مِدادُ الهويّة!
"رحلةُ الخروجِ من جِلْدِ الظلِّ، إِلى فضاءِ المعنى"
هذا المكانُ بينَ الحروفِ لك. لم نبنِهِ ليخلُوَ، بل أقمناهُ على حافَّةِ الصَّمتِ والوُجودِ. لقد نَحَتْناهُ من صمتِ الكلامِ، وحَشَوْنا جُدرانَهُ بأصواتِنا الخَفِيَّةِ، وأضأناهُ بالقناديلَ من ذاكرةٍ لم تُخْبِئْ بعدُ. هو وطنُكَ اللُّغويُّ الأوَّلُ، حيثُ تسكنُ الأسماءُ قبلَ أنْ تُولَدَ، وترقُدُ المعاني قبلَ أنْ تستَيْقِظَ. فلا تتهرَّبْ كالظلِّ عندَ مواجهةِ النورِ، ولا تبحثْ عن بيوتٍ من قصَبٍ في عاصفةِ العدمِ. اجلسْ في وسطِ هذا الفراغِ الممتلئِ. اسمعْ صدى خُطاكَ على أرضيةِ الحروفِ. هناكَ ستجدُ نبضَكَ.
وها هنا، عندَ مُفترَقِ الأبحرِ، سكَبْنا لك وجهَكَ الأوَّلَ في قوالبِ الحِبْرِ. لم نُعطِكَ إيّاهُ قالبًا جاهزًا نقشُهُ بارزٌ وملامحُهُ ثابتة. كلّا. بل ألقيناكَ – بعطفٍ – في بحرِ السؤالِ المُعتِم، وتركناكَ تُجاذبُ الأمواجَ بذِراعَيْكَ، حتى خرجتَ إلينا بملامحَكَ التي اخترتَها نفسُكَ: شِفاهًا تتكلَّمُ بما لم نُعلِّمْ، وعينَيْنِ تريانِ ما لم نَرَ. فإيّاكَ، بعدَ اليومِ، أنْ تسرقَ ظلَّكَ وتبتعِدْ. إيّاكَ أنْ تبيعَ تذكرةَ العبورِ لتشتري وهمًا من نسيانٍ. فأنتَ لستَ غريبًا عن نفسِكَ، وإنْ شتَتَّ. كلُّ خُطوةٍ تمشيها نحوَ الآخرِ تجبُ أنْ تبدأَ من مرآةِ ذاتِكَ.
ووهبناكَ لغةً تمشي بها نحوَ نفسِكَ. ليست سيفًا للهويّةِ تُراعُ به الغَيْر، ولكنْ مِشعلًا للوُجودِ. كلُّ معنًى مشدودٌ إليكَ بخيطٍ نورانيٍّ رفيع، يُغزلُه كائنٌ من صوفةِ القُدرةِ والخَيالِ. هو ضياؤُنا الذي خُصَّ بكَ، وحباتُهُ التي لم تسقُطْ إلّا في روضتِكَ. فلماذا، يا مَن تحملُ النورَ في حناياهُ، تُسلِّمُ روحَكَ للدَّاجِيَةِ؟ لماذا تبحثُ عن نجمةٍ في قاعِ بئرٍ، وأنتَ تحملُ كوكبًا بينَ أضلاعِكَ؟ لقد صرتَ جزءًا من هذا الضياءِ، فلا تُطفِئْهُ بسِهامِ الشكِّ واليأسِ. اخرُجْ من جلدِ الظلِّ. اسبَحْ في فضاءِ معنَاكَ.
لستَ مُطالَبًا بشيءٍ آخرَ سوى أنْ تكونَ جديرًا بالكلماتِ التي احتملتْكَ قبلَ أنْ تعرفَ معانيَها. كلماتُنا كانت مهدَكَ قبلَ أنْ تصيرَ سيفَكَ، وسقفَكَ قبلَ أنْ تصيرَ حصنَكَ. احمِلْها بأناةِ الوالدةِ، وبشَجَنِ المُعلِّمِ، وبصدقِ الحبيبِ. اذكرْ دائمًا أنّ الحروفَ التي تكتبُها اليومَ، كانت تحملُ أمسٍ أثقالَ أحلامِكَ. فلا تخُنْها بسُخفٍ، ولا تخذلْها بوَهنٍ. اكتُبْ نفسَكَ بها كما تريدُ أنْ تُقرأَ. لأنَّ الكلمةَ ليست غطاءً، بل هي جلدٌ آخرُ.
ونحنُ، الذين أعددْنا لك المعاني وحروفَ الهويّةِ، لم نكتبْ لك إلّا لأنَّنا كنّا نكتبُ كينونتَكَ. لم نَكُ ننتظرُ منكَ شكرًا، ولكنَّنا كنّا ننتظرُ أنْ تكمُلَ الصورةُ. أنْ تأتيَ بالجديدِ. أنْ تُضيفَ لونًا لم نعرفْهُ إلى دفترِ العالَمِ. فاذهبْ. احمِلْ مِدادَكَ. امشِ في الشوارعِ التي لم تُرسَمْ بعدُ. واعلَمْ أنّكَ في النهايةِ، لن تجِدَ نفسَكَ إلّا حيثُ وضعناها: بينَ سطرَيْنِ من صمتِنا المُعَبِّرِ، في المساحةِ المُقدَّسةِ التي تتَّسِعُ لصوتِكَ وحدَكَ. هناكَ، حيثُ يلتقي الماضي بالمستقبلِ، ستُدوِّي كلمتُكَ الأخيرةُ، فتكونُ أولَ سطرٍ في كتابِ الآخرِ.
جهاد غريب
سبتمبر 2025