الثقة: قلب أغمض عينيه ونام بين يديك!
كانوا يقولون: "أثق بك"، وكأنها وردة تُمنح دون أشواك. لكنهم لا يعرفون أن هذه الكلمة لا تنمو في الحناجر كما تنمو الكلمات الأخرى… إنها لا تنبت إلا من جذرٍ ضاربٍ في الروح، ولا تُقال إلا حين يهتز القلب في صمته ويصرخ. الثقة؟ إنها ليست حروفًا نُطلقها كما نُطلق السلام على الغرباء، ولا هي مجاملة تُزهر في موائد المجاملات... إنها ميثاق غير مكتوب، عقد لا تراه العين لكنك تحمله في صدرك كصندوق أسرار، إن انكسر مرة، لا يعود كما كان.
الثقة ليست حبًا، ولا تمنِّيًا للخير، ولا حتى دفئًا عابرًا في ليلة برد… كثيرون يظنون أن من يثق بك يحبك، وأن من يقول: "أنا أثق بك" يتمنى لك الغد الأجمل. يا لسذاجة هذا التصور!
الثقة ليست حبًا، بل نُبل. قد أضع روحي بين يديك دون أن أودّك، فقط لأنني أراك جديرًا بها، وقد أُحبك حبًا يتعدى الجبال والبحار، ولا أستأمنك على سرٍّ صغير، لأن قلبي يعرف ما لا يقوله اللسان.
الحب غريزة، قد يولد من لحظة دهشة، أو نظرة صامتة، أما الثقة… فهي قرار شجاع، لا يصنعه القلب وحده، بل يوقّعه الضمير والعقل معًا، وتدفع ثمنه من هدوئك وأمانك، فإن خُذلتَ، لا يعود شيء كما كان… حتى نفسك.
الثقة لا تُفهم بالعقل وحده، بل تُرى في أبسط المشاهد اليومية، تخيّل طفلًا صغيرًا يمسك بإصبع والده عند عبور شارعٍ مزدحم… تلك الأصابع الصغيرة لا تمسك بيدٍ فقط، بل تتمسك بعالمٍ كامل من الأمان. هذا ليس حبًا، بل يقين داخلي صامت أن هذه اليد، وإن انقلبت الأرض، لن تفلته… حتى لو مرّت عليه الجحيم بكل صخبها.
هذه هي الثقة: إيمان أعمى لا يحتاج إلى براهين، يرى ما لا تراه العين، ويشعر بما لا يُقال… إنها الطمأنينة التي تسكن القلب حين يختار أن يغمض عينيه، لا لأنه لا يخاف، بل لأنه يعلم أن هناك من سيبصر بالنيابة عنه.
لكن، كما تُمنح الثقة بصمتٍ نقي، فإن خيبتها تأتي بصوت لا يسمعه إلا القلب، وتفاصيلها لا تُرى، بل تُحس… ومن هنا تبدأ الحكاية المؤلمة.
ولأنها كذلك، فإن جرح الثقة لا يُشفى بمرهم الاعتذارات، ولا بعبارات الندم المتأخرة. إنه كسرٌ لا يُجبر، ككوب ماء سقيناه أحدهم ثم رماه أرضًا وهو ينظر في أعيننا دون أن يطرف له جفن. الثقة لا تتآكل من الخارج، بل تنهار فجأة، مثل جدار كنت تسنده بروحك دون أن تدري أنه ينهار من الداخل.
الثقة ركيزة العلاقات، لا صوت لها ولكنها تُسمع في صمت التفاصيل. أن تُصدق من أمامك دون أن تفتش في كلماته، أن تمد يدك بالسلام دون أن تتفقد أصابع الخيانة، أن تضع رأسك على وسادتك وأنت تعلم أن ظهرك محميٌّ ليس بسلاح، بل بضمير آخر يؤمن بك.
لكن الثقة ليست دائمًا ثمرة مواقف عظيمة، أو قرارات مصيرية… أحيانًا تنبت بهدوء وسط تفاصيل الحياة اليومية، حيث يختلط الأمان بالألفة، وتخدعنا العادة بملامح الطمأنينة.
ولعل أكثر ما يُنهك الثقة، هو الاعتياد، أن نثق في الجيران لأننا نراهم كل صباح، أو في البائع لأننا نشتري منه منذ سنوات، أو في الزملاء لأن وجوههم تتكرر حتى صارت مألوفة… لكن الألفة لا تعني الثقة. أحيانًا، أخطر الخناجر تلك التي تأتي من الأوجه المألوفة.
الثقة أيضًا ليست مجرد شعور ذاتي، بل جسر ممتدّ بين الذات والآخر. أن أثق بنفسي لا يعني أني أملك الإجابات كلها، بل أني أعرف كيف أتعامل مع الأسئلة. أن أقول “أنا أستطيع”، حتى لو لم أمتلك الطريق بعد، لأن في داخلي جبلًا لا يهتز… جبلاً من التجارب والخذلان والانتصارات الصغيرة التي علمتني كيف أواجه.
كم مرة خذلتنا الثقة؟ كم مرة حملناها على أكتافنا كالطفل النائم، نغني لها بصمت، ونحرسها من برد الشك، حتى استيقظت فجأة، وأدارت لنا ظهرها دون وداع؟ كم مرة سقطت من بين أيدينا كما يسقط قلب في لحظة ذهول، لا لأننا أضعناها، بل لأنها اختارت أن تذهب؟
وكم مرة أنقذتنا؟ حين وثقنا بمن يستحق، وفتحنا له بوابات أرواحنا، فدخل كما يدخل المطر بيتًا من زجاج دون أن يكسره… مرّ على الذاكرة برفق، وعلى الوجع بخفة، وعلى الكبرياء بلا خَدش.
الثقة لا تُمنح دائمًا، لكنها حين تُصيب، تمنح الحياة طعمًا آخر، وتخلق فينا قدرة على التنفس دون حذر، كأن القلب يفتح نافذته دون أن يخاف الريح، لأن الذي بالخارج… لا يهدد، بل يحنو.
في أقاصي قرى الصين القديمة، يقولون: "إن أعطيتني ثقتك، أعطيتني حياتك". نعم، فالثقة ليست شيئًا من العالم العابر… إنها عُمْق، وقرار، ورؤية لا تنظر بالعين فقط، بل بالبصيرة. وإن كان فيك ذرة من الشك، فلا تقل “أثق بك”، لأن هذه الجملة ليست قابلة للتجربة. إما أن تقولها بكلك، أو تصمت.
أذكر موقفًا ما يزال يحفر أخدودًا في ذاكرتي، حين قال أحدهم: "أنا أثق بك"، فابتسمت وقلت: "أشكرك"، ولم يعلم أنه قد سلمني سلاحًا يمكن أن يحسم المعركة… أو يحطم الحلم!، لكنه آمن، وأنا صنت. ومنذ ذلك اليوم، عرفت أن الثقة ليست شيئًا نمنحه، بل مسؤولية نحملها… أمانة، نُحاسب عليها في صمت ضميرنا.
هي ليست جملة تُقال، بل عهد غير مكتوب، كأنها شجرة تسلّمك جذورها... لا لتسقيها فحسب، بل لتحميها من الريح، ومن العطش والفأس. وحين تثق بك روحٌ أخرى، فإنها تخلع عنها درعها، وتنام قربك دون خوف، كعصفورٍ وضع رأسه في راحة يدك، وصدّق أن قبضتك لن تُطبق عليه.
ذلك التصديق… هو جوهر الثقة، لا يُشترى، ولا يُستعار، بل يُنتزع انتزاعًا من تربة القلب، ويُروى بالصدق، وينمو بالصبر، ويموت إن لم يُحمَ من الظنّ والخذلان.
وأنتم الذين خذلتم الثقة، لا تدعوها تتساقط من أيديكم كما يتساقط الندى عن ورقة غصن في مهبّ الريح. لا تلهوا بها كما تلهو الرياح بأوراق الخريف، ظانّين أنكم قادرون على إعادتها إلى الشجرة بعد أن غادرتها. فالثقة إذا غابت، لا تعود كما كانت، وإن عادت، تعود بنقصٍ لا تداويه الكلمات الطيّبة، ولا ترمّمه الاعتذارات الندية. إنها مثل جدول ماءٍ رقراق غيّره الحجر، يظل يجري… لكن صوته يتغير، ونقاءه يشوبه شيءٌ لا يُرى… بل يُحسّ.
لا تطلب من أحد أن يثق بك إن لم تكن مستعدًا أن تُصبح مرآته حين يضع وجهه بين يديك. ولا تمنح ثقتك إلا إن كنت تملك القدرة على احتمال ما بعد الخذلان، فالثقة لا تُمنح إلا لمن أثبت أنه يعرف ثمنها… ويخشاه.
لا تُبنَى العلاقات على المجاملة، ولا تُزرَع الثقة في أرضٍ لم تُحرث بالصدق. لا توزّعوا "أثق بك" كما تُوزَّع الابتسامات العابرة على وجوه لا نعرف ما تخبئه. دعوا هذه الجملة تحتفظ بهيبتها، اجعلوها ملحمة تُولد فقط حين ترتجف الأصابع، وحين تهدأ العواصف في صدوركم، لا حين يُملى عليكم أن تقولوا شيئًا. لتكن "أثق بك" قرارًا من نور، لا يُقال إلا حين تضيء الروح من الداخل، وتوقن أن هذا القول، ليس فقط وعدًا… بل عهد لا يُنكث.
الثقة… ليست كلمة!، إنها وطن؛ ومن يخون الأوطان، لا يُسامَح؛ فالثقة، حين تصير وطنًا، يصير الخذلان منفى!، وليس في المنفى دفءٌ… ولا عودة لمن فقد بوصلته.
جهاد غريب
يونيو 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق