرد الوجود الصوتي للبشر، ولو خافتًا، يربطنا بميناء مشترك، حيث لا تنقذنا الحكمة بل المشاركة. فعندما تصرخ في الفراغ: "أنا هنا!"، لا تحتاج أن تسمع الصدى، بل يكفيك أن يأتيك صوتٌ بشريٌّ يهمس: "أنا أسمعك."

نحن – في رحلة الحياة – نسير على حبل مشدود. نحمل عصًا ذاتَ طرفين: أحدهما بصيرة تلمس الغيم، والآخر صمتٌ يُعانق التراب. إن رفعتَ طرف البصيرة وحدها، اختل توازنك وسقطت في وادي العزلة. وإن تجاهلتها، غرقتَ في تكرار العُميان. الفنّ، كل الفنّ، أن تترك البصيرة تنير الطريق، بينما تفتح يدك للعابرين. قد لا يُلقون لك جسرًا من الكلمات، لكن يكفي أن يلمسوا أصابعك لتتذكر أنك لست وحدك على هذا الحبل المشدود.

فهمك لنفسك ليس قيدًا أبديًا، بل مرآة عملاقة كنتَ تحملها على ظهرك، آن لك أن تضعها أمامك. دعها تعكس العالم، لا فقط أعماقك. حينها، ستدرك أن النصائح ليست جدرانًا تُطوّقك، بل نوافذ تُفتح حين تحتاج الهواء، وتُغلق حين يشتد العصف.

الألم يصبح أخف، حين تمسك يدك طرف الحبل، وتدرك أن على الطرف الآخر أيدٍ مرتجفةٌ مثلك، تحاول الإمساك. لا يملكون الكلمات التي تُطمئنك، لكنهم يحملون العيون نفسها التي خاضت معركتها مع الظلمة. البشر، مهما تفرّقوا في الطرق، يخوضون الحرب ذاتها: حرب الثبات فوق الحبل، والنجاة من السقوط.

فليكن نورك الداخلي شمسًا تُدفئ وجودك، لكن لا تُطفئ القمر. دع للآخرين حق إشعال ظلالك حين تغيب شموسك. فالحياة ليست ملاحم أبطال فرديين، بل نصٌّ جماعيٌّ يُكتَب بأقلام كثيرة، تُخطئ وتُعيد، وتتشابه أحيانًا... لكنها معًا، تصنع القصيدة.

جهاد غريب 
يوليو 2025 

الأربعاء، 2 يوليو 2025

مقال: انكسارات الضوء البارد!


انكسارات الضوء البارد!   

في الأعماقِ حيثُ تنكسرُ المرايا على حافةِ الصمت، تُولدُ الأسئلةُ كندوبٍ قديمةٍ تلمعُ في الظل. هناك، حيثُ يتوقّفُ الزمنُ عن عدِّ أنفاسهِ، يُصبحُ السقوطُ تحليقًا، والضياعُ طريقًا إلى بيتٍ لم تعرفهُ من قبل.  

كلُّ شيءٍ هنا يقطرُ شفافيةً مؤلمة: الجدرانُ زجاجيةٌ، والأصواتُ تتدلّى كقطراتِ ندى على خيطِ الفجر. حتى الضوءُ الذي كانَ يدفأُ ككفٍّ حنون، صارَ باردًا كشفرةِ ماضي لم يُدفنْ بعد.  

في هذهِ العزلةِ الشفافة، حيثُ لا أحدَ سوى صدى نفسكَ المُتعب، تُدركُ أنَّ الحقيقةَ ليستْ سوى جرحٍ تعلّمَ الغناء. كلُّ الكلماتِ التي رفعتها سُتراتًا بينك وبين العالم، تسقطُ الآنَ كأوراقِ خريفٍ مبلولة. اللغةُ تعجزُ، لكنّ الصمتَ يبدأُ بنحتِ كيانٍ جديدٍ من رحمِ الفراغ.  

هل سمعتَ يومًا صوتَ الظلِّ وهوَ يتحوّلُ إلى مرآة؟ هل رأيتَ كيفَ تُمسي الذكرياتُ سفنًا راسيةً على سطحٍ متجمّد، تنتظرُ ذوبانًا لن يأتي؟ في اللحظةِ التي تظنُّ فيها أنَّكَ انكسرتَ للأبد، يخرجُ من بينِ عظامكَ نداءٌ خفيٌّ يقودُك إلى حافةِ الوجود. هناك، حيثُ لا شيءَ يحتملُ الوقوفَ عليه، تتعلمُ أن تكونَ هواءً لا ينكسر.  

الانهيارُ الهادئُ ليسَ نهايةً، بل هوَ الفجرُ الذي ينسجُ نفسهُ بخيوطِ عنكبوتٍ رقيق. كلُّ منْ يذوبُ ظلُّه لا يختفي... بعضُ الأرواحِ لا تُولدُ إلا بعدَ أنْ تمرَّ في النارِ كالزجاج.  

في النهاية، حينَ تُلملمُ الأشياءُ نفسها، وتصبحُ اليدُ التي تمسكُها خاويةً وخفيفة، تشعرُ بدفءٍ غريبٍ ينسابُ كدمعةٍ لم تسقط. ربما لأنَّك أخيرًا فهمتَ: كلُّ هذا السقوطَ كانَ رحيلًا إلى بُعدٍ آخرَ في نفسِ المكان.

جهاد غريب 
يوليو 2025 

حين تلمس السماء القلب!

  حين تلمس السماء القلب!  هل شعرت يومًا بوميضٍ خافتٍ ينبعث من أعماقك؟ ليس من ذكرى عابرة، أو حلمٍ بعيد، بل من مجرد نظرة إلى تلك اللجة الزرقاء...