"سيلار" والسَلَطة
العظيمة!
كانت لحظاتي
في العمل أشبه بمعركة صامتة ضد الإرهاق، حيث تتسابق عقارب الساعة مع أفكاري، أبحث عن
شيء يرمّم هذا الجوع الذي بدأ يتسلل إليّ ببطء!، فرفعت رأسي عن الأوراق، أحدق في الفراغ
أمامي، كأنني أنتظر منقذاً يطرق باب شهيتي!، عندها، خطرت لي فكرة: طبق السلطة الخضراء.
ليس مجرد
وجبة خفيفة، بل طقسٌ يعيد ترتيب طاقتي المبعثرة، واختيارٌ ضد الكسل، وضد ثقل الأطعمة
التي تربك العقل قبل الجسد!، كنت أفكر في شيء دسم، ربما قطعة لحم مشوية أو طبقاً مليئاً
بالنشويات، لكنني أدركت أن الليل ما زال طويلاً، والمشوار أمامي لم ينتهِ بعد. هناك
قرارات تنتظر، وأفكار تحتاج إلى أرض خصبة لتنمو، لا إلى أعباء تثقلني.
حلّ المساء
بهدوئه المعتاد، لكن رأسي ظل ممتلئاً بصخب الأفكار!، جلست إلى طاولتي، أمامي طبق السَلَطة
الخضراء، تتراقص ألوانه تحت ضوء المصباح كأنها انعكاس لمزيج الحياة نفسها: الطماطم
القرمزية، والخيار الأخضر الداكن، والجَزَر البرتقالي، والخس الذي بدا كستائر شفافة
تتمايل مع نسيم المساء.
مددت يدي
لأخذ أول لقمة، لكنني توقفت!، هناك شيء غريب يحدث!، لم تكن السلطة الخضراء مجرد مزيج
عشوائي، بل بدت كمسرح صغير لصراعٍ محتدم، كل مكوّن يتحدث بصوتٍ واحد، لكن كل صوت يحمل
مطالب مختلفة!، فالطماطم تعلن أنها مصدر النكهة، والجَزَر يفاخر بصلابته، والخس يظن
نفسه القائد بحكم انتشاره، وفي تلك الفوضى!، ظهر بطل الحكاية، قطعة زيتون سوداء متوارية
بين الخضار، تراقب المشهد بصمت الحكيم الذي رأى كل شيء.
للحظة،
شعرت أنني لا أتناول طعاماً، بل أشاهد دراما صغيرة تعكس تناقضات البشر، حيث يطمح كل
فرد لأن يكون الأهم، دون أن يدرك أن الجمال يكمن في التناغم، لا في السيطرة!، ابتسمت،
وقررت أن أضع الزيتون في منتصف اللقمة الأولى، فالحكمة تستحق أن تكون البداية.
الفخر والجمال:
قال الخيار
بصوت واثق: "أنا الأجمل هنا، مظهري متناسق، وبشرتي ناعمة، ولوني يرمز إلى الصفاء،
أي طبق سلطة لا يُمكن أن يكتمل بدوني!"
ضحكت الطماطم
وقالت باستهزاء: "جمالك بارد، لا طعم له، أنا التي أضفي اللون والنكهة، ووجودي
يمنح الحياة لكل شيء!، وجمالي ليس في الشكل فقط، بل في الطعم والإحساس!".
في زاوية
أخرى، تحرك الجزر، وهز رأسه قائلاً: "كفى غروراً! إن كنتما تتحدثان عن الأهمية،
فأنا الأغنى بالفيتامينات، وأكثر ما يحتاجه الإنسان! قد تبدوان ملفتين، لكن في النهاية،
القوة فيما أحمله من غذاء".
ارتفعت
الأصوات، كل مكون يصرخ بمزاياه، حتى تحول الأمر إلى فوضى عارمة!، وكان "سيلار"
لا يزال يراقب.
السرعة والتأثير:
قال الخس
وهو يلوح بأوراقه في الهواء: "لا يهم الجمال ولا الطعم، ما يهم هو السرعة في الهضم،
لا أحد يريد طبقاً يثقل معدته، لكنني، بخفتي، أساعد الجميع على الشعور بالراحة".
قاطعته
شرائح الزيتون السوداء وقالت بصوتٍ عميق: "ربما أنت سريع الهضم، ولكنك زائل! نكهتي
تبقى في الفم، فتترك أثراً طويل الأمد، أنا الرمز للنكهة الحقيقية، قليل مني يحدث فرقاً".
وهنا ضج
الجميع بالصراخ، كل مكون يدافع عن نفسه، ويصر على أنه الأهم، حتى كاد الطبق ذاته أن
ينقلب!،الطماطم، بلونها القرمزي المتوهج، كانت تصيح: "أنا التي تمنح الحياة، نكهتي
تفيض بالعذوبة، وبدوني، يصبح الطعم باهتاً!".
الجَزَر،
بتلك الصلابة التي يفاخر بها، قاطعها بنبرة حادة: "ولكن ما قيمة الطعم دون قوام
متماسك؟ أنا الذي أضفي القوة والمتانة، فمن غيري يترك أثراً واضحاً في كل لقمة؟".
الخيار،
الأخضر الهادئ، لم يتأخر عن الانضمام للجدال، لكن صوته جاء أكثر ليونة، كمن يثق في
دوره دون الحاجة للضجيج: "أنا التوازن، من دوني يصبح كل شيء حاداً، قاسياً، أو
مفرط الحلاوة، ونسيج ناعم يخفف من حدتكم جميعاً".
أما الخس،
فقد بدا وكأنه اعتاد على لعب دور الزعامة، فنفش أوراقه في استعراض صامت، ثم قال بلهجة
واثقة: "أنا الأساس، أنا من يمنحكم الفضاء لتتألقوا، وبدوني، أين ستجدون مكانكم؟"
لكن الصخب
لم يتوقف، بل ازداد حدة، حتى تحولت السلطة الخضراء من وجبة متجانسة إلى ساحة معركة،
كل مكوّن يرفع صوته ليؤكد أهميته، وكأن البقاء للأقوى، لا للأكمل.
تداخلت
الأصوات، حتى بات من الصعب تمييز أيها يتحدث، وأيها يصرخ فقط ليُسمع، وكاد الطبق ذاته
أن يفقد تماسكه، وينقلب فوق الطاولة، كأنه لم يعد يحتمل هذا الصراع.
وفي تلك
اللحظة، وسط فوضى الأصوات التي كادت أن تجعل كل شيء بلا معنى، رفع "سيلار"،
الزيتون الأسود المتواري بين الخضار، صوته لأول مرة...
الحقيقة العميقة:
قال "سيلار"
بنبرة هادئة لكنها تحمل ثقل الحقيقة: "ألا ترون ما يحدث؟ كل منكم مميز بطريقته،
لكن قيمتكم الحقيقية ليست في المقارنة، بل في التناغم!، فالسلطة الخضراء ليست خياراً
وحده، ولا طماطم ولا خساً، بل مجموعكم جميعاً، ما الفائدة من أن تكون الأجمل أو الأسرع
هضماً إذا كان الطبق ناقصاً؟"
وهنا،
بعد كلمات "سيلار" التي حملت في طياتها ثقل الحكمة، خيّم الصمت على الطبق،
لم يكن صمتاً عابراً، بل صمتاً يشي باستيعاب الحقيقة، كأن كل مكون بدأ يرى دوره بعين
جديدة.
الطماطم،
التي كانت تصرخ قبل لحظات، خفضت رأسها قليلاً، وكأنها أدركت! أن لونها الزاهي، لن يضيء
وحده دون أن يحيطه الأخضر والبرتقالي، والخيار لم يعد يفاخر بهدوئه، بل بات يراه جسراً
يصل بين النكهات، حتى الخس، الذي لطالما اعتبر نفسه القاعدة، بدا وكأنه يتخلى عن تاجه
لصالح صورة أكبر: اللوحة التي لا تكتمل إلا بجميع تفاصيلها.
نظر إليّ
"سيلار"، الزيتون الأسود الذي بقي صامتاً طويلاً قبل أن ينطق بالحكمة، وكأنه
يدعوني للتفكير في عالمي الخاص!، لم تكن مجرد نظرة عابرة، بل دعوة مفتوحة للغوص في
دهاليز ذاكرتي، لاكتشاف المشاهد التي مررت بها، دون أن أراها بوضوح. فجأة، بدأت الأفكار
تتدفق، كأنني فتحت باباً لمتاهة لم أنتبه إلى وجودها من قبل!، ولم تكن مجرد استرجاع
للأحداث، بل إعادة قراءتها من زاوية مختلفة، حيث المعاني التي لم ألتقطها في حينها،
تتجلى الآن أمامي كحقيقة واضحة.
في تلك
اللحظة، شعرت أن الحياة ليست سوى انعكاس لهذا الصراع الصغير، حيث يسعى كل جزء لإثبات
أهميته، متناسياً أن المعنى الحقيقي لا يتحقق بالعزلة، بل بالانسجام، وكأن كلمات أرسطو
كانت تنتظر أن أستوعبها الآن، لتكشف لي سراً بسيطاً لكنه عميق! حيث قال: "الصداقة
هي اتحاد بين شخصين يعتبران نفسيهما شخصاً واحداً".
بدت كلمات
أرسطو وكأنها مفتاح لفهم أعمق للحياة، كأنها ضوء كُشف فجأة على مشهد مألوف، لكني لم
أكن أراه بوضوح!، فالكمال ليس أن يكون أحدنا وحده في القمة، بل أن نجد موضعنا الصحيح
في لوحة أكبر، وأن نفهم!، أن قيمتنا لا تنبع من إقصاء الآخرين، بل من انسجامنا معهم.
كما أن
أي طبق لا يُعرف بطعم مكون واحد فقط، بل بالمزيج الذي يخلقه كل عنصر فيه، كذلك الحياة
ليست ساحة لإثبات التفوق الفردي، بقدر ما هي مساحة! لاكتشاف كيف نتماهى مع الآخرين،
دون أن نفقد هويتنا.
وكما أن
المكونات في الطبق لا تفقد قيمتها حين تمتزج، بل تكتسب معنى أعمق، أدركت أن هذا المبدأ
ينطبق على عالمنا أيضاً، وعلى كل بيئة نعيش فيها، وأولها مكان العمل.
رأيت زملاء
العمل الذين يتنافسون بحدّة، ليس لأن المنافسة بحد ذاتها أمر سيئ، بل لأن كلّاً منهم
كان يسعى ليكون الأكثر تأثيراً، والأذكى، والأهم، دون أن يدركوا أن كل نجاح فردي يظل
ناقصاً إذا لم يصب في مصلحة الفريق بأكمله.
كنت أراقب
ذلك الصراع المستمر: موظف يحاول الاستحواذ على أكبر قدر من التقدير!، وآخر يقاطع الأفكار
قبل اكتمالها، ليُثبت أنه الأكثر معرفة، وثالث يظن أن الإنجاز الحقيقي لا يأتي إلا
بإقصاء الآخرين!
لكن مع
كل هذا السعي، لماذا كان الفريق لا يحقق التقدم المطلوب؟ ولماذا كانت الإنجازات تبدو
هشّة، كأنها تنهار تحت وطأة الصراعات الصغيرة؟
بدأت أفكر
في كل المشاريع التي تعثرت، ليس بسبب قلة الجهد أو غياب الكفاءة، بل لأن كل شخص كان
مشغولاً بإثبات ذاته، على حساب الانسجام مع الآخرين، كأنهم نسوا أن النجاح لا يتحقق
عندما يتألق شخص واحد، بل عندما يجد كل فرد دوره الذي يكمل بقية الأدوار.
تساءلت:
هل كانوا يشبهون السلطة الخضراء قبل أن يدرك كل مكون قيمته؟ هل كانوا يتصارعون كما
فعلت الطماطم والخيار والجزر، غير مدركين أن قيمتهم الحقيقية تكمن في اجتماعهم؟
ثم جاءني
مشهد آخر، الملاعب التي تعجّ بالمشجعين، كل منهم يؤمن أن فريقه وحده يستحق المجد، وأن
الآخرين مجرد عقبات في طريق النصر! لكن، ماذا لو لم يكن هناك فريق آخر؟ كيف يكون للنصر
معنى دون تحدٍّ؟ وكيف يمكن لنجاح أي كيان أن يُقاس إن لم يكن هناك من يشاركه المشهد؟
تخيلت
المشهد!، المدرجات الممتلئة بالحماس، والأعلام التي ترفرف، والهتافات التي تصدح في
الهواء كأنها نشيد جماعي لا يعرف الصمت، هناك مشجعون يرون في فريقهم تجسيداً للبطولة
المطلقة، وكأن فوزه هو انتصار شخصي لهم، وهزيمته خيانة تستحق الغضب.
لكن وسط
هذا الحماس، هل فكر أحدهم للحظة في أن هذه المنافسة التي يقدسونها، لا تكتسب قيمتها
إلا بوجود الطرف الآخر؟ ما معنى الفوز إذا لم يكن هناك خصم يقف على الجانب المقابل،
يقاتل بشغف ليحقق حلمه هو أيضاً؟
تخيلت
ملعباً فارغاً، وفريقاً بلا منافس، ومشجعين بلا شيء يهتفون له، وانتابني إحساس غريب!،
ما قيمة التفوق إذا لم يكن هناك أحد ليختبره؟ كيف يمكن أن يكون هناك أبطال بلا تحديات؟
أدركت أن الرياضة ليست مجرد تنافس، بل حوار مستمر بين الفِرَق، وبين المهارات، وبين
العزائم، تماماً كما أن أي إنجاز في الحياة، لا يُقاس فقط بحجم النجاح، بل بالرحلة
التي تطلبها، وبالخصوم الذين جعلوه أكثر صلابة.
وكما في
الملعب، كذلك في الحياة: لا أحد ينجح وحده، ولا معنى لأي مجد إن لم يكن هناك من يشاركه
المشهد، حتى لو كان في الجهة الأخرى.
وكأن قطعة
مفقودة في أحجية أفكاري، وجدت مكانها أخيراً!، لم يكن الأمر يتعلق بمن يفوز أو من يسيطر،
بل بمن يفهم أن وجود الآخر ليس تهديداً، بل ضرورة!، تماماً كما لا يكتمل اللحن إلا
بتعدد النغمات، ولا يزهر البستان إلا بتنوع ألوانه، كذلك الحياة!، لا يكتمل معناها
إلا بتكامل من فيها.
وهذا لا
ينطبق فقط على الفرق المتنافسة في الملعب، بل يمتد إلى كل فرق الحياة، وأقدمها وأكثرها
تأثيراً: العائلة.
تذكرت
أفراد الأسرة، تلك الشبكة المعقدة من الأدوار المتكاملة، ورأيت المشاهد تتوالى في ذهني
بوضوح، كأنني أشاهد فيلماً مألوفاً، لطالما كنت جزءاً منه، دون أن أتمعن في تفاصيله.
في العائلة،
لكل فرد صوته الخاص، لكن هذا الصوت لا يرتفع ليطغى على الآخرين، بل ليكمل سيمفونية
الحياة المشتركة!، الجد بحكمته، والأب بحزمه وحنانه، والأم بقلبها الواسع، والأبناء
بأحلامهم التي تنمو بين جدران البيت، كل منهم يشكّل نغمة فريدة لا تكتمل إلا بانسجامها،
مع بقية النغمات.
الأسرة
ليست صراعاً لإثبات الذات، بل فسيفساء من الأدوار المتكاملة، حيث لا معنى للحكمة دون
أن تجد من يستمع إليها، ولا جدوى للحماية دون أن يكون هناك من يحتاجها، ولا طعم للدفء
إن لم يُحتضن في القلوب.
ثم، امتدت
أفكاري إلى عالم آخر، إلى تلك المؤسسات والهيئات التي يفترض أن تعمل بروح الفريق، لكنها
تتحول أحياناً، إلى ساحة يتنافس فيها الأفراد على النفوذ، بدلاً من التعاون على تحقيق
الهدف الأكبر، ورأيت الاجتماعات التي تتحول إلى استعراض للقوة، والمشاريع التي تعرقلها
المصالح الشخصية، والقرارات التي تتأخر، لأن كل طرف يسعى لأن يكون صاحب الكلمة الأخيرة،
كأن الجميع نسي أن المؤسسة الناجحة ليست منبراً للأصوات المتنافسة، بل هي كيان متكامل،
حيث يكمن النجاح الحقيقي، في أن يجد كل فرد دوره الذي يساهم في البناء، لا في الهيمنة.
تماماً
كما أن السلطة الخضراء اللذيذة، لا تتشكل من طعم عنصر واحد فقط، بل من تناغم جميع مكوناتها،
كذلك المؤسسات والمجتمعات، لا تزدهر حين يسعى كل فرد ليكون الطاغي الوحيد، بل حين يدرك
الجميع، أن قوتهم تكمن في تكاملهم، لا في صراعهم.
في كل
شيء من حولنا، نجد هذا المبدأ يتكرر: لا يمكن لمقطوعة موسيقية أن تعزف بنغمة واحدة،
بل تحتاج إلى تضافر الأوتار والإيقاعات، تماماً كما أن المسرحية، لا تكتمل بأداء ممثل
واحد مهما كان براعته، بل بحضور كل الشخصيات، التي تمنح القصة معناها.
حتى في
الطبيعة، لا يسطع النجم وحده في السماء، بل بين ملايين النجوم، التي تعطيه سياقه وجماله،
ولا تنبض الغابة بالحياة، إلا حين تتشابك جذوع الأشجار، وتتفاعل الكائنات مع بعضها،
في دورة متكاملة، تجعل الوجود أكثر توازناً.
وربما
لهذا السبب، حين نحاول الهيمنة على المشهد وحدنا، فنشعر بذلك الفراغ الخفي، وبذلك القلق
غير المبرر، كأن أرواحنا تدرك أن العزلة المطلقة ليست انتصاراً، بل خسارة مستترة، لأن
القوة الحقيقية لا تكمن في أن نكون الوحيدين، بل في أن نكون جزءاً من كل، وأن نجد مكاننا
دون الحاجة إلى إقصاء غيرنا، وأن نفهم، أن العالم ليس مساحة صفرية، تُكتسب فيها الفرص
بسقوط الآخرين، بل ساحة، يمكن أن يتسع فيها النجاح للجميع.
عندها
فقط، أدركت أن طبق السلطة الخضراء أمامي، لم يكن مجرد وجبة، بل درساً صامتاً في فلسفة
الحياة، ورسالة مخفية وسط الألوان والنكهات، تقول لي دون كلمات: لا شيء يُضيء وحده،
ولا شيء يزدهر في عزلة.
السَلَطة الكبرى:
رفعت شوكتي،
وأخذت لقمة أخرى، تاركاً للطعم أن يتغلغل في حواسي، كما تغلغلت الفكرة في عقلي، فشعرت
بتوازن المذاق، وبتلك اللعبة الخفية التي تلعبها الحموضة مع الحلاوة، والقرمشة مع الطراوة،
وكأن كل مكون يقبل الآخر لا ليطغى عليه، بل ليمنحه بعداً أعمق، فأدركت أن هذا التوازن
لم يكن مجرد صدفة، بل كان سر الجوهر ذاته: أن الكل لا يكون أكثر ثراءً، إلا عندما يفسح
كل جزء المجال لغيره، ليظهر.
وأدركت
مؤخراً، أن هذا العالم، مثل طبق السلطة الخضراء، لا يكتمل إلا بكل مكوناته، ولا شيء
يفقد قيمته إلا عندما يُعزل عن البقية. قال أرسطو: "الكمال لا يتحقق إلا بتكامل
الأجزاء". ابتسمت لنفسي، مستوعباً كيف أن درساً بهذه البساطة، قد غاب عني طويلاً.
طوال حياتي،
كنت أرى الصراعات، والمنافسات، ومحاولات إثبات الذات بأي ثمن، ولم أفكر يوماً، أن قيمة
كل فرد ليست في عزله عن الآخرين، بل في انسجامه معهم، تماماً كما لم يكن يمكنني تذوق
نكهة الزيتون الأسود وحده، بنفس اللذة التي منحها لي، عندما امتزج مع باقي المكونات،
كذلك البشر، مهما بلغت فرادتهم، لا تكتمل قصصهم إلا بوجود الآخرين حولهم.
وضعت الشوكة
بهدوء، ناظراً إلى الطبق أمامي نظرة مختلفة، كأنني أراه لأول مرة!، لم يكن مجرد وجبة
عشاء، بل كان انعكاساً للحياة بكل تناقضاتها: القوة والهشاشة، والهدوء والحدة، والتفرد
والتكامل.
كنت أتناول
السَلَطة الخضراء، لكنني كنت أتناول معها، درساً قديماً متجدداً عن العالم من حولي،
وعن نفسي، وعن كل شيء.
وفي النهاية،
أدركت أنني لم أكن أتناول مجرد سَلَطة... بل كنت أتناول الحياة نفسها، بألوانها المتناغمة،
وبنكهتها التي لا تكتمل إلا عندما تجتمع أجزاؤها، تماماً كما لا تكتمل الحكاية دون
جميع شخصياتها، وكما لا يسطع النجم، إلا في سماء مليئة بغيره.
إضاءة:
يبدو أن
"سيلار والسلطة العظيمة!" عملاً أدبياً يحمل عمقاً فلسفياً، ويعكس من خلال
أسلوبه السردي صراع الأفراد في المجتمع، كما يظهر التناغم كقيمة أسمى بين مكونات
"السلطة الخضراء".
هذا العمل
يدعو القارئ للتفكير في القضايا الاجتماعية والفلسفية، المتعلقة بالتعاون والتفوق،
من خلال الانتقال من المشهد الصغير إلى الأبعاد الأكبر للحياة والعمل.
الشخصية
الغامضة "سيلار" تساهم في توجيه الصراع نحو أبعاد أعمق، حيث تمثل الغموض
والتحدي، مما يعكس تأثير الشخصيات غير الواضحة في صنع الفارق والتغيير.
النهاية
المفتوحة مقصودة!، لتثير تساؤلات حول النجاح والنصر، وتشجع القارئ على التأمل في معنى
التعاون، والتحديات التي نواجهها.
جهاد غريب
مارس 2025