الرفيقة الصامتة التي لا تغادر!
كانت تجلس على المقعد المقابل، كما لو أنها تعرفني منذ سنوات طويلة، أكثر مما أتذكر أنا نفسي؛ بثوب رمادي، ثقيل كالضباب الذي لا يعرف الزمن، يغلفه صمت عتيق، وصوتها ناعم كالهمس الأول، لأول قطرة مطر تهبط على سقف متصدّع في شتاء جديد، يحمل في طياته وعدًا لم يولد بعدْ.
لم أكن قد دعوتها، ولم أرَ في عينيها أثر دعوة، لكنها جاءت بلا استئذان، مثل ضيف غامض يطرق باب الروح دون سابق إنذارْ.
قالت بهدوء يتجاوز الكلامْ: سَمعتْ أنك تكتب كثيرًا… أخبرني، كيف تكتب كل هذه المقالات ولا تملّ من الورق الأبيضْ؟
ضحكتُ، ضحكة لا تصدر من مزحة أو نكتة، بل من ذلك السؤال الذي لطالما لفتَ انتباهي، كأنها كانت ترجمتْ لصدى داخلي دفينْ.
كنتُ أنا نفسي أتساءله، في كل مرة أواجه الصفحة البيضاء، سواء كانت ورقة حقيقية، أو شاشة تنتظر أن تبوحَ.
كانت أصابعي تلامس لوحة المفاتيح كما لو أنني أطلب من ذاكرة العالم أن تسكب لي كأسًا من الإلهام الذي لا ينضبُ، رغم خشونة السنين التي تعانق أوراقي البيضاءْ.
قلتُ لها وأنا أتطلع إلى الظل الذي لا يتبع خطواتها ولا يرسم ملامحها: لا أكتبُ لأنني أعرف، بل أكتبُ لأنني أريد أن أعرفْ.
أمالتْ رأسها قليلاً، تلك الحركة الصغيرة التي يقوم بها الغرباءْ!، حين يكتشفون أن ما بيننا من عوالم وأفكار ليس كما تصوّروا، وكأنهم يجدون فجأة أن المدى بين الحروف أوسع وأعمق مما اعتقدواْ.
همستْ، وكأنها تحاول أن تخترق الغموض الذي يلفّ حديثنا: قُلْ لي... هل لديك وصفةْ؟
نظرتُ إلى فنجان القهوة الداكن الذي لم أضع فيه سكرًا، ذلك السائل المرّ الذي لا يخفّف حلاوة الكلام، وتذكرتُ كيف بدأتُ الرحلة الأولى، عندما رأيتُ في نبرة عامل النظافة قصة تئن تحت ثقل الأيام، وفي مشادة طفلة صغيرة مع والدتها مشهداً يحبس أنفاس القلب، وفي تنهد امرأة تصعد المصعد، افتتاحية لصمتٍ عميق لم يُكتبْ بعدْ. ومن يومها بدأتُ أفتح أذني لا لما يُقال، بل لما يُخفى بين الكلماتْ.
قلتُ لها أخيرًا، كمن يقطف خلاصة أعوام في سطرٍ واحدٍ: أستمعُ للحياة، قلتُ، الحياةُ تتكلم، لكنها تهمس بصوتٍ خافتٍ. علينا فقط أن نخفضَ صوتَ ضجيجنا الداخلي لنسمعَ ما بين السطورْ.
وإن اختلطتْ الأفكارْ؟ سألتْ، عيناها تلاحقان حركات يدي المرتبكة التي كانت تحاول ترتيب فوضى الأحرف، كمن يلتقط أنفاس الهواء بين أمواج لا تهدأْ. وإن أصبحتْ كمن يحاول أن يقطف الضوء من بين الأمواج المتلاطمةْ؟
ابتسمتُ، وأجبتُ بصوت خافت، كما لو أنني أشاركها سرًا لا يخرج إلا مع نسيم المساء: أضعُ الفكرة في المنتصف، كأنني أرسمُ شمسًا صغيرة على ورقة طفل لا يعرف الخوف، ثم أتركُ لأذرعها أن تمتدَّ ببطء نحو كل الجهات، تتلامس مع الحياة بكل تفاصيلها، مع الذكرى التي تهدهدُ الذاكرة، مع الملاحظة التي تراقب بعينين مفتوحتين، مع سؤال قديم يحفرُ في الأعماق، أو مشهدٍ عابر يلمسُ القلبَ ببرودته أو دفئهْ.
أحيانًا أطرح أسئلة بلا أجوبة. أدوّنها في قوائم كما لو كنت أرسم خريطة طريق، وأحيانًا أتركها تستريح، تنام يومًا أو يومين، حتى تعود إليّ بنَفَس مختلف، وكأنها ولدت من جديد، أكثر نقاءً، أكثر عمقًا.
رفعتْ عينيها وابتسمتْ، كمن يستدعي ذكرى عزيزة عاشها ذات يوم، وقالت بصوتٍ ملؤه فضول رقيق: وتكتب كل يوم؟
أجبتُ وأنا أراقب ظلّها ينساب على الأرض وكأنه يحكي قصة لا تتبع شمسًا، ليس كل يوم، بل كل لحظة. أكتب وأنا أتكلم مع نفسي بصمت، وأكتب وأنا أراقب الغروب وهو يرسم من قلبي فكرة دافئة، تتلوّن بألوان الغروب الحمراء والبرتقالية. لا أنتظر الإلهام كما ينتظر العطشان المطر، بل أترك نافذتي مشرعة له، إن مرّ رحّبت به، وإن لم يأتِ، صنعت من طيفه ظلالًا تطاردني، وأكملت المسير على وقع خطواتي.
لوّحتْ بيدها في الهواء، كأنها تقاطعني بسرّ لم يكتملْ: وماذا عن المللْ؟ والشتاتْ؟ والأفكار التي تبدأ ولا تُكمل رسالتهاْ؟
تنهدتُ ببطء، كمن يحمل في صدره حكايات عن صراع خفي، وأجبتُ: في قلبي أكثر من مقالٍ واحدٍ. إن مللتُ من واحد، انتقلتُ إلى آخر، كأنني أتنقلُ بين غرف تحمل رائحة مختلفة. أحيانًا يكتبني المقال قبل أن أكتبه، يتسلل إليّ كما يفعل صوت المطر على نافذتي في ليلة هادئة. وأحيانًا نتصارع لأيام، نتبادل الأدوار بين من يكتبُ ومن يُكتب عنهُ. لا أقاتل، بل أتركُ له مساحة للنضج، وأعودُ له حين يطرقُ باب قلبي من جديد، كما يعودُ حبيبٌ قديم ليعتذر بعد غياب طويل.
كان صوتها يخفُّ كأنها ستغيبْ، لكن عينيها ظلتا شاخصتين إليّ، تسألان سؤالها الأخير قبل أن تتلاشى في ظلال المساء: لِمَ تفعل كل هذاْ؟ لِمَ كل هذا الجهدْ؟
نظرتُ إليها كما ينظر الكاتب إلى سطوره بعد أن يضعَ النقطة الأخيرة، تلك اللحظة التي تنسابُ فيها الكلمات إلى هدوء كامن في الروح، فقلتُ لها بهدوء وصدق: لأنني أحبُّ أن أسمع نفسي وأنا أفكر بصوتٍ جميلٍ، لأن الكتابة بالنسبة لي ليست مجرد كلمات تُسطر على ورق، بل هي نبضٌ يستيقظُ حين أنسجُ الحروف، وأشعر أنني حيّ، أنني أتركُ للحياة بصمةً من روحي لا تموت مع الوقت، لأن الكتابة لا تُعلَّم كما يُعلّمُ الجهل، بل تُسكنُ كروحٍ في جسد الكلمات. وكل من كتب ليقرأه غيره، يجب أن يكتب أولاً ليُشفى، ليُحررَ ألمه وأفراحه بين الأسطرْ.
ابتسمتْ برقة، ثم اختفتْ كما جاءتْ، دون أن تترك خلفها سوى صدى كلماتها التي ترنُّ في ذهني. وبقيتُ أنا وحدي أمام الورقة البيضاء، أكتبُ هذا المقال، وأنا أعلمُ يقينًا أن شخصًا ما سيقرأه يومًا، وسيظنُّ أنه حديث دار بينه وبين نفسه، لا بيني وبين امرأة غامضة لا اسم لها... سوى أنها تشبه الكتابة، تلك الرفيقة الصامتة التي لا تغادرْ!
تشبه تلك الفكرة التي تراودك عند الفجر، وتختبئ حين تفتحُ النور. تشبه الحنين الذي لا نعرف مصدره، لكنه يعبرنا كلما حاولنا أن نفهم أنفسنا بالحبرْ.
جهاد غريب
يونيو 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق