الثلاثاء، 2 سبتمبر 2025

مِدادُ الهويّة!

 
مِدادُ الهويّة! 

"رحلةُ الخروجِ من جِلْدِ الظلِّ، إِلى فضاءِ المعنى"


هذا المكانُ بينَ الحروفِ لك. لم نبنِهِ ليخلُوَ، بل أقمناهُ على حافَّةِ الصَّمتِ والوُجودِ. لقد نَحَتْناهُ من صمتِ الكلامِ، وحَشَوْنا جُدرانَهُ بأصواتِنا الخَفِيَّةِ، وأضأناهُ بالقناديلَ من ذاكرةٍ لم تُخْبِئْ بعدُ. هو وطنُكَ اللُّغويُّ الأوَّلُ، حيثُ تسكنُ الأسماءُ قبلَ أنْ تُولَدَ، وترقُدُ المعاني قبلَ أنْ تستَيْقِظَ. فلا تتهرَّبْ كالظلِّ عندَ مواجهةِ النورِ، ولا تبحثْ عن بيوتٍ من قصَبٍ في عاصفةِ العدمِ. اجلسْ في وسطِ هذا الفراغِ الممتلئِ. اسمعْ صدى خُطاكَ على أرضيةِ الحروفِ. هناكَ ستجدُ نبضَكَ.

وها هنا، عندَ مُفترَقِ الأبحرِ، سكَبْنا لك وجهَكَ الأوَّلَ في قوالبِ الحِبْرِ. لم نُعطِكَ إيّاهُ قالبًا جاهزًا نقشُهُ بارزٌ وملامحُهُ ثابتة. كلّا. بل ألقيناكَ – بعطفٍ – في بحرِ السؤالِ المُعتِم، وتركناكَ تُجاذبُ الأمواجَ بذِراعَيْكَ، حتى خرجتَ إلينا بملامحَكَ التي اخترتَها نفسُكَ: شِفاهًا تتكلَّمُ بما لم نُعلِّمْ، وعينَيْنِ تريانِ ما لم نَرَ. فإيّاكَ، بعدَ اليومِ، أنْ تسرقَ ظلَّكَ وتبتعِدْ. إيّاكَ أنْ تبيعَ تذكرةَ العبورِ لتشتري وهمًا من نسيانٍ. فأنتَ لستَ غريبًا عن نفسِكَ، وإنْ شتَتَّ. كلُّ خُطوةٍ تمشيها نحوَ الآخرِ تجبُ أنْ تبدأَ من مرآةِ ذاتِكَ.

ووهبناكَ لغةً تمشي بها نحوَ نفسِكَ. ليست سيفًا للهويّةِ تُراعُ به الغَيْر، ولكنْ مِشعلًا للوُجودِ. كلُّ معنًى مشدودٌ إليكَ بخيطٍ نورانيٍّ رفيع، يُغزلُه كائنٌ من صوفةِ القُدرةِ والخَيالِ. هو ضياؤُنا الذي خُصَّ بكَ، وحباتُهُ التي لم تسقُطْ إلّا في روضتِكَ. فلماذا، يا مَن تحملُ النورَ في حناياهُ، تُسلِّمُ روحَكَ للدَّاجِيَةِ؟ لماذا تبحثُ عن نجمةٍ في قاعِ بئرٍ، وأنتَ تحملُ كوكبًا بينَ أضلاعِكَ؟ لقد صرتَ جزءًا من هذا الضياءِ، فلا تُطفِئْهُ بسِهامِ الشكِّ واليأسِ. اخرُجْ من جلدِ الظلِّ. اسبَحْ في فضاءِ معنَاكَ.

لستَ مُطالَبًا بشيءٍ آخرَ سوى أنْ تكونَ جديرًا بالكلماتِ التي احتملتْكَ قبلَ أنْ تعرفَ معانيَها. كلماتُنا كانت مهدَكَ قبلَ أنْ تصيرَ سيفَكَ، وسقفَكَ قبلَ أنْ تصيرَ حصنَكَ. احمِلْها بأناةِ الوالدةِ، وبشَجَنِ المُعلِّمِ، وبصدقِ الحبيبِ. اذكرْ دائمًا أنّ الحروفَ التي تكتبُها اليومَ، كانت تحملُ أمسٍ أثقالَ أحلامِكَ. فلا تخُنْها بسُخفٍ، ولا تخذلْها بوَهنٍ. اكتُبْ نفسَكَ بها كما تريدُ أنْ تُقرأَ. لأنَّ الكلمةَ ليست غطاءً، بل هي جلدٌ آخرُ.

ونحنُ، الذين أعددْنا لك المعاني وحروفَ الهويّةِ، لم نكتبْ لك إلّا لأنَّنا كنّا نكتبُ كينونتَكَ. لم نَكُ ننتظرُ منكَ شكرًا، ولكنَّنا كنّا ننتظرُ أنْ تكمُلَ الصورةُ. أنْ تأتيَ بالجديدِ. أنْ تُضيفَ لونًا لم نعرفْهُ إلى دفترِ العالَمِ. فاذهبْ. احمِلْ مِدادَكَ. امشِ في الشوارعِ التي لم تُرسَمْ بعدُ. واعلَمْ أنّكَ في النهايةِ، لن تجِدَ نفسَكَ إلّا حيثُ وضعناها: بينَ سطرَيْنِ من صمتِنا المُعَبِّرِ، في المساحةِ المُقدَّسةِ التي تتَّسِعُ لصوتِكَ وحدَكَ. هناكَ، حيثُ يلتقي الماضي بالمستقبلِ، ستُدوِّي كلمتُكَ الأخيرةُ، فتكونُ أولَ سطرٍ في كتابِ الآخرِ.


جهاد غريب 
سبتمبر 2025 

الاثنين، 1 سبتمبر 2025

من الشرارة إلى الوهج: رحلة الإنسان نحو صناعة مستحيله الخاص!

 
من الشرارة إلى الوهج: رحلة الإنسان نحو صناعة مستحيله الخاص! 

"رحلة في جوهر الإنسان، حين يشعل شرارته الخاصة"


في رحلة الحياة، حيث يصنع المميزون بصمتهم الخاصة على جبين الزمن، تبرز الحاجة إلى خريطة مختلفة، تُفتح لها آفاق كانت يومًا مغلقة. إنها الرحلة التي لا تبحث عن طريقٍ معبد، بل عن بوصلةٍ توجه الطاقات الكامنة نحو صناعة المستحيل، لتحويل الحلم النائم إلى واقع ملموس يخطو على الأرض.

إن القوة الحقيقية لا تكمن في السير على خطى الآخرين، بل في الشجاعة لبناء عالمٍ ينصهر فيه ما بداخلنا من طاقاتٍ خام وإمكانات كامنة، لتتشكل منها قوة إبداعية لا تعرف حدودًا. إنها عملية تحول جوهرية، حيث لا ندور في نفس الحلقة المألوفة، بل نحفر في صخر الواقع مساراتٍ أكثر عمقًا، لنصنع لأنفسنا طريقًا لم يُسبق إليه، ونترك عليه بصمة لا يزول أثرها.

وهذا المسار الجديد ليس مجرد تطوير للمهارات، بل هو ارتقاء بالماهية نفسها، تصبح فيه العقبات وقودًا للإرادة، والتحديات منصات للانطلاق، وأحيانًا أبوابًا سرية إلى آفاق لم نتصورها من قبل.

الإبداع الحقيقي لا يقتصر على الموارد الظاهرة، بل على القدرة على بناء أبراج احتراق رمزية في داخلنا. هذه الأبراج لا تطلق دخانًا، بل تصهر الطاقات والإرادة حتى آخر قطرة، ومن هذه الجذوة المتأججة تنبعث كينونة جديدة: إنسانٌ حرٌّ بوعيه، صلبٌ بإرادته، لا يُقاس بحدود ما هو مألوف، بل بإمكانات متجددة لا تنفد، وآفاق مفتوحة على الممكن والمستحيل. 

ومن رحم هذه الرؤية تولد النار الخالدة، شعلة إبداعٍ لا تنطفئ، بل تتوهج حتى تُضيء عالمًا بأكمله. فالشرارة التي نقدحها في أعماقنا ليست سوى أولى نبضات قلب هذه النار الأزلية، ستتجاوز شرر البداية لتصير وهجًا لا يُطفأ، بل شمسًا صغيرة تحمل نهارها الخاص.

هذه النار لا تحرق السطحيات فحسب، بل تتحد في أتونها كل الحدود والقيود، لتنبثق منها رؤى متجددة كالقمر الجديد، تُضيء طريق الفرد وتعيد تشكيل مفهوم الإمكانات من أساسه: فكرًا يبني، وإرادة تخلق، وروحًا تؤسس لحياة أكثر اكتمالًا. 

ولأن كل بناء عظيم يقوم على إرادة عملية صلبة، فإن الأحلام الكبيرة ليست محض خيال، بل هي ترجمة دقيقة لواقعٍ ممكن، وخطة واضحة المعالم قابلة للتنفيذ، تجعل المستحيل كيانًا نابضًا يتجسد في مسرح الوجود، ويلامس تفاصيل الأيام، كما يلمس النسيم وجه فجرٍ جديد. 
 
وفي النهاية، ليست القضية في من نكون اليوم، بل في ما سنصبح عليه غدًا. إنها الرحلة التي تتحول فيها الطاقات الكامنة إلى إرادة لا تقهر، والأفكار إلى إنجازات خالدة، والحدود إلى مجالات للانطلاق. 
 
لسنا أمام بداية جديدة فحسب، بل أمام مستقبل مختلف كليًا، حيث يكون كل مستحيل مجرد تحدٍ ينتظر شرارة إبداعنا الأولى. من هذه الشرارة، نشتعل في بوتقة الإمكانات البشرية، لنطلق وهجًا يضيء الزمن، ويكتب أسماءنا على صفحات لا تمحوها الرياح. فلتتقد الشرارة إذن، ولتشرق الشمس. 

جهاد غريب 
سبتمبر 2025 

الأحد، 31 أغسطس 2025

أرواح عبر الشاشات!

 

أرواح عبر الشاشات! 

"جسورٌ من ضوءٍ... تُفضي إلى عوالمَ من زجاج" 

في هذا العصر الرقمي، قد ننسى أحيانًا حقيقةً جوهرية: إنَّ العالم الافتراضي، بكل ما يقدمه من جسورٍ للتواصل، يبقى ظلًّا واهنًا، كصورةٍ لمنظرٍ خلاب علقت خلف زجاج، تُرى بالعين، لكن الريح لا تعبث بأغصانها، ولا تدفئ الشمسُ بشرتك. لا يضاهي دفء الواقع وحضوره.

نعم، نتعرف عبر الشاشات إلى أرواحٍ شتى، ونبني جسورًا من الكلمات، ولكن هل تُغني هذه اللقاءات الافتراضية عن نظرة عين تلمع، أو عن مصافحة يد، أو عن حضورٍ يملأ المكان بهجةً وصدقًا؟ 

ذلك الدفء الذي ينبعث من الوجود المشترك، كأنه بُسُطٌ مُطرَّزة من همسات النفوس وصمتٍ يفهمه القلب دون كلمات. هل يضاهي ما على الشاشة دفءَ قهوةٍ تتشاركها، أو رعشةُ صوتٍ تسمعها أذنك مباشرةً فترتجف معها مشاعرك قبل أفكارك؟

وذاك الدفء بالذات، هو الذي يجعلنا ندرك أن الواقع عالَمٌ قائم بذاته، لا يُستبدَل ولا يُعوَّض. فلو تحدثنا عن بناء العلاقات وتنميتها، وعن تلك الخيوط الغامضة التي تنسج أواصر المحبة والثقة بين البشر؛ خيوطًا من حريرٍ خفي، تُحاك بلغة الجسد والإحساس المشترك بلحظة واحدة. 

هذه الخيوط لا تنسجها أصفارٌ وآحادٌ صماء، ولا ومضاتُ اتصالٍ عابرة، بل تنسجها الأوقات المشتركة في صمتٍ وفي ضجيج، في أفراحٍ تُقام وفي أحزانٍ تُحتمَل سويةً. إنها نسيجٌ معقّد لا يفهمه إلا من عاش تفاصيله، كشجرةٍ تستظل بها العصافير وتُثمر في مواسمها، لا كزهرةٍ صناعية لا تعبق ولا تذبل.

فحقيقة الأمر، ليس للفضاء الافتراضي أن يكون بديلًا عن عالمنا الواقعي؛ فهو في أفضل أحواله جسرٌ للوصول، جسرٌ من وميضٍ افتراضي يصل بين ضفتين، لكنه ليس أبدًا موئلَ الأرواح وملاذَها. 

ليس ترابَ الأرض الذي تمشي عليه حافي القدمين، وليس السقفَ الذي يحتمي به الحبيب، وليس المطبخَ الذي تفوح منه رائحة طعام الأم. الوطن الحقيقي هو ذلك اللقاء الذي لا يُختزل إلى ومضاتٍ ورسائل؛ هو حيث تسكن الروحُ إلى روح، فتجد فيه الطمأنينةَ والحنين. هو الحضور الذي يخلده الوجدانُ في ذاكرة الروح، لا خادمُ الشبكة في سحابةٍ باردة عابرة. 


جهاد غريب 
أغسطس 2025 

الجمعة، 29 أغسطس 2025

ظلال لا تطير!

 
ظلال لا تطير! 

"هذا النص ليس عن الأمنيات وحدها، بل عنّا حين نتغير ونحن ننتظرها… عن ظلالٍ تثقل أرواحنا، ثم تُعلّمنا في النهاية معنى الطيران"


كل الأمنيات تطرق أبواب القلب، لكن، لا شيء منها يدخل دون أن يدفع ضريبة الزمن الضائع، ووجع السكنى في أرائك الروح القديمة، حيث يُخلّف كلُّ منتظَرٍ غائبٍ بصمته على القماش الباهت، وكل أمنية لم تَعُد تُغري أحداً بالجلوس مكانها. تتحقق الأمنيات أحيانًا، نعم... لكنها تصل متأخرةً، منهكةً، أو غريبةً لأننا كنّا قد تغيّرنا لدرجة لا نعود نعرف كيف نحتضنها.

أما العوائق، فليست أحجارًا في الطريق، بل فصولًا تتكرر كخريفٍ مثقلٍ بالخذلان. خريفٌ يأتي دون موعد، حاملاً في جعبته نفحاتًا باردة تعزف نغمةَ الفراغ على زجاج النوافذ، وأوراقًا صفراء ليست ذهبيةً كما روّج لها الشعراء، بل بلون الشحوب والوداع. 

يحلّ الخريف ضيفًا ثقيلًا على الحنين، يأمرنا بأن نُضيء له موقد الذكريات ليسخن يديه، ثمّ يجلس في صمتٍ عميقٍ، لا يروي حكايات، بل يكتفي بسماع أنفاسنا المتقطعة بين خيبة وأخرى. ثم يرحل مع أسراب الطيور… غير أن ما يخلّفه فينا يشبه ظلالًا عالقة، كأنها تنسى كيف تطير.

والأقسى من ألم الخذلان ذاته، هو ذلك الصدى الغريب الذي يتردد عندما تتحقق الأمنية أخيرًا. إنه صوت لا يشبه أي لحنٍ حلمنا به. إنه صوت تشقُّق المرآة التي نرى فيها أنفسنا، لنرى انعكاسًا لشخص لم نعد نعرفه، يحمل أمنيتنا بيدين مرتعشتين، وكأنه يمسك بقطعة من جليد، تذوب من دفء لا يمتلكه.

وربما ندفع لها لاحقًا، فاتورةَ الحنين إلى زمن كنا فيه أكثر بساطة، حين كانت الأمنية مجرد حلم جميل وليس عبئًا من الواقع علينا حمله.

فبعض الخسارات لا تُعالج بالمغفرة، بل بالتعايش. هذا التعايش ليس استسلامًا، بل هو هندسة معمارية دقيقة لسلامٍ داخليّ، نبنيه، حجرًا حجرًا، فوق أنقاض ما كنا نعتقد أنه لن ينهار أبدًا. إنه فن تحويل الندوب إلى حدود شخصية مقدسة، لا يدخلها إلا من يفهم لغة الصمت التي نتحدثها.

وبعض الأمنيات لا تموت... لكنها تصمت، كما يفعل الذين تعبوا من الانتظار. وهذا الصمت ليس قبرًا، بل بذرةً تختار النوم في أعماق التربة القاسية، تترقب بصبرٍ من نوعٍ آخر، ليس لمناسبةٍ تحققها، بل لمعنى جديد قد يولد من رحم هذا الصمت نفسه. فربما، وفي صباحٍ غير متوقع، نكتشف أن أعظم أمنياتنا لم تكن ذلك الشيء الذي انتظرناه، بل القوة الغريبة التي اكتسبناها أثناء انتظار تحققها.

وهكذا، نتعلم أن الحياة لا تسرق منا أحلامنا، بل تفككها ثم تعيد تركيبنا نحن حولها. في النهاية، لا ننتظر تحقق الأمنيات، بل ننتظر أن نكبر بِقدرٍ كافٍ لنجعل من صمتنا حديقة، ومن ظلالنا التي لا تطير أشجارًا ترويها ببطء، حتى تأتي رياحٌ جديدة، تُعلّم تلك الظلال التي لا تطير، كيف تُحلّق، ويأتي الربيع الذي نستحقه، وليس الذي ننتظره. 


جهاد غريب 
أغسطس 2025 

الثلاثاء، 26 أغسطس 2025

مهد النور: في حضن البدايات الأولى!

 
مهد النور: في حضن البدايات الأولى! 

لم يكن مجرد وعيٍ يولد، بل كان انفجارًا كونيًا صامتًا. في ذلك الحيز الدافئ، حيث الظلمة دافئة وليست مخيفة، حيث الصمت مكتنز وليس فارغًا، بدأ التشكّل. لم تكن هناك عيون بعدُ لترى، لكن كان هناك "بصر" آخر، أعمق، يستشعر النور قبل أن يلمسه الضياء. كانت تلك هي الحاضنة الأولى للنور؛ رحمٌ ماديٌ وميتافيزيقيٌّ في آنٍ واحد، يُغذّي الجسد بالحياة والروح بالسؤال الأولي، السابق حتى على اللغة.

كانت أولى دروس النور هي الحرارة. الدفء الذي يلفّك من كل جانب، غير منقوص، لا شرط فيه ولا قيد. كان ذلك أول تشبيهٍ مباشرٍ للحب المطلق، للحماية التي لا تحتاج إلى برهان. ثم كان الإيقاع: نبضٌ ثابتٌ، رتيب، كطبولٍ بدائيةٍ تُعلن عن قدوم ملك. ذلك الإيقاع كان أول موسيقى، كان الترنيمة الأولى للنور. لم تكن كلماتها مفهومة، لكن روحًا بكاملها فهمت معناها: "أنت آتٍ إلى عالمٍ ينتظرك، وأنت مُنتَظَر". كانت تلك الترانيم غيرِ اللفظية هي أول لبنة في بناء الوعي، لغةٌ رفيعةٌ تترجمها المشاعر مباشرةً إلى شعورٍ بالأمان، إلى يقينٍ غريزيٍّ بالانتماء.

مع كل نبضة، كان النور يتسرّب كفيضٍ تدريجي. ينساب مع الدم، ليس كنور الشمس، بل كلون الفجر الأول الذي يسبق ظهور القرص نفسه. نورٌ لا يُضاء من الخارج، بل ينبثق من الداخل، كأنما الروح تحمل بذرةَ شمسها الخاصة. في تلك الحاضنة، لم يكن هناك فرق بين الداخل والخارج، بين الذات والآخر. كان الاثنان كيانًا واحدًا، نغمةً واحدةً في ترنيمة الوجود.

ثم تأتي اللحظة الحاسمة، لحظة الانزياح الكبير من عالم الظلمة الدافئة إلى عالم الضوء الصاخب. إنها الصدمة الأولى، الولادة الثانية. إنها اللحظة التي ينفصل فيها النور عن مصدره المادي الأول، ليبحث عن مصادره الجديدة في العالم الواسع. ها هو النور الآن يلمع من فوق، من مصباحٍ في السقف، من شمسٍ من وراء نافذة. لكنه ليس النور ذاته. أكثر قسوة، أقل حماية. نورٌ يُرى، لا نورٌ يُحَسّ.

هنا، في هذا العالم الجديد، تبدأ الحواس في نسج شبكتها المعقدة لالتقاط أشكال النور الجديدة. الترنيمة الأولى لم تعد نبضًا داخليًا، بل تحولت إلى صوت. صوت هدهدةٍ تغسل الروح قبل الجسد. صوت كلماتٍ غامضة المعنى، واضحة المشاعر، تُقال همسًا كصلواتٍ سرية. هذا الصوت امتدادٌ لذلك النبض الأول، جسرٌ من الحنين يُلقى بين عالمين. هو الترجمة اللفظية لذلك النور الداخلي الأول. تشمُّ الروح رائحة الحليب والدفء، وهي روائح القداسة في هذا المهد. تلمس الأصابع الصغيرة وجهًا يعلوه نور الحب، فيتعلم اللمس معنى التقديس.

تُمنح الجماداتُ صفاتٍ إنسانيةً فتُصبح شريكاتٍ في الطقوس. السرير ليس خشبًا ووسائد، بل حارسٌ أمين. اللعبة ليست قماشًا وحشوًا، بل رفيقةُ أسرارٍ أولى. الغرفة تتنفس مع تنفس الرضيع، جدرانها تسمع، وظلالها على الجدار ترقص لتسليته. العالم كله كائنٌ حيٌ، نابض، مشاركٌ في تشكيل تلك الروح الحديثة العهد بالوجود.

لكن النور لا يأتي فقط من الخارج. تأتي اللحظة التي يكتشف فيها الإنسان، وهو لا يزال طفلًا، أن النور ينبعث منه هو أيضًا. في أول ابتسامةٍ غيرِ مُقتَضَبة، في أول نظرة فضولٍ تكتشف العالم، في أول دموعٍ تُذرف كإعلانٍ عن ألمٍ أو اعتراض. هذه كلها ومضاتٌ تنبع من داخله. إنه يبدأ في إضاءة عالمه الصغير بنوره الخاص، النور الذي تراكم في تلك الحاضنة الأولى. لقد أصبح هو الآن حامل النور، وليس مجرد متلقٍّ له.

كيف لهذه البدايات الأولى أن تشكل مساراتنا؟ كيف لتلك الذاكرة الجسدية للدفء الأول، والصوت الأول، والنور الأول، أن تظل تلاحقنا كشوقٍ أبديٍ إلى حالةٍ من الكمال الضائع؟ نحن، طوال حياتنا، نبحث عن إعادة تشكيل تلك الحاضنة الأولى بطرقٍ شتى. في حبٍّ نطلب فيه أن نذوب في الآخر، في عملٍ نبني فيه عالمًا خاصًا بنا، في إيمانٍ نبحث فيه عن انتماءٍ إلى كلٍّ أعظم. كل بحثنا عن النور – في المعرفة، في الفن، في المحبة – هو في جوهره بحثٌ عن ذلك النور الأول، عن ذلك الإيقاع المطمئن، عن ذلك الدفء غير المشروط.

هل النور، إذن، هو ذاكرةٌ نحملها؟ أم هو وعدٌ نتحرّك نحوه؟ هل نحن نستذكر النور، أم نبتكره؟

تلك أسئلة تتركها البداياتُ تتأرجح في دهاليز الروح، بلا إجابةٍ حاسمة. ربما لأن النور الحقيقي لا يُعرِّف نفسه، بل يُعرِّفنا به. لا يُقال، بل يُحس. ليس إجابة، بل هو السؤال الأول والأخير.


جهاد غريب 
أغسطس 2025 

نزيف الألوان: قلبٌ يجرؤ على النَّظر إلى جِراحِه!

 
نزيف الألوان: قلبٌ يجرؤ على النَّظر إلى جِراحِه!

"كل ندبة نافذة، وكل نزيف لون جديد للحياة"


لم يكُن قلبي سوى كائنٍ غريبٍ يسكن جوفي، يطلّ على العالم من شُبّاك الضلوع. كان يسمع صفير الرصاص، يرى السكاكين تنغرس في جسدي، ويشعر بزئير الحياة يهزّ أعماقي، لكنَّه ظلّ محصَّنًا خلف جدارٍ أسطوريّ، كأنما يعيش بديلاً عنّي لا بي. إلى أن جاء يومٌ لم يعد فيه الرصاص يصفِّر في الخارج، بل انطلق من داخلي. عندها لم يعُد بمقدور القلب أن يظلّ في الغياب. خرج.

نظر إليّ من الخارج لأول مرّة. لم تكن نظرة حكمٍ أو رثاء، بل فضولًا وجوديًّا عميقًا. ها هو ذا: قلبي الشجاع، يجرؤ على مواجهة مرآة الذات، لا ليرى انعكاس الجمال، بل لِيُطِلَّ على كَشْفِ الجراح. في تلك اللحظة انقسم العالم إلى نصفين: ذاتٌ تنزف، ووعيٌ يراقب. 

أدركت أن الشجاعة ليست غياب الخوف من الألم، بل الجرأة على وضعه تحت المجهر، وفهم سياق النزيف وألوانه. هذه هي البطولة الحقيقية: أن ينتصر وعيك على صمتك، قبل أن تنتصر على أي معركة خارجك.

ثم ابتدأ التحوّل. أعادتني الجراح، لكنّي لم أعُد كما كنت. مَن يعبر حرب الوجود يكسر ختم البراءة إلى الأبد. كل طعنة كانت إبرةً أعادت خياطة ملامح كياني، وكل ندبة صارت واديًا في جغرافية روحي. 

لقد صرنا مثل آنية "الكِنتسوغي" اليابانية: فنُّ ترميم الخزف بالذهب؛ لا يُخفي الحرفي شقوقها، بل يملؤها بالذهب، فتغدو أغلى مما كانت عليه قبل أن تتحطم. الجراح ليست عطبًا ننتظر إصلاحه، بل سيرةٌ ذاتيةٌ للروح، محفورة على جلد الزمن.

وفي هذا التحوّل تكمن المعجزة. فجراحنا، وإن نزفت، لا تُخلِّف رماد الأسى وحده، بل تفيض بألوانٍ لم نكن لنعرفها لولا أن اخترقنا الألم. نزف الأزرق فصار حكمةً وصبرًا عميقًا، نرى به العالم بهدوءٍ بعيد عن ضجيج السطح. 

تسرب الأحمر فصار شغفًا جديدًا، نارًا داخليةً لا تحرق، بل تُدفئ عزيمتنا وتُذكِّرنا بأننا ما زلنا أحياء. أمّا الأصفر فيسري منه ضوءٌ نُضيء به دهاليز ذاكرتنا، ونمدّه للآخرين العالقين في عتمةٍ شبيهة. هنا يظهر الآخر: نزيفنا الملون لا يبقى حبيس الذات، بل يتحوّل إلى رسالة صامتة، لغة عالمية يفهمها كلُّ من مرَّ بمِحنة الألم.

فها أنا ذا، لم أعُد ذلك الطين الطريّ الذي يشكّله كل مارّ، بل صرت فخّارًا مذهّب الشقوق. وقلبي، ذلك الشجاع، لم يعُد يختبئ؛ لقد تحرر من قفص الضلوع، وصار يشرف على جراحي لا كطبيبٍ يضمدها، بل كفنانٍ يقرأ لوحةً رُسمت بدمه ثم يعرضها على الوجود.

الشجاعة، في نهاية المطاف، أن تتحوّل جراحك إلى نافذة، وأن تسمح لنزيف ألوانك أن يلوّن عالمًا ظنّ أن الرماد هو قدره الوحيد. فلتُخرج قلبك لينظر، فالنظر أوّل خطوات الولادة.


جهاد غريب 
أغسطس 2025 

الاثنين، 25 أغسطس 2025

ولادة من رماد: حين يتكلّم الدخان!

 
ولادة من رماد: حين يتكلّم الدخان! 


ليست النار مجرد لهبٍ يتّقد ثم ينطفئ، بل هي لغة قديمة، لغة العناصر حين تدخل في حوار عنيف مع وجودها. في كل شعلة، يسكن سؤال: هل هذه النهاية الحتمية لكل ما تلتهمه؟ أم أن وراء الاحتراق حكاية أعمق، وميلادٌ آخر لا تراه العين في اللحظة الأولى؟ 

حين تتوهج، يظنّ المرء أنّها لا تترك خلفها سوى فناء، لكنها في جوهرها تعيد صياغة المادة، وتحوّل الكائنات إلى ما يشبه كتابة جديدة بلغة الرماد. فالرماد ليس مجرد بقايا خامدة، بل هو ذاكرة الاحتراق، وشاهد على ولادة صامتة من قلب الدمار.

فهذه النار لا تكتفي بالالتهام، إنّها تحوّل. كل جذع يحترق، كل ورقة تتفتّت، يصبح سطرًا جديدًا في كتاب الوجود. والرماد الذي يتناثر فوق الأرض يشبه الحبر الذي يُعاد توزيعه على صفحة أخرى. كأن النار، بعد أن تلتهم، تعيد ما أكلته في صورة أكثر هدوءًا وأكثر صفاءً. 

غير أنّ هذا الرماد ليس محايدًا: إنه جرح بارد، يحمل آثار الحرارة الماضية، ويختزن في لونه الرمادي ألف حكاية عن العبور. لذلك، حين نلمسه، نشعر بأننا نلمس ذاكرة الألم نفسها وقد تحولت إلى مادة ملموسة، دليلًا حسيًّا على أنّ كل احتراق كان له معنى أبعد من الموت.

لكن رسالة النار الأخيرة لا تكتمل إلا بالدخان، ذلك الكائن الهشّ الراقص في الفضاء، إنه يترك أثره في الهواء والعيون والرائحة، رغم أنه لا يمسك ولا يحاصر. 

إنه ليس امتدادًا للنار فحسب، بل هو صوتها المتقطع وهي تلفظ آخر حروفها، أنفاسها الخارجة من الهاوية لتقول: "ما زلتُ هنا، وإن كنتُ قد احترقت". وهو في الوقت نفسه بداية لغة أخرى: لغة التيه والتبعثر. 

يتلوّى الدخان، يتصاعد، يتبدّد، لكنه في لحظاته العابرة يكتب شكلًا جديدًا، يخلق لوحة في السماء، يذكّرنا بأنّ كل ما انتهى قد يتكلّم من جديد بطرق لا نتوقعها. إنه استعارة للصوت الإنساني حين يخرج من عمق التجربة، عودة من الهاوية ليس بكمال الجسد، بل برائحة الروح وقد تغيّرت. وكأنّ المعاناة نفسها تمتلك القدرة على أن تتحول إلى نَفَس جديد، وإن كان هشًّا وعابرًا.

هذه الدورة من النار إلى الرماد فالدخان ليست مجرد سلسلة كيميائية، بل هي دورة وجودية، معادلة الحياة التي تقضي بأنه لا نموَّ بلا احتراق، ولا صوتَ بلا ألم، ولا ولادةَ بلا موتٍ سابق. كل إنسان يمرّ في حياته بلحظة نار؛ تجربة تحرق اليقينيات، تفتّت الصور القديمة، وتتركه واقفًا أمام نفسه عاريًا. 

ثم تأتي مرحلة الرماد، حيث يظن أنّ كل شيء انتهى، وأنه صار أطلالًا. لكن المفاجأة أنّ هذا الرماد هو الأرض التي تستعد لولادة جديدة، ومنه يصعد الدخان: ذلك الصوت المختلف، الرؤية المتحوّلة، الحكمة التي لم تكن لتولد لولا مرارة الاحتراق. بهذا المعنى، لا يكون التحوّلُ خيارًا، بل ضرورةً وقانونًا خفيًا يحكم كل كائن يطلب النمو.

وفي النهاية، يبقى الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يستطيع أن يجعل النار مولّدًا لا قاتلًا. فمن بين كل الكائنات، وحده من يفكّر فيما بعد النار: يحوّل الرماد إلى معنى، والدخان إلى نَفَس جديد. 

وهكذا، يغدو الاحتراقُ بدايةَ لغةٍ أخرى، لا موتًا. فتتحول النار إلى معلمة قاسية تكتب دروسها فينا، ويصبح الرماد ذاكرة خصبة، ولا يبقى الدخان مجرد دخان، بل هو الصوت الذي عاد من الهاوية ليقول: "لقد احترقتُ… لكنني لم أنتهِ".


جهاد غريب 
أغسطس 2025 

الأحد، 24 أغسطس 2025

أجنحة تنمو قبل الأوان!

 
أجنحة تنمو قبل الأوان! 

"تأملات في الحرية المبكرة وما تخلّفه من نعمة وعبء"


كل فكرة تولد فينا لا تأتي من فراغ، بل تحمل أثرَ صراعٍ قديم بين الممكن واللاممكن. إنها الصراع الأزليّ بين رغبة الروح في الانعتاق وحدود الواقع المتصلب، ذلك الصراع الذي يولد فينا السؤال: ما الذي يدفع الإنسان لتحدي الممكن والتطلّع إلى ما وراء حدوده؟ ومن بين هذه الرغبات يولد الطائر الصغير الذي يختبر السماء قبل أوانه.

في صباح بعيد، وبين أغصان شجرة يابسة، يحاول طائر صغير فرد جناحيه قبل أن يكتمل ريشه. ويهتز الهواء حوله وكأنه يبارك محاولته الأولى. تهبّ الريح كأنها أصابع خفية تختبر قوّة جناحه، وتهمس بين أغصان الشجرة، فتبعث خفقانًا خفيفًا في قلبه الصغير، وتداعب ريشه بحنوّ قاسٍ، فتخلط بين الوعد والتهديد. 

في الخلفية، تظلّ الأم تحدّق فيه بقلقٍ خفي: هل سيصمد جناحه الهشّ أمام اتساع السماء؟ أم أنّ سقوطه المبكر سيكسر حلم التحليق إلى الأبد؟ في تلك اللحظة، تبدو الحرية أشبه بمغامرة وُلدت قبل موعدها، كأنها سؤال يطرق أبواب الحياة: هل الطيران المبكر نعمة تعجّل بالنمو، أم عبء يثقل الكتف الصغير؟ 

وهكذا، ليست محاولة هذا الطائر سوى فصل جديد في حكاية، بدأت منذ فجر الأساطير، فاتخذ الطائر رمزًا للروح التي لا تحتمل الأقفاص. كل رفرفة جناح هي إعلانٌ بأن الكائن خُلق ليكون حرًّا، لا ليُقيَّد. 

وحين يعلو فوق الغيم، يشعر وكأنه يوقّع ميثاقًا مع السماء: أن يظل وفيًّا للريح أكثر من الأرض، أن يجعل الفضاء موطنه الأبدي، وأن يكتب سطرًا جديدًا في قصة الوجود مع كل رفّة. الغيم يتخذ أشكالًا متبدلة: قلاعًا بيضاء... وجوهًا عابرة، وسُفنًا من بخار تمضي بلا ميناء. وكل لحظة فيها هي درسٌ في اتساع السماء، وجولة في عالم الأسرار. 

حين يطير الطائر مبكرًا، يخوض تجربة لم يتهيأ لها بالكامل. قد يسبق أقرانه في اكتشاف اتساع السماء، ويصغي إلى موسيقى الريح؛ ألحانها تتراوح بين الهمس والصفير، بين عزف منفرد ومهرجان سماوي، لتلقّنِ الريحُ الجناحَ الصغيرَ معنى الإيقاع قبل أن يتقن الطيران. 

غير أنّ ثمن هذا السبق ليس سهلًا: أن يحمل جسدًا صغيرًا مسؤولية أكبر من احتماله، أن يذوق طعم المخاطر قبل أن يعرف حلاوة الأمان. فالمبكرون في التحليق يختصرون المسافة نحو النضج، لكنهم أيضًا يقتربون من حافة السقوط أكثر من غيرهم.

توازن غريب يعيشه الطائر: نشوة التحليق الأولى التي تمنحه لذّة لا تضاهى، كمن يشرب أول قطرة مطر بعد عطش طويل، فتتدفق قطراتها على ريشه وتنعش قلبه، لكنها تتركه يكتشف أن كنوز السماء لا تُفتح إلا بمفاتيح الجرأة. يقابلها شعور عميق بالوحدة، إذ لا أحد يشاركه السماء. الحرية هنا ليست فقط انعتاقًا، بل هي اختبارٌ لعزلة النفس ومواجهة الذات بلا وسطاء. 

وفي لحظات هذه النشوة، يصبح الهواء نفسه حليفًا يرفعه وكأنه يحتضن حلمه الصغير. كل رفرفة تُشعره أنه يسبق زمنه بلحظة، وأنه يملك سرًّا لا يراه الآخرون بعد. هناك فرح طفولي خالص، دهشة من أن الجناح الذي لم يكتمل بعد قادرٌ على ملامسة الغيم. لكن الطائر الذي سبق الآخرين يدرك سريعًا أن للسماء وجهين: وجهًا يفيض بالعطايا ويتسع للفرح، وآخرَ صارمًا لا يرحم من يغفل عن قوانينها. يفهم أن الريح صديقٌ وعدوٌّ في آنٍ واحد.

وهنا، في خضم هذا التوازن الغريب بين النعمة والعبء، يُسقط الطائر حكمته على الإنسان. كم منّا عاش تجربة الطيران المبكر؟ طفل حمل مسؤوليات الكبار، شاب تذوّق مرارة الخيبات قبل أقرانه، أو روح اختارت أن تتقدّم على زمانها بخطوة. 

الطيران المبكر ليس قصة عن الريش والهواء فقط، بل عن إنسانية تذوقت الحرية والمسؤولية في وقت واحد. فمنهم من ينهض أقوى، وآخر يظلّ يحمل ندبة السقوط الأول، لكنّ الجامع بينهم جميعًا أنّ التجربة تركت أثرًا لا يمحى. الحرية هنا ليست توقيتًا، بل معنى، ليست أجنحة فقط، بل مسار يُستحق أن يُحلق فيه.

وفي النهاية، نعود إلى صورة ذلك الطائر الصغير. لم يعد مجرد مخلوق يحاول أن يفرد جناحيه قبل أوانه، بل صار رمزًا لرحلة داخلية. فالريح لن تكفّ عن اختبار أجنحتنا، والغيم لن يكفّ عن إغراء أرواحنا بصورة جنّة بعيدة، لكن الطائر الحكيم هو من يحوّل هذه الاختبارات إلى خريطة تُرشده. ليست المسألة أن نطير مبكرًا أو متأخرًا، بل أن نصنع من أجنحتنا مسارًا يليق بالريح والسماء معًا.

وهكذا، يعود الطائر إلى الغصن، لا بجناحيه الهشين، بل بخريطة السماء في قلبه. لم يعد ذلك الكائن الصغير الذي يحاول التحليق قبل أوانه، بل أصبح هو نفسه الأوان الذي تنتظره السماء.

ومن هنا، تتكشف الحكمة: فليس المهمّ في النهاية متى نطير، بل كيف نُصقل أجنحتنا لنحتمل علوّ السماء، كيف نحتضن الرياح العاتية بقلبٍ شجاع، وكيف نسمو بها — لا منها — نحو فضاءاتنا التي نختارها. فهل نحن مستعدون لحمل أمانة العلو حين يأتي الأوان؟


جهاد غريب 
أغسطس 2025 

السبت، 23 أغسطس 2025

في عينِ العاصفة!

 
في عينِ العاصفة! 

"قبل العاصفة… لحظة واحدة فقط تكفي"

تسحبُنا السرعةُ في تيّارها الهائج، فلا نكادُ نُلاحقُ ظلَّنا، ولا نلتفتُ لندوبِ الزمنِ على وجهِ الحياة، تلك التي تشبهُ خطوطًا على كفِّ عجوزٍ، حكايةً تُروى همسًا بينما العالمُ يصخبُ. الأيامُ تتساقطُ وراءَ ظهورنا كأوراقِ الخريفِ التي تسبقُ يدَ الرّاغبِ في لمْلمَتِها. نحنُ لا نسيرُ، بل نُدفعُ دفعًا، وكأنّ أقدامَنا لم تعد تلامسُ الأرض. 

في هذا العالمِ الذي لا ينتظرُ أحدًا، تصبحُ الحياةُ سلسلةً من اللحظاتِ المطويةِ، كصفحاتِ كتابٍ يُقلَّبُ بلا قراءة، تَبقى حروفُه بلا معنى، وأسطرُه بلا ذاكرة، وكأنَّ أيامنا تتحولُ إلى هوامش بيضاء في دفترِ الوجودِ، تُغلقُ على أسرارها وأحزانها قبل أن تنضجَ للحياةِ. 

نعدُّ الإنجازاتِ كحصى على الطريق، نرميها في جَعبةِ الذاكرةِ لنثبتَ أننا كنا هنا، لكنّنا ننسى أن نعيشَ عمقَ اللحظةِ التي مررنا بها. نلهثُ وراءَ الرقمِ القادمِ، والتاريخِ التالي، والمستقبلِ الذي لا ينتهي، وكأنّ الحاضرَ محطةٌ عابرةٌ لا تستحقُّ الوقوفَ فيها. 

حتى الأصواتُ من حولنا أصبحتْ طنينًا واحدًا، مختلطةً بضجيجِ الآلةِ التي لا تتوقفُ. أينَ همسُ الغيمِ، وحفيفُ الشجرِ، ونبضُ القلبِ حينَ يلتقي بنبضٍ آخر؟ لقد طُويتْ هذه الأصواتُ في زوايا النسيان، وحلَّ مكانها رنينُ التنبيهاتِ الذي يقطعُ علينا خيطَ تأمُّلِنا الوحيدَ.

إنّها العاصفةُ التي تخلطُ الزمنَ ببعضه، فلا تعودُ تعرفُ بدايتَهُ من نهايتِه. نعيشُ على هامشِ الساعة، نرتدي ساعاتنا على معاصمنا كقُيودٍ ذهبيةٍ، نفتخرُ بها وهي تقطعُ علينا أنفاسَنا، نَفسًا إثرَ نَفسٍ. 

لكنّ السؤالَ الذي يظلُّ يُلاحقنا في صمتِ الليالي: أيُّ حياةٍ هذه التي لا نعيشُها إلا على عَجَل؟ أيُّ معنى لأنْ نُحَقِّقَ كلَّ شيءٍ ونفقدُ أنفسَنا في زحامِ العدم؟!

ربما تكونُ الجماليةُ الحقيقيةُ كامنةً في أنْ نعثرَ، وسطَ هذا الركامِ من السرعة، على لحظةٍ واحدةٍ أن نخلعَ فيها نعلَ الدهرِ من أقدامنا، ونلمسَ الأرضَ بحنينٍ. أن نتنفسَ ببطءٍ كافٍ لنشُمَّ رائحةَ المطرِ على ترابِ الطفولة، أو نسمعَ صوتَ القهوةِ وهي تغلي على نارٍ هادئة. 

تلك هي الثورةُ الحقيقيةُ في زمنٍ مجنونٍ بالسرعة: أن تتوقفَ، لا لترتاح، بل لتعيش. أن تَرفضَ أن تكون رقمًا في مُعادلةِ الإنتاجِ، وأن تَركعَ باختياركَ لتُصغي للوعةِ الروحِ، وهي تنتعِشُ ببطءٍ كنباتٍ يبحثُ عن الضوءِ بين صخورٍ صماء.

فالعمرُ ليس عددَ اللحظات، بل عُمْقُها. وليس الجمالُ في عددِ الصفحاتِ التي قلّبناها، بل في تلك التي توقّفنا عندها حتى انطبعتْ كلماتُها في أعماقِ أرواحنا. ففي هذا العالمِ الذي لا ينتظرُ أَحدًا، قد تكون أنتَ الوقت نفسهُ إِذا توقَّفتَ. 


جهاد غريب 
أغسطس 2025 

الجمعة، 22 أغسطس 2025

ظلٌّ على مسودة الرصيف!

 
ظلٌّ على مسودة الرصيف!

كان الرصيف بارزًا تحت ضوء قمرٍ صناعي باهت، حُبيباته الخشنة تتشرب بقايا رطوبة لم تُميّزها العين بعد: هل هي ندى الصباح أم دمعة ليلية؟ فوق هذه المساحة من الإسمنت والحجر، استلقى ظلّ. لم يكن ظلًّا عاديًّا تحدده أجساد المارة أو أعمدة الإنارة؛ كان كتلةً مترهلة من عتمةٍ بلا ملامح، بلا تاريخ يُروى، كأنه فكرة وُلِدَت ناقصة فرفضها العقل فتساقطت هنا، منسية على طرف الطريق.

لكن هذا الظل لم يكن ساكنًا، كان مسافرًا في عُمقٍ لا يُرى. يسير لا في الشوارع، بل في الممرات بين اللحظة واللحظة، بين نبضةٍ وصمتٍ، يقتات على الوقت حين لا يلتفت. وهناك، في تلك الثغرات الهاربة من وعينا، تُخبأ أصدق الذكريات وأقساها. 

أهبط طبقاتٍ متراكمة في داخلي: صدى قديم من ضحكة نُسيت، ارتجاف أصابع كلما مرّ اسم غائب، رائحة قهوة باردة على طاولة لم يعد يجلس إليها أحد. كأنني أنزل درجات سلم لا ينتهي، وفي كل خطوة ينتظرني سؤال معلّق. 

بين نبضة وصمت، يتوقف كل شيء. القلب يخفق كحجر سقط في بئرٍ لا قرار له، ثم يسكن فجأة، تاركًا فراغًا يتثاءب في الصدر. إنها اللحظة التي يطلّ فيها الخوف برأسه، كظلٍّ آخر يزاحم الظل الأول.

وعلى الرصيف… يتكلم الوجع بهدوء. ليس بصوتٍ مسموع، بل كذبذبة تحت الجلد، كوشوشة خفية في الهواء تلمس الروح قبل الأذن. 

ثم يعلو صوتٌ ينبض من الأعماق، لا أعرف مصدره: هل هو صدى الذاكرة أم حيلة من حيل الفراغ؟ يقول لي بنبرةٍ متقطعة، وكأنه يخرج من فم الظل نفسه: "ما زلتَ هنا… ما زلتَ تنتظر شيئًا لم تُسمِّه". الصوت ليس غريبًا؛ فيه بقايا حنان يشبه لمسة يدٍ رحلت، وفيه قسوة تشبه الباب حين يُغلق إلى الأبد.

كان حديثه همسًا ممتدًا عن أبوابٍ أُغلقتْ بغير آخر مرة، عن كلمات بقيت معلقة في الحلق، عن نظرات كان ينبغي أن تلتقي لكنها ضاعت في الزحام. الرصيف نفسه صار شاهدًا أخرس، لكنه يروي كل شيء عبر شقوقه وحافته المتآكلة، عبر ملايين الأقدام التي وطأته وتركت جزءًا من أحمالها. إنه وعاء الوجع، وجرحه الصامت الذي يتنفس. 

هل الأشياء الصغيرة وحدها قادرة على كسر صمت المدن وعلى تذكيرنا بأن للعالم ألوانًا؟ ومع كل وجع يزداد الصمت سعةً، حتى صار الصمت نفسه صوتًا. ومن عمق الظل ينبعث صوتٌ خافت، صوتٌ يشبه دقات قلب في غرفة هادئة. لا يسمعه المرء إلا حين يريد أن يسمع، حين يختفي صخب العالم الخارجي. كان ذلك الصوت يروي قصة "مسودة صبرٍ لم تكتمل". 

لطالما حاولت أن أكتب المعنى، كل جملة تبدأ قوية، ثم تتعب، ثم تتركني وحيدًا في منتصف الطريق. أمد يدي إلى جيبي كأنني أبحث عن ورقة، عن مسودةٍ كُشطت كلماتها وكُتبت فوقها كلمات أخرى، حتى لم يعد يُعرف أصلها من آخر نسخها. كل خطوة على الرصيف كانت كإضافة كلمة جديدة أو شطب كلمة قديمة، كأن الصبر نفسه لا يكتمل أبدًا، بل يعيش في مسودات لا نهائية.

الزمن هنا غريب: راكد ومتحرك معًا. الوقت يعبر. لا يلتفت. يضع مسافة بيني وبينه، ولا يمنحني حتى فرصة أن ألوّح له. هو "الوقت"، حين يتوقف عن العدّ ويتفرج على المشهد. يمضي عابرًا لكنه يذوب في اللحظة نفسها، يخلط الماضي بالحاضر ليصنع لونًا جديدًا، لونًا كالحًا من الشوق والندم. رائحة عطر قديم تفاجئ الهواء فتتشابك مع رائحة مطر قادم، صورة وجه تُلمح في زجاج سيارة عابرة ثم تختفي قبل أن تكتمل.

والظلّ… يبدأ في التلاشي. لا يغيب فجأة، بل يتناثر رويدًا، كدخانٍ بلا رائحة. هل انتهت مسودة صبره أخيرًا؟ أم اكتشف أن الكمال ليس في اكتمال المسودة، بل في تقبّلها ناقصة؟ هل وجد ملامحه في صمت الرصيف، أم أن الملامح كانت عبئًا فخلعها ليمشي خفيفًا؟

لا أحد يعلم. يبقى الرصيف فقط، صامتًا ومتكلمًا، خشنًا وحنونًا، شاهدًا ومشهودًا عليه. ويبقى السؤال معلّقًا في الهواء الرطب: من منّا لم يكن يومًا، ولو لمرة واحدة، ظلًّا بلا ملامح على رصيف نفسه، يستمع إلى وجعه يتكلم بهدوء؟ 

أظل واقفًا عند حافة الرصيف، أراقب ظلي الذي يبتعد أكثر فأكثر، فيما داخلي يتساءل: من يتبع من؟ هل كان الظل يخصني فعلًا؟ أم أنني كنتُ أنا من تبع أثره طوال هذا العمر، وأنا الذي لم تكتمل ملامحي بعد؟ 


جهاد غريب 
أغسطس 2025 


الخميس، 21 أغسطس 2025

كيف تُقَشِّر نفسك دون أن تبكي؟

 
كيف تُقَشِّر نفسك دون أن تبكي؟

"مغامرةٌ وجوديةٌ في عوالمِ الوعي واللاوعي، كيفَ تتحولُ الفوضى إلى نظامٍ؟ والفراغُ إلى معنى؟"


الفصل الأول: 
نسيجُ المدينةِ — رحلةٌ في عُصارة الذاتِ! 


لم يكن جُرحًا، بل كان مدخلًا. اِنشِقاقٌ في نسيج الوهم الذي نُسَمِّيه "أنا". لم يكن بابًا، بل كان شقَّ نورٍ في جدار الظلام، يُفتَح بمفتاحٍ من فُضولٍ ممزوجٍ بالرُّعب.

هنا، عند عَتبة "المَسَام"، تبدأ الحكاية. المسام هي نوافذ المملكة المنسيّة، منها يتسرّب ضوء العالم الخارجي إلى دهاليزنا، ومنها يهرب بُخار أحلامنا المُحبَطة.

شَهقتُ، وكان شهيقًا أقرب إلى الاستسلام. ثم انزلقتُ في انزياحٍ آخر.

لم يكن هبوطًا، بل كان انسيابًا عبر نفقٍ من ضوءٍ خافت، تنبعث منه رائحة الزمن المُعلَّق، كالكتب القديمة في غرفةٍ مُهمَلة. كانت الرائحة الأولى: رائحة الذكرى في أنقى أشكالها، قبل أن تُطوِّقها أسوار المعنى.

وإذا بي في المدينة.

ليست مدينةً من أسمنتٍ وحديد، بل هي مدينة من نسيجٍ ووهم. عِظامي هي الأقواس الحجرية المتآكلة التي تحمل وزن السنين. والطرق السريعة هي القنوات الذهبية التي تجري فيها أنهار النور بسرعةٍ مجنونة، حاملةً أُمنياتٍ مُضيئةً وصرخاتٍ مظلمة. أسمع همس مياهها، وأنين جسورها تحت وطأة الأحمال غير المُعلَنة.

مشيتُ على رصيفٍ من ظلٍّ ورمل. كانت البيوت تُغلق نوافذها خوفًا من الريح. مررتُ بـ"ساحة المشاعر"، حيث كانت نوافير الألم القديم تتدفّق بماءٍ مالح، بينما كانت أزهار الفرح النادرة تنحني متواضعةً في زواياها. أحد الحُرّاس، ذو وجهٍ باهِت كالقمر في نهارٍ غائم، نظر إليّ وقال بصوتٍ أشبه بحفيف الأوراق:
"مرةً أُخرى؟ لقد جلبتَ لنا عاصفةً من الهموم البارحة، كادت تُجفِّف ينابيعنا. هل يمكنك أن تزرع غيمكَ في مكانٍ آخر؟"

لم أُجب. كنتُ منشغِلًا بـ"أزقّة الذكرى". كانت مُظلِمةً ورطبة، تتكدّس على جوانبها صناديق الأحداث غير المُفسَّرة والكلمات التي سُجِنت قبل إطلاقها. كان حارس المكان، كائنًا أشبه بساحرٍ عجوز، يُدوّن في دفترٍ قديمٍ:
"وصل صندوقٌ من النَّدَم على صمتٍ طويل... سيُخزَّن مع بقايا أوّل قبلة".
نظر إليّ نظرةً تحذيرية:
"لا تتجوّل هنا وحدك. الظلال هنا تنسج خيوطها من صمتك. لا تُوقِظ الذكريات النائمة، فقد تتحوّل إلى وُحوش".

لكن اللقاء الأكثر إيلامًا كان مع "نافذة" وحيدة في حائطٍ عالٍ. كانت مُغلقةً بمزلاجٍ من صدأ. وقفت تتحدّث بصوتٍ حزينٍ يُناقِض عُلوّها:
— "أنت!" قالت، مُتَّهِمةً.
— "أنا؟"
— "نعم، أنت، ساكن القلعة العُليا! أترى ظِلّي؟ هذا ليس ظلًّا. هذا احتجاجٌ على انقطاع الضوء. نحن، نوافذ الروح، نُطالِب بفتح المزالج وترك ستائر الخوف، وإلّا... سَنُغلَقُ إلى الأبد، وسيُحكَم على هذا المكان بالعتمة الأبدية!"

تَركتُها تتكلّم إلى السماء الصمّاء. كان عليها أن تنتظر غيمةً أكثر رحمة.

هذه هي المملكة. ليست مثالية، وليست نظيفة. فيها أزقّة مُظلِمة، وساحات مهجورة، ونوافذ مُغلقة، وأنهار تجري بلا توقّف. نظامٌ كونيٌّ كامل يعمل لخدمة فكرة واحدة: أن أبقى واقفًا هنا، أتأمّل، وأكتب عنه.

لكن مَن يحكم هذه المدينة المتشابكة حقًّا؟ مَن يملك مفاتيح "قِدر الغليان" الذي يُحرِّك كل هذه الأنهار؟ الرحلة لم تنتهِ. هذه كانت المحطة الأولى فقط. الطريق إلى "أنهار البرق" لا يزال طويلًا، وأنا أسمع بالفعل هدير المياه المتدفّقة من بعيد، كلغةٍ غامضةٍ تُحكى في المنام.


***
الفصل الثاني: 
أنهارُ البرق — في أروقةِ مجلسِ الظِّلال! 


لم يكن صعودًا إلى طابق أعلى، بل كان تحوّلًا في طبيعة الوجود. انتقلتُ من عالم المادة والظلال إلى عالم النور المحض، من كثافة المدينة إلى سيولة النهر. غادرتُ أزقة الذكرى ووجدتُ نفسي فجأة داخل شبكة كونية من أنهار ضوئية، تسري فيها النجوم كأسماك فضية.

هذا هو عالم السيالات. لا روائح هنا، إلا عبق الأثير النقي، رائحة البرق المتجمّد في لحظة انطلاقه. لا ألوان إلا تموّجات الزمرد والياقوت تتقافز كشهب في ليل أرجواني دائم. الصوت السائد هو همسة الأضواء وهي تنساب، لحنٌ كوني لا ينتهي للحياة وهي تولّد أفكارها.

الطرق هنا هي مجارٍ مضيئة من طاقة نقية، تحمل إشاراتٍ مكثفة بسرعة الفكرة. إنها "طريق المعنى السريع"، لكنه طريق مليء بالمنحنيات الخادعة وشلالات النسيان.

رأيتها. رسالتي. كانت وميضًا صغيرًا أزرق، بريئًا في تألقه. رغبة بسيطة: "ارفع يدك اليمنى". وُلدت في حيّ "الرغبات الهاربة" في القبة العليا، والآن عليها أن تعبر هذه المسافة الشاسعة إلى شاطئ "الإرادة".

لم تكن رحلة سهلة.

انطلقت الومضة ببراءة، لكنها سرعان ما واجهت بوابة المراقبة الكونية. كائن أشبه بشجرة ظلالٍ متشابكة، تتعلّق من أغصانها عيون لا حصر لها.
"قف. وجهتك؟" همس بصوت يشبه حفيف الريح في أوراق الخريف.
"إلى... إلى شاطئ الإرادة، سيدي. لأرفع يدي".
"الغرض من هذه الحركة؟"
"لا غرض... مجرد حكّة عابرة".
التقطتها الأغصان الظلية. "حكّة. مثير. هل تُخفي نية عدوانية؟ هل هي حركة استفزازية؟ هل تمت الموافقة عليها من قبل مجلس الظلال؟ أوراقك؟"

أخذت الشجرة تتفحصها، بينما تراكم خلفها طابور من الأضواء الأخرى: نبض جوع، نظرة اشمئزاز، ذكرى طفولة مفقودة تحاول العبور. لاحظت أن الأضواء ذات الأولوية ("ألم حاد!"، "خطر! انحرف!") كانت تتخطى الطابور بوهج أحمر قاتم، تدفع الجميع جانبًا بقوة.

بعد دهر، أُعطيت الومضة الضوء الأخضر. "مخوّلة. تقدّمي. لكن تذكّري: أي انحراف عن المسار سيعرّضك للانطفاء الفوري".

تابعتها وهي تتسارع. مررنا بـ"محطة المشاعر"، حيث كانت الأنهار الملوّنة (الفرح، الحزن) تتدفق في المجرى الرئيسي كألوان تختلط على لوحة فنّان مجنون. ومضة زرقاء حزينة التقطت بعض "لازورد الأمل" فأصبحت أقل حزنًا. ومضة غضب حمراء التهمت كمية من "نار الغضب القرمزية" فازدادت توهّجًا وشرارة.

ثم حدثت الكارثة.

قبل وصولها إلى الشاطئ، اصطدمت ومضتي المسكينة برسالة عاجلة من "المجلس الأعلى". كانت رسالة ضخمة، صفراء، وذات رنين مؤلم. كان مضمونها: "تذكرتَ فجأة موقفًا محرجًا من عشر سنوات".

انفجرت الرسالة الصفراء كشمس سوداء، وأطلقت موجة صدمة عاطفية هائلة. ومضتي الزرقاء الصغيرة، رسالتي البريئة لرفع اليد، انطفأت على الفور. مُحيت من الوجود. لم تعد ذات أهمية.

لكن الأثر لم يتوقف هنا. الموجة الصفراء أطلقت إنذارًا عامًا. فجأة، انطلق عدد لا يُحصى من "فرسان النار". كانوا مخلوقات سريعة مظلمة، ترتدي دروعًا من لهب وتصرخ بأعلى أصواتها: "طريق! طريق! حالة طوارئ كونية! افسحوا الطريق!" كانوا يندفعون في كل اتجاه، يلوّثون الأنهار الضوئية بلون القلق، يسرّعون الجريان، يحرقون كل ما في طريقهم. كل هذا بسبب ذكرى محرجة! إنها بيروقراطية العواطف!

شاهدت هذا الجنون من ركن آمن. سألت نجمة عجوزًا، بدا عليها الإعياء وهي تراقب الفوضى من مدارها: "هل الأمر دائمًا بهذه الفوضى؟"

نظرت إليّ نظرة تحمل قرونًا من الضوء وقالت: "هذه ليست فوضى. هذه هي الحكمة بعينها. نظام مصمَّم للبقاء، وليس للراحة. الألم والذعر لهما الأولوية دائمًا على الراحة والتفاهات. تلك الومضة التي تتبعتَها... موتها كان ضروريًّا. لقد ضحّينا بحكّة عابرة من أجل تعبئة كامل القوات لمواجهة شبح من الماضي. إنه قرار كوني بحت".

"لكنها ذكرى فقط! ليست حقيقية الآن!"
ضحكت النجمة العجوز ضحكة مكواة. "أيها الساذج. في هذه المملكة، الفكرة هي أقسى أنواع الوقائع. الآن، إذا سمحت، عليّ أن أرسل إشارة إلى برج المراقبة ليزيد الإشعاع".

نظرت إلى الأعلى. حيث تتلاقى كل الأنهار الضوئية في محيط عملاق مظلم. هناك، في مركز التحكم، كانت ومضات نورٍ معقدة تومض وتخبو، كعُقد مضيئة في شبكة عنكبوت كونية. إنهم هناك الآن، ينتحبون، يجادلون، يصوّتون على كيفية رد الفعل على شبحٍ عمره عشرة أعوام.

وقفت مكاني. يدي لم ترتفع. الحكّة لا تزال هناك. لكني لم أعد أريد حكّها. كل ما أريده الآن هو أن أعرف: من الذي يصوّت في ذلك المجلس الأعلى؟ وأي صوت من بين كل تلك الأصوات هو... صوتي أنا؟

الرحلة إلى السطح، إلى مسرح الشخصية، ستكون الأصعب. لأنها عليها أن تشرح كيف نبت قناع على كل هذه الفوضى.


***
الفصل الثالث: 
مَسرحُ الأقنعةِ — في كواليسِ الوجُوهِ المُعلَّقة!



كان الخروج من ذلك المحيط الضوئي المهول أشبه بالصعود من أعماق بحر هائج إلى شاطئ صامت تحت ضوء قمر بارد. لكن هذا الشاطئ لم يكن بريئًا. لقد كان مسرحًا.

لم أعد في الأعماق، بل كنت في الكواليس.

كانت رائحة الغبار القديم ومسحوق الأقنعة تهيمن على المكان. صف طويل لا نهائي من المرايا المعتمة، وفي كلٍّ منها وهم مختلف. لم تكن انعكاساتي، بل كانت أقنعتي. كلٌّ منها معلّق على شماعة من خشب، ينتظر دوره.

هنا، على عتبة "السطح"، تُحاك الفوضى الكونية ثوبًا لها. تُغلَّف الأنهار الضوئية العارية بقماش الكلمات والابتسامات. تتحول الصرخات إلى همسات، والرغبات المحظورة إلى إيماءات مهذبة.

مشيت بين الأقنعة. كان لكلٍّ منها حكايته وشخصيته.

قناع الموظف الجاد: كان مثقلًا بغبار الأوراق، وبزاوية فمه خط رفيع من الصبر المنهار. همسَ لي:
"لقد أوصلتنا إلى الحافة. أنا ماهر في أداء دور "الجاد المتعب". لكن في الليل، حين تنزعني، تكتشف أن الوجه خلفي مثقل بأسئلة لا إجابة لها".

قناع الصديق الوفي: كان دافئًا عند اللمس، وكأن فيه نبضًا. لكن عند التأمل، رأيت خيوطًا شفافة من الخوف من الوحدة تمسك به.
"أنا الأكثر استنزافًا،" قال بتعب. "أضطر دائمًا إلى بذل الضوء، حتى عندما ينطفئ مصباحي. أحيانًا أتمنى لو أن أحدًا يرى ظلي بدلًا من ضوئي".

قناع الابن البار: كان أنيقًا، نظيفًا، ومحكمًا إلى درجة الاختناق. كان يتكلم بلهجة مثقلة بالواجب:
"أنا لا أتزحزح. أحمّل نفسي وِزر السعادة التي لا أستطيع منحها. أحوّل الشوق إلى رسائل قصيرة، والندم إلى هدايا".

لكن اللقاء الأكثر إثارة للرعب كان مع القناع الذي لم أتعرف عليه. كان باهتًا، مهترئًا، موضوعًا على رفٍّ منسي في الزاوية. لم تكن له ملامح واضحة، فقط فتحتان للعينين وشرخ حيث يجب أن يكون الفم.
"أنا أُفضِّلُكَ،" همسَ بصوت أجوف كصدى في كهف.
"من أنت؟"
"أنا القناع الذي تخلعه الأقنعة الأخرى. أنا الصمت الذي يسبق الكلمة. أنا الوجه الذي يظهر للحظة حين تظن أنك وحيد، قبل أن تتذكر أن العالم مسرح مرايا. أنا الصمت بين فكرتين. أنا الـ لا أحد الذي تلبسه لتكون الجميع".

ارتعشت. هذا لم يكن قناعًا، كان هذا هو العدم نفسه يتكلم.

هربتُ من الكواليس إلى خشبة المسرح الفعلية. كانت مضاءة بأضواء قاسية. ووجدت نفسي أتحدث إلى المُخرج.

لم يكن رجلًا، بل كان كيانًا أشبه بلجنة من الأصوات. له أفواه متعددة تتكلم في وقت واحد: صوت لأمي، صوت لمديري، صوت للمجتمع، صوت لخوفي من الغرباء.
"المشهد التالي!" صاحوا معًا. "حفلة عشاء! سنستخدم قناع الـ "واثق الاجتماعي!" أين هو؟ أسرعوا!"
"ولماذا لا نستخدم الوجه الحقيقي؟" سألت، وأنا أعرف سذاجة السؤال.
ضجّت اللجنة بضحك جاف.
"الوجه الحقيقي؟! وما هو؟ هل تعني ذلك المحيط المضطرب من الأنوار والظلال؟ هل تعني ذلك الفراغ الذي رعبك في الأسفل؟ الجمهور لا يدفع تذكرة لمشاهدة ذلك. الجمهور هو نحن أيضًا! نريد مسرحية مقنعة، وليس انتحارًا علنيًا".

أروني القناع الجديد. كان لامعًا، مبتسمًا، وعيناه زجاجيتين. عندما ارتديته، حدث شيء مروّع. شعرت كيف أن خيوطًا ذهبية دافئة بدأت تتشابك مع ملامح وجهي. القناع لم يعد يُلبس، بل أصبح يلتصق. بدأ يندمج. سمعت المخرج يهمس برضا:
"أحسنت. الآن أنت تؤدي بشكل مقنع حقًا".

هذه هي الكينونة. ليست جوهرًا ثابتًا، بل هي عملية تلبيس مستمرة. نحن لا نكون، نحن نؤدي. والأداء الجيد هو أن ينسى الممثل نفسه، ويصبح القناع.

لكن ماذا عن ذلك الشرخ الذي رأيته في القناع الباهت في الكواليس؟ ماذا عن "اللا أحد"؟ هل هو الصميم الذي نبحث عنه؟ أم أنه مجرد قناع آخر، أكثر خبثًا وخفاءً؟

للوصول إليه، علينا أن نغوص أعمق من كل هذا. علينا أن ننزع كل ما هو مكتسب، حتى لو كان النزع يعني تمزيق الجلد نفسه. الرحلة إلى "الصميم" هي أخطر رحلة. لأنك قد تصل لتجد أن الصميم هو ببساطة... الفراغ.


***
الفصل الرابع: 
في قاع القِدْرِ — مُلاقاةُ حارسِ العدمِ!


لم يكن هبوطًا. كان انحلالًا. تفككًا لقوانين الكينونة نفسها. وانمحت حدود الزمان والمكان، كما تذوب صورة في ماء آسن. لم أعد أسقط، بل كنت أتساقط في لا مكانٍ.

هذا هو حيِّز اللاوعي. ليس مكانًا، بل هو حالة وجودية. ليست غرفة، بل هي أنقاض الغرفة بعد الزلزال. رائحة الغبار القديم والورق المبلل والمعنى المهترئ. هواء ثقيل لا يحمل أوكسجينًا، بل يحمل شظايا كلمات لم تُنطق قط، وأنصاف صور، وزفرات أحلام مقتولة.

وجدت نفسي في مكتبة الضباب. رفوف من ظلٍّ واهن، وكتب ليست من ورق، بل من رماد الذكرى. عناوينها مكتوبة بحبر من ندوب: "ذكريات طفولة محرّفة"، "ندم على قرار لم أتخذه"، "وجه ذلك الشخص الذي نسيتُ اسمه". حاولت سحب أحدها، فانفتح كفم وأطلق زئيرًا صامتًا من الخوف.

ثم ظهر الوحش.

لم يكن وحشًا بالمعنى التقليدي. كان تجسيدًا لأعظم قلق وجودي لديّ: الخوف من أن أكون عاديًا، غير مهم، مجرّد ذرّة عابرة في كون لا يبالي. كان شكله يتأرجح بين رجل أعمال ناجح يضحك باستهانة، وبين صفحة بيضاء فارغة تطوى على نفسها إلى الأبد. كان صوته صوت همسة جماعية، كأن ألف صوت يتحدثون بلغة واحدة.

"أعرف لماذا جئت،" قال، من غير أن يتحرك فم له. "تبحث عن الصميم. عن الجوهر الحقيقي. عن الكنز في نهاية الرحلة".

"نعم،" همست وصوتي يكاد ينكسر من ثِقل الهواء.
ضحك. وكان ضحكه كصوت انهيار جدار جاف.
"لا يوجد شيء اسمه صميم. هذه أكبر كذبة نرويها لأنفسنا لنمنح الفوضى معنى. لست جوهرة ثمينة مدفونة في العمق. أنت... أنت هو عملية الحفر نفسها. أنت الفوضى، الأقنعة، الأنهار الضوئية، المدينة. كلها معًا. لا مركز. لا قلب".

رفع – أو لم يرفع – شيئًا يشبه مرآة. لكن المرآة لم تُظهر انعكاسي. أظهرت فراغًا. فراغًا مطلقًا، أسود، لكنه ليس مخيفًا. كان محايدًا. صامتًا. هواءً قبل أن يُولد فيه صوت.

"هذا هو كل ما ستجده هنا،" قال الوحش، الذي كان خوفي طوال الوقت. "الفراغ الذي تُنسج عليه كل قصصك. القاعدة الصفر. اللوحة البيضاء. أنت تخاف منه، لكنه بريء. هو لا شيء ليكون شيئًا".

شعرت بأني أتفكك. كل الأقنعة، كل القصص، كل الاضطرابات العصبية، بدت فجأة كألعاب طفل يغطي بها فراغ غرفته. لم يكن هناك كنز. كانت الخريطة كلّها خاطئة.

ثم سمعتُها.
نبضة.
لم تكن من قلبي. كانت أقرب، وأبعد في الوقت ذاته. كانت نبضة صغيرة، دافئة، مثل ضوء وحيد في بحر ذلك الفراغ الأسود في المرآة.

اتجهت نحوها، تاركًا الوحش خلفي. كانت تشبه منارة صغيرة، لكنها لم تُنر طريقًا لأحد. كانت تُنير فقط من أجل ذاتها. كانت بسيطة بشكل فاضح. ليست جوهرة، بل هي القدرة على الإحساس بالجوهرة. ليست الحقيقة، بل هي الشغف الذي نبحث به عن الحقيقة.

لم يكن الصميم شيئًا نكتشفه، بل هو الفعل نفسه. فعل البحث. فعل الحفر. فعل البكاء أثناء التقشير.

التفتُّ إلى الوحش، إلى خوفي. لم يعد مخيفًا. كان مجرد حارس لهذا الفراغ. حارس غاضب لأن مهمته لا تنتهي.
"هل ترى؟" سألته. "حتى فراغك هذا يحتاج إلى منارة صغيرة لتُظهره".

لم يجب. بدأ يتلاشى، ويذوب في الظلال، مهزومًا لا بمعرفة، بل بإصرار بسيط على وجود شيء، أيّ شيء.

لم أجد الصميم. لكني وجدت البذور التي تخلق فكرة الصميم. وجدت القرار الضمني بأن تكون، حتى وأنت لا تعرف ما الذي "تكونه".

عدت.

لم أعد بالطريقة نفسها. الهواء الذي أتنفسه الآن يحمل طعم ذلك الفراغ. عندما أنظر في المرآة، أرى الأقنعة، لكني أعرف أن هناك ضوءًا صغيرًا خلفها جميعًا، ليس جوهرًا، بل هو اليد التي تضع القناع.

التقشير لم يكتمل. ربما لا ينتهي أبدًا. والسؤال لم يعد: كيف تُقشِّر نفسك دون أن تبكي؟، بل أصبح:
كيف تبكي بطريقة تكون فيها دموعك هي نفسها القشرة واللب؟

ها قد انتهت الرحلة من المدينة إلى الأغوار. لكنها في الحقيقة، لم تبدأ إلا للتو.


***
الخاتمة: 
عودةُ الغواصِ بخرائطَ لأرضٍ لم تَعُدْ مَوجودةً!


لم يكن صعودًا. لم أجد سُلّمًا من نور يصل إلى السطح. كان خروجًا بالطريقة نفسها التي دخلت بها: عبر انزياح في الوعي، كأني أُغلق عينيّ في عالم وأفتحهما في آخر.

ها أنا ذا. على كُرسيي. في غرفتي. كل شيء في مكانه: النافذة، المكتب، كوب الماء نصف الفارغ. لكن لا شيء على حاله.

الضوء الذي يمرّ من خلال الزجاج لم يعد مجرّد ضوء. إنه يهمس لي بقصص رحلته عبر الغبار، يحمل أخبارًا عن عالم خارجي قد يكون هو نفسه قشرةً لكون آخر أعمق. الهواء الذي أتنفّسه ثقيل بأطياف الأغوار. كل نَفَس هو غوص مصغّر.

نظرت إلى يديّ على ذراعي الكرسي. لم أعد أرى جلدًا وعظامًا وعروقًا. أرى مدينة نائمة. أتذكّر همسات الخلايا المتعبة، وشكاوى ميدان المشاعر، واعتصام تلك النافذة على العتمة. أسمع أزيز الأنهار الضوئية كهمسة خلفية لا تتوقف. أصبحتُ حاكمًا لمملكة لم أعد أستطيع إنكار فوضاها، ولم أعد أجرؤ على إدارتها بتلك الغطرسة السابقة.

ذهبت إلى المرآة. لم أبحث عن "أنا" حقيقي. تلك كانت أول وهم تمّ تقشيره. ونظرت إلى الانعكاس لأرى مسرحًا. رأيت قناع "الكاتبِ المتأملِ" واضحًا جدًا، بخيوطه وشقوقه. لكن، ولأول مرة، رأيت الضوء الصغير يتسرّب من تحته. لم يكن وجهًا حقيقيًا، بل كان وميضَ الإصرار على الاستمرار رغم كل شيء.

لم تعد القرارات تُتخذ بنفس البساطة. عندما أريد رفع يَدِي، أسمع صدى ذلك الاجتماع البيروقراطي في أروقة المشاعر. عندما أتحدث إلى صديق، أشعر بثِقل الأقنعة في خزانة الكواليس، وأسمع همسة ذلك القِناعِ الباهت: "أنا أفضّلك". حتى صمتي أصبح صاخبًا بأصوات المكبوت في أقبية الضباب.

الرحلة لم تُعطني أجوبة. هي مزّقت الأجوبة الجاهزة التي كنت أَحْملُها. لم أجد "نفسي" هناك في الأسفل. كل ما وجدته هو عملية البحث عن نفسي.

لم أعد أسأل: "من أنا؟"
صار السؤال: "ماذا سأفعل بكل هذا الفراغ الرائع الذي يناديني أنا؟"

الفراغ الذي أرعبني أصبح لوحتي. والفوضى التي حكمتُ عليها أصبحت فرقتي الموسيقية. والأقنعة لم تعد أكاذيب، بل أصبحت اختيارات. أنا لا "أكشف" عن نفسي الحقيقية، أنا أنسجها نسجًا، لحظة بلحظة، بقرار وقناع ووميض ودموع.

التقشير لا ينتهي. البكاء جزء من العملية. ربما لا نبحث عن لُبٍّ ثابت، بل نبحث عن طريقة أكثر إتقانًا، وأكثر شجاعة، وأكثر جمالًا للبكاء أثناء التقشير.

ها قد عدت. ليس بجوهرة ثمينة بين أسناني. عدت بخرائط لأرض لم تعد موجودة، وبذور لأشجار قد تُثمر يومًا ما.

الآنَ، 
عندما أنظر إلى جسدي، إلى أفكاري، إلى انعكاسي، أقول له:
"أعرف أنك مدينة. أعرف أنك شبكة أنهار. أعرف أنك مسرح. وأعرف أنك فراغ. لكني، اليوم، أختار أن أعتبرك وطنًا".

وما في الأوطان من فوضى، وجمال، وألم، وأمل.


جهاد غريب 
أغسطس 2025 



البوصلة التي يرسمها التيه!

 
البوصلة التي يرسمها التيه! 

لا جدوى من شيء... سوى أن نصبر كما يصبر الحجر تحت المطر، لا لينجو، بل لأنه لا يعرف كيف يذوب. تُشحذ همة النفس لا طمعًا في نجاة، بل لتبقى الروح محلّقة، ولو بأجنحةٍ من خيبة. 

يتراءى الصمود هناك، بعيدًا، كظلٍ يمشي فوق سحبٍ تائهة، تركض في الأفق بلا اتجاه، ترسم خرائطها على اتساع السماء، لا لتصل، بل لتثبت أن الضياع نفسه قد يصير بوصلة. فكم من خريطة صيغت من وجع، وكم من روحٍ صمدت فقط... لأنها لا تملك ترف السقوط.

المطر يتساقط بلا توقف، كثوبٍ كثيفٍ يلفّ العالم ويذيب معالمه في غموضٍ سائل. والريح ليست هواءً عابرًا، بل يدٌ خفية تدفع الجسد رغمًا عنه، تجرّه إلى طرق لم يخترها، وتكشف ضعفًا حاول إخفاءه. تصفر في الأذن كصوتٍ ساخر، ثم تسكت فجأة كأنها تخفي سرًّا أكبر من قدرتنا على الفهم.

في قلب هذا التيه، يسمع الإنسان وقع أقدامه يتردد كنبضٍ خافت، يؤكد له وجوده في عالمٍ يبدو فيه الأفق بلا علامات. خطواته تثقل على الطين، وتترك أثرًا سرعان ما يمحوه المطر، كأن الأرض نفسها تأبى أن تعترف بمروره. 

ومع ذلك، يعود الصدى إلى الداخل كإيقاع خفي يذكّره أنه لم يندثر بعد. السير في الضياع لا يثبت الوصول، لكنه يبرهن أن الجسد ما زال يجرؤ على الحركة.

كل قطرة مطر، وكل صفير ريح، وكل أثرٍ زائلٍ على الطين، يصبح جزءًا من ملحمة صغيرة لم يقرأها أحد؛ ملحمة تُكتب في صبر الجسد وصمته، وتُختزل في نبض الأقدام التي تواصل السير في طقسها القديم، حتى وإن بدا الأفق بلا إشارات.

ثم يحلّ الليل، لا كراحة، بل كستارٍ أسود يبتلع الطريق كله. الظلام ليس غيابًا للضوء فحسب، بل حضورٌ كثيف لغياب المعنى. في الليل تتشابه الوجوه، وتذوب المعالم، ويصير المطر والريح والخطى مجرد أصواتٍ متقطعة، كما لو أن العالم كله ينصت لانكسارك. الليل لا يهبُ اتجاهًا، لكنه يضاعف التيه على هيئة مرآة سوداء تعكس القلق ولا ترده.

لكنّ هذا الضياع المفروض يغني الروح بتجربة لا تشبه أي خريطة أخرى: أن تمشي تحت مطرٍ يحجب الطريق، وفي ريحٍ تدفعك حيث لا تريد، ثم تكتشف في أعماقك نبعًا صغيرًا لا يُطفأ. هنا فقط يصبح العبور فعل كشف، لا مجرد احتمال.

وأيُّ صبرٍ هذا الذي يشبه الحجر؟ الحجر لا يملك إرادة، أما نحن فنصبر لأننا نعي ثقل اللحظة ونختار أن نحملها. إنّ في كل خيبة نواة ضوء. الصمود ليس ادعاء بطولة، بل هو شكل من أشكال العناد ضد الانكسار؛ أن نُمسك بخيوطنا المتناثرة، حتى وإن لم نستطع أن نرتبها في عقدٍ متماسك.

الحجر صامت، لكن الإنسان يعي صمته ويختار أن يحمله. هنا يكمن الفارق: أن الإرادة ليست مجرد مقاومة، بل حوار مع ما لا يُحتمل. أن تختار الصمود يعني أن تمنح الألم شكلًا جديدًا، كما تمنح الريحُ السُّحُبَ المتناثرة وجهًا متجدِّدًا كل لحظة.

الصبر الذي نحمله ليس سكونًا، بل حركة خفية، كالجذور وهي تشقّ الصخر لتبلغ قطرة ماء. وفي ذلك التناقض الجميل: يولد الألم إرادةً، وتتحول الخيبة نفسها إلى جناح غير مرئي يدفعنا إلى أبعد مما كنا نظن.

الخرائط المرسومة بالوجع لا تقود إلى الغايات، لكنها تشهد أن الخطى وُجدت وعبرت المسافة بكل ما فيها من وحشة. الضياع ليس نهاية، بل بداية جديدة للرسم؛ فسحة قاسية تكشف للروح ذاتها في مرآة غريبة، وتتيح لها أن تعيد ترتيب حدودها.

الصمود ليس تعريفًا جاهزًا، بل أثرٌ يتركه العابرون: خطى في الطين، ظل فوق الغيم، وجسد يحمل نفسه رغم ثقله. وما الضياع إلا استراحة قصيرة في طريق طويل، لحظة يتذكر فيها الوجود أنه لم يكن صدفة، وأن فقدان البوصلة لا يعني فقدان سرّ البقاء.

لا يعود الصمود مجرد صرخة في وجه اليأس، بل نشيدًا يُولد من المرثية، خيبةً تُبعث كأجنحة، وضياعًا يُرسم كخريطة. لأننا، ببساطة، لم نُخلق لنذوب… بل لنثبت أننا أقوى من الذوبان.


جهاد غريب 
أغسطس 2025 

الأربعاء، 20 أغسطس 2025

ومضة لا تعرف الاستسلام!

 
ومضة لا تعرف الاستسلام! 

نحن لسنا دمى تتحرك بخيوط خفية على مسرح الواقع، ولا وجوهًا مدهونة بالوهج الزائف كي نرضي جمهورًا لا نعرفه. فنحن نعلم أن الخيوط قد تُقيّد الجسد لكنها لا تستطيع أن تسجنَ نبضَ الروح الذي يرفض أن يكون ظلًا لغيرها.

نحن صوانٌ قديم، نُبنى من الطموح لا من التصفيق، ومن ركام الأحلام القديمة التي لم تمت، بل نمت تحت الرماد كالجمر الخفي، ومن الحلم الذي لا يغيب حتى وإن غابت الطرق والوسائل، وابتلعت العتمة مفاتيح الأبواب.

وكثيرًا ما وقفنا على حافة الهاوية، نحدق في القاع الذي يدعونا بلغته الصامتة، لكننا لم نقفز. لأن في القاع لا توجد نهايات، بل بدائل أخرى للضياع.

هكذا نسير...
نحمل في أعماقنا خرائطًا لمُدنٍ لم تُرسم بعد، وأغاني لم تُغنَّ. ونحمل جراحًا لم تندمل تمامًا، لكنها لم تعُدْ تنزف ألمًا، بل تَحكي حكاياتٍ ترويها الأجيال القادمة عن معنى المقاومة.

نحن لسنا أبطالًا، بل نحن الناجون الوحيدون من معركة لم نخترها، لكننا اخترنا كيف نخرج منها.

قد تتلاشى الأشياء... نعم، تنهار الأبنية، وتتحول العروش إلى ترابٍ يتطاير في مهب الريح، وتُنسى الأسماء، وتبهت الملامح، ويُدفن المجد في مقابر النسيان. لكنّ في أعماقنا ومضةً لا تعرف الاستسلام؛ تشبه نجمًا قادمًا من أعماق الكون، يضيء لنا، رغم موته قبل ملايين السنين.

هي التي ترسمُ بصمتها على الجدران المهجورة، وكأنها توقيعُ الخلود على ورقةِ زمنٍ مؤقّت، وتردد همسًا لا يسمعه سوى من عاش مرارة الانطفاء: لأنهم عرفوا أن الظلام ليس غيابًا للنور، بل هو اختباءٌ مؤقتٌ خلف سحابةٍ من اليأس... وما دام الحلم يتنفس، فإن الهزيمة مؤقتة.

وهنا، في هذه اللحظة، حيث يصمت كل شيء، نسمع صوتنا الحقيقي للمرة الأولى. صوتٌ ليس فيه تردد، ولا خوف، ولا انتظار لتصفيق.

فمنّا من يوقظ الحجر من سباته، ويحول الصمت إلى سيمفونية من الإرادة، وينحت من الريح ملجأً. ومنا من يزرع في الصحراء وينتظر المطر، ليس لأنه يوقنُ بنزوله، بل لأنه يؤمن بأن الجفاف ليس نهاية للحياة، بل اختبارًا للإيمان بها.

هناك، حيث يتكئ الظل على جدار متصدع، ويحاور النجوم عن معنى البقاء، يقف أحدنا يتذكر كيف مر من هنا ذات يوم، حاملاً حلمًا ثقيلًا كالجبال، ومرنًا كغصن الصفصاف الذي ينحني لكنه لا ينكسر، خفيفًا كنسيم الفجر. كان يعلم أن الوزن الحقيقي للأحلام ليس في ثقلها، بل في قدرتها على حملنا عندما نعجز عن حمل أنفسنا.

وفي طريق عودته، مرَّ ببحرٍ من الدموع، لكنه لم يَغرقْ. لأن دموع المقاومين لا تغرقهم، بل تروي سفن نجاتهم.

لقد رأى الأبواب تُغلق واحدةً تلو الأخرى، وكأنها عيونٌ ترفض أن ترى النور، وسمع قهقهة اليأس تعوي كالريح في الليلة الطويلة... ورأى كيف يبني الخوف قصوره من أوهامنا، وكيف ينسج اليأس خيوطه من أحلامنا الممزقة... لكن يده، التي اعتادت رسم الخطوط الأولى للضوء على جبين الظلام، والتي عرفت دائمًا أن الليل يلد النهار كما تلدُ الآلامُ أجنحةً للحلم، لم ترتعش.

لأن الومضة في الأعماق كانت ترسمُ، وتهمسُ، وتناديه: الطريق لا ينتهي عند الباب المغلق، بل يبدأ من هناك. من الشق الذي يتركه الباب في جدار اليقين.

وفي الصباح، عندما حطت طيور الفجر على كتفيه، فهم أن الحياة لم تنقطع عنه، بل كانت تنتظر منه أن يتوقف عن التوقف.

وهكذا، يصبح الحلم واقعًا نلمسه، لا مجرد طيفٍ نراه. ليكونَ النهر الذي لا يجف، والشمس التي لا تغيب، واليد التي لا تتراجع. ليكونَ هو الهواء الذي نتنفسه، والدم الذي يجري في عروقنا، والقلب الذي ينبض في صدر الوجود.

وهكذا نعيش، ليس كمن ينتظر النهاية، بل كمن يزرع البدايات في حقل النهايات.
وحدنا مَن يحصدون القمر.


جهاد غريب 
أغسطس 2025 

الثلاثاء، 19 أغسطس 2025

خزائن البرق: احتجاجٌ يُضيء قلبَ العتمة!

 
خزائن البرق: احتجاجٌ يُضيء قلبَ العتمة! 

"احتجاجٌ صامتٌ على الانهيار.. كبرقٍ يخزن نوره في أَعماقِ القشور"


في زحمة الفوضى التي انسكبتْ كأمطارٍ لا تُبقي للأرض تماسكًا، بينما أنيابُ الانهيار تنقضُّ على آخرِ تماسُكٍ، لاحَ برقٌ في السماء... خيانةً للضوءِ، ليُذكِّرَ الظلمةَ أنها لم تَبرحْ عرشَها.

وفي زاويةٍ من الروح، انبعثت نغمةٌ غريبة: براعم صغيرة تُحدث شقوقًا في صمت اليأس، كهمسِ جذورٍ تنسجُ نجاةً في صخورِ اليأسِ، فتُشَقِّقُها! لا فرحًا، بل احتجاجًا صامتًا. كانت تؤكد هويتها التي وُلدت من وجعٍ قديم، من شتاءٍ لم يكن ضيفًا عابرًا، بل نسيجًا من ظلّنا.  

هنا، بين طلقاتِ المطرِ العشوائيّةِ وهدير الانهيار، وُلد حوارٌ صامتٌ: 
- الظلام يهمس: "ألا تستسلم؟"  
- والبراعم تُجيب بلا كلمات: "نحن صدى الأرض التي تختزن ضوءها تحت القشور".  

هذا الحوار لم يكن جديدًا، بل صدىً لأسئلةٍ علقت في الفراغ منذ أن تعلَّم الوجودُ أن يُراوغ العدم. كأن البراعم تُعيد تمثيل مسرحية الخلق الأولى في مختبرِ التربةِ الرطبةِ: صراخٌ ضد الصمت الكوني قبل أن تُخترع الكلمات. مشهدٌ تكرّر منذ أن قرّر أولُ غصنٍ مكسورٍ أن يصير جذرًا. 
 
وفي أعماق هذا الصراع الأزلي، وعلى الرغم من كل شيء، لم تكن هذه القشور قيودًا، بل خزائنَ سريةً للضوء المُغذَّى بمرارة التربة. وربما كان احتجاجها الصامت هو اللغة الوحيدة التي يفهمها الظلُّ المتجذِّرُ كالشتاء: لغةُ الجمر الذي يُشتبك في بطن الرماد. 

وكان هذا النبض الصامت في عمق اليأس هو السرُّ الكامن في مقاومة الكينونة النباتية: لا لتزهر فورًا، بل لتحوّل السقوط إلى جذور، واليأس إلى وقودٍ للصمود. كل غصنٍ منها يُعيد تشكيل مفهوم السقوط: فالهزيمة هنا ليست نهاية، بل رقصة وجود في عاصفة اللامعنى... استمرارٌ يُحوِّل الزمن إلى كتلةِ إرادةٍ مُجرَّدة.

هنا بالضبط، تنكسرُ قوانينُ الفيزياء: فالزمن - الذي يُقاس بالسقوط - يُعاد تشكيله ككتلةٍ من الاحتمال المتصلِّب. وكأن البراعم ترسم لنا قانونًا جديدًا: أنَّ البقاءَ ليس فعلَ جمودٍ، بل تفاعلٌ كيميائيٌّ يولد من فراغ الانهيار عُنصرًا جديدًا اسمه: إرادةُ العبور إلى الضوء.

ففي اللحظة التي تتحول فيها المقاومة إلى نفسٍ للوجود، يصير السقوط مجرد ظلٍّ للقِيَم. ليست البراعمُ دليلًا على غياب الشتاء، بل برهانًا على أنَّ الحياةَ تُعيدُ تعريف الموت كلَّ فجرٍ... بأن تخلق من عتمته برقًا داخليًّا تُشعِلُ معنى. 


جهاد غريب 
أغسطس 2025 

الاثنين، 18 أغسطس 2025

نحتٌ في وجه الفناء!

 
نحتٌ في وجه الفناء! 

شعاعُ ضوءٍ يتكسر على مرآةٍ مشروخة. ليس نورًا خالصًا ولا ظلامًا كاملًا، بل ارتعاشةٌ بين حدّين، كأن الكون يفتح فجوةً صغيرةً لعينٍ تبحث ولا تجد.  
وأنا… أطلّ من هذه الفجوة، ألمس شظايا صورتي المبعثرة على الحائط، كأن جسدي صار مرآةً ثانيةً تنكسر مع كل ومضة ضوء. لا بصفتي شاهدًا ولا ناجيًا، بل كمن وجد نفسه محاصرًا في نصف الحقيقة. هل أملك أن أصف الوجود، وأنا لا أرى سوى شظايا؟

يهمس صوتٌ خفيٌّ في الداخل: اكتب… الكلمة هي طوق النجاة. لكن صوتًا آخر، بعيدًا وقاسيًا، يتسلل من الخارج: ومَن يُنقذ الشاعر؟ ثم تتعالى أصواتٌ متقطعة، كأنها صدى الجموع: الكلمات لا تُطعم، الشعر لا يُنقذ، الصمت أوفى.

وأقف بين هذه الأصوات كمن يمشي على جسرٍ مهتزّ. كل خطوةٍ قد تكون الأخيرة، لكنني أواصل العبور، لأنني أعلم أن ما في الضفة الأخرى ليس خلاصًا، بل وضوحًا. الشعر لا يهب الحياة، لكنه يفضح وهمها. إنه الضوء الذي يلمع لحظةً ثم يختفي، تاركًا خلفه أثرًا لا يُمحى في العتمة.

هنا يبدأ الشعر كبوابةٍ للوجود. ليس مجرد لغةٍ للتزيين، بل عينٌ ثالثة ترى ما لا يُرى. كل بيتٍ يُكتَب، هو محاولةٌ لاستنطاق الصمت، لا لملء الفراغ بل للكشف عنه. لا يدّعي الشاعر أنه يحيط بالكون، لكنه يعرف أن الضوء لا يكون بلا ظلّ، وأن الظل لا يُرى بلا أثرٍ من نور. وفي هذه المسافة بين الضدين، يتشكل الشعر كجسرٍ هشّ بين الإنسان والعالم.

وأتذكّر نفسي طفلًا هزيلاً أمام نافذة الغرفة القديمة، يتسلل ضوء الظهيرة عبر شقوق الستارة البالية، فيرقب ذرات الغبار وهي ترقص في خطوط الذهب السائلة. صمت البيت يطنُّ في أذنيَّ: صرير الباب، تنهد الجدران، غليان القدور البعيدة. لم أكن أفهم حينها معنى الوجود، لكنني كنت أشعر أن كل ذرة غبارٍ تحاول أن تكتب قصيدتها الخاصة في الفراغ. كنت أصغي لذلك الصمت، الصمت الذي لم يتوقف عن ملاحقتي حتى الآن. 

لكن من يعبر هذا الجسر؟ الشاعر أولًا. إنه الضحية الأولى، والمنتشي الأول بجراحه. كلماته تلسعه قبل أن تمسّ الآخرين، تحرقه قبل أن تنير لهم. ومع ذلك، يظل هو المخلّص أيضًا، يطلق قصائده كمن يلقي قناديل في بحر الصمت، قناديل لا تُنقذ الجميع، لكنها تكفي لتنقذ واحدًا من الغرق، لتخرج دمعةً من عينٍ ظنّت نفسها جافة، لتوقظ عاشقًا نسي دموعه في ركام الأيام. 

إنه أول الضحايا، وأول من ينهض ليحمل جرحه كراية، يُلقي الكلمات كما يُلقي الغريق يديه في الماء، لعلّ واحدةً منها تصل، في لحظةٍ عابرة، إلى قلبٍ لم يعرف أنه ينتظر.

أتذكر قصائدي الأولى، كيف كانت حبرًا مرتعشًا على ورقٍ أصفر، وكيف كنت أظن أنني أكتب لنجاةٍ ما، فإذا بي أكتشف أنني أكتب لأغرق أعمق. لقد فهمت متأخرًا أن النجاة لم تكن في المعنى، بل في القدرة على مواجهة اللامعنى، في أن تستمر بالكتابة رغم الخواء.

أما الكلمات، فهي ليست أدواتٍ طيّعة. إنها طاقةٌ قابلةٌ للانفجار، ومجرّد ومضةٍ منها كفيلةٌ بأن تُعيد تشكيل الغرف المظلمة في داخلك. أتذكر يومًا كتبتُ كلمة "شوق" على زجاجٍ متسخ، فتحركت ظلال الكرسي الفارغ في الغرفة وكأن المقعد الخشبيَّ يئنُّ تحت وطأة غياب. 

الكلمة التي تُضاء لا تكشف الطريق كاملًا، بل تخلق في العتمة متاهاتٍ تدفع المتلقي أن يضرمَ شمعةً من أعصابه. الشعر ليس حلاً، إنه إشعال سؤالٍ آخر في قلبٍ لم يعد يطيق الصمت. 

وأعود بالذاكرة إلى لحظةٍ أقف فيها على درجٍ حجري قديم، والليل يبتلع الحيّ من حولي. كنت أسمع وقع خطواتي يتردّد، كأنما يسير خلفي جيشٌ من الأطياف: امرأةٌ لم تقُل "لا"، رجلٌ أخفى دموعه في قبضته، طفلٌ مزّق رسالته قبل إلقائها. تعلمت يومها أن الكلمة ليست لي وحدي، بل للذين لم يجرؤوا على قولها: هي صرخةٌ تختزن في حناجر ألف صامت.

وفي النهاية، لا شيء يوازي مواجهة الألم. الألم ليس عابرًا ولا طارئًا؛ إنه العظام التي تُبنى منها هويتنا. أن نواجهه لا يعني أن نطلب الشفاء، بل أن نرفع رؤوسنا في وجه الفناء. 

لا تبحث عن عزاءٍ هنا. فالأمل الهادئ خيانةٌ للجرح، ووعدُ النجاة سرابٌ في صحراء الوجود. ما يبقى هو صلابةُ التحدي: أن تصرخ في قلب العتمة بلا ارتجاف، أن تُلقيَ بكلماتك في بركة الزمن الآسن، ثم تصغي لصدى سقوطها وهي تتشظى في القاع. أن تواصل الكتابة رغم يقينك أن الصمت سَيبتلع كل شيء، وحتى بعد أن يصير الوجودُ مقبرةً لا يعرف سوى اسم الريح.  

لقد بدأت الكتابةَ كنحتٍ للضوء، لكنها صارت معركةً ضدّ الفناء: لا انتصار فيها إلا استمرارُ النحت، ولا خلاص إلا بقاءُ الكلمة واقفةً كشاهدٍ أعمى. هذا هو الانتصارُ الأخير: أن تظل حروفك تخترق الظلام، مُحطِّمةً مرايا الصمت، حتى لو لم يبقَ أحدٌ ليسمعَ صدى تشظِّيها.  


جهاد غريب 
أغسطس 2025 

قطرةُ ندىً تنحتُ نافذةً!

 
قطرةُ ندىً تنحتُ نافذةً!

1
أنا والمرآةُ الهشّةُ!

أمسكتُ قطرةَ ندىً،
ظننتُها مرآةً تُعيدُ صوغَ الكونِ...
لكنها انسابتْ كدمعةٍ
لم يلتقطْها عاشقٌ،
فوقَعتْ على صدري —
مِلحٌ وصابونٌ في جُرحٍ قديمٍ.

همسَ الظلُّ:
أتراكَ تحملُ البحرَ في قطرةٍ؟
فأجبتُ:
بل أحملُ سكينًا...
أنحتُ بها نافذةً لعالمٍ يشبهُني!

حينئذٍ، ضحكَ الضوءُ...
كالطفلِ الذي يَفكُّ أحجيةَ الوحدةِ.


2
أنتَ وصرخةُ القيامةِ!


أنتَ... من يختبئُ في زَحَمِ الكلماتِ،
كعصفورٍ يطاردُ رنينَ الجمالِ!
حينَ يمسكُ العالمُ بحلقِ الغسقِ —
تطلقُ صرختَكَ:
دعِ العالمَ يقرأُ الآنَ!

فيجادلُكَ الظلُّ:
ستغرقُ قبلَ أن تنقذَ غريقًا!

فتسحبُ من صمتِكَ كلمةً،
تصوغُ بها سكينًا...
فيصدحُ الضوءُ:
حممٌ باردةٌ تُنقذُ غريقًا...
وتذكّرُكَ: أنتَ غريقٌ مثلَهُ!


3
نحنُ... وحممُ الهويةِ!

نحنُ...
عصفورٌ يبني عُشَّهُ على حافةِ الهاويةِ!

— الظلُّ:
كلماتُكم سكاكينُ!
هذا الألمُ — طَعمُ الصابونِ والمِلحِ —
ليس جرحًا...
إنه وسمُكم على جبينِ الوجودِ!

— الضوءُ:
صدقتَ!
لكنَّ السكينَ تَنحتُ أجنحةً...
ألمْ ترَ؟
قطرةُ الندى صارتْ بحرًا...
والغريقُ نفسُهُ طَوقُ نجاةٍ!

فنصرخُ جميعًا:
نحنُ لسنا ضحايا...
نحنُ الحممُ الباردةُ التي تنحتُ العالمَ!
كلُّ جرحٍ — بحرٌ!
كلُّ دمعةٍ — مفتاحٌ!


4
سكيني تسقطُ على مرآتِكْ!


أعودُ إلى يدي...
تحاولُ قبضَ قطرةِ ندىً،
فتمسكُ سكينًا تنزفُ نورًا!

على حافةِ الجُرحِ،
يهمسُ الظلُّ:
جراحُكَ قواريرُ نبضِكَ...
لن تبرأَ!

أرمي بالسكينِ في بحرِ الصمتِ...
ليجدَها غريقٌ آخرُ،
وأبني من دمي نافذةً:
أرى منها عالمًا ينزفُ نورًا كنوري!

هذه الوجودُ:
أن ترمي سكينَكَ في العدمِ،
تعلمُ أنها ستسقطُ
على جرحٍ يشبهُ جرحَكَ،
جرحٍ يُسمّى الحياةَ...

فتسبحُ في بحرِ الحممِ الباردةِ،
وتدركُ أنَّ الغرقَ
هو الوجودُ نفسُهُ!


جهاد غريب 
أغسطس 2025 

ظلُّ الحياة في مرآة الغياب!

 

ظلُّ الحياة في مرآة الغياب! 


1
بئر الغياب!  

هنا، في قاع البئر، لا يسكن الصمت.  
الصمتُ ضجيجٌ.  
أمّا هذا... فهو ثقلٌ يتراكم في العظام 
كرصاصٍ سائل،  
يُثقِلُ الحجابَ الهوائيَّ بين الضلوع،  
حتى لَتَكادُ أنفاسُك تُحطَّمُ على صخرةٍ لا تراها.  

الغيابُ يَنضَجُ.  
ليس كفاكهةٍ تُلمع،  
بل كظلٍّ أسودَ ينزُّ من سقفِ الذكرياتِ، 
يُحوِّلُ الهواءَ إلى قطنٍ مُبلَّلٍ بالرصاص.  
تلمسُ الكرسيَّ الفارغَ... 
فَتُحرِقُ أصابعَك برودتُهُ،  
وتحدّقُ في النافذةِ... 
فَتَغوصُ في ظلمةٍ لا تُولَدُ منها نجوم.  

حتى الروائحُ تخونُ:  
رائحةُ قهوةِ الصباحِ تتحوّلُ إلى رائحةِ ترابٍ باردٍ،  
كأنّ الثرى انسكبَ في الرئتين.  
والأصواتُ؟  
صوتُ خطواتٍ وهميَّةٍ على السُلَّمِ…  
لكنَّها مجرّدُ صدى سَقطَ في الفراغ،  
فالتهَمهُ ذلك الثقلُ الأسود.  

هذا ليس فَقْدًا بعد.  
هذا استسلامٌ سابقٌ للفقد،  
خذلانٌ من جسدِك الذي يجرؤ على التنفّس،  
ومن الشمسِ التي تجرؤ على الشروق،  
ومن اللحظةِ التي تجرؤ على الاستمرار…  
بينما أنت تُذوبُ في عينيك بحرًا من زجاجٍ مكسور،  
وتَسألُ:  
"كيف يُمكنُ للعالمِ أن يكونَ مكانًا  
إذا كان مَنْ جعلَهُ عالمًا…  
صار غيابًا يُنضجُ الفراغ؟"  


***

2
احتضار الامتلاء! 

كيف صارَ الامتلاءُ جريمةً؟  
كيف صارتِ الذكرياتُ شظايا زجاجٍ   
تُغرَقُ في حلقومكَ كلّما ابتلعت هواءً؟  

كنتُ أحملُ كونًا بين ضلوعي:  
ضحكتُكَ كانتْ شمسًا،  
وصوتُكَ كانَ نهرًا يروي الصحراءَ فيّ.  
الآن…  
الآن يُلفُّ الفقدُ هذا الكونَ ككفنٍ رطبٍ،  
يخنقُ كلَّ نبضةٍ كانتْ فرحًا.  
حتى رائحةُ قميصِكَ الباهتةُ —  
لم تعدْ تُذكّرني بكَ،  
بل تُحرقُ أنفيَ كَسُحُبِ رمادٍ!  

انظروا إلى هذا الامتلاء الشبح…  
هو كأسُ ماءٍ في الصحراء،  
تراه من بعيدٍ فيُغرِقُك عطشًا.  
الذاكرةُ — يا لهذه الخيانة —  
لا ترفعُ الكفنَ عن جسدِ الماضي،  
بل تَغْمِسُ أصابعها في الجرحِ  
فتلمسُ دفءَ دمِكَ على شَفرةِ "كان"!  

وحدي في غرفةِ الأمسِ:  
ها هي صورُكَ على الجدارِ تتحوّلُ إلى سكاكينَ بطيئةٍ.  
ها هي أغنيةٌ كنّا نحبّها تتقاطرُ مرارةً في الأذنِ.  
ها هو كرسيُّكَ يُنبِتُ أشواكًا.  
حتى قهوةُ الصباحِ —  
صار طعمُها كطعمِ الصابونِ يَفجأُ فمَ طفلٍ،  
كأنّكَ تشربُ غيابَكَ كأسًا بعد كأس. 

هذا ليس حزنًا.  
هذا اشتعالُ منجمِ الروحِ من الداخل:  
جمرةٌ تتّقدُ تحت الرمادِ،  
تُذكّركَ أنّ ما امتلأَ يومًا  
لا يموتُ، 
بل يتحوّلُ إلى فخٍّ... 
تُحطَّمُ عليهِ كلُّ محاولةٍ للنسيانِ.  
خذلانٌ مزدوجٌ:  
من قلبكَ الذي يرفضُ أن يُفرغَ ذاكرتَه،  
ومن ذاكرتكَ التي ترفضُ أن تُخدّره!  


***

3
مفارقة الدهشة!   

انكسرَ الصمتُ.  
ليس ببكاءٍ،  
ولكن بزقزقةِ عصفورٍ على الشجرةِ ذاتها  
التي كنتمَا تتفيّآنِ تحتها ظلَّ أحلامِكما.  
السماءُ تمطُرُ شمسًا!  
والأرضُ — كالمستهزئةِ —  
تَلُفُّ نفسَها برداءِ زهرٍ نَضِرٍ،  
وأنت واقفٌ في منتصفِ الرصيفِ  
كأنّكَ حجرٌ سُحِقَ تحت عجلاتِ الزمنِ.  
  
أهكذا تكونُ السُّخْريَةُ؟  
كيف تَنبِضُ فصولُ السنةِ بلا وجعٍ؟  
كيف تدقُّ ساعةُ المدينةِ كأنَّ شيئًا لم يَكُ؟  
كيف يمرُّ غريبٌ بجانبكَ يَختالُ بضحكتِهِ،  
بينما أنتَ تحملُ في صدركَ نيزكًا  
سقطَ على كوكبِكَ فجعلهُ قفرًا؟  

الحياةُ تنظرُ إليكَ.  
نعم،  
إنها تُحدّق في عينيكَ  
مِنْ نافذةِ باصٍ مزدحمٍ تلمعُ في الشمسِ،  
مِنْ طفلٍ يجرجرُ بالونًا أحمرَ كدمعةٍ أضحكتْها القسوةُ،  
مِنْ رائحةِ هيلٍ تَتَسلَّلُ مِنْ مقهىً فتخنقُ أنفاسَكَ.  

هذه ليست دهشةَ طفلٍ.  
هذه دهشةُ مجنونٍ يكتشفُ أن جَلَّادَهُ…  
هو نفسُهُ يُمسكُ بالسكينِ!  
أتُرى الكونُ كلُّه كانَ غطاءً للخديعةِ؟  
أهذهِ الأرضُ نفسُها  
التي التصقَ بها جسدُ مَنْ رحلَ؟  
كيف تنبتُ العشبُ فوقَ قبرٍ،  
بينما أنتَ لا تقوى على نبتِ شهقةٍ واحدةٍ؟  

الغيابُ يُنضجُ فراغَهُ فيكَ،  
والحياةُ — بلا حياءٍ —  
تمسحُ دمَكَ عن أسنانها  
وتستمرُّ.  
هل تسمعُها تُهمسُ؟  
"انظر!  
أنا هنا…  
أنا دائمةٌ…  
فماذا عساكَ فاعلًا  
غيرَ أن تَخِرَّ صريعَ دهشتِكَ؟"  


***

4
المقابلة الجارحة! 

الغيابُ في مواجهةِ شبحِ الحضورِ:  

تلمسُ وسادتَهُ ليلًا...  
فتحسُّ دفئًا وهميًّا كسرابٍ.  
هل هذا حضورُهُ؟  
لا أعلم! 
هذا الغيابُ نفسُهُ يخدعُك...  
يُرسلُ ظلَّهُ لينامَ مكانَهُ،  
ويُسمعكَ صوتَهُ في خريرِ صنبورٍ،  
ويُريكَ شبحَ يديهِ في غبارِ ضوءِ القمرِ. 
لكنّك حينَ تُغمضُ عينيكَ وتنادي:  
"أأنتَ هنا؟" 
لا يُجيبُ إلا صدى السؤالِ،  
يَرتطمُ بجدرانِ الغرفةِ  
كصوتِ جرسٍ في وادٍ موحشٍ.  
أيُ خيانةٍ هذه؟  
أن يُحاكيَ الغيابُ حضورًا،   
ثمَّ يسرقُ حتى حقَّكَ في الوهمِ!  

الفقدُ في مواجهةِ حياةٍ لا ترحمُ: 

انظرْ إلى الشارعِ:  
هذهِ الحياةُ تتمطى كطائرٍ شبعانَ،  
لا تعرفُ أنَّ في قلبكَ بركانًا.  
الأشجارُ تُورِقُ،  
والناسُ يشترون الخبزَ،  
والساعاتُ تلدُ دقائقَ جديدةً  
كأطفالٍ غيرِ مرغوبٍ فيهم!  
كيفَ؟  
كيفَ يُمكنُ لعالمِكَ أن ينكسرَ كزجاجةٍ،  
بينما العالمُ خارجَ صدركَ  
يُقلّبُ شريطَهُ المملَّ؟ 
الفقدُ يُعلنُ: "توقّفَ الزمنُ!"،  
والحياةُ تُجيبُ بسخريةٍ:  
"بل زمنُكَ أنتَ مَنْ ماتَ!".  


الخذلانُ.. الجرحُ الذي يصرخُ: 

هذا هو الخذلانُ الأعمقُ:  
- خذلانُ جسدِكَ الذي يبحثُ عن رائحةِ الغائبِ في وسادةٍ بلا روحٍ.  
- خذلانُ صديقٍ يقولُ: "اصبر... سيمرُّ هذا!"  
كأنّهُ يُخبِرُ نهرًا أن يجفَّ!  
- خذلانُ الأرضِ التي ابتلعتَ جسدَ حبيبِكَ...  
ثمَّ أنبتتْ زهرةً صفراءَ صامتةً فوقَهُ!  
أهكذا يكونُ الوداعُ؟  
حفنةُ ترابٍ...  
وزهرةٌ تسخرُ من دمِ قلبكَ؟  


المقابلةُ تُشعلُ الفتيلَ:  

في هذهِ الهوّةِ:  
بينَ غيابٍ يثقلُ كالرصاصِ  
وحضورٍ يتلاشى كالسرابِ،  
بينَ فقدٍ يصيحُ في صمتٍ  
وحياةٍ تصمُّ بضجيجٍ،  
تنبثقُ شرارةٌ غريبةٌ...  
ليست أملًا،   
بل استفهامٌ حادٌّ:  
"إلى متى سأكونُ ضحيّةَ هذهِ المسرحيةِ؟".


***

5
جمرة الرفض! 

كفى!  
ما عادَ قلبي وعاءً للدموعِ،  
بل بوتقةٌ تُذيبُ الصبرَ الزائفَ 
وتصهرُ الأحزانَ سيفًا!  

هذا الغيابُ الذي نَضَجَ كسُمٍّ في جوفِي..  
أرفضُ أن أكونَ قبرًا يمشي!  
أرفضُ أن تلفَّني أكفانُ "المُتجاوزين"!  
أرفضُ أن أكونَ حكايةً تُروى  
بصوتٍ هامسٍ:  
"كانَ يحبُّهُ كثيرًا...  
ثمَّ صارَ ظلَّهُ".  

ذاكرتي ليستْ نُسخةً شاحبةً،  
بل هي قلعةٌ من نورٍ:  
هنا ضحكتُكَ تشتعلُ كشمعةٍ لا تنطفئُ،  
هنا عيناكَ تُطلّانِ من كلِّ زاويةٍ،  
هنا صوتُكَ يُثقبُ جدارَ الصمتِ  
مطرقةً مطرقةً،  
حتى يعودَ الصدى  
مِرآةً تُعيدُ تشكيلَ حضورِكَ!  

هل رأيتَني؟  
أنا لا أبكي...  
أنا أحفرُ بقبضتي في صخرِ الغيابِ!  
أحفرُ حتى يدمى الكفُّ،  
حتى يمتلئَ الإبهامُ بشظايا الزمنِ،  
لكنّي أجدُ في القاعِ:  
رُفاتَ كلِّ مَنْ قالوا:  
"انسَ... اتركْ... تجاوزْ"!  

هذا غضبي:  
لهيبٌ أزرقُ،  
لا يحرقُ غيرَ أوهامِ المستسلمينَ.  
نارٌ تخرجُ من جمرةِ الروحِ،  
تذوبُ فيها الأحقادُ،  
ويتبلورُ الألمُ ماسًا في تاجِ الكرامةِ.  
نعم!  
أنا غاضبٌ:  
على السماءِ التي لم تسقطْ يومًا رغمَ كلِّ القبورِ!  
على الأيامِ التي تلبسُ أقنعةَ البراءةِ!  
على كلِّ يدٍ مدَّتْ إليَّ "مواساةً" كالمبخرةِ..  
تُخفي سمَّ الضعفِ!  

لن أكونَ ضحيّةً لهذهِ الملهاةِ.  
لن أبيعَ غيابَكَ بفلسِ راحةٍ!  
سأحمِلُ حُبَّكَ كسلاحٍ ضدَّ الفناءِ،  
وأمشي في شوارعِ الحياةِ  
كأنّني جدارٌ يكتبُ عليه القدرُ هزيمتَهُ!  


***

6
وميض التحدي!    
  
ليستْ خطوةً...  
بل وَقفةٌ.  
واقفٌ كَـ "سنديانةٍ" أحرقها البرقُ،  
لكنَّ جذورَها تمضغُ صخرَ الأرضِ.  
لا أبحثُ عن ربيعٍ يُخضِرُ فيَّ،  
فشتائي ــ يا لقسوتِهِ ــ  
صارَ فصلًا أبديًّا.  
لكنّي…  
أرفضُ أن تسقطَ أوراقي!  

الحياةُ ــ ذلكَ الشاهدُ الأصمُّ ــ  
تُحدّقُ بيَ الآنَ:  
"هل انتهى بكَ المطافُ إلى هنا؟  
على حافّةِ الهاويةِ...  
تُمسكُ بظلٍّ؟".  
أُجيبُ بصمتٍ أقسى مِنْ صَخْرٍ:  
"بل وقفتُ لأُريكَ كيفَ يُشهِرُ الموتُ حُبّاً  
لا يموتُ!".  

انظري أيّتُها الحياةُ:  
ها هو غيابُهُ يُصبحُ ساقَيّ!  
ووجعُهُ يُصبحُ دمي!  
وذكراهُ تُصبحُ بوصلةً في ليلِكِ الخالي.  
أحملُهُ ليسَ كجرحٍ...  
بل كـ "شِهادةِ ميلادٍ ثانيةٍ"،  
وُلِدتُ فيها مِنْ رحمِ الفقدِ  
إنسانًا يرفضُ أن يكونَ ضحيّةً لزمنِكِ. 

هذا هو التحدّي:  
أن تمشيَ في سوقِ العالمِ،  
وأنتَ تحملُ في عينيكَ نارًا زرقاءَ،  
وفي جيبِكَ حجرًا مِن قبرِ الحبيبِ،  
وفي صدري كلماتُ غضبٍ لم تُنطَقْ للسماءِ!  
أن تَصِلَ حافلةَ العملِ في الثامنةِ،  
بينما الكونُ كلُّهُ ينهارُ في جوفِكَ كلَّ دقيقةٍ!  
أن تدفعَ فاتورةَ الماءِ،  
والموتُ يُنادي مِن قاعِ الكأسِ:  
"أتَنساني؟"  
فتُجيبَ:  
"بل أتحدّاكَ أن تُنسيني إِيّايَ!".  

ليسَ انتصارًا...  
ليسَ رجاءً...  
ليسَ سوى تحدٍّ أعمى،  
كأنّكَ تُشهرُ قبضتَكَ في وَجهِ إعصارٍ.  
لكنَّ هذهِ القبضةَ ــ  
وحدَها ــ  
تُعلنُ أنَّ للروحِ أنياباً،  
حتى لو كانَ فريستَها الأخيرةَ  
هيَ نفسُها!  


جهاد غريب 
أغسطس 2025 

الأحد، 17 أغسطس 2025

طقوسُ الحبر: كيف تستخرج الكلماتُ شظايا الروح؟

 
طقوسُ الحبر: كيف تستخرج الكلماتُ شظايا الروح؟ 

"ماذا لو صار الزجاجُ المكسورُ في روحك خريطةً للضوء؟ هذه معجزةُ الحبر"


كان هناك جرحٌ لا يُرى. شظايا خفيّةٌ من أحزانٍ منسيةٍ، خيباتٍ مكبوتةٍ، صرخاتٍ اختنقت في الحنجرة، علقت في نسيج القلب كرمالٍ ساخنةٍ. لا تظهر بالأشعة، لكنّها تُحدث ألمًا غامضًا حين تدقّ الساعةُ المناسبة في أعماق الليل. 

هنا، حيث تعجز الدموع عن الوصول، تبدأ معجزة الأبجدية. ليست الكتابة تسجيلًا للأحداث، بل هي جراحةٌ روحيةٌ تُجريها لنفسك بنفسك: مبضعُك قلمٌ، ومخدّرك ورقةٌ، وتخديرك هو ذلك الشوق الجنونيّ لاستعادة نقاء روحك.  

انظر إلى يدك وهي تتحرك فوق الصفحة البيضاء: إنها لا تكتب، بل تستخرج. كل كلمةٍ تسحب شظيةً من مكانها العميق. تلك الذكرى المؤلمة التي ظلّت لسنواتٍ كخنجرٍ في الخاصرة، تصير جملةً تنزعها بلطفٍ كملقطٍ جراحيّ. ذلك الغضب المسموم الذي كان يلتهم أحشاءك، يتحوّل إلى فقاعةِ حبرٍ تنفجر على الورق فتطلق سمومها في الهواء. 

الكتابة هنا ليست نقلًا، بل ترحيلٌ وجوديٌّ للألم من جوفك إلى عالم المادة. هي نولٌ خفيٌّ ينسجُ خِرَقَ روحك المُتمزقةَ سجادًا ملوَّنًا، وبوصلةٌ تُعيدُ توازنَ اتّجاهك كلَّما ضعتَ. ألمٌ يتحوّل إلى كيانٍ ملموسٍ يمكنك طيّه، تمزيقه، أو حرقه في موقد التحرر.  

والعجيب أنَّ هذه الشظايا حين تخرج منك، لا تترك فراغًا دامغًا. بل تترك مساحةً مضيئةً تنبت فيها كائناتٌ جديدة: بصيرةٌ لم تكن موجودة، قوةٌ غريبةٌ، حكمةٌ تشبه ضوء الفجر بعد ليلة عاصفة. وهنا بالضبط – في تلك المساحة المضيئة – تُولدُ مُتعٌ لم تكن تتوقعها: كأن تتحوَّل شظايا أحزانك إلى لوحةٍ فنيَّةٍ تُدهشك، أو قصيدةٍ تلمعُ في يديْك كفراشاتٍ من نارٍ.

فأنت حين تكتب جرحك، لا تكرره، بل تعيد تشكيل علاقتك به. تصير مؤرّخًا وحكّامًا في محكمة ذاتك. السرد هنا ليس استسلامًا، بل هو سيادةٌ على الفوضى. تحوّل الفجيعة إلى حبكةٍ، والعبث إلى معنى، والضعف إلى سيرةِ مقاومةٍ. 

لا تندهشْ إن بدا التحوُّل عنيفًا أحيانًا؛ فما كان يختنقُ في الأعماق يحتاجُ زلزالًا صغيرًا لتحريره. لكن شاهدْ: الألم ينكسر على صخرة الجملة الفعلية، فيتحوّل من سيدٍ إلى مادةٍ خامٍ لبناء معبدك الجديد.  

هذه المفارقة العميقة: الكلمات التي تخرج من الجرح تكون هي البلسم. كل حرفٍ تسكبه كالرصاص السائل فوق الورق، يتحوّل إلى درعٍ شفافٍ يحميك. لماذا؟ لأنَّ الكتابة فعلٌ تمرديٌّ على الصمت الداخليّ. هي تحويل "اللامرئيّ" إلى "مُشاهَدٍ"، والمسكوت عنه إلى مُعلَن. 

حين تصير الكآبة فقرةً مقروءة، تفقد سلطانها الأسود. حين يتحوّل الخوف إلى سطرٍ، يصير غريمًا يمكنك مواجهته. إنها الخديعة العبقرية: أن تسحب الوحش من جحره إلى نور اللغة، فتنزع عنه قوته.  

ولذلك ليست الكتابة مجرد أداة، بل هي طقسٌ مقدسٌ من طقوس التطهير. كأنك تدخل معبدًا ورقيًّا كل صباح، تضيء شمعةَ القلم، وتقدّم قرابينَ الحقيقة على مذبح الصفحة البيضاء. لا يحتاج هذا الطقس إلى كاهنٍ وسيط، فأنت الكاهن والمُصلّي والقربان. 

الصمتُ الذي يسبق الكتابة هو تبريك المكان، والهمسُ الذي يصاحب السطور هو تراتيل التحرر، وذلك الارتعاش الخفيف في الأصابع حين تكتب أقسى الاعترافات هو لحظة اتحادٍ بين الروح والجسد. هنا، في هذا القدس الورقيّ، تُولد من جديد.  

فإذا انتهيتَ من الصفحة الأخيرة، ورأيت كومة الأورق المليئة بالشظايا المستخرجة، ستسمع صوتًا خافتًا في أعماقك:  
"انظر! هذا قلبي... كان ممزقًا،  
والآن صار كتابًا مفتوحًا". 

لا تبحث عن جواهرك في خزائن الآخرين.  
أعظمُ اللآلئ تُستخرج من أعماق جراحنا،  
بالحبر لا بالدموع،  
بالكلمات التي تصير مناجمَ للضوء.


جهاد غريب 
أغسطس 2025 

السبت، 16 أغسطس 2025

سجينُ الانتظار: بين شرف الصبر وجريمة الوهم!

 
سجينُ الانتظار: بين شرف الصبر وجريمة الوهم! 

يأتي الانتظار، في بدايته، كضيف ثقيل الوطأة، ثم يتحوَّل سريعًا إلى سجان لا يرحم. يُدخلنا قسرًا إلى غرفة منفردة داخل ذواتنا، حيث تُقاس الدقائق بنبضات القلق، وتُسكب الساعات كالرصاص الذائب فوق صدر الأمل. إنه ذلك الحيز الغامض بين اليقين والعدم، حيث تُعلَّق الحياة على مشجب "ربما". 

لكن جوهر المأساة ليس في الانتظار نفسه، بل في السكين الخفية التي تقطع الحد الفاصل بين الصبر الشريف والوهم المُتدثر برداء الفضيلة. متى يكون انتظارنا شجاعة تُكلّل إيمانًا بحقٍّ واضحٍ، ومتى يصبح هروبًا واهيًا من مواجهة الفراغ الذي يختبئ خلف صورةٍ نحبس أنفاسنا لأجلها؟

الانتظار الحقيقي ليس سلبيةً خانقة، بل هو فعل مقاومة صامت. هو ذلك الجذر الذي يخترق الصخر في الظلام، مؤمنًا بالشمس التي لم يرها بعد. هو صمود البحّار في قارب مهتزٍّ، وهو يحدّق في الأفق الضبابي، ليس لأنه يجهل قسوة الأمواج، بل لأنه يعرف يقينًا أنَّ شاطئًا يستحق العناء ينتظره. 

هنا، يكون الانتظار زهرةً تنبت في تربة الإرادة، تُروى بدم القلب الواعي، وتُثمر يومًا يقينًا لا شك فيه. تنتظر الأم ابنها الغائب لأن حبها حقيقة ثابتة كالنجوم. 

وكما تحمل النهايات بذورَ بداياتٍ جديدة، تنتظر الشجرة المقطوعة أن تتحوَّل إلى قيثارةٍ تُغني، لأن فناءها مَمرٌّ إلى دورةِ خلقٍ لا تنتهي. وحيثما تذروها الريحُ بحكمةٍ كونية، تنتظر البذرة الفصل، لأن دورتها قانونٌ كونيٌ لا يرتهن للأوهام. هذا الانتظار نبيل، شجاع، اختيارٌ وليس مصادرةً للروح.

لكنّ هناك انتظارًا آخر... انتظارًا مسمومًا، يتسلل كالضباب البارد إلى عظام الروح. هو أن ترفع تمثالًا من طين الأماني على قمةٍ منعزلةٍ في قلبك، وتسجد له كل صباح، وتنتظر منه أن ينبض بالحياة، أو أن يهطل عليك بالمعجزات. أن تحبس أنفاسك على شرفة الماضي، تحدّق في طريقٍ خَلّوه، وتصرخ في صمت: "سيعود!" بينما كل الرياح تُحدّثك عن الرحيل الأبدي. 

هنا يتحول الصبر إلى جبن متلثّم، والوفاء إلى نكرانٍ للذات، والإصرار إلى حماقة عمياء. تنتظر ليس "شخصًا" له ملامح ووعود، بل تنتظر "معجزةً" تخرق نواميس الوجود والقلوب، معجزةً تُبرّر لك الجمود وتغسل عنك مسؤولية المضي قدمًا. 

هذا الانتظار ليس سوى هروب مُزيّف إلى قفص الأوهام، حيث تُقدّم روحك قربانًا على مذبح "ماذا لو؟". وقد ننزلق جميعًا إلى هذا الوهم، لا ضعفًا، بل لأن الانتظار يتحوَّل أحيانًا إلى ملاذٍ مؤقتٍ من جرحٍ لم نُعالجه.

والفرق بين الاثنين كالفرق بين النور والظل، بين الجذر الحيّ والغصن المقطوع. يكمُن في السؤال الجوهري: هل تنتظر واقعًا ممكنًا، أم تخلق من سرابك سجنًا؟ هل يبنى انتظارك على حوار صادق مع الحياة، أم على حوار مهووس مع أصوات في رأسك؟ 

انظر إلى آثار قدميك في رمال هذا الانتظار الطويل: هل هي متجهة نحو أفق ممكن، أم تدور في حلقة مفرغة حول نفسها؟ الاستمرار في انتظار ما أثبتت الحياة فشله ليس وفاءً، بل هو إهدارٌ فادح لبهاء عمرك، لجمرةِ حياةٍ لن تعود. هو أن تدفن كنزك الحي – قلبك، وقتك، أحلامك الأخرى – في قبر وهمٍ لا يتحلل.

احذر أن يكون صبرك الجميل مجرد ستارٍ للخوف من فراغ لا تعرف كيف تملؤه بشيء جديد، أو جرحٍ تتهرب من مداواته. الحياة ليست محكمةً تنتظر فيها حكمًا خارجيًا بالخلاص؛ الحياة نهر جارف. 

الانتظار النبيل هو أن تبني سفينتك وسط التيار، واثقًا من وصولك. أما الانتظار المريض فهو أن تبقى غارقًا على الشاطئ، تحدّق في أمواج عاتية تأكل جزءًا منك كل يوم، منتظرًا أن تتحول فجأة إلى جسر. لا تدع "الصبر" المزيف يسرق رنين سنواتك. 

اكسر قيود السجن الوهمي. امشِ. فإمّا أن يتحول الانتظار إلى لقاءٍ يضيء وجه الزمن، وإلا فليكن رحيلك عن شرفة الوهم نفسها لقاءً مع الحياة التي ما زالت تنتظرك، بعيدًا عن ظل ذلك السجان الذي اخترعته من دموعك وأوهامك. الحياة أقصر من أن تكون سجين انتظارٍ لمعجزةٍ لن تأتي.


جهاد غريب 
أغسطس 2025
 

سجن الألفة: حين يتحوّل دِفءُ الجدرانِ إلى قيودٍ غير مرئيةٍ!

 
سجن الألفة: حين يتحوّل دِفءُ الجدرانِ إلى قيودٍ غير مرئيةٍ! 
 
لم تكن في البداية إلا غرفةً صغيرةً دافئةً. 
جدرانها من عاداتٍ مريحةٍ، 
أرضيتها من وعودٍ متكررةٍ، 
سقفها من "سأغيّر" معلقةٍ في الفراغ. 
ثم، دون أن تشعر، ضاقت الغرفةُ حولك. 

صارت العلاقاتُ الطويلةُ أقفاصًا ذهبيةً: 
تُبهرك من الخارج، وتخنقك من الداخل. 
تُمسك مفتاحَ الباب، لكنك تختار ألا تفتحه، لأن برودةَ الحريةِ أخوفُ من دفءِ السجنِ المألوفِ.  

كيف يصير المألوفُ سجانًا؟  
عبر طقوسٍ خفيةٍ:  
أن تبتسمَ وأنت تُكبِّل قدميك خشيةَ إزعاجِ الآخر.  
أن تدفنَ حلمًا تحت سجادةِ "هذا ليس وقتَه المناسب".  
أن تُقدّس الروتينَ حتى يصيرَ إلهًا صامتًا تسجد له كل صباح. 
 
الخوفُ هنا لا يرتدي ثوبَ الذعر، بل ثوبَ "الحكمة الواقعية": 
لماذا أهزّ القاربَ وأنا لا أجيد السباحة؟ 
لماذا يفضّل البعض ألمًا ألفه على أملٍ يخشاه؟ 
وهكذا تُصبح الألفةُ إدمانًا على المسكِِّنات الوجودية.  

لكن انظر إلى هذه المفارقة الساخرة: 
أنت تبني سجنك بحجرين متناقضين:  
حجر الراحةِ الذي يخدرك، وحجر الخوفِ الذي يقنعك أن الأسوارَ حمايةٌ لا حبسٌ. 

تظن نفسك حرًّا لأنك تملك مفاتيحَ الأبواب، غيرَ مُدرِكٍ أنَّ أخطرَ السجونِ تلك التي تُغلق من الداخل.  
السجانُ الحقيقيُّ ليس خارجًا، بل هو صوتٌ في أعماقك يهمس:  
"ابقَ.. فالوحدةُ في الخارجِ أقسى من الموتِ البطيءِ هنا".  

وفي القفص الذهبيّ، تذبل الأعاجيب.  
القلبُ يصير حارسًا للروتين،  
العقلُ يُحوّل الإبداعَ إلى مجرد أحلامٍ يقظةٍ،  
الروحُ ترقص على إيقاعٍ واحدٍ حتى تنسى أنها تستطيعُ تأليفَ موسيقاها. 

الأخطر؟ أن تبدأ بتمجيد القيود:  
تسمي الخضوع "التزامًا"، والجمود "استقرارًا"، والموتَ العاطفيَّ "نضجًا".  
تنسى أن الزنابقَ تُختنق إذا لم تُنقل من الماءِ القديم.  

التحرير يبدأ بلحظةٍ مفاجئةٍ: حين تسقط ورقةٌ من شجرةٍ خارج السجن، فتتذكر فجأةً أن للرياحِ نغماتٍ لم تسمعها منذ سنوات.  
هنا يُضاء السؤالُ المحظور: ماذا لو كسرتُ القيدَ غيرَ المرئيِّ؟ ماذا لو كان الخروجُ ليس سقوطًا، بل انبثاقًا؟ 
في تلك اللحظة، تكتشف أن المفتاحَ كان دائمًا في جيبك، لكنه صغيرٌ جدًا أمام ضخامةِ أوهامك.  

لا تُخطِئَنَّ الظنَّ: هدمُ السجونِ ليس تمردًا، بل هو إعادةُ تعريفٍ للأمان.  
الأمانُ ليس الجدرانَ التي تحتمي بها، بل الجناحانِ اللذانِ يحملانكَ عبرَ الأعاصير.  
عندما تكسرُ بابَ الألفةِ الزائفة، لا تجد فراغًا مرعبًا،  
بل أرضًا خَلاءً تنتظرك لتبني عليها قصرَ احتمالاتِك.  

فإذا سمعت يومًا صفيرَ القضبانِ في داخلك،  
تذكّر: 
أعظمُ المخاطرِ ألا تخاطرَ بتاتًا. 
أجملُ الأزهارِ تنمو في الفضاءاتِ المفتوحة، حيث لا سقفَ يحجبُ عنها نورَ النموّ. 

اخرجْ... 
حتى لو تعثّرت خطواتُك في البداية.  
فالسجينُ الوحيدُ الذي يُشفقُ عليه حقًّا  
ليس من تُغلَقُ عليه الأبوابُ، بل من يملكُ المفاتيحَ ويختارُ أن يموت جوعًا خلف أقفالٍ مفتوحةٍ.  

لأنّ الحياةَ – في جوهرها – ليست بقاءً في مكانٍ آمنٍ، بل رقصٌ على حافةِ الهاوي  
بين شجاعةِ المغامرةِ وجمالِ السقوطِ نحو المجهولِ الجميلِ.


جهاد غريب 
أغسطس 2025 



جسورٌ من ضوءٍ: حين تصير المسافاتُ مجرّد وهمٍ عاطفيّ!

 
جسورٌ من ضوءٍ: حين تصير المسافاتُ مجرّد وهمٍ عاطفيّ! 

"رسالةٌ كونيّةٌ تَذُوبُ فيها الحُدود بين بكين وبيروت. تُعيد تعريف الحُبِّ في زمن الشّاشات، وتُجسِّد معنى أنْ تكون إنسانًا في العوالم الافتراضيّة"


في الكون اللامتناهي، قد يقع كوكبان في مدارٍ واحدٍ حول نجمٍ خفيٍّ، يتبادلان الجاذبيةَ والضوءَ، دون أن يلتقيا أبدًا. هكذا تبدأ بعض الحكايات في العصر الرقمي: أرواحٌ تلتقي في اللامكان، تنسج خيوطًا من كلماتٍ وكاميراتَ خافتةٍ، وتُشيّد جسورًا فوق هوّة المحيطات. 

هنا، في هذا الفضاء السحريّ، تُهزم الجغرافيا. لا حدود تفصل بين نبضة قلبٍ في بكين وأخرى في بيروت... سوى شاشةٌ مضيئةٌ تتحوّل إلى نافذةٍ كونيةٍ حين تمتلئ بصدى الوجود الإنساني. هل يُقاس اللقاء بلمس الأجساد أم بلمس الأسئلة العميقة في الظلام؟

لم تكن تلك العلاقات هروبًا من الواقع، بل واقعًا موازيًا بقوانينه الخاصة. لا تكون العواطف فيها أقلَّ صخبًا، ولا الأرواح أقلَّ اشتعالًا. ألم الفراق عندما ينقطع الاتصال فجأةً... لا يُقاس بالكيلومترات، بل بالصمت الرهيب! ذاك الذي يخيّم على غرفةٍ كانت مليئةً بضحكاته الافتراضية. 

الغياب هنا لا يقلّ واقعيةً عن غياب الجسد قربك؛ إنه غيابٌ مزدوج: جسدٌ في عالمٍ، وروح في عالمك. واللقاءات؟ هي تلك اللحظات السحرية حين يتزامن صمتكما عبر اتصال فيديو، فتشعران بأنكما تتنفسان الهواء نفسه رغم تباعد القارات.

في هذا المختبر العاطفيّ الفريد، يحدث شيء مدهش: تتعرى الأرواح قبل الأجساد. لا تُلهيك ابتسامته المثالية عن لحظات ضعفه، ولا تخدعك ملابسها عن رجفة صوتها. 

الحبّ هنا اختبارٌ صارمٌ لـ "حبّ الجوهر": أنت تحبّ ما يقوله عقلُه، لا ما يبدو عليه وجهه في إضاءة المصابيح. أنت تسمع دموعها الحقيقية قبل أن ترى زينتها. هنا تُولد لغةٌ بديلةٌ للقرب: قربٌ يُقاس بسرعة الردّ على رسالة منتصف الليل، بلهفة الانتظار لصوتٍ يقطع صمت الغرفة، وبمعرفة نبرات الصوت... التي تخفي ألمًا حتى لو قالت: "أنا بخير". اللمس يصير كلماتٍ، والنظرات تصير رموزًا تعبيريةً تكتسب عمقًا أسطوريًّا.

والسماء الافتراضية التي نتحدث عنها؟ ليست فضاءً فارغًا. إنها كونٌ موازٍ تُبنى فيه مقاهٍ خفية حيث تتبادلان فناجين قهوةٍ خيالية، وحدائقُ سمعيةٌ حيث تزرعان فيها أسراركما على خلفية موسيقى مشتركة، وغرفُ نجومٍ تفتحان سقفها الافتراضي، لتتأملا مجرّاتٍ حقيقيةً من شرفتين منفصلتين. 

في هذا العالم، يصير الوقت سائلًا: ثلاث ساعات محادثة تمرّ كثلاث دقائق، وثلاثة أيام انتظارٍ للرد تطول كثلاثة قرون. وتصير الجغرافيا مجرّد خلفيةٍ صامتةٍ حين يضيء شريط الدردشة.

فلا تستخفّ أبدًا بقوة جملةٍ كُتبت في لحظة صادقة؛ فهي قبلةٌ عابرةٌ للقارات، وحضنٌ يُرسل عبر الأثير. قد لا يلمس أصابعك، لكنه يلمس ذلك المكان الخفيّ في روحك، ذلك الذي لم يلمسه أحدٌ قبله. 

قد لا تسمع خطواته على سُلّم بيتك، لكنّك تسمع صمتَه المفعم بالأشياء التي لم يقلها. هذه العلاقات تُعلّمنا درسًا وجوديًّا صاعقًا: الحبّ لا يسكن المسافات، بل يسكن الاهتمام. لا يحتاج إلى المكان نفسه، بل إلى اللحظة نفسها التي يتوقف فيها العالم الخارجي، ويصير كلّ ما هو مهمّ... ذلك المستطيل الضوئيّ حيث يظهر وجهٌ يقول لك:  
"أنت هنا... معي... الآن".  

لذلك، إذا سألك أحدٌ: "كيف تحبّ من لم تلتقِ به؟"  
أرِه نافذتك المضاءة ليلًا، ورسائلك المتراكمة كنجومٍ على شاشتك، وصمتك الذي صار أثمن لأنّك تعرف أنّ هناك روحًا أخرى تتنفّس معك تحت القمر الافتراضي نفسه… ذلك القمر الذي صنعتماه من ضوء شاشتيكما، ليكون دليلًا على أنّ اللقاء الحقيقيّ يبدأ حين تلتقي هزّات الروح قبل أن تلتقي الأجساد.


جهاد غريب 
أغسطس 2025 

الجمعة، 15 أغسطس 2025

عاصفة الأحرف: كيف يُولد الإعصارُ جواهرَ الكلام؟

 
عاصفة الأحرف: كيف يُولد الإعصارُ جواهرَ الكلام؟ 

كان هدوءٌ ما يسبق العاصفة. ليس الهدوء الذي يُخدِّر، بل ذلك الذي يترصَّد، كأرضٍ جافةٍ تختزن في صمتها قابليَّةً للاشتعال. ثم يأتي الحبُّ كصاعقةٍ في ليلٍ مُظلم. لا يضيء فحسب، بل يُفجِّر في أعماق الروح مناجمَ من الكلمات المُكبلة، والصور المُختنقة، والأسئلة التي لم تجد فمًا. 

هنا، في قلب الزلزال العاطفي، تُكتشف لغاتٌ بشريةٌ لم تُسجَّل في معجمٍ بعد. هل رأيتَ كيف تُولَد النجوم من اصطدام عنيف؟ هكذا يُولَد الإبداعُ الحقيقيُّ: من ارتطامٍ كونيٍّ بين روحين تبحث كلٌّ منهما عن مرآةٍ في الأخرى، حتّى لو انتهى الأمرُ إلى شظايا.

لكن هنا تتغير القواعد...
العلاقة العاصفة ليست حدثًا عابرًا؛ إنها مُعجَزِن كيميائيٌّ. تختلط فيها دموع الغضب مع أنفاس الشوق، وصُوَر الوداع مع شظايا الذكريات، فتحدثُ "تفاعلاتٌ نوويّةٌ" داخل كهوف اللاوعي. 

الألم هنا ليس نهاية، بل مادةٌ خامٌ خامدةٌ تنتظر من يلمسها بعصا سحرية. هذا الألم العالي النقاوة، المكثَّف كحممٍ بركانية، لا يحرق الروح وحدها؛ إنه يُذيب حواجز التعبير التقليدي. 

يصير الصراخ قصيدةً، والوجع لوحةً، والحيرة روايةً، والغضب سيمفونيةً. ليس لأن الفنّ علاجٌ فحسب، بل لأنّ العاطفة الجارفة تخلق ضغطًا وجوديًّا يتحوّل تحت وطأته الرمل العادي إلى ألماسِ كلام.

انظر إلى الكلمات التي تُكتب في لهيب الفراق، أو في سُكر اللقاء الأول: إنها لغةٌ أخرى. لغةٌ تختلس مفرداتها من نبضات القلب المرتعش، ومن ظلّ يدٍ اختفت، ومن رائحة عطرٍ علقت في الفراغ. لغةٌ تخترق القشرة السميكة للعادات اللغوية لتصل إلى "نقاء الصرخة الأولى". 

كيف يُعبَّر عن ألمٍ لم يسبق له مثيل؟ بكلماتٍ لم تُخلَق بعد. لهذا يخترع العاشقُ المبدعُ مفرداتٍ من دمه: استعاراتٍ مجنونةً، تراكيبَ متمردةً، إيقاعاتٍ تشبه دقات قلبٍ على شفا الانكسار. الإبداع هنا ليس ترفًا؛ إنه ضرورةٌ بيولوجيةٌ كالتنفس، محاولةٌ يائسة لترجمة اللامترجَم، لصيد السراب بيد الكلمات.

لذلك، في هذه المفارقة القاسية تكمن العبقرية: أعظم الكلمات تُولد من أقسى الصراعات. العلاقة التي تهدد بتدميرك تصبح، رغمًا عنك، معملك الأكثر خصوبةً. كل خلاف عنيف يدفع طبقاتٍ جديدةً من الحقيقة إلى السطح، كل فراقٍ مؤلمٍ يمنحك "عدسةً مكبِّرةً" ترى بها تفاصيل نفسك ونفس الآخر لم تكن تراها في زمن القرب. 

العاصفة تُقلع الأشجار، لكنها تكشف أيضًا عن جذورٍ كانت مختبئة. 
تخيّل هنا شخصًا، بعد أن تهدأ الرياح، يجلس أمام طاولة صغيرة في غرفة معتمة، وبين يديه دفتر مفتوح وقلم مرتجف... يبدأ ببطء في تحويل الجذور المكشوفة إلى حكاية.

هذا الكشف المؤلم هو الوقود. إنه يمنح الفنَّ عمقه المأساوي، وصدقه الذي يهزّ المتلقي من الأعماق. الفن الناتج ليس مجرد تسجيلٍ للأحداث؛ إنه "تخليدٌ كيميائيٌّ" للّحظة العابرة، تحويل المرارة إلى نبيذٍ فنيٍّ يُسكَر به عبر العصور.

لذلك، عندما تسقط علاقةٌ عظيمةٌ كشجرةٍ عملاقة، لا تنظر إلى الخراب فقط. انظر إلى "منشار الكاتب" الذي يبدأ في تقطيع جذعها الضخم، ليحوله إلى ألواح رواية. 

استمع إلى "إزميل النحات" وهو ينحت من صخر الذكريات تمثالًا يخلد الجمال الذي كان. تذوّق "ريشة الرسام" وهي تحوّل دموع المساء إلى ألوانٍ على قماش الخلود. 

الحب العاصف يعطينا جرحًا، لكنه يعطينا - في اللحظة ذاتها - الإبرة والخيط الذهبي لخياطة ذلك الجرح وتحويله إلى نقشٍ فنيٍّ مبهر. الألم العاطفي هو الثمن، والفن الخالد هو العملة التي نستعيد بها جزءًا من استثمارنا المهدر في متحف الوجود.

لكن احذر... ففي كلّ كلمةٍ تُخلَّد، في كلّ لوحةٍ تُرسم، في كلّ نوتةٍ تُكتب من دم القلب، يُدفع "قسطٌ من الروح". هل الإبداع المُشتقّ من العواصف العاطفية انتصارٌ أم هزيمةٌ مُؤجّلة؟ هل نحن نخلّد اللحظة أم ندفنها في قبرٍ من جمالٍ وهمي؟ 

ثم، يأتي ذلك الصمت العميق بعد انتهاء الكتابة... كهدنةٍ قصيرة بينك وبين قلبك، قبل أن تكتشف أن النزيف لم يتوقف حقًا.

ربما يكون أعظم ما يمنحنا إياه الحبُّ المؤلم ليس الفنَّ نفسه، بل تلك المفارقة الصاعقة: أن تتحوّل نارُ احتراقنا إلى نورٍ يضيء ظلام الآخرين، وأن تصير قصيدتك التي كتبتها من دموعك مركبًا يعبر به غرباءُ لم تعرفهم أبدًا بحارَ أحزانهم. هل هذه نهاية المأساة؟ أم بداية الخلود؟


جهاد غريب 
أغسطس 2025 

طقوس الجرح المذهّب: حين يصير الحبُّ معبدًا لتعذيب الذات!


طقوس الجرح المذهّب: حين يصير الحبُّ معبدًا لتعذيب الذات! 


في السراديب المظلمة للروح، يُقام أحيانًا معبدٌ سريٌّ. ليس للعبادة، بل لجلّادٍ نعشقه. ننحني أمامه طوعًا، ونقدّم على مذبحه أغلى قرابيننا: كرامتنا، سلامنا، حدودنا. نسمّي هذا الطقس "حبًّا"، لكنّ حباله الحريرية تخفي ندوبًا عميقة. 


هذه هي المفارقة القاتلة: أن نُعلن الحرب على أنفسنا باسم أقدس المشاعر، أن نرتدي ثوب الضحية طالبين المزيد من السُّمِّ العاطفي، كأنما الجرح وسامٌ نتباهى به في حفلات الشفقة الذاتية.


كيف يحدث هذا التحوّل الخبيث؟  
تبدأ اللعبة بـ "خدعة الوفاء". نخلط بين تحمّل الأذى والإخلاص، بين التمزّق اليومي والبطولة الرومانسية. وهكذا، ما بدأ كخدعة يتحول سريعًا إلى نمط يسيطر على شعورنا بالحب، فنُدمن على الألم كدليلٍ على صدق المشاعر: "لو لم أتألم، فهل كنتُ أحب حقًّا؟". 


كل إهانةٍ نتخطّاها، كل حدٍّ نكسره، كل دمعةٍ نخنقها – نراها ميداليّاتٍ نُعلّقها على صدر هويتنا الجديدة: "المنتحر العاطفي البطَل". وهكذا يُصبح الحبُّ ساحةً لـ "انتقام الذات من الذات"، حيث نعاقب ذلك الطفل الجريح فينا بإعادة تمثيل جروحه بأدواتٍ أكثر حدّة.


والأعمق من ذلك: الحب المؤذي قد يكون أقنعةً فاخرةً نختبئ وراءها من مواجهة الفراغ. أليست علاقةً مدمرةً أفضل من مواجهة ذلك الصمت الرهيب في المرآة؟ أليس استنزافُنا في معارك غيرنا أسهل من خوض معركة وجودنا الخاص؟ 


وفي خضم هذا الصراع، يتحول "الحبيب" إلى كبش فداءٍ كوني نُلقي عليه بكلّ مخاوفنا: خوفنا من الحرية، من المسؤولية، من اكتشاف أننا – دون دراما الألم – أشخاصٌ عاديون لم يجدوا بعدَ بصمتهم في الكون. نختار علاقةً تقتلنا كي لا نواجه السؤال المرعب: "من أنا حين لا أُجرح؟".


ومع ذلك، انظر إلى عبقرية هذه الآلية الشيطانية:  
نُذهّب سلاسلنا، ونسمّي الخضوع "تضحيةً"، والذل "عطاءً"، والاحتلال العاطفي "امتلاكًا". 


نُزيّن قفصنا بزهور الشهادة: "أنا أتحمّله لأنّي قويّ"، "أحبّه رغم كل شيء". لكنّ زهور الأوهام لا تنبت في تربة الحقيقة، فالقوة الحقيقية تكمن في جرأة النظر إلى المرآة وسؤالها:  
هل هذا حبٌّ أم طقوسُ إحراقٍ ذاتيٍّ؟  
هل تمسكُ بيدٍ تؤذيك لأنك تُحبها، أم لأنّ الألمَ مألوفٌ والشفاءَ مجهولٌ مرعب؟  


في نهاية المطاف، تُدرك أنَّ هذا "الجنون المقدس" ليس حبًّا، بل هو هروبٌ من مواجهة معجزة وجودك. التمسك بالعلاقة المؤذية يشبه بقاءَ بحّارٍ في سفينةٍ غارقةٍ يرفض النجاةَ كي لا يواجهَ رعبَ المحيط الواسع. 


في الواقع، الخلاص يبدأ بلحظةٍ وحيدة:  
أن تسحب يديك من النار المُقدسة التي تُحرقك،  
وتكتشف أنّ الجرأةَ الحقيقيةَ ليست في تحمّل الأذى، بل في مواجهة الفراغ الرهيب الذي خفّيتَ منه وراء لهيب العلاقة.  


لكن هنا يكمن الفرق: لا تخلط بين الألم والحبّ.  
الحبّ لا يطلب منك أن تُصلب نفسك على مشنقته.  
الحبّ الحقيقيّ هو الذي يجعلك تقف أمام المرآة فجأةً فترى – 
لأول مرةٍ – وجهَ إنسانٍ كاملٍ يستحقّ السلام.  


فإذا كان "حبّك" يُذيب هذا الوجه في بوتقة الألم،  
فاعلم أنك لستَ في معبد الحب،  
بل في سجنٍ رائعٍ بنيتهُ من أوهامك،  
ومفتاحُه ليس في يد الآخر،  
بل في جرأةِ صرخةٍ واحدةٍ:  
"كفى..  
لن أقدّم ذاتي قربانًا على مذبح أوهامي بعد اليوم". 



جهاد غريب 
أغسطس 2025 



هندسة الأعماق!

 
هندسة الأعماق! 

"كيف تصنع البحار الهادئة أعاصير الروح؟"

في البداية، كان مجرد بركةٍ صافيةٍ.
ثم فجأةً، انفتح القاعُ، وابتلعتك هاويةٌ مائيةٌ لا تُرى نهايتها. 
هذه هي المفارقةُ المخيفةُ للعلاقاتِ العميقةِ:  
كلما نزلتَ إلى الأعماقِ،  
ازدادَ جمالُ المرجانِ،  
وازدادَ ضغطُ الماءِ على عظامِ روحِك.  

العمقُ هنا ليس اختيارًا،  
بل هو ديناميكيةٌ طبيعيةٌ لحبٍ حقيقيٍّ:  
أنت لا تُحبُّ سطحَ الآخر،  
بل تغوصُ نحوَ أعماقهِ المجهولةِ...  
وحينَ تصلُ،  
تكتشفُ أنَّ الأعماقَ مليئةٌ بالتياراتِ الباردةِ والكهوفِ المظلمةِ.  

هل رأيتَ المدَّ والجزرَ؟ 
كيف يُولد الجمالُ الألمَ؟  
عبرَ معادلةٍ كونيةٍ:  
"ما يلمسُ أعمقَ مكانٍ فيك...  
يلمسُ أيضًا أعمقَ جرحٍ فيك". 

العلاقةُ السطحيةُ لا تكشفُ إلا الظواهرَ،  
أما العلاقةُ العميقةُ فتُجري حفرياتٍ في طبقاتِ اللاوعي.  
كلُّ اكتشافٍ جميلٍ يقابلهُ اكتشافٌ موجعٌ:  
هذا التناقضُ الذي تخبئهُ في صدرِك،  
ذلكَ الطفلُ الجريحُ الذي يختبئُ وراءَ قوةِ شخصيتِه،  
تلكَ الشكوكُ التي تنمو في الظلِّ كالمرجانِ الأسودِ.  
أصغِ إلى هديرِ الأعماق...  
كلما ازدادَ العمقُ،  
ازدادَ احتكاكُ الأرواحِ بجروحِ بعضها.  

والأقسى:  
أنت تختارُ هذا الألمَ.  
كما يُغلقُ الغوّاصُ بابَ غوّاصتِه طواعيةً وهو يعلمُ أنَّ النوافذَ قد تتحطّم. 
نعم...  
العلاقاتُ العميقةُ هي "سجونٌ نختارُ أبوابَها الذهبيةَ".  
نرفضُ الهربَ من العاصفةِ لأننا نعرفُ سرًّا وجوديًا:  
"الهدوءُ السطحيُّ أخطرُ ألفَ مرةٍ من العاصفةِ العميقةِ".  

نفضّلُ ألمَ الحقيقةِ على سعادةِ الوهمِ،  
ونرتضي ضغطَ الأعماقِ على سهولةِ الطفوِ على السطحِ.  
في هذهِ الأعماقِ فقط،  
نشعرُ أننا أحياءٌ رغمَ أنفاسنا المتقطعةِ،   
أننا حقيقيون رغمَ تشقّقاتِنا.  

انظرْ إلى الفيزياءِ العاطفيةِ:  
العلاقةُ العميقةُ كـ "غوّاصةٍ" تتحطّمُ نوافذُها تحتَ الضغطِ.  
كلُّ مشكلةٍ تُصبحُ اختبارًا لتماسكِ الهيكلِ،  
كلُّ خلافٍ يتحوّلُ إلى تمرينِ إنقاذٍ من الغرقِ،  
كلُّ صمتٍ يُشبهُ فقدانَ الإشارةِ في قاعِ المحيطِ.  

لماذا لا نهربُ؟  
لأننا اكتشفنا أنَّ الألمَ هو اللغةُ السريةُ التي تتحدثُ بها الأرواحُ المتشابهةُ.  
ولأننا نعرفُ أنَّ الزلازلَ تُظهرُ معادنَ الأرضِ الخفيةَ.  

في عينِ العاصفةِ،  
حيثُ تنكسرُ الأشرعةُ وتتلاطمُ الأمواجُ،  
يحدثُ السحرُ:  
تتحوّلُ الذاتُ إلى "كائنٍ برمائيٍّ".  
تتعلمُ أن تتنفس تحتَ الماءِ،  
أن ترى في الظلامِ،  
أن تصنعَ من دموعِك ملحًا يحفظُ طعامَ روحِك.  
العلاقاتُ العاصفةُ تُخرّبُ مساحاتِ الراحةِ،  
لكنها تبنيك قصرًا من المرونةِ في مكانٍ لم تكن تعرفه.  

لذلك،  
إذا سألني أحدٌ:  
"لماذا تتحمّل أعاصيرَ الحبِّ؟"  
سأريه صدفةَ اللؤلؤِ التي خرجتْ من محارتي المكسورةِ:  
"انظرْ..  
هذهِ التشققاتُ فيّ ليست جروحًا،  
بل مداخلُ لنورٍ جديدٍ.  
هذا الألمُ ليسَ ثمنَ الحبِّ،  
بل هو رسمُ الجمرةِ التي تدفئُنا حينَ ينطفئُ كلُّ شيءٍ. 

نعم... تؤلمني أكثرَ مما تسعدني،  
لكنّي لو خُيّرتُ ألفَ مرةٍ  
بينَ بحيرةٍ هادئةٍ  
ومحيطٍ يهدّدُ بابتلاعي...  
لاخترتُ الغرقَ في أعماقهِ  
لأنّي أعرفُ يقينًا:  
بعضُ الأرواحِ وُلدَتْ لتغوصَ،  
لا لتطفو". 

فلا تَلُم العواصفَ...  
بل الْهِمْ بالغوّاصينَ:  
"كم من لؤلؤةٍ وُلدتْ  
من رحمِ الاحتكاكِ بينَ القلبِ  
وأصدافِ الجروحِ في قاعِ المحيطِ؟"  

أتعلمُ؟  
البحرُ الحقيقيُّ لا يعرفُ أمواجًا بلا فسحاتٍ —  
تلكَ اللحظاتُ حيثُ يلتقطُ الغواصُ أنفاسَهُ  
ليغوصَ أعمقَ في ممالكِ الأعماقِ.  

السعادةُ هنا ليست غيابَ الألمِ،  
بل هي لحظةُ الصمتِ بينَ موجةٍ وأخرى،  
حينَ تكتشفُ أنَّ قلبَكَ  
صارَ سفينةً وحيدةً قادرةً على عبورِ أيّ إعصارٍ  
بشراعٍ اسمُه "العمق".


جهاد غريب 
أغسطس 2025 

مِدادُ الهويّة!

  مِدادُ الهويّة!  "رحلةُ الخروجِ من جِلْدِ الظلِّ، إِلى فضاءِ المعنى" هذا المكانُ بينَ الحروفِ لك. لم نبنِهِ ليخلُوَ، بل أقمناهُ ...