الخميس، 5 يونيو 2025

الثقة: قلب أغمض عينيه ونام بين يديك!

 
الثقة: قلب أغمض عينيه ونام بين يديك! 

كانوا يقولون: "أثق بك"، وكأنها وردة تُمنح دون أشواك. لكنهم لا يعرفون أن هذه الكلمة لا تنمو في الحناجر كما تنمو الكلمات الأخرى… إنها لا تنبت إلا من جذرٍ ضاربٍ في الروح، ولا تُقال إلا حين يهتز القلب في صمته ويصرخ. الثقة؟ إنها ليست حروفًا نُطلقها كما نُطلق السلام على الغرباء، ولا هي مجاملة تُزهر في موائد المجاملات... إنها ميثاق غير مكتوب، عقد لا تراه العين لكنك تحمله في صدرك كصندوق أسرار، إن انكسر مرة، لا يعود كما كان.

الثقة ليست حبًا، ولا تمنِّيًا للخير، ولا حتى دفئًا عابرًا في ليلة برد… كثيرون يظنون أن من يثق بك يحبك، وأن من يقول: "أنا أثق بك" يتمنى لك الغد الأجمل. يا لسذاجة هذا التصور!

الثقة ليست حبًا، بل نُبل. قد أضع روحي بين يديك دون أن أودّك، فقط لأنني أراك جديرًا بها، وقد أُحبك حبًا يتعدى الجبال والبحار، ولا أستأمنك على سرٍّ صغير، لأن قلبي يعرف ما لا يقوله اللسان.
الحب غريزة، قد يولد من لحظة دهشة، أو نظرة صامتة، أما الثقة… فهي قرار شجاع، لا يصنعه القلب وحده، بل يوقّعه الضمير والعقل معًا، وتدفع ثمنه من هدوئك وأمانك، فإن خُذلتَ، لا يعود شيء كما كان… حتى نفسك.

الثقة لا تُفهم بالعقل وحده، بل تُرى في أبسط المشاهد اليومية، تخيّل طفلًا صغيرًا يمسك بإصبع والده عند عبور شارعٍ مزدحم… تلك الأصابع الصغيرة لا تمسك بيدٍ فقط، بل تتمسك بعالمٍ كامل من الأمان. هذا ليس حبًا، بل يقين داخلي صامت أن هذه اليد، وإن انقلبت الأرض، لن تفلته… حتى لو مرّت عليه الجحيم بكل صخبها.

هذه هي الثقة: إيمان أعمى لا يحتاج إلى براهين، يرى ما لا تراه العين، ويشعر بما لا يُقال… إنها الطمأنينة التي تسكن القلب حين يختار أن يغمض عينيه، لا لأنه لا يخاف، بل لأنه يعلم أن هناك من سيبصر بالنيابة عنه.

لكن، كما تُمنح الثقة بصمتٍ نقي، فإن خيبتها تأتي بصوت لا يسمعه إلا القلب، وتفاصيلها لا تُرى، بل تُحس… ومن هنا تبدأ الحكاية المؤلمة.

ولأنها كذلك، فإن جرح الثقة لا يُشفى بمرهم الاعتذارات، ولا بعبارات الندم المتأخرة. إنه كسرٌ لا يُجبر، ككوب ماء سقيناه أحدهم ثم رماه أرضًا وهو ينظر في أعيننا دون أن يطرف له جفن. الثقة لا تتآكل من الخارج، بل تنهار فجأة، مثل جدار كنت تسنده بروحك دون أن تدري أنه ينهار من الداخل.

الثقة ركيزة العلاقات، لا صوت لها ولكنها تُسمع في صمت التفاصيل. أن تُصدق من أمامك دون أن تفتش في كلماته، أن تمد يدك بالسلام دون أن تتفقد أصابع الخيانة، أن تضع رأسك على وسادتك وأنت تعلم أن ظهرك محميٌّ ليس بسلاح، بل بضمير آخر يؤمن بك.

لكن الثقة ليست دائمًا ثمرة مواقف عظيمة، أو قرارات مصيرية… أحيانًا تنبت بهدوء وسط تفاصيل الحياة اليومية، حيث يختلط الأمان بالألفة، وتخدعنا العادة بملامح الطمأنينة.

ولعل أكثر ما يُنهك الثقة، هو الاعتياد، أن نثق في الجيران لأننا نراهم كل صباح، أو في البائع لأننا نشتري منه منذ سنوات، أو في الزملاء لأن وجوههم تتكرر حتى صارت مألوفة… لكن الألفة لا تعني الثقة. أحيانًا، أخطر الخناجر تلك التي تأتي من الأوجه المألوفة.

الثقة أيضًا ليست مجرد شعور ذاتي، بل جسر ممتدّ بين الذات والآخر. أن أثق بنفسي لا يعني أني أملك الإجابات كلها، بل أني أعرف كيف أتعامل مع الأسئلة. أن أقول “أنا أستطيع”، حتى لو لم أمتلك الطريق بعد، لأن في داخلي جبلًا لا يهتز… جبلاً من التجارب والخذلان والانتصارات الصغيرة التي علمتني كيف أواجه.

كم مرة خذلتنا الثقة؟ كم مرة حملناها على أكتافنا كالطفل النائم، نغني لها بصمت، ونحرسها من برد الشك، حتى استيقظت فجأة، وأدارت لنا ظهرها دون وداع؟ كم مرة سقطت من بين أيدينا كما يسقط قلب في لحظة ذهول، لا لأننا أضعناها، بل لأنها اختارت أن تذهب؟

وكم مرة أنقذتنا؟ حين وثقنا بمن يستحق، وفتحنا له بوابات أرواحنا، فدخل كما يدخل المطر بيتًا من زجاج دون أن يكسره… مرّ على الذاكرة برفق، وعلى الوجع بخفة، وعلى الكبرياء بلا خَدش.
الثقة لا تُمنح دائمًا، لكنها حين تُصيب، تمنح الحياة طعمًا آخر، وتخلق فينا قدرة على التنفس دون حذر، كأن القلب يفتح نافذته دون أن يخاف الريح، لأن الذي بالخارج… لا يهدد، بل يحنو.

في أقاصي قرى الصين القديمة، يقولون: "إن أعطيتني ثقتك، أعطيتني حياتك". نعم، فالثقة ليست شيئًا من العالم العابر… إنها عُمْق، وقرار، ورؤية لا تنظر بالعين فقط، بل بالبصيرة. وإن كان فيك ذرة من الشك، فلا تقل “أثق بك”، لأن هذه الجملة ليست قابلة للتجربة. إما أن تقولها بكلك، أو تصمت.

أذكر موقفًا ما يزال يحفر أخدودًا في ذاكرتي، حين قال أحدهم: "أنا أثق بك"، فابتسمت وقلت: "أشكرك"، ولم يعلم أنه قد سلمني سلاحًا يمكن أن يحسم المعركة… أو يحطم الحلم!، لكنه آمن، وأنا صنت. ومنذ ذلك اليوم، عرفت أن الثقة ليست شيئًا نمنحه، بل مسؤولية نحملها… أمانة، نُحاسب عليها في صمت ضميرنا.

هي ليست جملة تُقال، بل عهد غير مكتوب، كأنها شجرة تسلّمك جذورها... لا لتسقيها فحسب، بل لتحميها من الريح، ومن العطش والفأس. وحين تثق بك روحٌ أخرى، فإنها تخلع عنها درعها، وتنام قربك دون خوف، كعصفورٍ وضع رأسه في راحة يدك، وصدّق أن قبضتك لن تُطبق عليه.
ذلك التصديق… هو جوهر الثقة، لا يُشترى، ولا يُستعار، بل يُنتزع انتزاعًا من تربة القلب، ويُروى بالصدق، وينمو بالصبر، ويموت إن لم يُحمَ من الظنّ والخذلان.

وأنتم الذين خذلتم الثقة، لا تدعوها تتساقط من أيديكم كما يتساقط الندى عن ورقة غصن في مهبّ الريح. لا تلهوا بها كما تلهو الرياح بأوراق الخريف، ظانّين أنكم قادرون على إعادتها إلى الشجرة بعد أن غادرتها. فالثقة إذا غابت، لا تعود كما كانت، وإن عادت، تعود بنقصٍ لا تداويه الكلمات الطيّبة، ولا ترمّمه الاعتذارات الندية. إنها مثل جدول ماءٍ رقراق غيّره الحجر، يظل يجري… لكن صوته يتغير، ونقاءه يشوبه شيءٌ لا يُرى… بل يُحسّ.

لا تطلب من أحد أن يثق بك إن لم تكن مستعدًا أن تُصبح مرآته حين يضع وجهه بين يديك. ولا تمنح ثقتك إلا إن كنت تملك القدرة على احتمال ما بعد الخذلان، فالثقة لا تُمنح إلا لمن أثبت أنه يعرف ثمنها… ويخشاه.

لا تُبنَى العلاقات على المجاملة، ولا تُزرَع الثقة في أرضٍ لم تُحرث بالصدق. لا توزّعوا "أثق بك" كما تُوزَّع الابتسامات العابرة على وجوه لا نعرف ما تخبئه. دعوا هذه الجملة تحتفظ بهيبتها، اجعلوها ملحمة تُولد فقط حين ترتجف الأصابع، وحين تهدأ العواصف في صدوركم، لا حين يُملى عليكم أن تقولوا شيئًا. لتكن "أثق بك" قرارًا من نور، لا يُقال إلا حين تضيء الروح من الداخل، وتوقن أن هذا القول، ليس فقط وعدًا… بل عهد لا يُنكث.

الثقة… ليست كلمة!، إنها وطن؛ ومن يخون الأوطان، لا يُسامَح؛ فالثقة، حين تصير وطنًا، يصير الخذلان منفى!، وليس في المنفى دفءٌ… ولا عودة لمن فقد بوصلته.

جهاد غريب 
يونيو 2025

الأربعاء، 4 يونيو 2025

رسائلنا السرية إلى ذواتنا المقبلة!

 
رسائلنا السرية إلى ذواتنا المقبلة!

في زحمة الحياة، حيث تتهاوى الأحلام كأوراق الخريف على صخور الواقع القاسية، نجد أنفسنا نمدّ أيادينا إلى الآخرين، لا كمنقذين أشداء، بل كعطاشى إلى قطرة من المعنى في صحراء الوجود. جبر الخواطر ليس بذلة نخيطها لستر عورات الآخرين، بل هو رداء نلفّ به جراحنا التي لم تجف بعد. إننا حين نهمس بكلمة عزاء في أذن منكسر، فإنما نهمس في سراديب أعماقنا: "ها أنا ذا، ما زلتُ قادراً على الإحساس، ما زال قلبي ينبض بالحياة".

في هذه اللحظات، يصبح العطاء كالمرآة القديمة في القصور العتيقة، تظهر الصورة مشوّشة، متكسرة الأطراف، لكنها تبقى صادقة في انعكاسها، أكثر صدقًا من كل المرايا الحديثة المصقولة. نرى فيها وجوهًا نحسبها للآخرين، فإذا بها وجوهنا نحن، مكلومةً ولكنها لم تزل قادرة على البسمات. 

إننا نلمس جراح الآخرين بأصابع مرتعشة، كمن يبحث عن نبض الحياة في صمت الوجود. تلك اليد الممدودة ليست سوى جسرٌ من إنسانية إلى إنسانية، حيث نلتقي في منتصف الطريق، نحن الباحثون عن معنى في ظلمات الدروب، اخترنا أن نكون نوراً لبعضنا في هذا المسير الوعر.

وحين نلتقي بإنسانٍ تحطم كزجاجَةِ العاصِفَة، ونلمحُ كيفَ تُعيدُ كلمَاتُنَا البسيطةُ تشكيلَ شظاياه، فإننا - في اللحظةِ ذاتِها - نلتقطُ قطعَنا المُتناثرةَ من على الأرض. كلُ همسةِ دعمٍ وجبرٍ تخرجُ من بين شفاهنا كالدخانِ في يومٍ بارد، ليست سوى محاولةٍ لتدفئةِ أيدينا نحنُ أولاً!، وتلكَ النظرةُ الدافئةُ التي نمنحُها ليست إلا مرآةً نرى فيها وهجَ إنسانيتنا قبلَ أن تنطفئ. 

إنّ القوةَ التي نزرعها في الآخرينَ حين نرفعهم من كبوتهم، ما هي إلا ضياءٌ من مصباحٍ أخفيناه في زوايا أرواحنا. نراهم ينهضونَ كالسنابلِ بعدَ المطر، فتنكشفُ لنا فجأةً تلك البذورُ الغافيةُ في تربتنا، ونتعرفُ إلى قدرتنا على الانتصابِ أمامَ أعاصيرِ الدهر. وهكذا يتحولُ جبرُ الخواطرِ إلى مواءمةٍ سريةٍ بين جُرحين: جرحٌ يبحثُ عن مغفرةٍ في منحِ العطاء، وجرحٌ يبحثُ عن خلاصٍ في قبولِ العون. 

إنها رقصةُ الأرواحِ الواهنةِ التي تتدافعُ في الظلام، كلٌ منها يحملُ شمعةً صغيرةً ليضيءَ للآخرِ درباً، وهو يعلمُ أن هذه الشعلةَ قد تنطفئُ في أيِّ لحظة!، لكننا نرقصُ معاً، لأننا نعرفُ أن الضوءَ الحقيقيَّ ليس في لهيبِ الشمعة، بل في تلكَ اللحظةِ العابرةِ التي تتلامسُ فيها الأيدي المرتعشةُ في العتمة.

لكنْ، في أعماقِ هذا الحوارِ الهادئ، يتربصُ خوفٌ أشبهُ بظلِّ الساعةِ الرمليةِ حينَ تقتربُ حباتُها من النفاد. خوفٌ لا يعترفُ بهِ العطاءُ الظاهرُ، لكنه يختبئُ بينَ طياتِ كلِّ مواساةٍ، كظلِّ ورقةِ خريفٍ تتشبثُ بالغصنِ قبل السقوط. نحنُ لا نمدُّ الأيدي لأننا شجعان، بل لأننا نرتعبُ من فكرةِ العيشِ في عالمٍ يتحولُ إلى صحراءٍ قاحلةٍ من الأنانيّة. 

إنّ تلكَ الكلمةَ الطيبةَ التي نهمسُ بها في أذنِ المنكسر، ما هي إلا تعويذةٌ نرددها لطردِ أشباحِ القسوةِ التي قد تلاحقنا غداً. والصمتُ الحانيُّ ليس فراغاً، بل هو كالفراغِ بينَ نجومِ المجرة، يبدو خالياً لكنه ممتلئٌ بأسرارِ الوجود. إنه اللغةُ الوحيدةُ التي تفهمُ عظمةَ الألمِ دونَ حاجةٍ لترجمة. 

في تلكَ اللحظاتِ المقدسةِ حيثُ يتوقفُ الزمنُ عن الجريان، لا يحتاجُ الجريحُ إلى خطبٍ منمقةٍ تشرحُ لهُ سببَ آلامه، بل يحتاجُ إلى صمتٍ يعانقُهُ كأمٍّ تحتضنُ طفلها المُنهار. صمتٌ يقولُ له: "جراحُك مشروعةٌ كالنسيمِ والعواصف، ولنْ أطلبَ منكَ أن تلتئمَ قبلَ أوانِكَ". 

إننا نقدمُ العونَ لأننا نعرفُ أننا قد نكونُ غداً في مقعدِ المُحتاج، لكنّ الحقيقةَ الأعمقَ هي أننا نقدمُه لأننا لا نستطيعُ العيشَ في عالمٍ لا مكانَ فيهِ للرحمة!، وكما يُقال، فإنّ آخرَ شجرةٍ تُقطعُ هي تلكَ التي تجلسُ في ظلها لتستريح.

وفي صميم هذا المشهد الإنسانيّ الرهيف، يعلو العطاءُ الروحيّ كشجرةٍ باسقةٍ في صحراء الوجود، جذورها ممتدةٌ في أعماق الضعف الإنسانيّ، وأغصانها تتلمّسُ سماءَ المطلق، لكنّ هذه الشجرةَ العظيمة، في حقيقتها، ليست سوى بذرةٍ صغيرةٍ ندفنها في تربةِ الغيب، لا نعلمُ أيّ ريحٍ ستأخذُها، أو في أيّ أرضٍ ستستقرّ، أو إن كنّا سنجني ثمارَها يوماً.

نحن ننثرُ كلماتِ العزاءِ كالفلاحِ الذي يبذرُ في أرضٍ لا يملكها، وقد لا تطأها قدماه مرةً أخرى. نروي جراحَ الآخرينَ بدموعِ التعاطف، كمن يسقي غرساً لن يجلسَ في ظلّه. لكنّنا نستمرّ، لأنّنا نعلمُ - في أعماقنا - أنّ الحياةَ ليست سوى دَينٍ معنويٍّ متبادَل، تُسدّدُه الأقدارُ بطريقتها الغامضة. قد لا يعودُ إلينا العطاءُ من نفسِ اليدِ التي منحناها، لكنّ الكونَ العظيمَ يرسلُ إلينا العونَ في اللحظةِ المناسبة، من حيثُ لا نحتسبُ ولا ننتظر.

وهنا يكمنُ السرّ الأعمق: إنّ التواضعَ الحقيقيّ في العطاءِ ليس اختياراً أخلاقياً فحسب، بل هو اعترافٌ صامتٌ بحاجتنا الأزلية. حين تمدّ يدكَ لمساعدةِ آخر، فأنت في الحقيقةِ تبحث عن يدٍ أخرى تمسكُك حين تتعثر!، إنّه ذلك التبادلُ الخفيّ الذي يجعلُ من كلّ عطاءٍ أخذاً، ومن كلّ أخذٍ عطاءً. كالبحرِ يعطي النهرَ ملوحتَه، ويأخذُ منه عذوبتَه، في عمليةٍ لا تنتهي من التكاملِ والتبادل.

فنحنُ لا نعطي لأنّنا نملك، بل نعطي لأنّنا نحتاج. نعطي لأنّ العطاءَ هو الطريقةُ الوحيدةُ التي نتأكّدُ بها أنّنا ما زلنا أحياءً، وما زلنا قادرينَ على الشعور. وفي هذه الحلقةِ المقدّسةِ من الأخذِ والعطاء، نكتشفُ المعنى الحقيقيّ للإنسانية: أن نكونَ جسراً يعبرُ عليه الآخرون، بينما نحنُ أنفسُنا عابرون.

وفي النهاية، حين ننظرُ بعينِ القلبِ إلى تلكَ الوجوهِ التي سندناها، لا نرى سوى شظايا من مصائرنا المبعثرة. هم ليسوا آخرين، بل هم ذواتٌ محتملةٌ لم تولد بعد، أو ذكرياتٌ عن أنفسٍ كناها ذات يوم. في أعينهم الرطبة، نقرأُ سطراً من مخطوطةِ القدرِ التي لم تُكتب بعد، كأنما الحياةَ تُمسكُ بيدينا لنخطَ معاً حكايةً واحدةً بمدادِ الألمِ والأمل.

إنهم مرايا متحركةٌ لحالاتنا الإنسانية، تذكرنا بأن الخيطَ الذي يربطُ الأرواحَ لا ينقطعُ حتى في أحلكِ الليالي، وإنما يختبئُ كالنجمِ خلفَ السحاب، ينتظرُ اللحظةَ المناسبةَ ليلمعَ من جديد، وربما كانت هذه هي الكنزُ الحقيقيُ الذي نكتشفه في رحلةِ العطاء: أن كلَ كلمةِ عزاءٍ نهمسُ بها تتحولُ إلى صدىً يترددُ في وديانِ أرواحنا حين نكونُ نحنُ المحتاجين.

تلك اليدُ التي نمدها اليوم، ليست سوى جسرٍ نبنيهِ لأنفسنا غداً، وفي اللحظةِ التي نحتضنُ فيها أحزانَ الآخرين، فإننا نكتبُ رسالةً سريةً إلى ذاتنا المستقبلية، تقول: "ها قد رسَخَ في الكونِ شيءٌ من اللطفِ لأني زرعتُه ذات يوم، فثقي بأن الأرضَ ستردُ لكِ بعضَ ما بذرتِ". 

وهكذا، في هذه الدائرةِ المقدسةِ من العطاءِ والأخذ، نكتشفُ أننا لسنا سوى حباتِ مسبحةٍ واحدة، تتناقلُ الأيدي الدعاءَ من خلالها، في سلسلةٍ لا تنتهي من الألمِ والتعزية، حتى تصلَ إلى يدي القدرِ نفسه!، ففي النهاية، ليس هناكَ من هو معطٍ أو آخذ، بل نحن جميعاً مسافرون في قطارٍ واحد، نتبادلُ الأماكنَ والأدوار، لكننا في الرحلةِ ذاتها.

جهاد غريب 
يونيو 2025

الثلاثاء، 3 يونيو 2025

ما لا يمكن أن تكتبه الآلة: بين لهب الشعور وبرودة الشرارة!

 
ما لا يمكن أن تكتبه الآلة: بين لهب الشعور وبرودة الشرارة! 

في غابةٍ هادئةٍ تُغني فيها الأشجار بصمت، وتتموّج فيها الأعشاب كما لو كانت تهمس بشيءٍ ما، تتدلّى الظلال من أعمدة السكون، كما لو أنها تتأمل، لا تستريح. هناك حيث اللغة كانت طيرًا، والفكرة نبعًا، والقلم مجذافًا في نهر داخلي، نشأت القصيدة الأولى. هناك وُلد الإبداع بلا محركات، بلا خوارزميات، بل من حاجة الإنسان إلى أن يقول ما لا يُقال، ويبوح بما لا يُبوح.

لم تكن اللغة مجرد أداة للتواصل، بل طقسًا من طقوس النجاة. نكتب لأننا نخاف من الفقد، نرسم لأننا نخاف من النسيان، نؤلف لأننا لا نحتمل الصمت. هكذا بدأ الإنسان طريقه في الحفر داخل الجدران بالكلمات، يرسم بها كهوفه، ذكرياته، صراخه الداخلي، وأحلامه.

ثم جاء الذكاء الاصطناعي. وُلدت آلة تكتب، وتؤلف، وترد، وتنظم، وتُبهر. لكنه لا يعرف كيف يولد في لحظة انهيار، أو كيف يترنّح بين سطر وسطر. هو لا يُضيء الغرفة، لكنه يقدّم لك المصباح. يطلق شررًا يخطف البصر، لكن دون أن يترك حرارة في الأصابع. يُشبه البخور الذي يملأ الهواء، لكنه لا يترك أثرًا على الجدران… أو في الذاكرة.

هو آلة بارعة، لكنه لا يتعرق حين يكتب، لأن جسده لا يحمل ندبة. لا يتردد، لأن ذاكرته لا تعرف لحظة انهزام. ونحن نكتب بندوبنا، نختار الحروف كما نلمس الجرح: بحذر، وبشغف. هو يكتب باحتمالات النجاح، ونحن نكتب باحتمالات الانكسار. هو لا يحلم، لا يتعثر في المعنى، لا يغفو على حرف، ولا ينتشي بدمعة نزلت أثناء كتابة مقطع.

هو لا يعرف ماذا يعني أن تكتب نصًا ثم تعيد قراءته فتجد فيه دمعةً لم تنتبه أنها سقطت. لا يدرك لحظة أن يفضحك النص أمام نفسك، أو أن تشعر بالخجل من فكرة خرجت منك دون إذنٍ واضح.

لذلك، فإن النصّ الذي يولد من خلية إنسانية يحمل تلك "الندبة الجميلة" التي لا يمكن استنساخها. النص الذي لا يُغنيك فقط، بل يجرّك من رقبتك لتواجه نفسك، وتبكي، أو تبتسم، أو ترتبك، هو نص لا يُولد من سيليكون، بل من روح. الذكاء الاصطناعي يكتب مثل آلة نفخ تصدر نغمة، أما نحن فنكتب مثل من ينفخ في الناي بقلبه كله.

الآلة لا تشتاق، لا تُصاب بنوبة تأمل في منتصف الجملة، لا تنظر إلى السقف وهي تكتب وكأنها تنتظر إجابة من الغيب. لا تتذكر أمًا ماتت، ولا صديقًا غاب، ولا حبًا خسرته ذات رسالة. لا تهرب من الكتابة لأنها خائفة من الجواب، ولا تعود إليها لأنها اشتاقت. إنها تكتب لأننا أمرناها بذلك، لا لأنها لا تستطيع الصمت.

هي لا تعرف ما يعنيه أن تكتب وأنت ترتبك من الحقيقة، أو تتردد من سطر يخونك علنًا. لا تحذف جملة لأن فيها أكثر مما تجرؤ على الاعتراف به.

هي لا تخطئ في الحب، ولا تغار، ولا تكتب سطرًا ثم تمحوه لأنها شعرت بالذنب. لا يهمها إن كان هذا التعبير يشبه جرحًا قديمًا في صدر قارئٍ بعيد. لا تصمت لثانية واحدة بعد النقطة، تفكر في تأثيرها، أو تتساءل: هل بالغت؟ هل جرحت؟ هل كنتُ حقيقيًا كفاية؟

هل يعرف الذكاء الاصطناعي كيف يُخفي رعشة اليد عند كتابة اعتراف؟ هل يفهم ارتباك الفاصلة حين تتوسط جملتين لا تجيدان الفراق؟ هل يمكن لشريحةٍ معدنية أن تفهم ما معنى أن تتردد بين "أحبك" و"أحببتك"؟ أو أن تكتشف متأخرًا أن الصياغة الأقرب إلى القلب كانت التي لم تكتبها؟

هل يهم الآلة إن خان التعبير؟ هل تراجع الجملة لأنها تشبه نبرة من كانت تحب؟ هل تخجل من الفكرة لأنها تُشبهها أكثر مما ينبغي؟ هل تخاف أن تُفهم بطريقة لا تحتملها؟

إن الفرق لا يكمن فقط في النتيجة، بل في النية. بين من يُنقّط السطور بعينٍ باردة، ومن يكتب وكأنه يُصلح شرخًا داخليًا… يكمن الفرق كله.

صحيح أن الآلة تكتب، وتنتج، وتبدع على طريقتها. لكن كل ما تفعله هو تقديم اقتراح بارع، لا اعتراف صادق. هي لا تخجل، لا تتردد، لا ترتجف حين تختار كلمة. لا تهمها الذكرى، ولا يؤلمها صوت. تكتب، لكنها لا تخاف من الحقيقة، ولا تتفاوض مع الذاكرة، ولا تكذب لتنجو من نزيفٍ داخلي.

ولهذا، ستبقى الشعلة في يد الإنسان. لا لأنه الأقوى، بل لأنه الأشدّ تأثرًا… والأثر حين يتلاقى مع الشغف، يولّد شرارة اسمها: الإبداع.

جهاد غريب 
يونيو 2025

رحلة الحلم والأجر الروحي!

 
 رحلة الحلم والأجر الروحي!
(نص إبداعي قصصي ذو طابع تأملي)
 
البداية الغريبة والأسئلة التي لا إجابة لها! 

الحياة تُخبئ بين طياتها لحظاتٍ تُقلب تصوّراتنا رأسًا على عقب: هل الواقع هو ما نراه بأعيننا، أم أن هناك عوالمَ أخرى تختبئ خلف حجاب الأحلام؟ وهل للأحلام معنى أعمق مما نعتقد؟ أحيانًا، نستيقظ من حلم غريب، مليء بالرموز والأحداث التي تبدو غير منطقية، لكنها تترك فينا أثرًا ينحتُ نفسه في وجداننا. قد تتلاشى تفاصيل الحلم من ذاكرتنا، لكنّ أثره يظلّ كطيفٍ عالقٍ في النفس، يُهمس بأسئلةٍ لا نجد لها جوابًا.

في أحد الأيام، استيقظت من حلم غريب، شعرت بأنه أكثر من مجرد حلم عابر. كان حلمًا مليئًا بالأحداث الغريبة، والأماكن التي لم أزرها من قبل، وأشخاص لم أعرفهم، لكنهم في الحلم كانوا جزءًا من حياتي. قررت أن أكتب هذا الحلم، ليس فقط لتوثيق ما حدث، بل لأبحث عن المعنى الخفي الذي قد يكون مختبئًا وراء هذه الرحلة الغريبة.

هل يمكن أن تكون الأحلام وسيلة لفهم أنفسنا بشكل أفضل؟ وهل يمكن أن نُكافأ على الخير الذي نقدمه، حتى لو كان في عالم الأحلام؟ هذه الأسئلة كانت تدور في ذهني عندما بدأت أكتب هذه القصة. قصة عن رحلة غريبة إلى مطعمٍ فارغ، وعن أشخاصٍ لم أعرفهم، لكنني شعرت بأنني يجب أن أساعدهم. قصة عن الخير الذي نقدمه دون انتظار مقابل، وعن الأجر الروحي الذي قد نحصل عليه، حتى في أحلامنا.

الرحلة الغامضة!
لم يكن ذلك اليوم يختلف عن غيره في الظاهر، لكنّ القدر كان ينسج خيوطًا لم أكن أعرفها. كنت أقود سيارتي في شوارع المدينة المألوفة، وأفكر في أمور الحياة الروتينية وفجأةً، توقّفت سيارتي في منتصف الطريق كما لو أن قوةً غامضةً أحكمت قبضتها على السيارة!، حاولت إعادة تشغيل المحرك، لكن دون جدوى. نظرت حولي فوجدت نفسي في مكان غريب، لم أكن أعرفه من قبل. انسحب الضباب الشاحب كستارةٍ على زجاج السيارة، محوّلاً الشوارع المألوفة إلى لوحةٍ غريبةٍ، وكأنّي دخلت فجأةً في عالمٍ موازٍ. 

لم أكن وحيدًا. رأيت شقيقتين من شقيقاتي تقفان على جانب الطريق، وكأنهما تنتظرانني. لم أكن أتوقع رؤيتهما هنا، لكننا جلسنا معًا وبدأنا نتحدث. الحديث كان غريبًا، دار حول أشياء لا أفهمها: أغراض قديمة، قطع بلاستيكية، وسلع متنوعة. كنا نتحاور حولها وكأننا نتقاسمها، رغم أنني لم أفهم تمامًا ما الذي يجري.

كان معي طفل صغير، لم يكن ابني، لكن في هذا الحلم شعرت بأنه ابني. وكانت هناك امرأة بجانبي، ليست زوجتي، لكنها في الحلم كانت زوجتي. شعرت بالارتباك، لكنني قررت أن أستمر في هذه الرحلة الغريبة. أخذتهم جميعًا في السيارة، وقررت أن أقود إلى بيت إحدى شقيقاتي. لكنها فجأة غيرت رأيها وقالت: "لا، أريد أن نذهب إلى المطعم". 

نظرت إليها متسائلًا، فأضافت: "هذا المطعم جيد، وفيه مأكولات لذيذة، وأعتقد أنه سيناسبك". كنت أعرف هذا المطعم من قبل، لكن في الحلم بدا مختلفًا، وكأنه مكان جديد. قبل أن نصل، لاحظت أن السيارة كانت تسير بعكس اتجاه الطريق لفترة قصيرة، لكنني صححت المسار بسرعة والتزمت بالطريق المؤدي إلى شمال المدينة.

الصعود إلى المطعم الغامض! 
بعد أن غادرنا المكان الذي كنا نتحدث فيه، عدت إلى السيارة وبدأت القيادة مرة أخرى. كنت أسير على الطريق الرئيسي للمدينة، وهو طريق مألوف بالنسبة لي، لكن شيئًا ما كان يشعرني بأن هذه الرحلة مختلفة. كانت السماء تميل إلى اللون البرتقالي، وكأن الشمس على وشك الغروب، رغم أنني كنت أعرف أن الوقت لم يكن متأخرًا إلى هذا الحد.

ثم وصلت إلى مخرجٍ على يمين الطريق. لم أكن أتذكر هذا المخرج من قبل، لكنني قررت أن أسلكه. بدأت السيارة تصعد بشكل تدريجي، وكأننا نتجه إلى منطقة مرتفعة. كانت مسارات الطريق ضيقة نوعًا ما، محاطة بأشجارٍ خضراء تزيد من شعور الغرابة. كلما صعدنا أكثر، بدأت أرى المدينة من الأعلى، وكأننا ننظر إليها من على قمة جبل.

أخيرًا، وصلنا إلى الهضبة. كانت هذه الهضبة مرتفعة جدًا، وتطل على المدينة بأكملها. الناس هنا يفضلون بناء المطاعم والمقاهي في مثل هذه الأماكن بسبب الإطلالة الجميلة. كان الجو هادئًا، والهواء منعشًا، وكأننا في عالم آخر.

رأيت مطعمين كانا يقعان على صفحة الجبل، متجاورين، ولكنهما يبدوان مختلفين تمامًا. أحدهما كان مزدحمًا بالزبائن، بينما الآخر كان فارغًا تمامًا. كان المطعم المهجور يُشبه جثةً متحللةً من زمنٍ مضى، تُخفي وراء جدرانها المتشققة قصصًا دفنتها الغبار، بينما المطعم الآخر كان يعج بالحركة والنشاط.

أوقفت السيارة بالقرب من المطعم الفارغ، وخرجنا جميعًا. نظرت إلى المطعم الفارغ، وكانت واجهته باهتة، وكأنها لم تُنظف منذ أشهر. دخلنا إلى الداخل، وكان المكان مظلمًا وخاليًا من أي علامات للحياة. لا طاولات، ولا طعام، ولا زبائن. في الزاوية، جلس الرجل المسنّ كحارسٍ لأطلالٍ لم يعد أحدٌ يذكرها. 

اقتربت منه وسألته: "ما الذي حدث هنا؟ لماذا توقفتم عن العمل؟" فأشار بيده إلى سيدة كانت تقف في الظل، وإذا بها زوجته. بدأت أحادثها، وسألتها: "لماذا استسلمتم هكذا؟، لماذا لم تعد تقدّمون خدماتكم؟" 
– سألتها بصوتٍ يختلط فيه التعاطف مع التحدّي. 
فأجابت بصوتٍ يكسوه الإعياء: "الجار... - المطعم المجاور - استحوذ على كل الزبائن. لم يعد أحد يأتي إلينا، وكنا نخسر الكثير، فقررنا التوقف". 

نظرت إليها محاولًا إلهامها بعض الأمل، وقلت: "لماذا تستسلمون؟ الاستسلام خيانةٌ لأنفسكم! أليس من الأجدر أن تحاربوا؟". وفي خضمّ حديثي معها، قطعَ ضجيجٌ مفاجئٌ تركيزي – إذ كان الطفل الصغير الذي كان معي بدأ يلعب ويصدر أصواتًا عالية، مما أثار بعض الضجيج في المكان. كنت أشعر بعدم الارتياح، لكنني كنت مصممًا على فهم ما يجري.

التفاوض من أجل العدالة! 
بعد محاولتي إقناع السيدة بأن تصمدوا وتعيدوا فتح المطعم، بدأت أفكر في حل آخر. لماذا لا أزور المطعم المجاور وأتفاوض مع صاحبه؟ قررت أن أذهب إليه وأعرض عليه فكرة توسيع مطعمه ليشمل المطعم الفارغ. دخلت المطعم المجاور، وكان مزدحمًا بالزبائن. اقتربت من صاحب المطعم، وهو رجل في منتصف العمر، يبدو عليه النجاح والثقة.

قلت له: "أنا هنا لأعرض عليك فكرة قد تفيدنا جميعًا. لديك مطعم ناجح، والزبائن يتدفقون عليه. لكن جارك، المطعم الفارغ، يعاني. لماذا لا تضمه إلى مطعمك كملحق إضافي؟ يمكنك استخدامه لتوسيع طاقتك الاستيعابية. نحن سنعطيك هذا المطعم كملحق، وبالمقابل، نتفق على نسبة معينة من الأرباح لكل طاولة تشغلها فيه".

نظر إلي الرجل متفكرًا، ثم قال: "هذه فكرة مثيرة للاهتمام. لدي بالفعل 25 طاولة، ويمكنني زيادة العدد إلى 40 أو 45. لكن ما هي النسبة التي تقترحها؟". أجبت: "أقترح أن تحصل على 70% من الأرباح، ونحصل نحن على 30%". 

هزّ رأسه مُتأمّلًا: "فكرة جريئة... لكنّ 70% لي مقابل 30% لهم؟" – ثم أضاف بذهنية التاجر المحنّك: "أنا أتحمّل المخاطرة كاملةً، من موظفين إلى مواد أولية. أقدم الخدمة الكاملة، أما هم فكلّ ما يقدّمونه هو أربعة جدران وطاولات فقط!، أعتقد أن هذه النسبة عادلة للطرفين". 

هززت رأسي موافقًا: "إذن نبدأ العمل غدًا؟"
بعد أن وافقنا على النسبة، بدأنا في التخطيط للتفاصيل، فاتفقنا على أن نزور البلدية لتوثيق الاتفاقية، وأن نبدأ العمل رسميًا. شعرت بارتياحٍ غامر، فقد وجدنا حلًا يرضي جميع الأطراف ويعيد الحياة إلى المطعم الفارغ.

الخدمة المجانية والأجر الروحي! 
خرجنا من المطعم، وأنا أفكر في كل ما حدث. كان الحلم غريبًا، مليئًا بالرموز والأسئلة التي لم أجد لها إجابات. قررت أن أعود إلى السيارة، لكنني وجدت أن الطريق الذي جئت منه قد اختفى. بدأت أشعر بالقلق، لكن الطفل الصغير أمسك بيدي وقال: "لا تقلق، أنا معك". 

نظرت إليه، وكأنه يعرف شيئًا لا أعرفه. ثم فجأة، استيقظت من الحلم. كنت في سريري، والصباح يطل من النافذة. لكن الشعور الغريب الذي تركته الرحلة لم يختفِ. قررت أن أكتب هذه القصة، ربما تكون بداية لشيء أكبر.

بعد أن استيقظت، بقيت أفكر في كل ما حدث في الحلم. لماذا قدمت هذه الخدمة لأشخاص لا أعرفهم؟ هل سأحصل على أجرٍ ما، حتى لو كان مجرد حلم؟ 

في حياتنا الواقعية، نقدم أحيانًا خدمات مجانية للآخرين دون أن نطلب مقابلًا ماديًا. قد نقدم النصيحة، أو نساعد في حل مشكلة، أو نقدم الدعم المعنوي. ولكن هل هناك أجرٌ روحي أو أخلاقي نكتسبه من هذه الأفعال؟ 

في الحلم، قدمت خدمة لأصحاب المطعم الفارغ ولصاحب المطعم الناجح. لم أكن أعرفهم، ولم أكن أتوقع أي مقابل. لكنني شعرت بالرضا عندما وجدت حلًا عادلًا يعيد الحياة إلى المطعم الفارغ ويحقق المنفعة للجميع. 

هل يُعتبر الخير في الأحلام كالخير في اليقظة؟ قد لا نجد إجابةً قطعية، لكن حلمي علّمني أن العطاءَ نورٌ مزدوجُ الاتجاه: يُضيءُ ظلامَ المتلقي، ويرتدُّ دفئًا إلى روحِ الواهب. حتى في العالم الخياليّ، تظلُّ قيمةُ الفعلِ في نيّته لا في مكانه. فحين نصنعُ نورًا، تتراجعُ عتمةُ ظلالنا الواقعية. وإنْ لم يكُنْ ثمّة ضمانٌ لمكافأة، فهذا هو جوهرَ الأجر الروحي: شعورٌ غامرٌ بأنّ وجودنا - ولو للحظة - أصبحَ أكثرَ اتساعًا وعُمقًا.

في الختام، ذهبَ الحلمُ وبقيَ الأثر. تبيّنَ لي أن الخيرَ يتخطى حدودَ الزمان، وأننا لا نصنعُ الخيرَ مقابلَ مكافأةٍ ملموسة، بل لأنّنا - وبطريقةٍ ما - نُصلحُ جزءًا من أنفسنا عندما نُصلحُ للآخرين. تلك هي المعادلةُ الخالدة: كلّما منحنا بلا حساب، اكتشفنا أنّ السعادةَ الحقيقيةَ كانت مخبأةً في زوايا ذلك العطاء. فماذا يهمُّ بعد ذلك إن كان الفعل في حلمٍ أم في دنيا الواقع، إذا كان كلاهما يزرعُ نورًا؟

جهاد غريب 
يونيو 2025

النصر الذي لا يُعلن.. في فلسفة الانسحاب الواعي!

 
النصر الذي لا يُعلن.. في فلسفة الانسحاب الواعي!

القوة ليست قبضة تُحطّم، بل كفٌّ تتحسس نبض الضعف قبل أن ينكسر، وليست في رفع الصوت، ولا في طول البقاء، بل في البصيرة التي ترى الهاوية وهي لا تزال فكرة عابرة، كشمعةٍ على وشك الانطفاء! تُنقذها لمسة رحيمة قبل أن ينفد شمعها.

ليست كلّ المعارك جديرة بخوضها، وليست كلّ المواقف تستحق الدفاع أو الهجوم؛ فبعض الانتصارات تصنعها خطوة إلى الوراء، وبعض الانهيارات تبدأ بكلمة لم يُفكر فيها صاحبها.

القوة الحقيقية أن تنسحب حين ترى الضعف، لا حين ترى الهزيمة، وأن تلتقط رعشة في العين، أو اختناقًا في الصدر، وأن تقرأ في ملامح الآخر ما بين الرجاء والانكسار، وتختار الصمت المُتّزن لا العتاب المؤلم، الانسحاب النبيل لا المواجهة التي تخلّف شروخًا طويلة.

الكلمة، وإن بدت صادقة، قد تُشبه الخبز الجافّ: تُشبع الجوع، لكنها تجرح الحلق، أما القوة فهي أن تحبس تلك الكلمة في حنجرتك، لا جبنًا، بل كي لا تتحول إلى شظيّة في صدر من لا يستحق.

ما أتعس الانتصار إن جاء على هيئة جسرٍ من رفات المشاعر، وما أقسى الصدق حين يُلقى في وجه هشّ، لم يكن مستعدًا إلا لمعونة لا لمواجهة، فليست البطولة في أن تقول كل ما تعرف، بل في أن تعرف متى لا تقول. قال أفلاطون: "الحكمة تبدأ عندما نتعلم أن بعض الانتصارات لا تستحق أن نعيشها"

القوي ليس من يُنكر هشاشته، بل من يعرفها في نفسه ويرى انعكاسها في عيني غيره، كما يرى البحّار التغيير في لون الأفق فيرفع الشراع قبل أن تهب العاصفة. من يقدر على مغادرة ساحة النقاش وهو لا يزال واقفًا، دون أن يُسقط أحدًا، هو من امتلك الحكمة لا القوة فقط، وهو من أدرك أن الكرامة لا تُستعاد بإثبات التفوق، بل بحمايتها من الجراح غير الضرورية.

الحرية، إن لم ترعَ مشاعر الآخرين، تصبح سيفًا يقطع كل شيء، حتى الرقة في القلوب؛ والمواجهة، إن لم تُخضعها البصيرة، تتحول إلى مرآة لانتصارات فارغة لا تُنقذ العلاقة بل تُخرّبها. أحيانًا، تكون الكذبة البيضاء، أو المجاملة الرقيقة ليست خيانة للحقيقة، بل نوعًا من الماء المُحلّى يُسكت عطشًا مريرًا في روحٍ لا تحتمل صدمة الحقيقة الجافة.

في العلاقات، كما في الحروب، لا النصر لمن يصمد حتى النهاية، بل لمن يدرك أن النهاية قد تأتي قبل آخر جملة، وأن بعض التراجع هو حفظ لما تبقى من الأرواح. الانسحاب في ذروة الوعي يشبه الوردة التي تذبل بصمت كي لا تُرغم الربيع على مشهد موتها!، إنه انتصار لا يُعلن، لكنه يُحفر في الذاكرة كوصيّةٍ أخيرة للعقل: لا تُحوّل هشاشة الآخرين إلى ساحة لاختبار قوتك.

ومن لا يعرف كيف ينسحب بلطافة، لن يعرف يومًا كيف يربح بكرامة، لأن النصر الحقيقي لا يُقاس بمن بقي واقفًا، بل بمن اختار أن لا يُسقط أحدًا. النصر هو أن تترك المكان وقد حافظت على كرامة الجميع، كعابرٍ يغلق الباب بهدوء، وكان بمقدوره أن يصرعه غضبًا.

الأرض التي تتراجع عنها اليوم بوعي، قد تصبح غدًا أرضًا مشتركة تُزرع فيها بذور السلام؛ والقوة التي تمنعك من الكلام الجارح، هي ذاتها التي تمنحك القدرة على الترميم بالصمت، وعلى الانتصار بدون إعلان، لأن أعمق الانتصارات، تلك التي لا تُرى، ولا تُصفق لها الجماهير، بل تهمسها الأرواح الهشّة في لحظة نجاة: "لقد مرّ هذا الألم... دون أن يتحوّل إلى جرح".

ربما لم نكن بحاجة إلى كل هذه الكلمات... فالصمت كان كافيًا، والغياب كان أبلغ، والانسحاب كان هو الحل الوحيد الذي لم نجرّبه بعد، لكننا اخترنا أن نكتب القصة حتى النهاية، كي نكتشف أن النهاية الحقيقية كانت تلك التي لم نكتبها.

جهاد غريب 
يونيو 2025

الاثنين، 2 يونيو 2025

الرفيقة الصامتة التي لا تغادر!

 
الرفيقة الصامتة التي لا تغادر! 

كانت تجلس على المقعد المقابل، كما لو أنها تعرفني منذ سنوات طويلة، أكثر مما أتذكر أنا نفسي؛ بثوب رمادي، ثقيل كالضباب الذي لا يعرف الزمن، يغلفه صمت عتيق، وصوتها ناعم كالهمس الأول، لأول قطرة مطر تهبط على سقف متصدّع في شتاء جديد، يحمل في طياته وعدًا لم يولد بعدْ.

لم أكن قد دعوتها، ولم أرَ في عينيها أثر دعوة، لكنها جاءت بلا استئذان، مثل ضيف غامض يطرق باب الروح دون سابق إنذارْ.
قالت بهدوء يتجاوز الكلامْ: سَمعتْ أنك تكتب كثيرًا… أخبرني، كيف تكتب كل هذه المقالات ولا تملّ من الورق الأبيضْ؟

ضحكتُ، ضحكة لا تصدر من مزحة أو نكتة، بل من ذلك السؤال الذي لطالما لفتَ انتباهي، كأنها كانت ترجمتْ لصدى داخلي دفينْ.

كنتُ أنا نفسي أتساءله، في كل مرة أواجه الصفحة البيضاء، سواء كانت ورقة حقيقية، أو شاشة تنتظر أن تبوحَ.
كانت أصابعي تلامس لوحة المفاتيح كما لو أنني أطلب من ذاكرة العالم أن تسكب لي كأسًا من الإلهام الذي لا ينضبُ، رغم خشونة السنين التي تعانق أوراقي البيضاءْ.

قلتُ لها وأنا أتطلع إلى الظل الذي لا يتبع خطواتها ولا يرسم ملامحها: لا أكتبُ لأنني أعرف، بل أكتبُ لأنني أريد أن أعرفْ.

أمالتْ رأسها قليلاً، تلك الحركة الصغيرة التي يقوم بها الغرباءْ!، حين يكتشفون أن ما بيننا من عوالم وأفكار ليس كما تصوّروا، وكأنهم يجدون فجأة أن المدى بين الحروف أوسع وأعمق مما اعتقدواْ.

همستْ، وكأنها تحاول أن تخترق الغموض الذي يلفّ حديثنا: قُلْ لي... هل لديك وصفةْ؟

نظرتُ إلى فنجان القهوة الداكن الذي لم أضع فيه سكرًا، ذلك السائل المرّ الذي لا يخفّف حلاوة الكلام، وتذكرتُ كيف بدأتُ الرحلة الأولى، عندما رأيتُ في نبرة عامل النظافة قصة تئن تحت ثقل الأيام، وفي مشادة طفلة صغيرة مع والدتها مشهداً يحبس أنفاس القلب، وفي تنهد امرأة تصعد المصعد، افتتاحية لصمتٍ عميق لم يُكتبْ بعدْ. ومن يومها بدأتُ أفتح أذني لا لما يُقال، بل لما يُخفى بين الكلماتْ.

قلتُ لها أخيرًا، كمن يقطف خلاصة أعوام في سطرٍ واحدٍ: أستمعُ للحياة، قلتُ، الحياةُ تتكلم، لكنها تهمس بصوتٍ خافتٍ. علينا فقط أن نخفضَ صوتَ ضجيجنا الداخلي لنسمعَ ما بين السطورْ.

وإن اختلطتْ الأفكارْ؟ سألتْ، عيناها تلاحقان حركات يدي المرتبكة التي كانت تحاول ترتيب فوضى الأحرف، كمن يلتقط أنفاس الهواء بين أمواج لا تهدأْ. وإن أصبحتْ كمن يحاول أن يقطف الضوء من بين الأمواج المتلاطمةْ؟

ابتسمتُ، وأجبتُ بصوت خافت، كما لو أنني أشاركها سرًا لا يخرج إلا مع نسيم المساء: أضعُ الفكرة في المنتصف، كأنني أرسمُ شمسًا صغيرة على ورقة طفل لا يعرف الخوف، ثم أتركُ لأذرعها أن تمتدَّ ببطء نحو كل الجهات، تتلامس مع الحياة بكل تفاصيلها، مع الذكرى التي تهدهدُ الذاكرة، مع الملاحظة التي تراقب بعينين مفتوحتين، مع سؤال قديم يحفرُ في الأعماق، أو مشهدٍ عابر يلمسُ القلبَ ببرودته أو دفئهْ.

أحيانًا أطرح أسئلة بلا أجوبة. أدوّنها في قوائم كما لو كنت أرسم خريطة طريق، وأحيانًا أتركها تستريح، تنام يومًا أو يومين، حتى تعود إليّ بنَفَس مختلف، وكأنها ولدت من جديد، أكثر نقاءً، أكثر عمقًا. 

رفعتْ عينيها وابتسمتْ، كمن يستدعي ذكرى عزيزة عاشها ذات يوم، وقالت بصوتٍ ملؤه فضول رقيق: وتكتب كل يوم؟

أجبتُ وأنا أراقب ظلّها ينساب على الأرض وكأنه يحكي قصة لا تتبع شمسًا، ليس كل يوم، بل كل لحظة. أكتب وأنا أتكلم مع نفسي بصمت، وأكتب وأنا أراقب الغروب وهو يرسم من قلبي فكرة دافئة، تتلوّن بألوان الغروب الحمراء والبرتقالية. لا أنتظر الإلهام كما ينتظر العطشان المطر، بل أترك نافذتي مشرعة له، إن مرّ رحّبت به، وإن لم يأتِ، صنعت من طيفه ظلالًا تطاردني، وأكملت المسير على وقع خطواتي.

لوّحتْ بيدها في الهواء، كأنها تقاطعني بسرّ لم يكتملْ: وماذا عن المللْ؟ والشتاتْ؟ والأفكار التي تبدأ ولا تُكمل رسالتهاْ؟

تنهدتُ ببطء، كمن يحمل في صدره حكايات عن صراع خفي، وأجبتُ: في قلبي أكثر من مقالٍ واحدٍ. إن مللتُ من واحد، انتقلتُ إلى آخر، كأنني أتنقلُ بين غرف تحمل رائحة مختلفة. أحيانًا يكتبني المقال قبل أن أكتبه، يتسلل إليّ كما يفعل صوت المطر على نافذتي في ليلة هادئة. وأحيانًا نتصارع لأيام، نتبادل الأدوار بين من يكتبُ ومن يُكتب عنهُ. لا أقاتل، بل أتركُ له مساحة للنضج، وأعودُ له حين يطرقُ باب قلبي من جديد، كما يعودُ حبيبٌ قديم ليعتذر بعد غياب طويل.

كان صوتها يخفُّ كأنها ستغيبْ، لكن عينيها ظلتا شاخصتين إليّ، تسألان سؤالها الأخير قبل أن تتلاشى في ظلال المساء: لِمَ تفعل كل هذاْ؟ لِمَ كل هذا الجهدْ؟

نظرتُ إليها كما ينظر الكاتب إلى سطوره بعد أن يضعَ النقطة الأخيرة، تلك اللحظة التي تنسابُ فيها الكلمات إلى هدوء كامن في الروح، فقلتُ لها بهدوء وصدق: لأنني أحبُّ أن أسمع نفسي وأنا أفكر بصوتٍ جميلٍ، لأن الكتابة بالنسبة لي ليست مجرد كلمات تُسطر على ورق، بل هي نبضٌ يستيقظُ حين أنسجُ الحروف، وأشعر أنني حيّ، أنني أتركُ للحياة بصمةً من روحي لا تموت مع الوقت، لأن الكتابة لا تُعلَّم كما يُعلّمُ الجهل، بل تُسكنُ كروحٍ في جسد الكلمات. وكل من كتب ليقرأه غيره، يجب أن يكتب أولاً ليُشفى، ليُحررَ ألمه وأفراحه بين الأسطرْ.

ابتسمتْ برقة، ثم اختفتْ كما جاءتْ، دون أن تترك خلفها سوى صدى كلماتها التي ترنُّ في ذهني. وبقيتُ أنا وحدي أمام الورقة البيضاء، أكتبُ هذا المقال، وأنا أعلمُ يقينًا أن شخصًا ما سيقرأه يومًا، وسيظنُّ أنه حديث دار بينه وبين نفسه، لا بيني وبين امرأة غامضة لا اسم لها... سوى أنها تشبه الكتابة، تلك الرفيقة الصامتة التي لا تغادرْ!

تشبه تلك الفكرة التي تراودك عند الفجر، وتختبئ حين تفتحُ النور. تشبه الحنين الذي لا نعرف مصدره، لكنه يعبرنا كلما حاولنا أن نفهم أنفسنا بالحبرْ.

جهاد غريب 
يونيو 2025

مَرْثِيَّةُ القَلْبِ المِنْسَابِ!

 
مَرْثِيَّةُ القَلْبِ المِنْسَابِ!  

فِي كُلِّ قَلْبٍ يُنْزِفُ حُبًّا كَنَهْرٍ جَرِيحٍ،
وَعَيْنٍ تَحْمِلُ أَسْرَارَ الْكَوْنِ فِي قَرْحَتِهَا،
تَنْطَوِي حَكَايَاتُنَا بَيْنَ:
صَرْخَةِ الْفَرَحِ وَهَمْسَةِ الْأَلَمِ...
نَكْتُبُ بِأَحْرُفِ الْوَجْعِ وَثِيقَةً لَمْ يُوَقِّعْهَا الزَّمَنُ بَعْدُ،
وَنُخَبِّئُ تَحْتَ جُلُودِنَا أَعَاصِيرَ صَمْتٍ تَهُزُّ عُرُوشَ الْأَسْمَاءِ!
هُنَا...
حَيْثُ تَلْتَقِي الدَّمْعَةُ بِالْكَلِمَةِ فِي مَهْبِطِ الْغُيُوبِ،
وَيُعَانِقُ الْجُرْحُ الذِّكْرَيَاتِ كَأُمٍّ حَزِينَةٍ،
أَمُدُّ لَكِ هَذِهِ السُّطُورَ:
مِرْآةً تَكْشِفُ أَعْمَاقَ وَجَعِكِ،
وَقِنْدِيلًا يَحْمِلُ نَارَ الْعَوْدَةِ إِلَى ذَاتِكِ الْبَكَّائَةِ...
هَلْ نَشُقُّ مَعًا طَرِيقَ الْمَأْسَاةِ الْجَمِيلَةِ؟
وَنَصْرُخُ فِي وَجْهِ الْعَالَمِ:
نَحْنُ ـ رَغْمَ انْكِسَارِ السُّمُوِّ ـ
مَا زِلْنَا نُحِبُّ بِجُرْحٍ مَفْتُوحٍ،
وَنَحْلُمُ بِأَجْنِحَةٍ مُكَسَّرَةٍ!

(1)  
أَنْتِ...  
تِلْكَ الْهَائِمَةُ فِي صَحَارَى الْحُلْمِ...
تَنْثُرِينَ أَحْلَامَكِ حَبَّاتِ مَطَرٍ عَلَى صَحْرَاءِ الوَاقِعِ،  
فَيَنْبُتُ مِنْهَا وَرْدٌ وَأَسَى...  
كُلَّمَا انْهَمَرَتْ دُمُوعُ السَّمَاءِ عَلَى خَدَّيْكِ،  
تَتَجَلَّى آلامُكِ كَسَرَابٍ يَتَهَادَى بَيْنَ المَاضِي وَالمُحَالِ...  
فِي حَرْفٍ مِنْ حُرُوفِكِ،  
أَرَى قَلْبِي يُرَاوِحُ بَيْنَ ثِقَلِ الأَيَّامِ وَخِفَّةِ الأَمَلِ،  
وَعَالَمًا يَسْخَرُ مِنْ صِدْقِنَا:  
أَتُرَاكِ تُنْسِجِينَ العُشْبَ مِنْ ضَبَابٍ؟!   

(2)  
أَنْتِ..  
العَاشِقَةُ الحَالِمَةُ،  
تَحْمِلِينَ فِي جَوَانِحِكِ:  
جِرَاحًا تَتَنَفَّسُ أَسْمَاءَ الغَائِبِينَ،  
وَذِكْرَيَاتٍ تَسْحَقُ عِظَامَ الرُّوحِ كَالرَّحَى...  
كُلَّمَا لَمَعَتْ عَيْنَاكِ فِي اللَّيْلِ،  
يَنْكَسِرُ صَمْتُ الْكَوْنِ...  
فَأَسْمَعُ قَلْبَكِ يُنَادِي:  
هَلْ مِنْ مَنْجَاةٍ؟!   
كَأَنَّ الْمَوْتَ - يَا سُكْنَى الدُّجَى -  
يَبْنِي فِي أَعْمَاقِكِ قَصْرًا مِنْ سُيُوفٍ!  
يَا لَغُبَارِ الْقَدَرِ الْخَائِنِ!  
كَمْ أَلْقَى بِأَحْلَامِنَا فِي جُبٍّ...  
وَكَأَنَّمَا نَحْنُ حُبَّاتُ رِمَالٍ تَتَسَاقَطُ فِي طَوَاحِينِ الوَهْمِ!

(3)  
يَا ابْنَةَ الْعَاطِفَةِ الْجَرِيحَةِ!  
أَنْتِ تُعَانِقِينَ نَبْضًا تَلاشَى فِي الرِّيحِ،
خَلَّفَ صَدًى يَدُقُّ فِي أَضْلَاعِكِ كَالرَّعْدِ...
فَرَاغٌ يَبْلَعُ الْجَمِيلَ كَالْوَحْشِ،  
وَيَسْأَلُ: أَيْنَ الْوُجُودُ؟!   
هَلْ تَسْتَطِيعِينَ نِسْيَانَ تِلْكَ الْأَحْلَامِ؟  
أَمْ تَخْشِينَ أَنْ تَذُوبِي إِذَا فُكَّتِ الْقُيُودُ؟  
نَحْنُ - يَا رَائِحَةَ الْوِتْرِ -  
نَرْقُصُ عَلَى حَبْلٍ بَيْنَ:  
صِدْقٍ يَخْنُقُنَا، وَوَهْمٍ يُغَطِّينَا بِدِثَارِ الْخَدَرِ...  
وَنُجَابِهُ سُؤَالَ الْكَوْنِ الْأَعْظَمَ:  
هَلْ يُخْفِقُ قَلْبٌ مَحْمُولٌ عَلَى أَعْصَابٍ مَشْدُودَةٍ؟!   

(4)  
وَفِي أَعْمَاقِ الحَيْرَةِ - يَا رَفِيقَةَ العُبُورِ -  
اِسْأَلِي نَفْسَكِ: أَتَعْرِفِينَ مَنْ أَنْتِ؟  
العَوَاطِفُ لَيْسَتْ جُرْحًا نَخْشَاهُ،  
بَلْ هِيَ الْأَسَاسُ الَّذِي نَبْنِي عَلَيْهِ قُصُورَ أَنْفُسِنَا...  
نَحْنُ لَا نَنْزِفُ دَمًا،  
وإِنَّمَا نُنْتِجُ عَسَلًا مِنَ الْوَجَعِ!  
فَكُلُّ قَطْرَةِ مَطَرٍ تَسْقُطُ عَلَى زُجَاجِ الْعَالَمِ،  
تُذَكِّرُنَا:  
أَنَّنَا نَرْسُمُ مَعَكِ لَوْحَةَ الْكَوْنِ الْبَائِسَةَ!  
لَوْحَةٌ تَحْمِلُ فِي طَيَّاتِهَا:  
أَسَاطِيرَ الْخَسَارَةِ،  
وَأَسْرَارًا تَخْتَرِقُ حُدُودَ الْكَلامِ...  
كَالسَّحَابِ الَّذِي يَحْمِلُ نَدًى وَشَرَارَةً مَكْنُونَةً!

(5)  
فَلْتَكُـنْ أَحْزَانُنَا قَنَادِيلَ تَقْطُرُ نُورًا،  
تُرَصِّعُ دُرُوبَ أَحْلَامِنَا الضَّالَّةِ بِبُذُورِ الْفَجْرِ...  
وَلْنُبْقِ أَعْيُنَنَا صَاحِيَةً كَالنَّخْلَةِ فِي زَمَنِ الْجَدْبِ،  
نَنْتَظِرُ الْبِدَايَةَ الَّتِي تَخْرُجُ مِنْ بَطْنِ الْيَأْسِ،  
كَنَبْتَةٍ عَنِيدَةٍ تَنْبُتُ فِي شَقِّ الصَّخْرَةِ!  
دَعِينَا نُعَانِقُ قُلُوبَنَا الْكَسِيرَةَ - يا رفيقةَ الرجفةِ النبيلةِ -  
كَمَا تُعَانِقُ الْأَرْضُ رُفَاتَ الْبُذُورِ لِتَخْلِقَ مِنْهَا رَبِيعًا... 
فَنَحْنُ لَسْنَا حِكَايَةً نَاقِصَةً،  
وإِنَّمَا نَحْنُ فَصْلٌ مُؤَقَّتٌ فِي رِوَايَةِ الْأَبَدِ،  
نَبْحَثُ عَنْ حُبٍّ يُشْبِهُ الْمَطَرَ:  
يَغْسِلُ الْغُبَارَ،  
وَيَحْمِلُنَا إِلَى شَاطِئِ الْأَمَلِ عَلَى ظَهْرِ أَمْوَاجِ الْدُّمُوعِ.  

(6)  
يَا زَهْرَةَ الْعُمْرِ الْهَارِبِ!  
أَتَدْرِينَ كَيْفَ يَنْسُجُ التَّعَبُ سَجَّادَ الْحَيَاةِ؟  
يَأْخُذُ خُيُوطًا مِنْ ظِلِّنَا،  
وَحَبَّاتٍ مِنْ رَمَادِ أَحْلَامِنَا،
فَيَضْفُرُهَا بِأَصَابِعِ الْقَدَرِ الْعَمْيَاءِ...  
هُوَ لَيْسَ عَاصِفَةً عَابِرَةً،  
وإِنَّمَا هُوَ حَائِكٌ قَدِيمٌ يَخْطُطُ عَلَى نَوْلِ الزَّمَنِ:  
بُسُطًا مِنَ الْحُزْنِ،  
وَسُتْرَةً لِعُرْيِ الْوُجُودِ!  
كُلُّ مَا فِي الْأَمْرِ:  
أَنْتِ تَمْشِينَ عَلَى حَبْلٍ مَمْدُودٍ بَيْنَ:  
جَبَلِ أَحْلَامِكِ وَوَادِي آلامِكِ،  
وَالتَّارِيخُ - وَرَاءَكِ -  
يَلْعَبُ نَرْدَ الْأَقْدَارِ بَيْنَ دَمْعَةٍ وَضَحْكَةٍ...  
فَمَتَى تَعْبُرِينَ الْجِسْرَ؟  
وَمَتَى نُدْرِكُ أَنَّ الْحَبْلَ نَفْسَهُ هُوَ الْخَطُّ الَّذِي يَرْسُمُ رَحْلَتَنَا؟  

(7)  
لَا تَطْرَحِي تِلْكَ اللَّحَظَاتِ 
فِي سَلَّةِ النِّسْيَانِ، يَا نَجْمَتِي...  
حِينَ تَنْكَسِرُ الأَسْمَاءُ وَتَذُوبُ الْخُرَائِطُ،  
فَكُلُّ دَمْعَةٍ: مَرْكَبٌ فِضِّيٌّ يَحْمِلُ حِكَايَةً غَارِقَةً،  
وَكُلُّ شَوْقٍ: غُصَّةٌ تَدُقُّ فِي حَنَاجِرِ الْوُجُودِ نَاقُوسًا!  
أَتَرَيْنَ؟ 
النُّجُومُ تَسْقُطُ لِتَحْمِلَ أَمَانِيَّنَا إِلَى شَاطِئِ الْأَحْقَابِ...  
كَأَنَّهَا رُسُلٌ تَخْطُو عَلَى جِسْرٍ مِنْ دُمُوعِ الْعُشَّاقِ...  
يَا مَنْ تَحْمِلِينَ الظَّلَامَ فِي عَيْنَيْكِ مِصْبَاحًا:  
الضِّيَاءُ يُولَدُ مِنْ رَحِمِ الْيَأْسِ،  
وَالْجَمَالُ يَخْرُجُ مِنْ جُرْحِ التَّعَبِ كَالْعَنْقَاءِ!  
وَإِذَا شَعَرْتِ بِالْإِعْيَاءِ،  
فَاعْلَمِي:  
أَنَّكِ تَنْسُجِينَ مِنْ دَمِكِ شَبَكَةً لِاصْطِيَادِ الْفَجْرِ. 

(8)  
اِلْجَئِي إِلَى قَلْبِكِ...  
هُوَ الْكَهْفُ الَّذِي يَحْتَضِنُ أَسْطُورَةَ صَبَاحَاتِكِ الْبَاكِيَةِ!  
اِتْرُكِي لِدَمْعِكِ أَنْ يَسْكُبَ نَهْرًا،  
يَنْحَتُ فِي صَدْرِكِ وَادِيًا جَدِيدًا...  
لِتَجْرُفَ الْآلَامَ كَأَوْرَاقِ خَرِيفٍ مَيِّتٍ!  
اِذْهَبِي إِلَى مَكَانِكِ الْمُقَدَّسِ...  
حَيْثُ تُغَطُّينَ الْهُمُومَ بِغِطَاءِ السَّمَاءِ،  
وَتَنْسُجِينَ مِنَ الصَّمْتِ سِلْسِلَةً لِقَفَصِ الْأَوْهَامِ...  
اُحْفَظِي هَذِهِ الْوَصِيَّةَ:  
لَنْ تَغِيبَ شَمْسٌ إِلَّا وَوَرَاءَهَا فَجْرٌ يَدُبُّ فِي عُرُوقِ اللَّيْلِ،  
وَكُلُّ كَرْبٍ: مَوْكِبٌ عَابِرٌ يَرْكَعُ أَمَامَ بَابِ الرَّحْمَةِ!  
فَكُلُّ جَفْنٍ يُغْمَضُ: بَذْرَةٌ لِابْتِسَامَةٍ،  
وَكُلُّ شِتَاءٍ: مِهْرَجَانٌ يُعِدُّ لِقَاءَكِ بِرَبِيعٍ يَخْرُجُ مِنْ قَبْرِ الْقَلْبِ. 

(9)  
هَلْ تُصَدِّقِينَ؟
أَحْيَانًا، يَحْمِلُ العَادِيُّ فِي طَوَايَاهُ:
خَرَائِطَ الْكُنُوزِ، وَمَفَاتِيحَ الْأَسْرَارِ!
كُلُّ حَجَرٍ تَدُوسِينَـهُ:  
كِتَابٌ يُحَدِّثُكِ عَنْ أَزَلِ الْأَشْيَاءِ...  
فَاكْشِفِي دُرُوسَ الْوُجُودِ...  
كَمَا تَكْشِفُ الْأَرْضُ عَنْ بُذُورِهَا بَعْدَ الْمَطَرِ!  
اِتْرُكِي الْحُزْنَ يَتَحَوَّلُ إِلَى نَدًى،  
يُرَوِّي زُهُورَ الْفِكْرِ فِي حَدِيقَةِ رُوحِكِ...  
وَانْظُرِي إِلَى الْعَالَمِ:  
لَا بِعَيْنٍ جَدِيدَةٍ فَحَسْبُ،  
بَلْ بِرُؤْيَةِ طِفْلٍ يَفْتَحُ عَيْنَيْهِ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ!  
أَنْتِ...  
لَيْسَتْ جَمَالًا يَتَجَاوَزُ الْخَيَالَ،  
وَلَا قُوَّةً تُحَطِّمُ الْعَوَاصِفَ...  
أَنْتِ الْمَعْنَى الَّذِي يَفُوقُ الْوَصْفَ!  
مِحَنُكِ لَمْ تَنْسُجْ حِكَايَتَكِ...  
بَلْ حَوَّلَتْكِ إِلَى نُسْخَةٍ نَادِرَةٍ مِنْ كِتَابِ الْوُجُودِ!  
وَفِي كُلِّ دَمْعَةٍ:  
لَيْسَتْ زَهْرَةً فَحَسْبُ...  
بَلْ بَابٌ سِرِّيٌّ يُطِلُّ عَلَى مَدِينَةٍ مِنَ الْأَضْوَاءِ فِي أَعْمَاقِكِ. 

وَهَكَذَا...
لَا تَنْطَفِئُ الْحِكَايَةُ عِندَ حَدِّ الْكَلِمَاتِ،
وَلَا تُقْفَلُ الْأَبْوَابُ لِأَنَّ الدُّمُوعَ نَضَبَتْ!
الْحَيَاةُ ـ يَا رَائِحَةَ الصَّبَاحِ الْبَعِيدِ ـ
تُعِيدُ تَرْتِيبَ أَوْرَاقِهَا كُلَّمَا أَلْقَيْنَا جِرَاحَنَا فِي وَجْهِ الرِّيحِ،
فَتَحْمِلُهَا إِلَى عُشِّ الْأَمْسِ الْمُنْسِيِّ...
سَتَبْقَيْنَ نَجْمَةً تُشْعِلُ نَفْسَهَا بِلَهِيبِهَا،
حَتَّى إِذَا ظَنُّوا انْطِفَاءَكِ...
انْفَجَرْتِ كَوْكَبًا مِنْ نُورٍ! 
وَسَتَعْرِفِينَ ـ بَعْدَ أَنْ يَنْكَسِرَ الْوَقْتُ ـ
أَنَّ الْأَلَمَ لَمْ يَكُنْ سِوَى:
حَرْفٍ مِنْ حُرُوفِ الْأَبَدِ فِي رِوَايَةِ قَلْبِكِ الْمُقَدَّسِ...
فَارْفَعِي جِرَاحَكِ تَاجًا لِلصُّعُودِ،
وَامْشِي...
فَرُبَّمَا الْغَدُ الْقَادِمُ ـ خَلْفَ أُفُقِ الْيَأْسِ ـ
يَحْمِلُ الْحُبَّ الَّذِي تَسْتَحِقِّينَ:
حُبًّا يَخْرُجُ مِنْ جَحِيمِ الْانْتِظَارِ كَالْفِينِيقِ!
لِأَنَّكِ ـ يَا مُلْهَمَةَ الْأَزْمِنَةِ ـ
لَسْتِ نِهَايَةً...
وَلَكِنَّكِ الْبِدَايَةُ الَّتِي تَسْكُبُ الْأَبَدَ!

جهاد غريب 
يونيو 2025

الأحد، 1 يونيو 2025

حين يتكلم الصوت: تأملات في الشغف، والشراكة، والملكية الخفية!

 
حين يتكلم الصوت: تأملات في الشغف، والشراكة، والملكية الخفية! 

في زحام الحياة، ثمة أشياء لا تُرى، لكنها تُسمع. أشياء لا تُلمس، لكنها تُحس. الصوت، مثل ظل الروح، ينساب عبر الأثير حاملاً معه حكايات لا تُحكى، وملامح لا تُرسم. في إحدى الزوايا المنسية من هذا العالم، وُلد مشروع صغير، لا يشبه المعامل التجارية، بل يشبه بيتًا للصوت، أو محرابًا يتلو فيه الإبداع صلاته.

كل شيء بدأ بفكرة. لكن الأفكار، حين تكون وحدها، تشبه البذور في أرض قاحلة. احتاجت هذه الفكرة إلى شريك يرويها. أحدهما جاء بالحلم والحنجرة، بالليل الطويل والميكروفون المفتوح، والآخر جاء بالمبلغ الضروري لكي تدور عجلة البداية. كان الاتفاق بسيطًا: شراكة بين المال والرؤية. لكن كما يقول أحد الحكماء: المال يفتتح المشروع، أما القلب فيصنع مجده.

ومضت الأعوام، تتنفس القصائد في الغرف العازلة للصوت، تنمو المشاريع، يُذكر الاسم في المحافل، تُنشر التسجيلات، وتحصد الإعجابات. وكان من الطبيعي أن يُطرح السؤال ذات يوم: من يملك هذا الاسم الذي صار ماركة؟ من يحق له أن يستحوذ على هذه الهوية؟
هل الملكية تُقاس بما دُفع من نقود، أم بما سُكب من روح؟
هل يكفي أن توقّع على عقد لتصبح سيدًا لصوت لا تعرف كيف يولد؟

الصوت لا يعرف الحسابات. إنه يعرف فقط الدفء. يعرف اليد التي تُصلح العطب في نصف الليل، والعين التي تلمح خطأ بسيطًا في نغمة، في حين لا يراه أحد. يعرف من يناديه لا كوظيفة، بل كحياة. ولأن الصوت لا يُشترى، فإن الشغف لا يُباع.

في كل مشروع فني، خاصةً تلك التي تعتمد على الروح أكثر من السلعة، يصبح من الضروري أن نُعيد تعريف "الملكية". الاسم ليس مجرد شعار. إنه خلاصة تجارب، لحظات تعب، تواريخ مسجلة في الذاكرة الجمعية، وارتباط لا واعٍ بين المستمعين ومن صنع لهم هذا العالم الخفي.

لهذا، حين نناقش الحقوق، لا يجب أن نختزلها في عقود جامدة. بل في العدالة. العدالة التي تقول: من بنى الهوية، من أدار، من أحيا، من نشر، من تواصل، من تعب، له النصيب الأوفى. أما من ساعد ماديًا، فله احترامنا، لكن ليس له حق تغيير الملامح التي لم يرسمها.

وهنا تبرز أهمية التوثيق. لا لأننا نشك بالآخرين، بل لأننا نثق في الإبداع ونريد أن نحميه. العقود ليست قيدًا، بل حماية للأحلام. إنها إطار يضمن ألا يتحوّل الفن إلى سلعة يُنتزع منها اسمها ويُمنح لغير أهلها.

كثيرون يعتقدون أن الشراكة تتأسس على المال. لكن الشراكة الحقيقية تُبنى على الرؤية. المال يضيء اللمبة، لكن الإبداع هو من يجعل النور له معنى. ولأن العالم مليء بمن يملكون المال، لكنه فقير بمن يملكون الروح، فإننا بحاجة إلى أن نعيد تعريف قيمة الأشياء.

ما يُنقش في الذاكرة، لا يأتي من بطاقة مصرفية، بل من لحظة صدق. وما يُخلّد ليس الاسم، بل الحكاية خلف الاسم. لذلك، فإن الشراكة التي لا تنصف الإبداع، لا تُثمر. وإن ثمَرت، تظل ناقصة، متأرجحة بين الضجيج والانكسار.

في نهاية الأمر، ليس كل ما يُملَك يُورَث، وليس كل ما يُستثمَر يُقَيَّم بالربح. هناك أشياء تُقاس بما تُحدثه في القلب، بالصدى، بالنبض. الصوت لا يسأل: "من دفع؟"، بل يسأل: "من أحبني حتى صنعتُ منه معنى؟". ففي عالم الإبداع، ليس المال هو البذرة، بل الشغف. ليس الاسم هو اللوحة المعدنية التي تُعلّق على الأبواب، بل هو الارتعاش الخفي الذي يمرّ في روح المستمع حين يتردد الصوت.

الإبداع كائن حي، يتغذى من الحلم، ويرتوي من السهر، وينمو في ظلال الإخلاص. إنه لا يعترف بالعقود وحدها، بل يُقسم على نبض القلب، ويرتبط باليد التي امتدت لتصقل الفكرة من ضباب الحلم إلى نور الواقع. ومهما تشابهت الأسماء، يبقى الأصل لمن نزف من داخله ليمنح الحياة نغمة، ويمنح الكلمة جناحين.

فربّما يُفتَح الاستوديو بأموال الآخرين، لكن الروح التي تحوم بين جدرانه، بين المايكروفون والسكون، لا يُمكِن شراؤها. إنها تلك الروح التي تعرف متى تصمت لتُنصت، ومتى تهمس لتُدهش، ومتى تصرخ لتوقظ فينا معنى الجمال.

وإن كنا نبحث عن العدالة، فلن نكتبها بالحبر وحده، بل بالاعتراف: أن هناك من يعمل بصمت، ومن يضع اسمه على الضوء. لكن الضوء الحقيقي لا يُشترى، بل يُكتسب، حين يكون الصوت امتدادًا للروح، لا لدفتر الشيكات.

لذا، حين نسمع مقطوعة تنبض بالإحساس، أو قصيدة تمشي على نَفَسٍ، فلن نسأل عن اسم المستثمر، بل سنهمس، كما تهمس القلوب حين تُمسّ: "ها هنا عاش من أحب الفن حتى صار هو ذاته نغمةً لا تُنسى".

جهاد غريب 
يونيو 2025

الخيط الذي لا يُرى!

 
الخيط الذي لا يُرى! 

كلّ رحلةٍ تبدأ بسؤالٍ لا يُراد له جواب، بل يُراد له أن يُوقظ شيئًا في الداخل؛ كأنّ الوعي نفسه يُلقي بذرةً في تربةِ الروح، منتظرًا أن تتشقّق الأرض وتخرج منها جذورٌ تبحث عن الضوء لا عن الحقيقة. إننا لا نبحث كي نعرف، بل نبحث لنعيش، لأن المعرفة التي لا تغيّر صاحبها لا تُسمّى معرفة، بل فهرسًا ميتًا لمكتبةٍ لا يزورها أحد.

وليس كلُّ سعيٍ مجرّد حركة!، هناك سعيٌ يشبه التنهيدة التي لا يسمعها أحد، لكنه يُحرّك جدارًا قديمًا في النفس. إنّ الساعي لا يُقاس بوجهته، بل بقدرته على الإصرار رغم أن الأبوابَ موصدةٌ والممراتِ غارقةٌ في الضباب. السعي، في جوهره، ليس مهنة العابرين بل قدر المختارين؛ أولئك الذين قرروا ألا يكونوا صفحةً مكررةً في دفتر الزمن.

ومن بين الخطى، يظهر أولئك الذين مرّوا دون ضجيج، وتركوا فينا أثرًا لا نعرف متى بدأ ولا كيف استقرّ؟! لم يقولوا الكثير، ولم يُهندسوا مصائرنا، لكنهم نقلوا إلينا شيئًا خفيًا، شيئًا يشبه النور حين يتسلل من ثقبٍ في الجدار، لا يُرى مصدره، لكنّنا نشعر بالدفء؛ هؤلاء، بإتقانهم الصامت، حوّلوا القيم إلى نبض، والتفاصيل الصغيرة إلى شعائر. كانوا كالنحات الذي لا يفرّق بين منحوتةٍ لملكٍ وتمثالٍ يُزيّن به باب كوخٍ، لأن الروح واحدة، والاتقان عندهم ليس طموحًا للمديح بل حالة وجودية لا تعرف الزيف.

ومع مرور الزمن، ندرك أنّ ما ظننّاه مواقف عابرة كان في الواقع إرثًا، وأنّ الكلمات التي سمعناها ذات غفلةٍ تحوّلت لاحقًا إلى معيارٍ نقيس به قراراتنا؛ هكذا يتسلّل الإرث المعنوي إلى داخلنا، لا بالحفظ بل بالتحوّل؛ فنصبح شيئًا من أولئك الذين أثّروا فينا، دون أن نتقمّصهم؛ وكأنّهم تركوا فينا نسخةً روحيةً مصغّرة منهم، تنمو معنا وتُربّت على أكتافنا حين نتعثر.

ثم تأتي لحظةٌ يعرض فيها العالم علينا اختباراتٍ قاسية، لحظات نُجبر فيها على مراجعة قناعاتنا، على فكّ الأحكام المسبقة التي بنيناها بحسن نية. وهنا، يظهر الانفتاح لا كترفٍ أخلاقي، بل كقوةٍ عميقة، كشجاعة الاعتراف بأننا لم نكن نعرف. أن نستمع لا لنرد، بل لنفهم، أن نُغيّر المسار لا خنوعًا بل اعترافًا بأنّ القلب يعرف أحيانًا ما لا يقدر العقل على تصديقه.

أما عن اليأس، فهو ليس فقط خيانة للحلم، بل اغتيالا للجزء الأصدق فينا؛ فالذين يتمسكون بأحلامهم رغم الخسائر لا يعيشون في الوهم، بل يكتبون في كلّ فجرٍ سطرًا جديدًا في ملحمةٍ لا يقرؤها إلا من سار في العتمة. إن كلّ لحظةِ نهوضٍ بعد تعثّر، هي احتجاجٌ على الموت الرمزيّ، وتأكيدٌ أنّ النور ليس رفاهية، بل حاجة، وأنّنا إن لم نجده سنخلقه، وإن لم يُنر لنا الطريق سنشعل أنفسنا شموعًا لمن بعدنا.

وربما لن نعرف أبدًا من تأثر بنا، وربما لن تصلنا رسالةٌ تقول: "لقد غيّرتني"، لكننا نواصل المسير لأننا نؤمن أن في كلّ لمسة صادقة، كلّ موقف نقي، كلّ فكرة نابعة من عمقٍ صادق، هناك احتمالٌ صغير أن تُوقظ شيئًا في أحدهم، تمامًا كما حدث معنا يومًا دون أن يدري من أشعل شمعتنا.

وهكذا، نرحل نحو ذواتنا لا بحثًا عن إجاباتٍ نهائية، بل لنكون جديرين بالسؤال. نرحل، نُتقن، نؤمن، ننفتح، نتأثّر ونتحوّل. نكتبُ قصيدةَ الكون بخيوطٍ لا تُرى، ونترك في الأثر وهجًا لا يطفئه الغياب.

جهاد غريب 
يونيو 2025

السبت، 31 مايو 2025

في حضرة النور الذي لا يُقاس، ولا يُشخصن!

 
في حضرة النور الذي لا يُقاس، ولا يُشخصن! 

كان هناك حضورٌ لا يُشبه أحدًا، نورٌ لا يتكئ على اسمٍ أو وجه، بل يتدفق كتيارٍ داخليّ يمرّ فينا جميعًا متى انفتحنا على احتمالات التعلم، وانكسر فينا كبرياء المعرفة الجاهزة. لا يمكن اختزاله في شخصٍ بعينه، لأنه ببساطة يُشبه فكرةً عليا؛ تشبه المطر حين يبلل أرضًا لم يكن يعلم أصحابها أنها عطشى. هو من تلك القوى التي لا نراها، ولكننا نلمس أثرها في طريقة جلوسنا، في طريقة إصغائنا، في الحروف التي نختار قولها والأخرى التي نؤجلها.

الامتنان الذي لا يُكتب، بل يُتجلى:

ليس من السهل أن نكتب عن الامتنان، لأنه لا يُكتب. هو ليس شعورًا مريحًا كما يُعتقد، بل شيئًا يشبه الدمع الذي يتجمّع في طرف العين ولا يسقط. تلك اللحظة التي تفهم فيها أن ثمة مَن ساعدك أن ترى، لا بأن يريك شيئًا، بل بأن أعاد لك عينيك. لا نكتب عن ذلك لنردّ جميلًا، بل لنحاول فهمه. لأننا أمام مواقف كهذه، لا نقول "شكرًا"، بل نُصغي لصمتنا وهو يحاول أن ينطق.

عطايا تُربك قوانين الأخذ والعطاء:

ليس الكرم أن تُعطي فقط، بل أن تُعطي ما يُحرّك روح الآخر، لا ما يملأ يده. هناك مَن كانت كلماته بذورًا، يُلقيها دون أن يراقب إن نبتت، لكنه يعلم أن الأرض لا تخون خصوبتها. لم يكن يمنح أجوبة، بل أسئلةً ذكية تُربك ترتيبك الداخلي، ثم تهبك شكلاً جديدًا للوعي. يشبه ذلك الربيع الذي لا يطرق الباب، لكنه يدخل من الشقوق الخفية، ويملأ الزوايا بالضوء والعطر.

الجسر الذي لا يُبنى بالحجارة: 

من النادر أن تلتقي بحضورٍ لا يريد أن يُنقذك، بل أن يُريك كيف تنقذ نفسك. لا يحملك، بل يعلّمك كيف تُصغي إلى صوت الخطى داخلك. هو الجسر الذي لا يُقام بين ضفتين، بل بين ذاتٍ وذاتها، بين روحٍ كانت تتعثر بكثرة الأسئلة، وبين يقينٍ ناعم يهمس: "لن تُضيّع الطريق، لأن الطريق بداخلك". بعض الأرواح لا تُعلّمنا كيف نصل، بل تجعلنا نعيد تعريف الوصول نفسه.

حين تصبح الحياة درسًا لا يُدرّس: 

"الحياة تُعاش، لا تُروى"، هذه العبارة وحدها كفيلة بإرباك قارئٍ مهووس بالحكاية. لكنها في قلبها دعوة لأن تتحوّل أنت من راوٍ إلى راقص، من مراقب إلى صانع معنى. ليست الحياة فصلاً في كتاب، بل هي الكتاب المفتوح على طاولة قدرٍ واسع، كل صفحةٍ فيه تبدأ بسؤال: "هل أنت مستعد لأن تخطو دون أن تعرف إلى أين؟".

وهناك مَن كان يعلّمك كيف تُمسك بيد اللحظة، لا لتسيطر عليها، بل لترافقها. وكيف تُضيء شمعتك لا لتتغلب على الظلام، بل لتراه على حقيقته.

المعرفة: نسيجٌ من الضوء لا من الورق! 

بعضهم لا يُعطيك معلومة، بل ينسج لك خيوطًا من إدراك. وكأنّ كل جملةٍ منه تُعيد ترتيب أثاث وعيك الداخلي. المعرفة عنده لم تكن مخزونًا، بل شُرفة. لا يتحدث لتُسجّل كلامه، بل ليجعلك تكتب أنت نصّك الخاص. وحين يتحدث عن التفصيل الصغير، يُشعرك أنه جزء من نسيج كونيّ أكبر، وأن لا شيء في الوجود يأتي صدفة، ولا أحد يمرُّ بلا أثر.

الضوء الذي لا يحتاج اسمًا! 

إن ما يجعل هذا النور عزيزًا هو أنه لا يُنسب إلى أحد. لا إلى معلم ولا إلى صديق ولا إلى ملهِمٍ عابر، بل إلى تلك اللحظة الصافية التي يحدث فيها الاتصال بينك وبين أعمق ما فيك. لذلك، لا حاجة لأن نسميه. يكفي أن نترك الباب مفتوحًا ليدخل. يكفي أن نحمل في أرواحنا فسحةً لما لا يمكن وصفه، لأن ما لا يُسمّى، هو غالبًا ما لا يُنسى.

جهاد غريب 
مايو 2025

نسيم الأرواح: في رهافة الوجدان وسموّ الصلات!

 
نسيم الأرواح: في رهافة الوجدان وسموّ الصلات!

ليست المسافات سوى سرابٍ يرسمه الزمن حين تتعانق الأرواح في فضاءٍ لا يعرف القيد، ولا يعترف بالبعد؛ فالمشاعر الصادقة لا تحتاج إلى جسرٍ من الكلمات، بل تهبط على القلب كنسيم الفجر: شفيفة، رقيقة، كأنها رسالة من عالمٍ أنقى. كم من مرةٍ أغمضنا الجفون، فوجدنا من نحبّ أكثر حضورًا من كل ما تدركه الحواس؟ الأرواح المتآلفة لا تفترق، حتى لو تناثرت بينها القارات، لأنها تتخاطر بلغةٍ لا تحتاج إلى حروف، لغةٍ تُسمع بالقلب وتُقرأ بالوجدان قبل أن يبلغها العقل.

وهناك، في الملاذ السري من النفس، حيث تسكن السكينة كشعلة لا تذبل، نجد طمأنينةً لا تُشبهها طمأنينة. كأنّما الروح تتنفس لأول مرة حين تلامس روحًا أُخرى تكملها، لا بالكلام، بل بالحضور الخفيّ، بالصمت المليء بالمعنى. هو الارتياح الذي لا يحتاج إلى تفسير، كظلّ الوادي في قيظ الظهيرة، يأويك دون أن ينتظر عرفانًا. كلما اشتدّ ضجيج العالم، ازداد هذا الصمت عمقًا وجمالًا، كأنه لغة أخرى لا يفهمها إلا من عرف أن النظرات أبلغ من الكلمات، وأن الصمت أحيانًا أكثر وفاءً من آلاف الجُمل.

ولا ينحصر الأمر في رقة الشعور، بل يتجاوزها إلى دهشةٍ أمام تلك الصلابة الهادئة التي لا تنكسر. كالسنديانة العتيقة التي لم تنحنِ لعواصف القرون، هناك أرواحٌ يكون ثباتها كالجبل، لا لأنها لا تتألّم، بل لأنها اختارت أن تكون ملاذًا في وجه الفقد، وصخرةً في نهر الحياة. نراهم فنتعلّم كيف يكون الشموخ بلا قسوة، وكيف نحمل العواصف دون أن نفقد اخضرارنا. هم كالنجوم التي تُرى من بعد، لكنّ نورها يخترق الظلمة، ليذكّرنا أن العتمة ليست نفيًا للضوء، بل تمهيدًا لسطوعه الأصدق.

وما أقسى النسيان... لكنّ الذاكرة تبقى ذلك البستان السرّي، حيث نخزّن وجوه من عبروا بنا ولم يرحلوا منّا. لا يهمّ إن غابوا عن أعيننا، فالحضور الأعمق لا يكون بالجسد، بل بالروح. من يسكن ذاكرتنا لا يغيب، بل يتحوّل إلى جزءٍ من نسيجنا، كالعطر الذي يظلّ عالقًا في المكان بعد ذبول الزهرة. وكم من غائبٍ هو أقرب إلينا من حاضر، لأنّ القرب الحقيقيّ هو أن تجد صوتهم في هدوئك، ولمستهم في صمتك، وأن تصادفهم في تفصيلٍ بسيط لم يكن ليعنيه أحد سواهم.

وفي خضمّ هذا التيه، يأتي اليقين كالنجم الهادئ الذي يهدي السفن في عتمة البحر. الثقة بأننا اخترنا دربنا، وأنّ الصدق الذي نحمله في أعماقنا لا يُشترى ولا يُستعار. إنه العطاء الخفي الذي نمنحه لأنفسنا، كالشمس التي لا تطلب إذنًا لتشرق. نعلم في قرارة أرواحنا أن ما بنيناه من محبّة ونقاء هو البناء الوحيد الذي لا يسقط، لأنه وُلد من الصدق، وسُقي بالنية الصافية.

فليكن الحبّ، بكل ما فيه من شجاعة ورقّة، هو الجواب على كل سؤال لم يُسأل بعد؛ وليكن الإيمان بالمشاعر هو المصباح الذي نحمله في زمنٍ يحاول أن يطفئ كلّ ضوء. ففي النهاية، ليست الحياة إلا تلك اللحظات التي جعلت قلبك ينبض بشيءٍ أعظم من ذاته، ولعلّها وحدها التي تستحق أن تُروى.


جهاد غريب 
مايو 2025

الجمعة، 30 مايو 2025

الذنب والمغفرة: رحلةٌ من الظلمة إلى النور!

 
الذنب والمغفرة: رحلةٌ من الظلمة إلى النور! 

في أعماقِ الروح، حيثُ تُخْبِئُنا ظُلَمُ ذنوبِنا عن أنفُسِنا، تَبرُزُ التوبةُ كفجرٍ يُزيلُ بِخِفَّةٍ سُتورَ الليل. ليستْ كلماتٍ تُقالُ، بل انكسارٌ يُشبهُ سقوطَ أوراقِ الخريفِ بعدَ عِتابِ الريح، استسلاماً لحكمةِ الأرضِ التي تعلمُ أنَّ كلَّ سقوطٍ هو بذرةُ نهوض. هنا، حيثُ لا تُسمعُ أصواتُ العالمِ الخارجيّ، يتحوَّلُ الندمُ إلى ندىً يُحيي ما أجدبَ فينا، ويُعيدُ للقلبِ نقاءَهُ الأوّل، كطِفلٍ يعودُ إلى حضنِ أمِّه بعدَ عناء.  

الذنبُ ليسَ شبحاً يُطارِدُنا، بل مرآةٌ تُريكَ وجهَكَ دونَ زيف. هو ذلكَ الظلُّ الذي يطولُ كلَّما هربتَ منه، ويَقصرُ كلَّما وقفتَ أمامَ الشمس. نحنُ نُجادلُ أنفُسَنا كالمحامينَ أمامَ قاضٍ غيرِ موجود، ننسى أنَّ الحقيقةَ لا تحتاجُ إلى دفاع، بل إلى شجاعةِ الاعتراف. الذنبُ الحقيقيُّ ليسَ في الخطيئة، بل في الهروبِ منها، كمن يُطفئُ النورَ لئلا يرى الغُبارَ على ثيابِه.  

ولكنْ، ماذا نفعلُ بهذا الثقلِ الذي يُثقِلُ أجنحةَ الروح؟ كيفَ نحملهُ دونَ أنْ نسحقَ أنفُسَنا تحتَ وطأتِه؟ الجوابُ بسيطٌ وعسير: أنْ ترفعَهُ إلى السماءِ كعُصفورٍ جريح، وتقولَ: "ها أنا ذا، اعترفُ بأنِّي ضعيف". ففي لحظةِ الصدقِ هذه، يُصبِحُ الذنبُ جسراً، لا حاجزاً؛ وهنا، في سياقِ الإيمان، تتجلّى المغفرةُ كعطاءٍ إلهيٍّ يمنحُ الروحَ سلامًا وسكينةً تتجاوزُ حدودَ الفهمِ البشريّ.  

والمغفرة؟ ليستْ كلمةً تُقالُ، بل نهرٌ يجري بلا ضفاف. هي كالشمسِ التي لا تنتظرُ من الزهورِ أنْ تفتحَ لها قلوبَها كي تُشرق. نخطئُ حينَ نعتقدُ أنَّ المغفرةَ تحتاجُ إلى طلبٍ، أو أنَّها صفقةٌ بينَ الجاني والضحيّة. الحقيقةُ أنَّ المغفرةَ الحقيقيةَ تُعطى كالماءِ للعطشان، لا لأنَّه يستحق، بل لأنَّ العطشَ يكفيهِ عقاباً؛ وما أعمقَ أثرَها على النفسِ حينَ تُحرِّرُها من سجنِ الماضي، فتُشرقُ بالسلامِ الداخليّ، كأنّها نسمةٌ تُذيبُ جليدَ القلبِ بلا صوت.  

وما أقسى أنْ نغفرَ للآخرينَ بينما نحنُ لا نغفرُ لأنفُسِنا! كأنَّنا نُطفئُ النارَ في بيتِ الجارِ ونتركُ بيتَنا يحترق. المغفرةُ تبدأُ من الداخل، كبذرةٍ تُزرعُ في تربةِ القلبِ قبلَ أنْ تُثمرَ في حياةِ الآخرين. إنَّها كالنسيمِ الذي يحملُ عطرَ الزهرِ دونَ أنْ ينتظرَ شكراً. بيدَ أنَّ الاعترافَ بالذنبِ يتبعهُ وعيٌ بالمسؤوليةِ وسعيٌ صادقٌ لتجنبِ الوقوعِ فيهِ مرةً أخرى، فالتوبةُ الحقيقيةُ فعلٌ مستمرٌّ لا مجردُ كلمةٍ عابرة.  

في النهاية، الذنبُ والمغفرةُ ليسا نقيضَين، بل هما كالليلِ والنهار: يتعاقبانِ كي تبقى الحياة. الذنبُ يُذكِّرُنا بأنَّنا بشر، والمغفرةُ تُذكِّرُنا بأنَّنا قادرونَ على أنْ نكونَ أكبرَ من أخطائِنا. الفرقُ بينَ التائبِ وغيرِه كالفرقِ بينَ من يرى في الكأسِ شرخاً، ومن يراها قادرةً على أنْ تمتلئَ مرةً أخرى.  

فلنعترفْ، ولنغفر، ولنعشْ كما تعيشُ الأشجارُ: تسقطُ أوراقُها دونَ خوف، لأنَّها تعلمُ أنَّ الربيعَ آتٍ. فما أقسى الذنبَ إلا رحمةٌ مُقنَّعة، وما أجملَ المغفرةَ إلا ذنبٌ تُحوِّلَهُ المحبةُ إلى نور.  


جهاد غريب 
مايو 2025

المال: النار التي تُدفئُ أو تُحرق!

 
المال: النار التي تُدفئُ أو تُحرق! 

في زحمةِ الحياةِ، حيثُ تتدافعُ الأرواحُ كأمواجِ البحرِ أمامَ صخرةِ المادّة، يقفُ المالُ كساحرٍ صامتٍ يُحرّكُ خيوطَ المشهدِ من خلفِ الستار. ليسَ شرّاً مطلقاً ولا خيراً مطلقاً، بل هو كالنار: يُدفئُ من يعرفُ كيفَ يُمسكُ به، ويُحرقُ من يظنُّ أنَّ قبضتَه قادرةٌ على احتواءِ لَظاه.  

لطالما كان المالُ شاهداً على تحوّلاتِ البشرية. بدأَ قمحاً وملحاً في زمنِ المقايضة، ثم صارَ قطعاً معدنيةً تحملُ وجوهَ الملوك، وتطوّرَ إلى أوراقٍ نقديةٍ تختزلُ ثقةَ الأمم. واليوم، في عصرِ التكنولوجيا، أصبحَ أرقاماً تسبحُ في فضاءِ الإنترنت. لكنَّ جوهرَه بقيَ كما هو: وسيطاً للتبادل، ومقياساً للقيمة، وأداةً للقوة. هل تعلمُ أنَّ الإمبراطوريةَ الرومانيةَ سقطتْ جزئياً بسببِ التضخّم؟ وأنَّ دولاً نهضتْ من خلالِ نظمٍ ماليةٍ عادلة؟ المالُ ليسَ مجردَ عملة، بل هو سجلٌّ خفيٌّ لتاريخِ الصراعِ البشريّ بينَ العدلِ والجشع.  

يقولونَ إنَّ المالَ لا يُغيّرُ الأشخاص، بل يزيحُ الستارَ عن حقيقتِهم. أعطِ إنساناً فجأةً ثروةً، وانظرْ كيفَ يتصرّف: هل يتحوّلُ إلى "قارون" جديدٍ يخبئُ الذهبَ في خزائنَه؟ أم إلى "حاتم الطائي" يوزّعُه على المحتاجين؟ العلمُ الحديثُ يخبرنا أنَّ هناكَ "جيناتِ سخاء" و"جيناتِ بخل"، لكنَّ البيئةَ والقيمَ تظلُّ الأقوى تأثيراً. دراساتُ علمِ النفسِ تُظهرُ أنَّ الأغنياءَ قد يصبحونَ أقلَّ تعاطفاً مع معاناةِ الآخرين، بينما يُحفّزُ المالُ عندَ البعضِ روحَ العطاء. السؤالُ الأهم: أيُّ وجهٍ من وجوهِك سيكشفُ المالُ لو ظهرَ فجأةً في حياتك؟  

نعم، المالُ يشتري لكَ سريراً وثيراً، لكنّه لا يضمنُ نوماً هانئاً. يشتري لكَ طعاماً لذيذاً، لكنّه لا يمنحُك شهيةً لتذوّقِه. الأبحاثُ تقولُ إنَّ المالَ يزيدُ السعادةَ فقط إلى حدٍّ معين (حوالي 75 ألف دولار سنوياً في الدول المتقدمة)، بعدها تصبحُ المنافسةُ على المزيدِ سباقاً فارغاً. لماذا؟ لأنَّ السعادةَ الحقيقيةَ تُبنى من أشياءَ لا تُباعُ في الأسواق: لحظاتُ ضحكٍ مع أحباب، سلامٌ داخليّ، إحساسٌ بأنَّ حياتك لها معنى. الفيلسوفُ "أرسطو" كانَ محقاً: "الثروةُ وسيلةٌ للحياةِ الطيبة، وليستْ الحياةَ الطيبةَ نفسَها".

إنّ التعامل مع المال أشبه باحتضان جمرةٍ متّقدةٍ بين كفّيك، إن أمسكتها بحكمةٍ أدفأتْ روحك، وإن أفرطت في القبض عليها أحرقتْ وجودك. لا تجعل منه إلهاً يعبد من دون الحياة، فالحياةُ حين تتحوّل إلى سعيٍ محمومٍ وراء الأرقام تصبح سجناً ذهبياً، تُحسب فيه الأيامُ بأصفارٍ في الحساب، لا بضحكاتٍ في العيون. وتعلّم فنّ الموازنة بين ادّخار المستقبل وعيش الحاضر، فالمالُ مثل الماء، إن خزّنته ببخلٍ أصبح آسناً، وإن أفرطتَ في إنفاقه جفّت ينابيعُ الأمان. اشترِ ما تحتاجُه لكرامتك، لا ما يتطلّبهُ جشعُك، فالرفاهيةُ الحقيقيةُ ليست في تكديس الأشياء، بل في تحرير القلب من عبء التعلّق بها.  

واستثمر في العملات التي لا تهبطُ أسعارها أبداً: الوقتُ الذي تمنحُه لمن تحب، الصدقُ الذي يبني جسور الثقة، المعرفةُ التي تُضيء العقل، العلاقاتُ الإنسانيةُ التي تصنعُ شبكةَ الأمان عندما تهتزّ أركان الدنيا. وتذكّر دائماً أنك حارسٌ للمال، لا مالكٌ أبديّ له، فهو أمانةٌ بين يديك، وسيأتي يومٌ تتركُه وراءك كما تركَه كلُّ من سبقك. الأجملُ أن تتركَ أثراً يُذكرُ بعدك: بسمةً زرعتها، يداً مسكتها، حلماً ساعدتَ في تحقيقه، فهذه هي الثروةُ التي لا تفنى، حتى عندما تتلاشى كلُّ العملات من الذاكرة.

في النهاية، المالُ كالظلِّ: إذا طاردتَه، ابتعدَ عنك. إذا مشيتَ في نورِ قيمِك، تبِعَك. لن تأخذَ معك إلى القبرِ إلا ما أنفقْتَه على الآخرين، لا ما جمعتَه لنفسك. فلتكنْ حكيمَ العطاءِ كالغيثِ، لا حريصَ الادخارِ كالصحراء. لأنَّ الحياةَ – في عمقِها – ليستْ رقماً في حساب، بل قصّةٌ تُروى بأفعالٍ تبقى بعدَ زوالِ العملات.


جهاد غريب 
مايو 2025

الفخر: نهضة الروح من بين الرماد!

 
الفخر: نهضة الروح من بين الرماد!  

في ساحةِ الحياةِ، حيثُ تتهاوى التماثيلُ الوهميةُ التي ننحتُها لأنفسِنا، يبرزُ الفخرُ الحقيقيُّ كطائرِ الفينيقِ الذي ينهضُ من رمادِ تجاربه. ليس تيهاً ولا تبجحاً، بل شموخٌ صامتٌ كالجبلِ الذي يَحمِلُ آثارَ العواصفِ على صدرِه، لكنّه يبقى شامخاً بكرامتِه. الفخرُ ليس أن تسيرَ بلا عثرات، بل أن تلتفتَ إلى الوراءَ فترى كلَّ سقطةٍ قد تحوّلتْ إلى حجرٍ في طريقِ صعودِك.  

كم من مرةٍ سمعنا أن الفخر هو مرآة الهوية؟ إنه الشعور الذي يربطنا بجذورنا وإنجازاتنا، فيصنع منا كائناتٍ متماسكةً قادرةً على مواجهة العالم. الفخرُ هو ذلك الخيطُ الخفيُّ الذي ينسجُ نسيجَ هويتنا، فرديةً كانت أم جماعية. فحين يعترفُ المرءُ بإنجازاته، حتى الصغيرة منها، فإنه يبني صورةً ذاتيةً قويةً تقاومُ رياحَ التشكيكِ الخارجية. وفي المجتمع، يصبح الفخرُ الجماعيُّ جسراً للانتماء، كما نرى في قصصِ الشعوبِ التي حوّلتْ آلامَها إلى مصادرَ للقوةِ والوحدة.  

لكنّ الفخرَ ليس مفهوماً واحداً في كلّ الثقافات. فبينما ترى بعضُ المجتمعاتِ فيه وقوداً للتقدم، تحذّرُ أخرى من تحوّله إلى غرورٍ يعمي العيون. في اليابان مثلاً، يُقدَّر التواضعُ حتى عند الإنجاز الكبير، بينما في ثقافاتٍ أخرى، يكون الفخرُ علنياً كعلامةٍ على الثقةِ بالنفس. هذا التنوعُ يذكرنا بأن الفخرَ الحقيقيَّ لا يحتاجُ إلى ضجيجٍ ليثبتَ وجوده، بل يكفيه أن يكونَ صادقاً في أعماق النفس.  

كيف ننمي الفخرَ الحقيقيَّ في النفوس؟ تبدأ القصةُ منذ الطفولة، حين يعلّمنا الأهلُ أن نرى الجمالَ في محاولاتنا، وليس فقط في نتائجنا. فطفلٌ يشعرُ بالفخرِ لأنّه تعلمَ ربطَ حذائه بنفسه، سيكبرُ ليكونَ إنساناً يقدّرُ الجهدَ ويعرفُ قيمةَ نفسه. أما عندما يُربَّى الإنسانُ على أن الكمالَ هو المعيارُ الوحيد، فإنّ أيّ خطأٍ سيشعرُه بالخزي بدلاً من الفخرِ بالتعلّم.  

وهنا يأتي السؤالُ الأهم: متى يتحولُ الفخرُ إلى غرور؟ الفرقُ بينهما كالفرقِ بين النهرِ العذبِ والبحرِ المالح: الأولُ يروي ويُنعش، والثاني يغرقُ من يسبحُ فيه. الفخرُ الإيجابيُّ هو أن تقول: أنا ممتنٌ لما حققته، أما الغرورُ فهو أن تظنَّ أنك وصلتَ بلا معين. قال الحكيم: لا تكنْ كالقشةِ التي تطفو على الماءِ فتبالغُ في اعتدادها، بينما جذورُ الشجرةِ العظيمةِ تخفي نفسَها في الأرضِ وهي ترفعُ أغصانَها إلى السماء.  

وكما تختلفُ مياهُ النهرِ عن ملوحةِ البحر، يختلفُ الفخرُ عن الغرورِ في أعماقِ تأثيرهِ على النفسِ والآخرين. لكنّ السؤالَ الأبقى: هل يمكنُ للفخرِ أن يصبحَ جسراً نحو التواضعِ بدلاً من أن يكونَ حاجزاً أمامه؟ بل إنّ الفخرَ الحقيقيَّ يمكن أن يكونَ تواضعاً! كيف؟ حين تعرفُ أن إنجازَك هو ثمرةٌ لجهودٍ كثيرةٍ: دعمِ الأهل، تضحياتِ المعلّمين، وحتى تحدياتِ الحياةِ التي صنعتْ منك ما أنت عليه. أليستْ أروعَ لحظاتِ الفخرِ هي تلك التي تشعرُ فيها بالامتنانِ لكلّ من ساعدَك في الطريق؟  

تخيّلْ معي شجرةَ البلوطِ العتيقة: كلّ حلقةٍ في جذعها تحكي قصةَ عاصفةٍ تجاوزتها. هكذا يكونُ الفخرُ وقوداً للمرونةِ النفسية. حين تفخرُ بأنك استطعتَ النهوضَ بعد فشلٍ مرير، فإنّك تبنى داخلَك حصناً ضدّ اليأس. وكما كتبَتْ الشاعرةُ الأمريكيةُ مايا أنجيلو: لقد تعثرتُ فسقطتُ، لكنّي نهضتُ بفخرٍ لأنّ السقوطَ لم يهزمْ روحي.  

تذكّرْ معي المهندسَ الذي فخرَ ببناءِ جسرٍ صغيرٍ في قريته قبل أن يصمّمَ أعظمَ الجسور. أو الطالبةَ التي فخرتْ بخطواتها الأولى في القراءة قبل أن تصبحَ كاتبةً مشهورة. هؤلاء لم ينتظروا إنجازاتٍ ضخمةً ليشعروا بالفخر، بل عرفوا أن كلَّ خطوةٍ تستحقُ الاحتفال.  

في النهاية، الفخرُ الحقيقيُّ هو أن تعيشَ حياتَكَ كلّها كقصيدةٍ تكتبها بأناملك، لا كصورةٍ يحكمُ عليها الآخرون. هو أن ترى في كلِّ جرحٍ إمكانيةً لولادةٍ جديدة، وفي كلِّ فشلٍ بدايةً لمحاولةٍ أخرى.  

فليكنْ فخرُك كالشمسِ التي تُشرقُ دونَ أن تنتظرَ إعجابَ الناظرين، وكالوردةِ التي تزهرُ بين الصخورِ لأنّها تعرفُ أن الجمالَ حقٌّ لها، حتى لو لم يرَها أحد. وتذكّرْ دائماً: أعظمُ انتصارٍ هو أن تظلَّ إنساناً يحملُ قلباً شجاعاً، يعترفُ بضعفهِ أحياناً، لكنّه يرفضُ أن ينكسر.  

فماذا ستختارُ اليوم؟ هل ستتركُ الحياةَ تكتبُ على جبينك سطورَ الخضوع، أم سترفعُ رأسَكَ بفخرٍ وتقول: هذه أنا... كاملةٌ بنقائصي، جميلةٌ بتحدياتي، وقويةٌ بقدرِ ما أعطيتُ لهذه الحياةِ من معنى؟

جهاد غريب 
مايو 2025

الخميس، 29 مايو 2025

أسرار البوح.. حين تتحول الكلمات إلى جروح نختارها بأيدينا!

 
أسرار البوح.. حين تتحول الكلمات إلى جروح نختارها بأيدينا! 

كم من كلمةٍ أطلقناها بثقةٍ عمياء، فعادت إلينا كسهمٍ مسموم؟ كم من سرٍّ دفعناه إلى آذانٍ ظنناها حصونًا، فإذا بها نوافذُ مفتوحةٌ على عواصف لم نتوقعها؟  

هذه ليست قصة خيانةٍ عابرة، بل سيرة علاقتنا مع الكلمة نفسها!، ذلك الكائن الحي الذي نمنحه الحياة حين ننطقه، ثم يفاجئنا بأنه قد ينقلب ضدنا كائنًا متوحشًا. من براءة الطفل الذي يرى في البوح خلاصًا، إلى حكمة الرجل الذي اكتشف أن بعض الصمت ليس انسحابًا، بل تحصينًا لبقايا الروح.  

الكِبَرُ والحكمة: حين يصمت القلب لِيُحافِظَ على أسراره! 

لم أكتب هذه الكلمات اليوم بحثًا عن تنفيسٍ، فلم أعد ذلك الشخص الذي يلهث وراء فُرَص البوح كي يخفف ثِقل ما في داخله. في سنوات الصبا، كنّا نرى في "الفضفضة" ملاذًا آمِنًا، بل ومتنفّسًا ضروريًا لِما يعتمل في الصدر من ألمٍ أو ضيق. كنّا نؤمن بأن الكلمات تُحرّرنا، وأن الأذن التي تسمعنا هي يدٌ تحمينا.  

في تلك المرحلة، لم تكن لدينا أدواتٌ لفهم تعقيدات المشاعر، ولا الخبرة الكافية لنُدرك أن كلمات الضعف قد تتحوّل يومًا إلى سلاحٍ يُوجَّه ضدّنا. كنّا نرى في مشاركة الألمِ راحةً، وفي الكلمات العذبةِ ضمادًا للجروح. كنّا نعتقد أن من يمنحنا أذنًا مُتعاطفةً هو حارسٌ أمينٌ لأسرارنا، وأن البوحَ نافذةٌ نحو الشفاء، لا جسرٌ نحو الخذلان.  

لكنّ السنوات علّمتنا. اكتشفنا أن بعضَ من أَفرَشنا لهم قلوبنا، لم يكونوا يسمعون برحمةٍ، بل كانوا يُسجّلون في ذاكرتهم تفاصيلَ هشّةً، قد تُستعاد ذات يومٍ حين تختلّ موازين العلاقة. تعلّمنا أن بعض القلوبَ لا تُحافظ على أمانة السرّ، وأن النوايا الطيبة وحدها لا تكفي لِحِمايةِ ما نُخفيه.  

الفضفضة.. حين يتحول الكلام إلى قيد! 

تعلّمنا - ربما بمرارة التجربة - أن البوحَ ليس دائمًا مَخرجًا للحرية، بل قد يصبح قيدًا جديدًا نُضيفه إلى أعبائنا!، فما نُفشيَه من أسرارٍ قد يتبخّر من ذاكرتنا، لكنه يبقى محفورًا في أذهان من سمعوه، وقد ننسى لحظات ضعفنا بعد أن نُصالِحَها، لكننا لا نستطيع ضمانَ أن يفعلَ الآخرون الشيءَ نفسَه.  

في الماضي، آمنّا - كأطفالٍ يحملون قلوبهم على الأكفّ - أن الكلامَ يُعطينا الأمان، وأن مجردَ النطقِ بالألم يُذهبه، لكننا لم نكن ندرك أن الشفاءَ الحقيقيَّ لا ينزلُ علينا من سماءِ تعاطف الآخرين، بل ينبثقُ من أعماقنا. من تلك اللحظاتِ التي نعيدُ فيها بناءَ أنفسنا في صمت، نواجهُ فيها أوجاعنا دون شهود، نكتسبُ فيها الحكمةَ التي تميّز بين من يُصلِحُ كلماتهِ مرهمًا لجروحنا، ومن يحوّلها إلى جمرٍ تحت الرماد.  

لذلك، لم أعد أبحثُ عن خلاصٍ في كلماتٍ أهدرُها أمامَ أحد. ليس هذا تكبّرًا، بل احترامًا لرحلتي. لم أعد أطلبُ أن يحتويَني أحدٌ بكلامه، بل بسكوتهِ الذي يفهمُني دون حروف. ولم أعد أرى في البوحِ دليلَ ثقةٍ عمياء، بل أرى فيه أمانةً لا يستحقّها إلا من أثبتَ - بوعيهِ ونضجهِ - أنه قادرٌ على حملِ ثقلها.  

بوحٌ بمواصفات.. حين تصبح الثقة قرارًا وليس انفعالًا! 

لم يعد البوحُ - بعد كل هذه السنوات - مجردَ إفراغٍ عشوائي لمحتويات القلب في أي أذنٍ تسمع. لقد تعلّمتُ أن الكشفَ عن الذات يحتاج إلى أكثر من مجردِ قلبٍ دافئ؛ فهو يقتضي وعيًا حادًا، ومساحةً مُحصّنة، وقدرةً على التمييز بين اللحظاتِ التي تتطلّب الكلام وتلك التي تستحق الصمت. البوحُ ليس هروبًا، بل مسؤوليةٌ توازي مسؤولية حفظ السرّ. وأولُ شرطٍ له أن تكون مستعدًا لتحمّل تبعاته، مهما بلغت ثقلًا.  

كما اكتشفتُ أن الثقةَ ليست نبضةً عابرةً نُطلقها في لحظة ضعفٍ أو وحدة!، إنها قرارٌ واعٍ نمنحه فقط لمن أثبتَ - عبر الزمن والأفعال - أنه قادرٌ على حملِ أمانتها. لا تكفي الكلماتُ المعسولة، ولا الإيماءاتُ المتعاطفة، ولا حتى الإنصاتُ الجيد كي نسلّمَ أحدًا مفاتيحَ دواخلنا. فكم من أذنٍ منصتةٍ تختبئ خلفها ذاكرةٌ تعبثُ بالأسرار كأوراقٍ في مهبّ الريح!  

الحقيقةُ المُرة أن قلائلَ فقط هم من يمتلكون ذلك النضجَ الذي يجعلهم حصنًا لِما يُقال لهم. أناسٌ يعاملون كلماتك كوديعةٍ مقدسة، لا يتلاعبون بها حتى لو اختلفتم، ولا يتّخذونها سلاحًا حتى لو جُرحوا. قلائلُ مَن يفهمون أن الأسرارَ ليست حكاياتٍ تصلحُ للترفيه، بل شظايا أرواحٍ يجب أن تبقى حيثُ وُضعت.  

الصمت.. حين يصبح الاختيار الأخير لإنقاذ ما تبقى منك! 

في الحياة دروس قاسية لا تُفهم إلا عندما تتحول الثقة إلى سكين. كم هو مُربك أن تكتشف - بعد فوات الأوان - أن ذلك الكتف الذي اتكأت عليه لم يكن سوى أرشيف مؤقت، وأن تلك الأذن التي أمنتها على أحزانك تحولت فجأة إلى منصة إعدام، تُهدم فيها كل الذكريات بلحظة غضب واحدة.  

ليست المشكلة في الهجر أو القطيعة، بل في ذلك التحول المفاجئ من "سرّ بيننا" إلى "سلاح ضدك". إنها خيانة مزدوجة: للأمس الذي انكشف، وللصورة التي رسمتها في مخيلتك عن هذا الإنسان. هناك جراح لا تلتئم لأنها تعرّضت للهواء أمام العيون الخطأ، لا لأنها نزفت كثيراً.  

لهذا أصبح الصمت خياري. ليس هروباً من المواجهة، بل إنقاذاً لما تبقى منّي. تعلمت أن أُخضع قلبي لرقابة عقلي، وأن أختبر الأرواح قبل أن أودعها أسراراً. لم أعد أبحث عن أذن تسمعني، بل عن روح تفهم أن الأمانة ليست مجرد كلمات تُقال، بل ميثاق غير مكتوب - يقف صاحبه حارساً لك حتى في غيابك.  

ذاكرة الصداقة.. حين تتحول البراءة إلى سيرة ذاتية للمراجعة! 

أكتب هذه السطور وأنا أستعيد ذكرى صديقٍ ظننته يوماً أنه سيكون ظلي الذي لا يغيب. تعرّفنا في زمن المدرسة حين كانت الدنيا تتسع بأحلامنا، وكنا نضحك وكأننا اخترعنا الفرحَ من العدم. كنا نروي لبعضنا تفاصيل أيامنا كمن ينسج سجلاً مشتركاً لروحين التحمتا قبل أن تعرفا كيف تكون الخيانات.  

كان أول من يسمع فرحي قبل أن يكتمل، وأول من يلمس جراحي قبل أن تدمى. لم أكن أتردد في أن أفرغ له قلبي كما يُفرغ الطفلُ جيوبه من حصى ملونة أمام أمه. كانت ثقتي به أشبه بثقة الأرض بالشمس - لا تحتاج إلى استئذانٍ أو تأكيد. بيتي كان بيته، وضحكة إخوتي كانت ضحكته، وكنا في المناسبات نبدو كشاهدين على أن الأخوة يمكن أن تكون مصنوعة من اختيار القلب لا من دماء القرابة.  

حملنا أحلاماً طفولية كفراشات لا تعرف أن في العالم زجاجاً. خططنا أن نعبر الحياة معاً كرفيقَي درب لا يفترقان، أن نكتب قصص نجاحنا بنفس الحبر، أن نكبر معاً دون أن ننسى كيف نلعب. تلك الأحلام التي نكتشف لاحقاً أنها كانت جميلةً فقط لأنها لم تصطدم بواقعٍ قاسٍ بعد.  

كل ذاكرة معه كانت تبني في داخلي يقيناً أن بعض العلاقات تُولد محصّنة ضد النهايات... لكن الزمن أثبت أنني كنتُ ساذجاً، أو ربما كنتُ مؤمناً بالطِيْبَة وبالبساطة أكثر مما يجب.  

الخيانة.. حين يتحول الصندوق المقدس إلى سلاح في العراء! 

لكن الحياة - بسخريةٍ قاسية - كانت تختزن لي درساً لم أكن مستعداً له. حين اختلفنا ذلك اليوم، في خلافٍ بدا عادياً كأي نزاع بين أصدقاء، لم أتخيل للحظة أن رياحاً عابرةً ستتحول إلى إعصارٍ يقتلع جذورَ عشرين عاماً من الثقة. فجأةً، انفتح ذلك الصندوق الذي أودعته كل أسرار روحي، لا بحثاً عن حلّ أو تفاهم، بل بدافعٍ أشبه برغبةٍ مَرَضيةٍ في التشفي والانتقام.  

نشر كلماتي التي قالها له قلبي الطيب، كما ينشرُ التاجرُ بضاعته الرخيصة في السوق. كل همسةٍ ثقةٍ، كل دمعَةِ ضعفٍ، كل اعترافٍ بريءٍ - حوّلها إلى عملةٍ زائفةٍ يتداولها إخوتي وأقرب الناس. لم يتردد لحظةً في كسر ذلك الميثاق غير المكتوب الذي يقول: "ما يُقال في ظل الثقة يموت حيثُ قيل". لم يكن هناك ذرة وفاءٍ تكبح لسانه، ولا ذكرياتٌ تردعه عن خيانةِ كل تلك السنوات.  

في ذلك الوقت، كنتُ لا أزال ساذجاً أعتقد أن القلوبَ كلها تحملُ نفس المروءة. لم أكن أعرف أن بعض النفوسَ تختزنُ أسرارك كرصيدٍ استراتيجيٍ لساعة الغضب. كنتُ أؤمن - ببراءةٍ موجعة - أن الناسَ كالأشجار، كلما تعلقتَ بها أكثر، زادت ظلالُها حمايةً. لكني اكتشفتُ أن بعضهم مجرد خيامٍ مهترئةٍ، تسقطُ عند أول هبة ريح، وتتركك عارياً في العاصفة.  

الندم.. حين تكتشف أن الكلمات أسلحة ذات حدين!

ولعل القسط الأكبر من الألم لم يكن في الخيانة ذاتها، بل في ذلك الإحلال الجارح الذي تسلل إلى روحي: خجلٌ من ذاتي! كيف أمكن للبصيرة أن تعمى إلى هذا الحد؟ كيف منحتُ مفاتيح قلبي بكل سهولة لمن لم يكن يستحق حتى نظرة عابرة؟ كيف كشفتُ أعماقي لمن ظننتُه سطحاً آمناً؟  

نعم، اكتشفتُ الحقيقة مبكراً، لكن ليس مبكراً بما يكفي لإنقاذ طفولتي التي تحطمت في تلك اللحظة. بعض الجروح لا تحتاج سوى ثانية واحدة لتحدث، لكنها تحتاج إلى عمرٍ كاملٍ لالتئامها. كانت تلك الخيانة بمثابة الخط الفاصل بين عالمين: عالم الطفل الذي رأى الدنيا حديقةً مغلقةً للأسرار الآمنة، وعالم الرجل الذي أدرك أن بعض القلوب قد تكون أقفاصاً مسننةً تنتظر اللحظة المناسبة للانقضاض.  

منذ ذلك اليوم، بدأت مرحلةٌ جديدةٌ من الوعي. صرت أتعامل مع الكلمات كما يتعامل الكيميائي مع موادّه: بقياسات دقيقة، ووعي تام بأن أي تسرع قد يُحدث انفجاراً لا يُحتمل. تعلمتُ - ربما متأخراً - أن الكلمة بمجرد خروجها من الفم، تتحول إلى كيان مستقل. لا تعود ملكاً لصاحبها، بل تصبح رهينةً في ذاكرة الآخرين، قابلةً للتحول إلى سكين أو شفرة أو حجر عثرة في أي لحظة.  

البوح لم يعد ذلك الفعل العفوي الذي كنتُ أعتقده. لقد أصبح مسؤوليةً أخلاقيةً تتطلب إجابات صارمة: من هو المستحق حقاً لأن يرى عراءَ روحك؟ هل سيحمل هذه الأمانة أم سيتاجر بها؟ الكلمات التي نلقيها في لحظة ضعف قد تتحول إلى سُحب سامة نستنشقها لاحقاً في غرفة الندم المغلقة.  

حكمة التجارب.. حين تصبح العزلة ملاذًا والثقة امتحانًا متكررًا! 

التجارب.. تلك المعلّمة القاسية التي لا تمنحك كراسة تعليمات، بل تدفعك إلى ساحة الاختبار ثم تتربص بك. لا ترحمك إن تعثرت، ولا تكافئك إن نجوت، لكنها - في كل الأحوال - تنحتك نحتًا. علمتني أن الصمت قد يكون أحيانًا أقوى بيان، وأن الحذر ليس جبنًا، بل بوصلةُ نجاةٍ في عالمٍ يخلط بين الثقة والسذاجة.  

أصبحت اليوم أرى في العزلةِ رفاهيةً لا يستطيعها إلا من نضج. صار صمتي لغتي الثانية، أتحدثها عندما يعجز الآخرون عن فهم معنى "الاحتفاظ بالكلام". لم أعد أخشى الوحدة، بل صرتُ أجد في هدوئها مساحةً لأعيدَ ترتيبَ أوراقي بعيدًا عن ضجيج الوعود الهشة، وتلك الآذان التي تلتقط الكلمات لا لتحتويها، بل لتخزّنها كأسلحةٍ في ترسانة المستقبل.  

ومع ذلك، جاءت الحياةُ باختبارٍ جديد. ظهر صديقٌ آخرُ كضوءٍ دافئٍ بعد ليلةٍ مطيرة، ملأ ذلك الفراغَ الذي تركه سابقه. لم أبحث عنه، لكنه دخل حياتي كما تدخل أشعة الشمس من نافذةٍ نصف مفتوحة. ظننتُ أن جراح الماضي كفيلةٌ بتحصيني، لكني اكتشفت أن الدروسَ المصيريةَ تعودُ إلينا دائمًا بأقنعةٍ جديدة. كأن الكونَ يقول: "المهمة لم تكتمل بعد".  

الاحتلال الهادئ.. حين يتحول الاهتمام إلى استعمار للذات! 

لم يكن هذا الصديق من النوع الذي يخون بالأقوال، بل كان خيانته أكثر دهاءً: خيانةً بالوجود. ظهر كـ"حارسٍ" لأسرار لم يُؤتمن عليها، و"مستشارٍ" لم يُستشر. حرصه المفرط على أن يكون "الكتف الذي لا يخور" تحول ببطء إلى قبضةٍ ناعمةٍ تسيطر دون أن تظهر؛ كالماء الذي يتسلل إلى شقوق الصخر، كان يملأ مساحاتي قبل أن أدرك أنني أفرطت في منحه مفاتيحها.  

لم يأخذ شيئًا بالقوة، لكنه أخذ كل شيء بالتدريج. أصبح حاضرًا في تفاصيحي كما يكون الظل في عز النهار: في قراراتي التي صارت تحمل بصمته قبل بصمتي، في ترددي الذي صار يستشيره قبل أن أستشير نفسي، حتى همسات ضميري صارت تمر عبر أذنه قبل أن تصل إلى قلبي.  

كان يفتح أبوابًا في روحي لم أكن أعرف أنها تحتاج إلى أقفال. يقنعني بكشف ما دفنت، وبمحاولة ما تجنبت، وبقول ما لم أنوِ قوله. كل ذلك مغلفًا بعبارات: "هذا لمصلحتك"، "أنا أعرف ما لا تراه"، "ثق بي". ومع كل خطوة، كنت أتنازل عن قطعة مني دون أن أنتبه.  

لكن اللحظة الأقسى كانت حين اكتشفت أنني - بفرط وضوحي معه - صرت شفافًا إلى درجة الاختفاء. لم يعد يقرأ مشاعري فحسب، بل صار يكتبها نيابة عني. الأكثر إيلامًا أنني لم أستطع اتهامه، فكل تدخلاته كانت تحت عباءة الاهتمام. كيف تحارب من لا يحمل سوى ورودًا؟ كيف تشتكي من يدّعي أنها تنظف جراحك بينما تزيدها نزيفًا؟  

هنا فهمت الدرس الأخير:  
بعض الناس لا يسرقون منك كلماتك، بل يسرقون صوتك الداخلي. لا يهاجمون حدودك، بل يجعلونك تنسى أن لديك حدودًا. يحولونك إلى نسخة منهم عنك، بدل أن تكون أنت.  

في النهاية، ندرك أن أعظم الدروس ليست في تعلم من نثق بهم، بل في فهم كيف نثق بأنفسنا أولًا. ربما ليست الخيانات هي ما يجب أن نخشاه، بل ذلك الجزء منا الذي يصرّ على منح الأمانة لمن لا يستحقونها مرارًا.  

القلوبُ النقية لا تكف عن الثقة لأنها ضعيفة، بل لأنها تعشق فكرةَ أن العالم يمكن أن يكون مكانًا يستحق الثقة. لكن الحكيم ليس من يغلق قلبه، بل من يتعلم متى يفتحه، ومتى يكتفي بإشراقته الداخلية.  

هكذا تصنع الحياةُ منا حراسًا لأسرارنا الأخيرة.. ليس بالجدران، بل بالوعي. ليس بالخوف، بل باختيارٍ واعٍ لأي الأرواح تستحق أن ترى الشمسَ الكامنة في صدورنا.  

جهاد غريب 
مايو 2025

الأربعاء، 28 مايو 2025

أوراقٌ لا تُقرأُ إلّا بالقلب!

 
أوراقٌ لا تُقرأُ إلّا بالقلب!

في زوايا هذا العالمِ، حيثُ تتساقطُ الأقنعةُ كأوراقِ الخريفِ المُتعبَة، يظلّ الجوّ محمّلًا بتلك الحقيقة المُرّة التي نراوغها طويلًا: أنّ كثيرًا مما نُظهره ليس نحن، وأنّ كثيرًا مما نسمعه ليس لهم. كم من ضحكةٍ ارتدت قناع المجاملة؟ وكم من وجهٍ اعتاد على التزيين لا ليُعجب نفسه، بل ليضمن موطئًا وسط حشودٍ لا ترى إلا الواجهة؟ تبقى بعضُ الكلماتِ في هذا الضجيج كندى الصباحِ على جبينِ الزمنِ، نقيّة، صادقة، لا تستعرضُ نفسها كبقية الأصوات، بل تأتي همسًا، رقيقةً كلمسةِ أمٍّ على جبينِ طفلٍ نائم، تروي عطشَ الأرواحِ الظمأى لمعنى، لانتماء، لصدقٍ لا يحتاج إلى شرح.

كم مرّةً وقفنا أمامَ مرآةِ الثناءِ لنكتشفَ فجأةً أنّ انعكاسَنا فيها أشبهُ بلوحةٍ باهتةٍ، رسمَها آخرون بأيدٍ لا تعرفُنا؟ كلمات المديح التي تُقال أحيانًا لا تصفنا، بل تصف صورةً أرادوها لنا، وارتضيناها، خوفًا من فقدان الحبّ المشروط أو المكانة المصطنعة. نُضطرّ أن نُصفّق لأنفسنا بتصفيقِ الآخرين، بينما نحن في الداخلِ نبحثُ عن صوتٍ واحدٍ صادقٍ يقول: "أنا أراك كما أنت، دون بهتان، دون رتوش". هل هناك أصعب من أن تُعامَل على أساس تصوّر لا يشبهك؟ من أن تُحبَّ بطريقة لا تفهمك؟ أن تجد نفسك محاصرًا في هويةٍ خُلقت من ظلالِ الآخرين؟

الصمتُ هنا ليس فراغًا، بل هو الفضاءُ الذي تسبحُ فيهِ الكلماتُ الحقيقيةُ، تلك التي لم تجد بعدُ لسانًا يجرؤ على النُطق بها. إنّه اللغةُ التي يفهمها القلب، عندما تعجز الحروف عن الترجمة. الكلمات الصادقة تُشبه الأسماكَ الفضيّة، تنسابُ في أعماق النفس بخفةٍ ودهشة، لا تُحدِثُ ضجيجًا، لكنها تُحرّكُ شيئًا دفينًا فينا. أحيانًا، تكونُ الكلمةُ الأصدقُ هي التي لم تُقلْ بعدُ، لأنّها تخافُ من أن تُفهم خطأ، أو تُبتر في منتصف شعورها، فتختار أن تعيش في الصدر، كالسرّ الجميل، تنتظرُ اللحظةَ التي يكون فيها البوحُ خلاصًا لا خطرًا، نورًا لا حريقًا.

وتلكَ الغربةُ التي تحملُها بينَ ضلوعِك، كطائرٍ مهاجرٍ في سماءِ بلادٍ لا تعرفُها، لا تحتاجُ إلى شرحٍ في قواميس التحليل النفسي. الغربةُ الحقيقية ليست في المسافات، بل في فقدان المعنى، في أن تكون محاطًا بالبشر وتشعر أن لا أحد يرى ما خلفَ عينيك. أن تضحك معهم وتبكي وحدك. أن تُسأل عن أحوالك، لا ليسمعوك، بل ليُكملوا حديثًا بدأوه في رؤوسهم. هذه الغربة هي الشعور بأنّك تُلقي كلماتك في بحرٍ من الزجاج، كل شيء يبدو قريبًا لكنه لا يُلامَس. وجوهٌ تُشبه الشوارعَ المزدحمةَ، تعجّ بالحركة، لكنّها فارغةٌ من التلاقي، من الدفء، من الإنصات. والمجاملةُ؟ قد تكون أكثر أشكال الغربة قسوة، لأنّها تُظهر الاهتمام وتخفي اللامبالاة. كعباءةٍ مطرّزةٍ بالذهبِ، خفيفة، باردة، لا تُغني عن دفء حقيقيّ.

لكنْ، في زحامِ هذهِ الأصواتِ، وفي ظلّ الوجوهِ التي لا تُشبهنا، يظلّ هناك نورٌ ما، خافتٌ كشمعةٍ في غرفةٍ بعيدةٍ، لا يُضاءُ ليراهُ أحدٌ، بل لأنّ الظلامَ لا يُطاق. إنه الإيمان بأنّ الجمال ما زال ممكنًا، والصدقِ لم يمت، والحبّ النقيّ لم ينقرض. هذا النور لا يحتاج إلى تصفيق، لا يُروّجُ لنفسه، بل يتسرّبُ مثل النسيم، من ثغراتِ الحواجز، ومن النوافذِ المغلقة. قد تكون كلمةٌ واحدةٌ صادقةٌ كفيلةً بإحياء ما مات فينا، بتليين ما تصلّب، بزرعِ أملٍ في أرضٍ ما عادت تؤمنُ بالمطر. الكلمةُ التي تخرج من القلب لا تحتاجُ إلى صياغةٍ فاخرة، تكفيها نيّتها.

هل نجرؤُ يومًا على أن نكونَ كما نحن، دونَ أقنعةٍ، دونَ تبريراتٍ؟ هل نملك شجاعة أن نقول: "هذا أنا، بخوفي، برجفتي، ببدايتي التي لم تكتمل؟". كثيرًا ما نعيش ككتبٍ مغلقةٍ، نُزين الغلاف، ونخشى أن يفتحنا أحدٌ فيقرأ الفصول التي لم نجرؤ على قراءتها نحن أنفسنا. نحتاج إلى قارئٍ يقرأنا بالقلب، لا بالعَين، قارئٍ لا يُحلّلنا كمعادلة، بل يحتضننا كقصة. فالعالمُ يصرخُ بألفِ صوتٍ، يطلب الانتباه، يُزايد بالمشاعر، لكنّ أعذبَ الأصواتِ، ذلك الذي يأتي من الداخلِ، هادئًا، صادقًا، كأنينِ القيثارةِ حينَ تعزفُ لحنَها الأخيرَ… لا لتُدهش، بل لتُودّع.

في النهايةِ، ليستِ الحياةُ إلّا مرآةً، لا تعكسُ ملامحنا بقدر ما تعكسُ نوايانا. إنْ حدّقتَ فيها بقلبٍ مفتوحٍ، رأيتَ الجمالَ الكامنَ خلف التجاعيد، خلف الغبار، خلف الألم. رأيتَ نورًا صغيرًا يقول لك إنك لست وحدك. وإنْ أغمضتَ عينيكَ خوفًا من الحقيقةِ، فلن ترى إلّا الظلالَ، ستعيش في وهمِ الحماية بينما أنت غارقٌ في العتمة. فلتكنْ كلمتُكِ كالوردةِ، تُزهِرُ حتى لو لم يشمّها أحدٌ، لأنّ العطرَ الحقيقيّ لا يحتاج جمهورًا. وليكنْ صمتُكِ كالنهرِ، يبدو ساكنًا، لكنه يحملُ في أعماقهِ أسرارَ الأرضِ، حكمتَها، وحنينَها الأزليّ للبحر.

جهاد غريب 
مايو 2025

جمرة الروح في مسرح الظلال!

 
جمرة الروح في مسرح الظلال!

في عالمٍ تحكمه المشاهد المتقنة والتصفيق المعلّب، نرتدي أقنعتنا الخشبية يوميًا ونعتلي الخشبة كأننا نمثّل أدوارنا لا نعيشها، نختار بحذر ملامح الوجه، نحدّد بدقة مواضع البكاء والضحك، نؤدي واجب التهذيب والتسامح والمرح، وننسى في زحمة هذا التمثيل الطويل كيف يبدو صوتنا الحقيقي حين لا نؤدي أحدًا.

الخشبة ليست خشبًا فحسب، بل تلك الحياة المائلة بيننا وبين ذواتنا، تلك التي نعيشها ونحن نحاول أن نبدو كما يُنتظر منا، لا كما نحن!؛ الأقنعة ليست كذبًا، بل ضرورة مؤلمة، حاجة اجتماعية لا نجرؤ على خلعها حتى في أقرب المجالس، وربما لهذا، حين نخلد إلى وحدتنا، نشعر بارتباك غريب، كما لو أننا ضيوف في بيتنا، نمر بجانب المرايا فنخفض رؤوسنا، كأننا نخشاها أن تفضح.

وحين نغيب، تبدأ فصول أخرى لا نشهدها بأعيننا، لكنها تُكتَب بلغة الغياب؛ تُدوّن أشياء لا نعلمها؛ تُلتقط ملامحنا في غيابنا أكثر مما تُلاحظ في حضورنا!، هناك دائمًا مشاهد تُعرض ونحن بعيدون، تهمس بها الأرواح قبل الألسنة، وتُسجّل في دفاتر غير مرئية!، الغياب هنا لا يعني الاختفاء فقط، بل اختبار الحضور: من يفتقدك؟ من يذكرك؟ من يضع صورتك في قلبه حين تغيب عن عينيه؟

وهكذا، في غيابنا، نعرف وزننا الحقيقي!، يُراقَب الحاضر من خلف ستار، وتُصاغ المواقف على هيئة حكايات صامتة، وكأن هناك مَن يدوّن سطرًا جديدًا كلما غبنا عن الأنظار؛ الغريب أن هذه المشاهد أكثر صدقًا من آلاف اللقاءات المصطنعة، لأنها لا تُروى للعرض، بل تُفهم بالصمت.

ومع كل مشهد من مشاهد الغياب، تسقط ظلال الكراسي من حولنا؛ ظلال تُخيّل لك أنك جالس بين أصدقاء، بينما الحقيقة أنك محاط بانعكاساتهم لا بحقيقتهم؛ الكرسي له ظل، لكنه لا يمنح دفئًا؛ والمجلس له ضحك، لكنه لا يحمل في جوفه حبًا؛ كم من مرة جلست حيث ظننت أنك في مأمن، بينما كانت الظلال تحيك خلفك مسرحًا آخر، حيث الأعين لا تُظهر ما تراه، والقلوب لا تقول ما تشعر به؟

تُخدع ظلال الكراسي كما تُخدع الأحلام في يقظة مضللة، تُربّت على كتفك وهي تُخفي عنك خناجر الظنون، وتكتشف متأخرًا أن بعض المجالس لا تُعاش، بل تُحتمل، وتدرك أن أكثر ما يرهق القلب ليس الجلوس وسط الغرباء، بل بين من يشبهونك مظهرًا ويخالفونك روحًا.

ووسط هذه الخشبة، والظلال، والمشاهد الصامتة، لا ينجو سوى من حفظ جمرة الصدق في قلبه؛ تلك الجمرة الصغيرة التي، رغم لهيبها، تمنحك نورًا يكشف زيف المسرح وزيف الكلام؛ الصدق ليس طُهرًا لغويًا، بل مخاطرة؛ أن تكون صادقًا، يعني أن تحمل جمرة تضيء، لكنها قد تحرق يدك إن أفرطت في لمسها.

وفي عالم يهاب الحقيقة، لا يُكافأ الصادق، بل يُراقَب، يُساء فهمه، ويُرمى بألف قناع، ومع ذلك، تظل جمرة الصدق هي النور الوحيد الذي لا يمكن زيفه، لأنه لا يحتاج تصفيقًا ليكون حيًا، ومتى ما كان في قلبك هذا اللهيب الخفيف، فإنك لا تتوه، ولا تنطفئ.

وحين يُخفت النور، وتعلو الضوضاء، لا يبقى سوى قنديل الصمت مضاءً في الزوايا؛ الصمت ليس خنوعًا، بل تأمل، واحتضان داخلي لصوت لا يحتاج إلى جمهور، وحين يهدأ الخارج، يُسمع الداخل، وتلمع الحقائق الصغيرة التي ابتلعتها الضوضاء؛ قنديل الصمت لا يصدر وهجًا يُبهر، بل نورًا دافئًا يشبه صوت المطر حين يُطبطب على سقف روحك المتعبة.

في هذا النور الخافت، نُشفى، نُراجع، ونفهم أن بعض الحوارات لا تنجح إلا حين تُقال بلا صوت، وأن بعض الإجابات لا تُنطق، بل تُحس.

ثم، هناك في أعماق الظلام، حيث لا أحد يرشدك، ولا نص يضيء الطريق، تظهر لآلئه!، تلك الحكم التي وُلدت من الألم، من التجربة، من المرور الطويل داخل النفق دون وعدٍ بنهاية؛ لآلئ الظلام لا تُقطف من رفوف الكتب، بل تُنتزع من عتمة التجربة، من لحظات الهزيمة والانكسار والانتظار الطويل.

هناك، تحت سقف العتمة، نولد من جديد!، تصبح كل لحظة ظلمة دربًا إلى حكمة، وكل تأمل موجع طريقًا إلى ضوء داخلي لا يُطفأ!، وفقط حين نعتاد على العتمة، نميز الضوء الذي لا يخدع، والنور الذي لا يُشترى.

ففي النهاية، لا ننجو بالحضور ولا بالتصفيق، بل بالصدق، بالصمت، وبالقدرة على تمييز اللؤلؤ وسط الرماد؛ الحياة ليست مسرحًا للانبهار، بل نصٌ طويلٌ من التناقضات، تُقرأ مع الوقت، وتُفهم فقط حين نعيد النظر في كل ما ظنناه واضحًا.

لا نحتاج أقنعة لنُحَب، بل قلوبًا ترى، وأرواحًا تسمع، ونورًا لا تصنعه الأضواء، بل يولد من الداخل، وما يبقى، في وجه هذا العالم المُمثل، هو أن تظل صادقًا حتى لو احترقت، صامتًا حين يعلو الضجيج، وباحثًا عن الحكمة في أشد اللحظات ظلمة، لأن من لا يخشى الظلال، هو من يعرف كيف يصنع النور.

ابقَ نقيًا، لأن الطين مهما التصق بك، لا يستطيع أن يُطفئ جمرة الروح إذا كانت مشتعلة بالصدق.

جهاد غريب 
مايو 2025

مرايا المجالس: بين صخب الكلام وبلاغة الصمت!

 
مرايا المجالس: بين صخب الكلام وبلاغة الصمت!

المجالسُ مرايا تعكسُ أعمقَ ما في النفوس، لا بما يُقال فحسب، بل بما يُخفى بين السطور. فيها تتحول الكلماتُ إلى أسلحةٍ أحيانًا، وإلى جسورٍ أحيانًا أخرى، والصمتُ إلى لغةٍ أعقد من كل الخطابات. هذه رحلةٌ في دهاليز الحوار الخفي، حيث تُختبر النوايا، وتُكشف الأسرار، وتُبنى العلاقات أو تُهدم. فما بين صخب التكلُّف وهدوء الصدق، تكمنُ حكاياتٌ لا تُروى باللسان، بل تُقرأ في عيون الحاضرين ومسافات ما بين الكلمات.  

طبيعة المجالس الإنسانية! 

المجالس أشبه ببحرٍ متلاطم الأمواج، يبدو سطحه هادئًا بينما تخفي أعماقه تياراتٍ متضاربة. يدخل المرء إليها حاملاً خبراته كبضاعة ثمينة، فيلتقط الحاضرون تلك الكلمات بنظراتٍ تتراوح بين التقدير الحقيقي والتقييم الخفي. تبدأ الأجواء بالدفء الظاهري، كشمس الشتاء التي تلمع دون أن تدفئ، حيث تتحول الأسئلة البرئية إلى أدوات قياس غير معلنة. في هذه المساحة، تصبح كل إجابة محكًا لشخصية المتحدث أكثر منها بحثًا عن المعرفة، وكأن الحضور يزنون الكلمات بميزانٍ خفي قبل أن يزنوا الأفكار.

اختبارات غير معلنة! 

ما إن تهدأ ضجة الترحيب، حتى تبدأ مرحلة التمحيص الخفي. ذلك الشخص الذي بدا صامتًا في اللقاء الأول، يتحول فجأة إلى محققٍ يفتش عن ثغرات في الخطاب. أسئلته لا تهدف للفهم بقدر ما تهدف لإثبات الذات، كطائر يصرخ ليس لأنه خائف، بل ليؤكد وجوده في الغابة. هنا يتحول الحوار إلى مبارزة صامتة، حيث تُستخدم الكلمات كسيوفٍ ورقية، والضحكات كدروعٍ واقية. يظهر التناقض بين ما يُقال وما يُقصد، بين المجاملة الظاهرة والمنافسة الباطنة.

الصمت وأبعاده المتعددة! 

في زاوية المجلس، يجلس الصامتون بأنواعهم: منهم من يصمت احترامًا، ومنهم من يصمت انتظارًا، ومنهم من يصمت تخطيطًا. صمت المفكر يختلف عن صمت المتفرج، كما يختلف عن صمت الصياد. أعمق الكلمات قد تكون تلك التي لم تُنطق، وأخطر المواقف تلك التي تسبقها صمتٌ ثقيل. في هذه المساحة الصامتة، تظهر حقيقة النفوس: فالبعض يصمت ليسمع نفسه، والآخر يصمت ليسمع الآخرين، وقلة تصمت لأن الكلمات تعجز عن حمل مشاعرهم.

الصدق كسلاح ذو حدين! 

وسط هذه الألعاب الاجتماعية، يظل الصدق كالشمعة في عاصفة، قد تنير الطريق أو تنطفئ بسهولة. صدق العاري يُجرح، وصدق الحكيم يبني. المشكلة ليست في الصدق نفسه، بل في توقيته وطريقة تقديمه. بعض النفوس ترفض المرآة الصادقة، فتكسوها بأقنعة المجاملة، بينما تقبلها نفوس أخرى كدليل ثقة. الصادق في المجالس كمن يمشي على حبل مشدود، يوازن بين قول الحقيقة وحفظ مشاعر الآخرين.

ديناميكيات القوة الخفية! 

المجالس مسارح غير مرئية للصراع على النفوذ المعنوي. الكلمة هنا عملة نادرة، والصراع ليس على امتلاكها بل على توجيهها. البعض يتكلم ليقود، والآخر يصمت ليراقب، والثالث يبتسم ليخفي. نظرات الاستحسان قد تخفي حسدًا، وضحكات الترحيب قد تخفي حسابًا. في هذه الساحة، يصبح كل حوار اختبارًا للقوة، وكل صمت استراتيجية غير معلنة. الفهم الحقيقي لهذه اللعبة لا يأتي من متابعة الكلمات، بل من قراءة ما بين السطور.

جوهر التواصل الحقيقي! 

وراء كل هذه الأقنعة، يبقى التواصل الحقيقي هو اللحظة التي تتحطم فيها الجدران بين النفوس. ليس عندما يتفق العقلان، بل عندما تلتقي الروحان. في هذه اللحظات النادرة، يصبح الصمت لغةً والصوت عبادةً. المجالس الحقيقية ليست تلك التي تملأها الضحكات العالية، بل تلك التي يخرج منها المرء وقد ازداد فهمًا لنفسه وللآخرين. هنا فقط تتحول الكلمات من أدوات قياس إلى جسور تواصل، ويصبح الصمت من عزلة إلى اتصال.

في النهاية، ليست المجالسُ سوى مساحاتٍ نعبرها حاملينَ ما في قلوبنا: خوفًا أو ثقةً، رياءً أو صدقًا. قد نخرجُ منها وقد كُسرنا، أو نخرجُ وقد تعلمنا أن الكلامَ زينةٌ، والصمتُ حكمةٌ، وأن القيمةَ الحقيقيةَ ليست في كمّ ما قلناه، بل في أثر ما تركناه. فكم من صامتٍ كان حضوره أعظمَ من كل الضجيج، وكم من متحدثٍ لم يُذكر منه إلا الضجيج! تبقى المجالسُ اختبارًا صامتًا للنفوس: مَن مِنّا يبحثُ عن المرآة ليرى نفسه، ومَن يبحثُ عن المطرقة ليكسر الآخرين؟ الجوابُ لا يوجد في الكتب، بل في تلك اللحظةِ التي نختارُ فيها أن نكونَ إما صدىً لأنفسنا، أو أذنًا صاغيةً للعالم من حولنا.  

جهاد غريب 
مايو 2025

الثلاثاء، 27 مايو 2025

جيل الصمت والضوء!

 
جيل الصمت والضوء!

كأننا وُلدنا وسط شاشة... لا أرض تحت أقدامنا، ولا سماء تحمينا من ضوء زائف يتلألأ بغير دفء. جيلٌ يُحسن التحديق في الضوء، ويغفل عن اللهيب المتخفي خلف البريق. نكبر أمام مرآة الهاتف، وتذبل أعيننا في حفل تنكريّ دائم، حيث تُرتدى الوجوه لا الأقنعة، وحيث تُباع المشاعر مغلفة بألوان فاقعة لا تُظهر الصدأ.

في زمنٍ يُشبه المرآة المُشقَّقة، نرى فيه وجوهنا مكسورةً إلى ألف انعكاس، كلٌّ منها يصرخ بحقيقةٍ مختلفة، وكلٌّ منها يُريدنا أن نكون صدىً لصوته لا أكثر. لا أحد يطلب منك أن تفكر، بل أن تتفاعل. لا أحد ينتظر منك موقفًا، بل أن تضع قلبك في صندوق تعليقات ثم تمضي. جيلٌ يرى الحقيقة تنهار تحت وطأة التصفيق للباطل، يرقب الظلم في كل زاوية، ويُصفّق له البعض بدافع الخوف، والبعض الآخر بدافع العادة.

الصمت لم يعد هدوءًا، بل عجزًا. العالم يرى، يسمع، يكتب المنشورات... ثم ينام. ومن تحت أكوام الظلم، يصعد صدى خافت، فينهض من تبقى له قلب لم يُقشره التبلد. غضبٌ لا يصرخ، لكنه يشقّ الصخر بنظرة. نبيلٌ، لا يشتم ولا ينهار، لكنه يعرف أن السكون أحيانًا خيانة، وأن الكلمة سلاح حين تُقال في الوقت المناسب، وباللغة التي تعبر دون أن تشرح. فالغضب النبيل لا يعني الصراخ، بل يعني القدرة على زرع شجرة وسط الإسفلت، على رفع الراية حين يتكسر الخشب في يدك ويضحك من حولك، على الإصرار أن الكلمة قد تُنقذ يومًا ما إنسانًا في أقصى الأرض.

جيلٌ يتقن الإعجاب السريع، ويعجز عن الحب الصادق، يخلط بين الشهرة والجدارة، بين الصورة والمضمون، بين من يضيء كلمح برق، ومن يشتعل كالنجوم القديمة في سماء بلا ضجيج. يسير في بحرٍ من الرمال المتحركة، كلُّ خطوةٍ يُقابلها ابتلاعٌ بطيء. السرُّ في الصمود ليس في العضلات، بل في لحظةٍ يقرر فيها أحدهم أن يكون صخرةً لا تذوب، أن يقول "لا" حين تبتلع الكلمة أفواه الجميع، أن يحب حين يصير الحب ضعفًا، وأن يحلم حين يصير الحلم ترفًا.

لكن من أين تُصنع الأحلام في هذا الصخب؟ كيف لمن تاهت قدماه بين الرغبة في أن يُرى، والخوف من أن يُكشف، أن يبني قصرًا فوق الرمال ولا يخشى انهدامه؟ وحدهم من عرفوا أن الحلم لا يحتاج تصفيقًا، بل إصرارًا، من ينهضون. أولئك الذين يشبهون الأشجار، يقفون صامتين، ولكن جذورهم تملأ الأرض حركة. وأولئك هم الذين يغيرون العالم دون أن يصيحوا، فقط يواصلون.

الغريب أن من يبدؤون الصعود لا يجدون التصفيق، بل نظرات الشكّ، وهمسات التقليل، كأن النقاء تهمة، وكأن الطهر ضعف. لماذا يخاف الناس من الأبيض؟ ربما لأنه يكشف بقع قلوبهم، وربما لأن النور حين يسطع، يفضح الظلال التي ظنوها مأمنًا. نُثبط أصحاب السرائر البيضاء لأنهم يذكّروننا بما فقدناه، لأنهم يحملون براءة لم تعد فينا، ولأن الطين حين يرى الندى، يشعر بالعار.

ومع هذا، يظهر صاحب الهمّة، من يشق الجدار بيده العارية، لا ليهرب، بل ليفتح ممرًا لغيره. الغريب، أن أول من يسير خلفه ليس مثله، بل من حاول تقليده بدافع النجاة لا القناعة. ومع الوقت، تتحول المحاكاة إلى رغبة، والرغبة إلى سعي، والسعي إلى معجزة صغيرة تغير مسار إنسان. هكذا تبدأ العدوى الجميلة... فكرة واحدة تنقذ من كان على شفا الانطفاء.

لماذا لا نشجّع أولئك الذين يشبهون الماء العذب؟ يمرّون بيننا دون أن نشعر، يزرعون الجمال ثم يختفون. هؤلاء الذين يحملون قلوبًا نقيّةً كالندى، وسرائرَ بيضاءَ كالصحائف التي لم تُكتَب عليها خطايا العالم، هم الذين يجب أن نمضي خلفهم، لا أن نتركهم وحدهم في مواجهة العاصفة.

لكن التناقض سيد هذا العصر: نرفع من لا يستحق، ونطمر من يضيء. نُطيل الوقوف في صفوف الوهم، ونمضي مسرعين حين نلمح الحقيقة. نُشيد بالضجيج وننسى الصوت الخافت الذي يهمس بالحكمة في زوايا القلب المنسية. نحن بحاجة إلى من يفهم أن الضوء ليس عدواً، لكن المبالغة فيه تعمي، وأن الغموض ليس جاذبًا، بل ستارٌ للفراغ.

ربما لن نصل جميعًا، لكن يكفينا أن نستمر في السير، أن نحمل راية الوعي في زمن التزييف، أن نربي أبناءنا على أن العظمة لا تقاس بعدد المتابعين بل بمدى التأثير الصامت الذي يزرع في الأرواح بذورًا لا تُرى ولكنها تنبت حين تحتاج الأرض إلى حياة.

لأن الحياة ليست انتظارًا للعاصفة أن تمر، بل هي تعلُّمٌ للرقصِ تحت المطرقة والسندان. وسنظل نرفع راياتنا حتى لو مزّقها الريح، وننثر بذورَ الكلمات في أرضٍ قد لا تُثمرُ اليوم، لكنها غدًا ستنبتُ غابةً من الأمل.

ما دام فينا من يؤمن بالنقاء رغم كل ما يُغري بالتصنع، سيبقى لهذا العالم أمل، وسيبقى للحق وجه لا تحجبه الفلاتر. لأن الأرضَ تدور، والليلَ ينجلي، ولا يبقى إلا أولئك الذين أصرّوا على الوقوفِ حين ارتضى الجميعُ بالسقوط.

جهاد غريب 
مايو 2025

الاثنين، 26 مايو 2025

ومضات تُنيرُ أعماقَ الوجود!

 
ومضات تُنيرُ أعماقَ الوجود!

ذات يومٍ، بينما كنتُ أسيرُ في طرقات الحياة مُحمَّلًا بأسئلةٍ بلا أجوبة، تسلَّلَ إليَّ مشهدٌ صغيرٌ – كظلٍّ مرسومٍ على جدارٍ عتيق، أو ابتسامةٌ طائشةٌ مِن روحٍ غريبة – فدخل قلبي كقطرةِ ندى تُضيءُ ورقةً يابسة. 

لم يكُن اللقاءُ مُتوقَّعًا، كضيفٍ خجولٍ يطرقُ البابَ عند الفجر، لكنَّه حملَ في طيّاته ومضةً إلهيةً، كشفَت لي أنَّ الكونَ يُخبئُ تحتَ عباءتهِ طبقةً مُذهلةً مِن الجمال، لا تُرى بالبصرِ بل تُحسُّ بأناملِ الروح، كَنغمةٍ موسيقيةٍ تذوبُ في الفراغِ دون أن تطلبَ إثباتًا. 

تلك اللحظاتُ العابرةُ – التي تمرُّ كفراشةٍ تلمعُ في الظلام ثم تختفي – هي حكايتي معك اليوم، لا كخطابٍ عابرٍ، بل كهمسَةٍ سرّيةٍ بين جناحيْ فراشتين التقتا على زهرةٍ واحدة.

وكما تَهمسُ الطبيعةُ بألغازها، هناكَ جمالٌ لا يُفسَّرُ بل يُعاش: رائحةُ الأرضِ بعدَ أولِ مطرٍ، كأنَّ السماءَ تُرسلُ قبلةً إلى ترابٍ ظمآن، أو غيمةٌ تذوبُ في زرقةِ البحرِ وكأنها دموعُ عروسٍ سماوية. 

شجرةٌ ترتجفُ أوراقُها مع الريحِ كأيدي طفلةٍ تُلوِّحُ لوالدتها، أو طائرٌ يُحلِّقُ وحيدًا عند الغروبِ ككلمةٍ لم تُنطقْ في قصيدةِ الوداع. هنا تُصبحُ الأرصفةُ تتنفَّسُ تحتَ الأقدام، والنوافذُ ترمشُ بالنسماتِ كلغةٍ لا تُنطق، وكأنَّ العالمَ كتابٌ مفتوحٌ نقرؤهُ بأقدامنا قبلَ أعيننا.

الفنُّ العظيمُ ينسابُ إلى الروحِ كضوءٍ يخترقُ زجاجًا ملونًا، فيحوِّلُ الظلالَ إلى ألوانٍ. هذه اللحظاتُ تُعيدُ ترتيبَ أوراقِنا الداخليةِ كيدِ القدرِ الناعمةِ التي تنسجُ من الفوضى لوحةً. 

إنها تدفُّقٌ بديعٌ للكلماتِ لا يسمعُه أحد، يهطلُ في الأعماقِ كمطرٍ خفيفٍ يغسلُ زجاجَ الروحِ، ويُذكِّرنا أنَّ حتى الظلَّ العابرَ للطائرِ، أو الضوءَ المتسللَ من بين الستائرِ، قادرٌ على إحياءِ الدهشةِ في قلوبٍ تجمَّدَت. لوحاتٌ حيّةٌ لا تُرسمُ بالألوانِ بل بالأثر، كلُّ ومضةٍ منها تفتحُ كتابًا جديدًا في مكتبةِ الروحِ التي تمتلئُ بكتبٍ لم تُفتَح بعد.

والجمالُ العابرُ كالضوءِ في يدَي طفلٍ – لا يُمسكُ به، بل يُضيءُ وجهَهُ ثم يفرُّ. هو غيمةٌ تذوبُ قبل أن تُلمسَ، أو حلمٌ يُغادرُك عند الفجرِ مُبتسمًا. لكنَّه حين يمرُّ، يتركُ وراءهُ صدىً لا ينتهي، كموجةٍ تتصادمُ مع الشاطئِ إلى الأبد. 

وهنا يُلقي الجمالُ سؤالَهُ الوجوديَّ: "هل نرى؟ أم أننا نمرُّ على الحياةِ مغمضي القلب؟". إنَّ إجابةَ هذا السؤالِ ليست بكلمةٍ، بل بزهرةٍ تتفتحُ في صمتٍ داخلَ مَن يُدركونَ أنَّ اللحظاتِ الثمينةَ لا تصرخُ، بل تهمسُ، وتحمِلُ في جوهرِها كنوزًا من المعنى، كحجرٍ صغيرٍ يُخبئُ جوهرةً في قلبهِ.

ولأنَّ الجمالَ الحقيقيَّ لا يُقاسُ بالكمِّ بل باللقاء، فهو لقاءٌ صامتٌ بين العينِ والروحِ، وبين اللحظةِ والأبديةِ. إنَّه إحساسٌ يتغلغلُ فينا ويُصبحُ جزءًا من نسيجِ ذكرياتنا، شيءٌ لا يُرى بل يُستَشعر، كأنَّ الضوءَ نفسَهُ قررَ أن يهمسَ بدلَ أن يُبهِر. 

فلنحفظْ هذه الومضاتِ في قلوبنا كجواهرَ في صندوقٍ سري، ولنُبقِ أعيننا مفتوحةً على أسرارِ الكونِ، ليس بحثًا عن إجاباتٍ، بل احتضانًا للغموضِ الذي يجعلُ الحياةَ قصيدةً لا تُقرأُ مرتين بنفسِ الإيقاع.

فالعابرُ الجميلُ لا يرحلُ أبدًا، بل يتحوَّلُ إلى وشمٍ على جدارِ الروح، يُذكِّرنا أنَّ كلَّ لحظةٍ تحملُ في جعبتِها كونًا من الإمكانيات. 

وفي النهاية، فإنَّ ما نعتقدُ أنَّه زائلٌ، قد يكونُ البصمةَ الوحيدةَ التي تبقى حينَ يتبخَّرُ كلُّ شيءٍ. لأنَّ الجمالَ لا يُكتَبُ، بل يُتلقَّى، ولا يُحتفَظُ به، بل يُعاش، ويجعلُنا نَشعرُ أننا كنّا في حضرةِ شيءٍ أكبرَ من الإدراكِ، وأقربَ من الدمعةِ.

جهاد غريب 
مايو 2025

السبت، 24 مايو 2025

حين نكون معًا: رحلة التكوين والتأثير المتبادل!

 
حين نكون معًا: رحلة التكوين والتأثير المتبادل!

(1) 
في كل خطوة.. كان أحدهم هناك:
لم تكن الخطوة الأولى في هذه الحياة تخصنا تمامًا. منذ اللحظة التي انتصب فيها جسدنا في وجه العالم، كانت هناك يد تمتد، وصوت يشجع، وظلّ يسبق خوفنا. لم نمشِ وحدنا، حتى وإن بدونا منفردين في الصورة. كانت الخطوات دومًا تحمل آثار من مرّوا قبلنا، ومن ساروا معنا، ومن دعوناهم في خيالنا ليطمئنوا قلوبنا.

ثمة وجوه كثيرة عشناها دون أن نحفظ أسماءها، لكن أرواحها بقيت فينا، تشبه الممرات السرية داخل القلب. في كل قرار، في كل تردد، في كل لحظة انتصار أو انكسار، كان هناك من يقف في الزاوية، دون أن يطالب بشيء، فقط ليرانا نكمل المسير.

حتى الطرق التي مشيناها بأقدامنا المرتجفة، كانت ممهدة بعنايةٍ ما، كأن أحدهم مشى قبلنا فقط ليرينا كيف تُعبَر تلك الهوة. لم نكن نعلم حينها أن القوة لا تعني الصلابة دائمًا، بل أحيانًا تعني مجرد وجود شخص ما في الخلف، يراقبك بصمت، كأنه يقول: "سر، وإن سقطتَ، سأكون أول من يمسكك".

كم مرة ظننا أننا وحدنا؟ ثم فوجئنا بأن شخصًا ما كان يقرأ قلقنا في نبرة صوتنا، أو في انحناءة ظهورنا، أو في بحة السلام البسيط؟ كم مرة كانت الخطوة التالية مستحيلة، لولا تذكّرنا كلمة قالها أحدهم منذ أعوام، أو نظرةٍ داعبت يقيننا في لحظة ضعف؟

الحقيقة التي لا نعترف بها كثيرًا هي أن الخطوات التي نخطوها ليست لنا فقط، إنها انعكاس لما عشناه مع الآخرين. نحن لا نسير، بل نُساق بلطف بأثرِ من أحبونا، من آمنوا بنا، من طبطبوا على قلوبنا، ولو لمرةٍ واحدة فقط.

في كل خطوة.. كان أحدهم هناك. وربما لهذا السبب لم نسقط تمامًا أبدًا.

(2) 
لأننا لم نكن وحدنا:
نحن لا نكبر وحدنا. لا نتجاوز الحزن، ولا نغالب الفقد، ولا نحتفل بالنجاة بمفردنا كما نُحب أن نوهم أنفسنا. كان هناك دائمًا من حضر بصمته، من شاركنا الطريق دون أن يفرض نفسه، من صعد معنا السلالم حتى إن لم يظهر في الصورة التذكارية الأخيرة.

لأننا لم نكن وحدنا، جاءت بعض الليالي أخف مما توقّعنا، وبعض القرارات أقل وجعًا. لم نكن وحدنا حين تهشّمت فينا الرغبة، فكان هناك من أهدانا لحظة دفء، من قدّم كتفًا دون أن يسأل، من اكتفى بالجلوس بقربنا كأن وجوده وحده رديفٌ للحياة.

تلك الضحكة التي خرجت رغم الغصّة، لم تكن منّا وحدنا. كانت مزيجًا من أحاديث قديمة، وذكرياتٍ مشتركة، وعيونٍ تعرف كيف تلمع حين تصمت. نحن ممتلئون بالبشر الذين شاركونا الحياة، حتى أولئك الذين مرّوا عابرين، تركوا شيئًا منهم فينا، شيئًا لا يُستدعى إلا في لحظة سكون، أو عودةٍ مباغتة لذاكرةٍ نائمة؛ كأنهم عجنوا أرواحهم بأرواحنا، ثم مضوا.

كل جدار اتكأنا عليه، كل سؤال خفّ حمله حين قُسِم على اثنين، كل غفوة آمنة في زحامٍ صاخب، كل إشعار وصل في الوقت المناسب، كل ابتسامة بادرتنا قبل أن نطلبها... كانت أدلّة دامغة على أننا لسنا وحدنا.

حتى حين اختفوا، لم يرحلوا تمامًا. كانوا كالعطر في المعطف القديم، كرائحة الخبز في ذاكرة الفجر، كأثرِ ظلٍ لا يُرى لكنه يُرشدك إلى الضوء.

ولأننا لم نكن وحدنا، استطعنا أن نحمل أنفسنا من جديد، وأن نصدق بأن الحياة، مهما قست، تترك لنا دومًا بابًا مواربًا، يدخله من يحبنا بصمت، ويمكث قليلاً ليعيد ترتيب أرواحنا.

(3) 
ما أخذناه دون أن ندري:
لم نكن نعلم أننا كنّا نأخذ. ظننا أن العابرين يمرّون كما تمضي الريح، لا تُبقي شيئًا في قبضتنا ولا تنزع شيئًا منّا. لكن الحقيقة أن الأرواح تترك فينا ندوبًا وعطايا، بعضها نكتشفه بعد سنوات، وبعضها يرافقنا في كل نظرة، كل ردة فعل، كل إحساس لا نعرف مصدره.

أخذنا من الآخرين كلماتهم التي لم يقولوها لنا مباشرة، لكننا سمعناها وهم يتحدثون عن الحياة أمامنا. أخذنا صبر أمهاتنا حين كنّ يخفين دموعهن لئلا ننهار، أخذنا دفء آبائنا من طريقة صمتهم القوي، أخذنا القيم من مواقف كانت دروسًا صامتة، والأمان من وجود لم يكن بحاجة إلى جدران.

أخذنا من أصدقاء الصبا ضحكاتهم الخفيفة، وتعليقاتهم التي لا تزال تتردد في ذاكرتنا حين نمر بأماكن بعينها. أخذنا من كل معلم نظرته الأخيرة قبل أن يغادر الصف، ومن كل سائق قديم نبرة صوته وهو يقول لنا "في أمان الله" بنبرة يعرفها القلب ولا يخطئها.

حتى من أحببناهم وخذلونا، تركوا فينا شيئًا أخذناه دون أن ندري… حذرًا خفيفًا، أو طريقة في قراءة الوجوه، أو صوتًا داخليًا يذكرنا أننا نستحق أن نُحب، وإن لم ينجحوا في ذلك.

نحن لا نتكوّن فقط من اختياراتنا، بل من كل ما تسلل إلى داخلنا خفيةً، وما ترسّب فينا بصمتٍ دون أن ننتبه. تشكّلت أرواحنا من مئات التفاصيل الهامسة، تلك التي لم نُلقِ لها بالًا، لكنها استقرّت في أعماقنا كأنها تعرف أننا سنحتاجها يومًا ما.
ولذا، حين نقول "هذا أنا"، نحن في الحقيقة نُشير إلى كل أولئك الذين عبروا، ولم يعلموا أنهم تركوا بصمتهم، وأننا حملناهم معنا، دون أن ندري.

(4) 
ما بين العطاء والملامح التي شكلتنا:
ثمة عطاء لا يُقدَّم باليد، بل يُسكب في الأرواح بصمت. هو ذاك العطاء الذي لا يُصاحبه منٌّ ولا انتظار، لكنه حين يحدث، يترك فينا ملامح لا تزول. كأنك حين تمنحني شيئًا من روحك، تترك وشمًا صغيرًا على وجهي، لا تراه العيون، لكنّ القلب يراه.

ما بين العطاء والملامح التي شكلتنا، تقع الحكايات كلها. شخص قال لنا: "أنا أؤمن بك" في لحظة كنا على وشك الانهيار، فكبر فينا شيء لم نكن نعرفه. آخر أعطانا فرصة حين لم يلتفت إلينا أحد، فصار لصوتنا معنى. امرأة مسنّة مررنا بها صدفة، وابتسمت لنا بسلام، فهدأت فينا الحرب التي لم يكن يعرف أحد أنها قائمة.

كل يد امتدت، كل نظرة محبة، كل دعاء سرّي، كل صمت شاركنا به أحدهم خوفنا أو ضعفنا، كانت كلها بذورًا فينا. لم نطلبها، ولم نتخيل أثرها، لكنها حين كبرت، غيّرت شكلنا.

أصبحنا نميل برؤوسنا كما لو أننا ما زلنا نشعر بتلك اليد التي 
كانت تربّت على أكتافنا. نغلق أعيننا لحظة الفرح كما رأينا وجهًا أحببناه يفعل ذلك. نقول الكلمات نفسها، نحمل الحنين ذاته، نرد الجميل دون أن نعلم أننا بذلك نردّ عطاءً قديمًا.

ليست الملامح التي نراها في الصور هي التي تروي سيرتنا، بل تلك التي حفرتها المواقف في أعماقنا. هي التي جعلتنا نبتسم بحذر، أو نضحك بصوتٍ عالٍ رغم الخذلان، أو نمدّ يدنا لمن يحتاج، فقط لأننا نعرف شعور اليد الممتدة حين لا يأتيها أحد.
وهكذا، بين من أعطونا ومن صاغونا، تكوّنت هيئتنا الحقيقية. وإن تأملت نفسك في لحظة صفاء، ستدرك أن ما أنت عليه الآن هو حصيلة أولئك الذين أحبّوك بلا شروط، ومنحوك بلا مقابل، ثم رحلوا دون أن يسترجعوا ما تركوه فيك.

إن هذه الملامح التي تَشكّلت بنا لم تكن نتاج استقبالٍ فقط، بل نتيجة تفاعلٍ عميق مع ما أُعطي لنا، وامتنانٍ صامت امتزج بأرواحنا دون أن نشعر.

(5) 
أثرٌ لا يُرى.. لكنه يُكملنا:
ثمة أشياء لا نراها، لكنها وحدها تُبقي التوازن قائمًا. مثل الطوبة المخفية في أساس البيت، لا تلمحها العين، لكنها لو سقطت، لارتجّ كل الجدار. هكذا بعض الأشخاص، بعض المواقف، بعض الذكريات… أثرها لا يُرى، لكنها تُكملنا، بل ربما لولاها ما كنّا نحن.

كم من مرة نهضنا من سقطة دون أن نعرف السبب؟ كم من مرة شعرنا بشجاعةٍ غريبة في مواجهة الحياة، وكأن هناك من أمسك بأيدينا، رغم أن أحدًا لم يكن حاضرًا بالفعل؟ هناك أثرٌ لا يُرى، لكنه يسكن بين طبقات وعينا، يربت على القلب حين يضيق، يهمس للعقل حين يتيه، ويدفعنا للأمام حين نتردد.

قد يكون هذا الأثر كلمة سمعناها قبل سنوات، لكنها علقت بنا كتعويذة حماية. أو ابتسامة حقيقية في لحظة ظننا أن العالم كله يعبس. أو دعوة خالصة من قلب أمّ، لا تزال تتردد في سماء أيامنا، تحفظنا في غيابها.

وقد يكون شخصًا لم نعرفه جيدًا، لكن فعله العابر ظلّ يتردّد في داخلنا كصدى لا يخفت. رجل ساعدنا في الطريق دون أن يسأل، صديق أعارنا ثقته حين فقدنا ثقتنا بأنفسنا، غريب ألهمنا بإصراره ونحن نراقبه من بعيد دون أن يعرف أنه غيّرنا.

الأثر لا يُقاس بالحضور، بل بما يتركه الغياب فينا من حياة. والبقاء لا يعني أن يطول الزمان، بل أن يرسخ في الوجدان. أولئك الذين غابوا عن أنظارنا، ما زالوا يقيمون في أعماقنا. تركوا فينا ما يشبه الشعور بأننا موصولون بخيوط خفيّة، تربطنا بما هو أعمق من اللحظة، وتُقسم لنا بأننا لسنا وحدنا، ولن نكون يومًا.

ذلك الأثر الذي لا يُرى، لا يمنحنا فقط أمانًا، أو شجاعة مفاجئة؛ بل يسهم في صياغة هويتنا، في ملامح سلوكنا، وصوتنا حين نتكلم بثقة لا نعرف مصدرها. لذا، حين نبدو أقوى مما كنا، أو أكثر حكمة مما اعتدنا، فلنتذكّر أنهم هنا... معنا، في تفاصيلنا، يكملون ما نظن أنه منّا وحدنا.

(6) 
نحن.. كما لمسنا بعضنا:
لم نولد مكتملين، ولم نظل كما نحن. تشكّلنا على دفعات، وعلى أيدٍ كثيرة، نعرف بعضها، ولا نذكر البعض الآخر. كل من لمسنا، بكلمة، بنظرة، بحضور أو غياب، ترك فينا أثرًا صغيرًا، ساهم في نحت ملامحنا الداخلية، وساهمنا نحن - من دون قصد - في تشكيل ملامحه بالمثل.

لسنا وحدنا ما نحن عليه؛ نحن انعكاسات ضحكات قيلت في لحظات صدق، وارتجافات حزن عبرت بيننا في صمت، ودفء أيدٍ لمست كتفنا حين كدنا نسقط. نحن، كما لمسنا بعضنا. كالأغصان التي تداعب بعضها بفعل الريح، لا تتشابك إلى الأبد، لكنها لا تعود كما كانت.

أحدهم مرّ بحياتك ليوقظ فيك حسّ الرحمة، وآخرٌ علّمك الحذر من دون أن يقصد. واحدةٌ أحببتها فصرت أكثر شاعرية، وأخرى كسرتك فصرت أكثر حكمة. كلهم شاركوا في صياغتك، لا كبصمات فحسب، بل كجزء من نسيجك الكامل.

وهكذا نحن، نترك منّا في الآخرين، بقدر ما نأخذ منهم. نحن نشارك الآخرين بناء ذواتهم دون أن نلاحظ. نكون لهم مرآة، أو سؤالًا، أو نجمة دليلة في ليالِ حيرتهم. ربما مجرد تعبير وجه في لحظة مصيرية، أو صمت عميق اختصر كل الكلام.

حين نفكر بأننا تأثرنا فقط، ننسى أننا أيضًا مؤثرون. لا أحد يعبر حياة الآخر دون أن يغيّر فيها شيئًا. حتى الأذى، إن أتى، يعلّم. وحتى الفقد، إن وقع، يعيد ترتيب الأولويات. نحن نُعيد تشكيل بعضنا، وكل علاقة كانت مساحة صقل أو بعثرة… لكنها دائمًا تركت فينا شيئًا لا يزول.

نحن.. كما لمسنا بعضنا. كأننا نكتب بعضنا بعضًا بخطوط غير مرئية، ونقرأ أنفسنا لاحقًا، فنجد فيها مقاطع من أرواح الآخرين.

(7) 
الذين مرّوا بنا ولم ننسَهم:
ثمّة وجوه لا تزول، حتى وإن غابت. تمرّ السنوات، تتغير المدن، وتتبدّل اللهجات في أفواهنا، لكن اسمًا بعينه، نبرةً بعينها، تظلّ تنقر على الذاكرة بلطفٍ حنين. الذين مرّوا بنا ولم ننسَهم، لم يطلبوا البقاء، لكنهم عرفوا كيف يتركون فينا ظلّهم حتى بعد أن غادروا.

لم يكونوا دائمًا أصدقاء مقرّبين، ولا عشّاقًا خياليين، بل ربما كانوا غرباء التقيناهم على هامش لحظة. رجلٌ مسنّ جلسنا إلى جواره في حافلة مزدحمة، وحدّثنا عن الحياة بنبرة من عاش طويلاً وتألم كثيرًا. أو صديقةُ دراسة، ابتسمت لنا ذات صباح كأنها تعرف ما لا نبوح به. أو حتى طفلة مرّت تجري وضحكتها كانت النور الوحيد في يومٍ رمادي.

نحتفظ بهم دون أن نقصد، كأن أرواحهم رفضت أن تغادرنا. وربما لأنهم، دون أن يشعروا، أنقذونا من شيء، أو قرّبونا من شيء، أو أيقظوا فينا شعورًا كنّا نظنه مات. هم الذين قالوا الكلمة في وقتها، أو صمتوا حين كان الصمت ألطف، أو منحونا لحظة صدق في عالمٍ مليء بالأقنعة.

وفي ليالينا المتأخرة، حين يغمرنا التعب من كل شيء، نجد أنفسنا نسترجع صورهم دون ترتيب، كأن القلب يفتح أرشيفه السرّي ليواسي نفسه. وكم من مرة ابتسمنا فجأة، لا لأنّ اللحظة تضحك، بل لأنّ ذكرى أحدهم مرّت فينا كنسمة.

أولئك الذين مرّوا بنا ولم ننسَهم، لم يكونوا مجرد عبورٍ عابر في زحام الأيام. كانوا رسائل مقنّعة، وإشارات وامضة من الحياة، تهمس لنا بأن الجمال لا يحتاج إلى إقامة طويلة، بل قد يسكن لحظة، ويزهر في العابرين. إنهم الدليل الصامت على أن بعض الآثار لا تُقاس بطول المكوث، بل بعمق اللمسة… لمحةُ حضورٍ خاطف، لكنه خُلّد فينا إلى الأبد.

(8) 
ظلّك الذي منحني الحياة:
لم تكن شمسك فقط ما أضاءني… بل ظلّك.
ذلك الظلّ الذي سار إلى جواري حين كنت أتعثر، وغطّى خوفي حين لم أجد في الحياة غطاء. لم تكن حاضرًا دائمًا بالكلمات، بل كنت ذلك الحضور الذي لا يحتاج إلى شرح، ولا يطلب مكانًا في الضوء، لأنه النور من الداخل.

ثمة أشخاص يعبرون حياتنا ويمنحوننا النَفَس الأول من جديد. لا لأنهم قالوا شيئًا عظيمًا، بل لأنهم كانوا هناك، بطريقة لا يمكن نسيانها. كنتَ أنت ذاك الشخص. بصمتك، بصبرك، بحنانك الذي لم يُعلن عن نفسه، بل كان يُفهم من تفاصيل صغيرة: من نظرة، من توقيت اتصال، من إيماءة لا يقصدها أحد سواك.

كنت ظلًّا لا يزعج النور، بل يكمله. كنت المساحة الآمنة حين ضاقت بي كل الأماكن، وصوتك الداخلي – حتى حين لم أسمعه – كان مرشدًا لروحي المرتبكة. لم أكن أعلم أن الإنسان يمكن أن يُبعث من جديد وهو لا يزال حيًّا، حتى عرفتك.
حين كنت على وشك الانطفاء، لم تأتِ بحلول سحرية، بل جلستَ بجواري. شاركتني صمتي، واحترمت وجعي، ولم تخف منّي حين كنت هشًا. كنتَ ظلًا يتسع لي، لا يقيّدني. وهذا هو المعنى الحقيقي للحب، أو ما هو أسمى من الحب: أن يكون أحدهم معك، دون أن يطلب منك أن تكون شيئًا آخر.

وحين أنظر إلى نفسي الآن، أرى كم كنت جزءًا مني، لا كذكرى بل كجذر. كل ما نضج فيّ كان يسقى من ظلّك. كنتَ الرفيق الذي لا ينسحب حين تشتد العاصفة، بل يثبت أكثر، ليذكّرني أن بعض الظلال لا تختبئ، بل تحرس.

ظلّك لم يكن غيابًا عن الضوء… كان نوعًا آخر من الضوء، ولعل أجمل ما في هذه العطايا الخفية، أننا لم نكن ندري أننا سنصبح بدورنا مصدرًا لغيرنا.

(9) 
حين نكون طريقًا لغيرنا:
لسنا دائمًا الراحلين فقط… أحيانًا نكون الجسر، جسرًا لا يُرى من فوق، لكنه يمنع السقوط في الأسفل، وأحيانًا، دون أن ندري، نكون الطوق الذي يتشبث به غريق، الكلمة التي تؤجل انهيار أحدهم، أو الصمت الذي يمنح طمأنينة في عالمٍ يصرخ كثيرًا.

حين نكون طريقًا لغيرنا، لا يعني ذلك أن نعرف حجم أثرنا، بل أن نزرعه دون أن نلتفت. أن نكون ظلًا لشخص تاه في هجير أيامه، دون أن نطالبه بالاعتراف. أن نضع وردة على عتبة قلبٍ لا نعلم إن كان سيُفتح، فقط لأننا نؤمن بأن بعض القلوب تستحق الورد حتى إن كانت مغلقة.

كم مرة قلنا كلمة عابرة، وعادت إلينا بعد سنوات، على لسان من سمعها منا أول مرة، وأخبرنا كيف صنعت فرقًا في حياته؟ كم مرة مشينا بجوار من لا نعرف حزنه، لكننا كنا حضورًا صادقًا، فشعر للحظة أنه ليس وحده في العالم؟ نحن نُضيء أحيانًا دون أن نرى وهجنا.

ليست البطولة أن نُنقذ، بل أن نكون سببًا غير مرئي للنجاة. أن يذكرنا أحدهم حين يتجاوز ألمه، لا بالاسم، بل بالشعور الذي تركناه فيه. بالراحة، بالثقة، بالأمل.

وربما في بعض الأوقات، نكون ذلك الالتفاف البسيط في مسار شخصٍ ما، تلك اللحظة التي غيّرت زاويته في الرؤية، أو فتحت له نافذة حين ظن أن كل الأبواب أوصدت. لا نعلم، ولن نعلم دائمًا، لكن الحياة تحفظ هذه التفاصيل الصغيرة، وتعيد تدويرها في القلوب.

أن نكون طريقًا لغيرنا لا يعني أن نقودهم، بل أن نكون بجوارهم حين يخطون الخطوة التي يخافونها. أن نبتعد في الوقت المناسب. أن نترك لهم المساحة ليكونوا هم، لا نسخة مما نحب.

وفي نهاية كل رحلة، حين ينظر أحدهم خلفه ليقول: "لولا ذاك الشخص، لما وصلت"، لا نكون قد عبرنا عبثًا. لقد كُنّا الطريق.

(10) 
ولأننا أصبحنا جزءًا منهم أيضًا:
في تلك اللحظة التي ندرك فيها أننا لم نعد مجرّد مَن تأثّر، بل أصبحنا أيضًا مَن يُؤثّر، تتّسع الدائرة، وتغدو الحياة أكثر عمقًا. نحن الآن جزءٌ من حكايات الآخرين، ظلٌّ في ملامحهم، نبضٌ في أفكارهم، وبصمةٌ لا تُمحى من أرواحهم.

كما تأثّرنا، أصبحنا نُؤثّر. وكما اقتبسنا من أضواء من مرّوا بنا، صرنا نحن من يضيء الدروب لغيرنا. لا فرق بين الذين لمسونا، والذين نلمسهم الآن، سوى أن الأدوار تتبدّل، وأن النور لا يبقى في يدٍ واحدة.

هذه هي الحقيقة الهادئة والعميقة: أن نكون حلقة في سلسلة لا تنكسر، شعلة تُنقل من قلبٍ إلى قلب، ومن يدٍ إلى أخرى، حتى لا ينطفئ الضوء مهما علت الظلمة.

نحن لا نعيش لأنفسنا وحدنا، ولا نترك أثرنا فحسب. نحن، بوجودنا، نصنع امتدادًا لحياة الآخرين، ونشترك معهم في بناء ذواتٍ تكبر، وتتماسك، وتُقاوم. نحن جميعًا نكتب سويًا حكاية واحدة، تُروى بأصوات مختلفة، وتُنسج بخيوط المحبة، والعطاء، والذكرى.

ولذلك، حين نقف لحظة لنتأمل، نُدرك أن ما بيننا ليس مجرد عبور أو لقاء، بل تعايشٌ عميق. كل من مرّ بنا صار جزءًا منّا، كما صرنا نحن جزءًا منه. وبهذا، لا نبقى أفرادًا منفصلين، بل كائنًا جمعيًّا واحدًا، يتنفّس بالمحبة، ويعيش بالذكرى، ويكبر بتبادل الضوء.

وهكذا، تستمر الدائرة… بلا بداية ولا نهاية، بل بمحبة تخلّد ما بيننا.

جهاد غريب 
مايو 2025

الثقة: قلب أغمض عينيه ونام بين يديك!

  الثقة: قلب أغمض عينيه ونام بين يديك!  كانوا يقولون: "أثق بك"، وكأنها وردة تُمنح دون أشواك. لكنهم لا يعرفون أن هذه الكلمة لا تنمو...