مَرْثِيَّةُ القَلْبِ المِنْسَابِ!
فِي كُلِّ قَلْبٍ يُنْزِفُ حُبًّا كَنَهْرٍ جَرِيحٍ،
وَعَيْنٍ تَحْمِلُ أَسْرَارَ الْكَوْنِ فِي قَرْحَتِهَا،
تَنْطَوِي حَكَايَاتُنَا بَيْنَ:
صَرْخَةِ الْفَرَحِ وَهَمْسَةِ الْأَلَمِ...
نَكْتُبُ بِأَحْرُفِ الْوَجْعِ وَثِيقَةً لَمْ يُوَقِّعْهَا الزَّمَنُ بَعْدُ،
وَنُخَبِّئُ تَحْتَ جُلُودِنَا أَعَاصِيرَ صَمْتٍ تَهُزُّ عُرُوشَ الْأَسْمَاءِ!
هُنَا...
حَيْثُ تَلْتَقِي الدَّمْعَةُ بِالْكَلِمَةِ فِي مَهْبِطِ الْغُيُوبِ،
وَيُعَانِقُ الْجُرْحُ الذِّكْرَيَاتِ كَأُمٍّ حَزِينَةٍ،
أَمُدُّ لَكِ هَذِهِ السُّطُورَ:
مِرْآةً تَكْشِفُ أَعْمَاقَ وَجَعِكِ،
وَقِنْدِيلًا يَحْمِلُ نَارَ الْعَوْدَةِ إِلَى ذَاتِكِ الْبَكَّائَةِ...
هَلْ نَشُقُّ مَعًا طَرِيقَ الْمَأْسَاةِ الْجَمِيلَةِ؟
وَنَصْرُخُ فِي وَجْهِ الْعَالَمِ:
نَحْنُ ـ رَغْمَ انْكِسَارِ السُّمُوِّ ـ
مَا زِلْنَا نُحِبُّ بِجُرْحٍ مَفْتُوحٍ،
وَنَحْلُمُ بِأَجْنِحَةٍ مُكَسَّرَةٍ!
(1)
أَنْتِ...
تِلْكَ الْهَائِمَةُ فِي صَحَارَى الْحُلْمِ...
تَنْثُرِينَ أَحْلَامَكِ حَبَّاتِ مَطَرٍ عَلَى صَحْرَاءِ الوَاقِعِ،
فَيَنْبُتُ مِنْهَا وَرْدٌ وَأَسَى...
كُلَّمَا انْهَمَرَتْ دُمُوعُ السَّمَاءِ عَلَى خَدَّيْكِ،
تَتَجَلَّى آلامُكِ كَسَرَابٍ يَتَهَادَى بَيْنَ المَاضِي وَالمُحَالِ...
فِي حَرْفٍ مِنْ حُرُوفِكِ،
أَرَى قَلْبِي يُرَاوِحُ بَيْنَ ثِقَلِ الأَيَّامِ وَخِفَّةِ الأَمَلِ،
وَعَالَمًا يَسْخَرُ مِنْ صِدْقِنَا:
أَتُرَاكِ تُنْسِجِينَ العُشْبَ مِنْ ضَبَابٍ؟!
(2)
أَنْتِ..
العَاشِقَةُ الحَالِمَةُ،
تَحْمِلِينَ فِي جَوَانِحِكِ:
جِرَاحًا تَتَنَفَّسُ أَسْمَاءَ الغَائِبِينَ،
وَذِكْرَيَاتٍ تَسْحَقُ عِظَامَ الرُّوحِ كَالرَّحَى...
كُلَّمَا لَمَعَتْ عَيْنَاكِ فِي اللَّيْلِ،
يَنْكَسِرُ صَمْتُ الْكَوْنِ...
فَأَسْمَعُ قَلْبَكِ يُنَادِي:
هَلْ مِنْ مَنْجَاةٍ؟!
كَأَنَّ الْمَوْتَ - يَا سُكْنَى الدُّجَى -
يَبْنِي فِي أَعْمَاقِكِ قَصْرًا مِنْ سُيُوفٍ!
يَا لَغُبَارِ الْقَدَرِ الْخَائِنِ!
كَمْ أَلْقَى بِأَحْلَامِنَا فِي جُبٍّ...
وَكَأَنَّمَا نَحْنُ حُبَّاتُ رِمَالٍ تَتَسَاقَطُ فِي طَوَاحِينِ الوَهْمِ!
(3)
يَا ابْنَةَ الْعَاطِفَةِ الْجَرِيحَةِ!
أَنْتِ تُعَانِقِينَ نَبْضًا تَلاشَى فِي الرِّيحِ،
خَلَّفَ صَدًى يَدُقُّ فِي أَضْلَاعِكِ كَالرَّعْدِ...
فَرَاغٌ يَبْلَعُ الْجَمِيلَ كَالْوَحْشِ،
وَيَسْأَلُ: أَيْنَ الْوُجُودُ؟!
هَلْ تَسْتَطِيعِينَ نِسْيَانَ تِلْكَ الْأَحْلَامِ؟
أَمْ تَخْشِينَ أَنْ تَذُوبِي إِذَا فُكَّتِ الْقُيُودُ؟
نَحْنُ - يَا رَائِحَةَ الْوِتْرِ -
نَرْقُصُ عَلَى حَبْلٍ بَيْنَ:
صِدْقٍ يَخْنُقُنَا، وَوَهْمٍ يُغَطِّينَا بِدِثَارِ الْخَدَرِ...
وَنُجَابِهُ سُؤَالَ الْكَوْنِ الْأَعْظَمَ:
هَلْ يُخْفِقُ قَلْبٌ مَحْمُولٌ عَلَى أَعْصَابٍ مَشْدُودَةٍ؟!
(4)
وَفِي أَعْمَاقِ الحَيْرَةِ - يَا رَفِيقَةَ العُبُورِ -
اِسْأَلِي نَفْسَكِ: أَتَعْرِفِينَ مَنْ أَنْتِ؟
العَوَاطِفُ لَيْسَتْ جُرْحًا نَخْشَاهُ،
بَلْ هِيَ الْأَسَاسُ الَّذِي نَبْنِي عَلَيْهِ قُصُورَ أَنْفُسِنَا...
نَحْنُ لَا نَنْزِفُ دَمًا،
وإِنَّمَا نُنْتِجُ عَسَلًا مِنَ الْوَجَعِ!
فَكُلُّ قَطْرَةِ مَطَرٍ تَسْقُطُ عَلَى زُجَاجِ الْعَالَمِ،
تُذَكِّرُنَا:
أَنَّنَا نَرْسُمُ مَعَكِ لَوْحَةَ الْكَوْنِ الْبَائِسَةَ!
لَوْحَةٌ تَحْمِلُ فِي طَيَّاتِهَا:
أَسَاطِيرَ الْخَسَارَةِ،
وَأَسْرَارًا تَخْتَرِقُ حُدُودَ الْكَلامِ...
كَالسَّحَابِ الَّذِي يَحْمِلُ نَدًى وَشَرَارَةً مَكْنُونَةً!
(5)
فَلْتَكُـنْ أَحْزَانُنَا قَنَادِيلَ تَقْطُرُ نُورًا،
تُرَصِّعُ دُرُوبَ أَحْلَامِنَا الضَّالَّةِ بِبُذُورِ الْفَجْرِ...
وَلْنُبْقِ أَعْيُنَنَا صَاحِيَةً كَالنَّخْلَةِ فِي زَمَنِ الْجَدْبِ،
نَنْتَظِرُ الْبِدَايَةَ الَّتِي تَخْرُجُ مِنْ بَطْنِ الْيَأْسِ،
كَنَبْتَةٍ عَنِيدَةٍ تَنْبُتُ فِي شَقِّ الصَّخْرَةِ!
دَعِينَا نُعَانِقُ قُلُوبَنَا الْكَسِيرَةَ - يا رفيقةَ الرجفةِ النبيلةِ -
كَمَا تُعَانِقُ الْأَرْضُ رُفَاتَ الْبُذُورِ لِتَخْلِقَ مِنْهَا رَبِيعًا...
فَنَحْنُ لَسْنَا حِكَايَةً نَاقِصَةً،
وإِنَّمَا نَحْنُ فَصْلٌ مُؤَقَّتٌ فِي رِوَايَةِ الْأَبَدِ،
نَبْحَثُ عَنْ حُبٍّ يُشْبِهُ الْمَطَرَ:
يَغْسِلُ الْغُبَارَ،
وَيَحْمِلُنَا إِلَى شَاطِئِ الْأَمَلِ عَلَى ظَهْرِ أَمْوَاجِ الْدُّمُوعِ.
(6)
يَا زَهْرَةَ الْعُمْرِ الْهَارِبِ!
أَتَدْرِينَ كَيْفَ يَنْسُجُ التَّعَبُ سَجَّادَ الْحَيَاةِ؟
يَأْخُذُ خُيُوطًا مِنْ ظِلِّنَا،
وَحَبَّاتٍ مِنْ رَمَادِ أَحْلَامِنَا،
فَيَضْفُرُهَا بِأَصَابِعِ الْقَدَرِ الْعَمْيَاءِ...
هُوَ لَيْسَ عَاصِفَةً عَابِرَةً،
وإِنَّمَا هُوَ حَائِكٌ قَدِيمٌ يَخْطُطُ عَلَى نَوْلِ الزَّمَنِ:
بُسُطًا مِنَ الْحُزْنِ،
وَسُتْرَةً لِعُرْيِ الْوُجُودِ!
كُلُّ مَا فِي الْأَمْرِ:
أَنْتِ تَمْشِينَ عَلَى حَبْلٍ مَمْدُودٍ بَيْنَ:
جَبَلِ أَحْلَامِكِ وَوَادِي آلامِكِ،
وَالتَّارِيخُ - وَرَاءَكِ -
يَلْعَبُ نَرْدَ الْأَقْدَارِ بَيْنَ دَمْعَةٍ وَضَحْكَةٍ...
فَمَتَى تَعْبُرِينَ الْجِسْرَ؟
وَمَتَى نُدْرِكُ أَنَّ الْحَبْلَ نَفْسَهُ هُوَ الْخَطُّ الَّذِي يَرْسُمُ رَحْلَتَنَا؟
(7)
لَا تَطْرَحِي تِلْكَ اللَّحَظَاتِ
فِي سَلَّةِ النِّسْيَانِ، يَا نَجْمَتِي...
حِينَ تَنْكَسِرُ الأَسْمَاءُ وَتَذُوبُ الْخُرَائِطُ،
فَكُلُّ دَمْعَةٍ: مَرْكَبٌ فِضِّيٌّ يَحْمِلُ حِكَايَةً غَارِقَةً،
وَكُلُّ شَوْقٍ: غُصَّةٌ تَدُقُّ فِي حَنَاجِرِ الْوُجُودِ نَاقُوسًا!
أَتَرَيْنَ؟
النُّجُومُ تَسْقُطُ لِتَحْمِلَ أَمَانِيَّنَا إِلَى شَاطِئِ الْأَحْقَابِ...
كَأَنَّهَا رُسُلٌ تَخْطُو عَلَى جِسْرٍ مِنْ دُمُوعِ الْعُشَّاقِ...
يَا مَنْ تَحْمِلِينَ الظَّلَامَ فِي عَيْنَيْكِ مِصْبَاحًا:
الضِّيَاءُ يُولَدُ مِنْ رَحِمِ الْيَأْسِ،
وَالْجَمَالُ يَخْرُجُ مِنْ جُرْحِ التَّعَبِ كَالْعَنْقَاءِ!
وَإِذَا شَعَرْتِ بِالْإِعْيَاءِ،
فَاعْلَمِي:
أَنَّكِ تَنْسُجِينَ مِنْ دَمِكِ شَبَكَةً لِاصْطِيَادِ الْفَجْرِ.
(8)
اِلْجَئِي إِلَى قَلْبِكِ...
هُوَ الْكَهْفُ الَّذِي يَحْتَضِنُ أَسْطُورَةَ صَبَاحَاتِكِ الْبَاكِيَةِ!
اِتْرُكِي لِدَمْعِكِ أَنْ يَسْكُبَ نَهْرًا،
يَنْحَتُ فِي صَدْرِكِ وَادِيًا جَدِيدًا...
لِتَجْرُفَ الْآلَامَ كَأَوْرَاقِ خَرِيفٍ مَيِّتٍ!
اِذْهَبِي إِلَى مَكَانِكِ الْمُقَدَّسِ...
حَيْثُ تُغَطُّينَ الْهُمُومَ بِغِطَاءِ السَّمَاءِ،
وَتَنْسُجِينَ مِنَ الصَّمْتِ سِلْسِلَةً لِقَفَصِ الْأَوْهَامِ...
اُحْفَظِي هَذِهِ الْوَصِيَّةَ:
لَنْ تَغِيبَ شَمْسٌ إِلَّا وَوَرَاءَهَا فَجْرٌ يَدُبُّ فِي عُرُوقِ اللَّيْلِ،
وَكُلُّ كَرْبٍ: مَوْكِبٌ عَابِرٌ يَرْكَعُ أَمَامَ بَابِ الرَّحْمَةِ!
فَكُلُّ جَفْنٍ يُغْمَضُ: بَذْرَةٌ لِابْتِسَامَةٍ،
وَكُلُّ شِتَاءٍ: مِهْرَجَانٌ يُعِدُّ لِقَاءَكِ بِرَبِيعٍ يَخْرُجُ مِنْ قَبْرِ الْقَلْبِ.
(9)
هَلْ تُصَدِّقِينَ؟
أَحْيَانًا، يَحْمِلُ العَادِيُّ فِي طَوَايَاهُ:
خَرَائِطَ الْكُنُوزِ، وَمَفَاتِيحَ الْأَسْرَارِ!
كُلُّ حَجَرٍ تَدُوسِينَـهُ:
كِتَابٌ يُحَدِّثُكِ عَنْ أَزَلِ الْأَشْيَاءِ...
فَاكْشِفِي دُرُوسَ الْوُجُودِ...
كَمَا تَكْشِفُ الْأَرْضُ عَنْ بُذُورِهَا بَعْدَ الْمَطَرِ!
اِتْرُكِي الْحُزْنَ يَتَحَوَّلُ إِلَى نَدًى،
يُرَوِّي زُهُورَ الْفِكْرِ فِي حَدِيقَةِ رُوحِكِ...
وَانْظُرِي إِلَى الْعَالَمِ:
لَا بِعَيْنٍ جَدِيدَةٍ فَحَسْبُ،
بَلْ بِرُؤْيَةِ طِفْلٍ يَفْتَحُ عَيْنَيْهِ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ!
أَنْتِ...
لَيْسَتْ جَمَالًا يَتَجَاوَزُ الْخَيَالَ،
وَلَا قُوَّةً تُحَطِّمُ الْعَوَاصِفَ...
أَنْتِ الْمَعْنَى الَّذِي يَفُوقُ الْوَصْفَ!
مِحَنُكِ لَمْ تَنْسُجْ حِكَايَتَكِ...
بَلْ حَوَّلَتْكِ إِلَى نُسْخَةٍ نَادِرَةٍ مِنْ كِتَابِ الْوُجُودِ!
وَفِي كُلِّ دَمْعَةٍ:
لَيْسَتْ زَهْرَةً فَحَسْبُ...
بَلْ بَابٌ سِرِّيٌّ يُطِلُّ عَلَى مَدِينَةٍ مِنَ الْأَضْوَاءِ فِي أَعْمَاقِكِ.
وَهَكَذَا...
لَا تَنْطَفِئُ الْحِكَايَةُ عِندَ حَدِّ الْكَلِمَاتِ،
وَلَا تُقْفَلُ الْأَبْوَابُ لِأَنَّ الدُّمُوعَ نَضَبَتْ!
الْحَيَاةُ ـ يَا رَائِحَةَ الصَّبَاحِ الْبَعِيدِ ـ
تُعِيدُ تَرْتِيبَ أَوْرَاقِهَا كُلَّمَا أَلْقَيْنَا جِرَاحَنَا فِي وَجْهِ الرِّيحِ،
فَتَحْمِلُهَا إِلَى عُشِّ الْأَمْسِ الْمُنْسِيِّ...
سَتَبْقَيْنَ نَجْمَةً تُشْعِلُ نَفْسَهَا بِلَهِيبِهَا،
حَتَّى إِذَا ظَنُّوا انْطِفَاءَكِ...
انْفَجَرْتِ كَوْكَبًا مِنْ نُورٍ!
وَسَتَعْرِفِينَ ـ بَعْدَ أَنْ يَنْكَسِرَ الْوَقْتُ ـ
أَنَّ الْأَلَمَ لَمْ يَكُنْ سِوَى:
حَرْفٍ مِنْ حُرُوفِ الْأَبَدِ فِي رِوَايَةِ قَلْبِكِ الْمُقَدَّسِ...
فَارْفَعِي جِرَاحَكِ تَاجًا لِلصُّعُودِ،
وَامْشِي...
فَرُبَّمَا الْغَدُ الْقَادِمُ ـ خَلْفَ أُفُقِ الْيَأْسِ ـ
يَحْمِلُ الْحُبَّ الَّذِي تَسْتَحِقِّينَ:
حُبًّا يَخْرُجُ مِنْ جَحِيمِ الْانْتِظَارِ كَالْفِينِيقِ!
لِأَنَّكِ ـ يَا مُلْهَمَةَ الْأَزْمِنَةِ ـ
لَسْتِ نِهَايَةً...
وَلَكِنَّكِ الْبِدَايَةُ الَّتِي تَسْكُبُ الْأَبَدَ!
جهاد غريب
يونيو 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق