النصر الذي لا يُعلن.. في فلسفة الانسحاب الواعي!
القوة ليست قبضة تُحطّم، بل كفٌّ تتحسس نبض الضعف قبل أن ينكسر، وليست في رفع الصوت، ولا في طول البقاء، بل في البصيرة التي ترى الهاوية وهي لا تزال فكرة عابرة، كشمعةٍ على وشك الانطفاء! تُنقذها لمسة رحيمة قبل أن ينفد شمعها.
ليست كلّ المعارك جديرة بخوضها، وليست كلّ المواقف تستحق الدفاع أو الهجوم؛ فبعض الانتصارات تصنعها خطوة إلى الوراء، وبعض الانهيارات تبدأ بكلمة لم يُفكر فيها صاحبها.
القوة الحقيقية أن تنسحب حين ترى الضعف، لا حين ترى الهزيمة، وأن تلتقط رعشة في العين، أو اختناقًا في الصدر، وأن تقرأ في ملامح الآخر ما بين الرجاء والانكسار، وتختار الصمت المُتّزن لا العتاب المؤلم، الانسحاب النبيل لا المواجهة التي تخلّف شروخًا طويلة.
الكلمة، وإن بدت صادقة، قد تُشبه الخبز الجافّ: تُشبع الجوع، لكنها تجرح الحلق، أما القوة فهي أن تحبس تلك الكلمة في حنجرتك، لا جبنًا، بل كي لا تتحول إلى شظيّة في صدر من لا يستحق.
ما أتعس الانتصار إن جاء على هيئة جسرٍ من رفات المشاعر، وما أقسى الصدق حين يُلقى في وجه هشّ، لم يكن مستعدًا إلا لمعونة لا لمواجهة، فليست البطولة في أن تقول كل ما تعرف، بل في أن تعرف متى لا تقول. قال أفلاطون: "الحكمة تبدأ عندما نتعلم أن بعض الانتصارات لا تستحق أن نعيشها"
القوي ليس من يُنكر هشاشته، بل من يعرفها في نفسه ويرى انعكاسها في عيني غيره، كما يرى البحّار التغيير في لون الأفق فيرفع الشراع قبل أن تهب العاصفة. من يقدر على مغادرة ساحة النقاش وهو لا يزال واقفًا، دون أن يُسقط أحدًا، هو من امتلك الحكمة لا القوة فقط، وهو من أدرك أن الكرامة لا تُستعاد بإثبات التفوق، بل بحمايتها من الجراح غير الضرورية.
الحرية، إن لم ترعَ مشاعر الآخرين، تصبح سيفًا يقطع كل شيء، حتى الرقة في القلوب؛ والمواجهة، إن لم تُخضعها البصيرة، تتحول إلى مرآة لانتصارات فارغة لا تُنقذ العلاقة بل تُخرّبها. أحيانًا، تكون الكذبة البيضاء، أو المجاملة الرقيقة ليست خيانة للحقيقة، بل نوعًا من الماء المُحلّى يُسكت عطشًا مريرًا في روحٍ لا تحتمل صدمة الحقيقة الجافة.
في العلاقات، كما في الحروب، لا النصر لمن يصمد حتى النهاية، بل لمن يدرك أن النهاية قد تأتي قبل آخر جملة، وأن بعض التراجع هو حفظ لما تبقى من الأرواح. الانسحاب في ذروة الوعي يشبه الوردة التي تذبل بصمت كي لا تُرغم الربيع على مشهد موتها!، إنه انتصار لا يُعلن، لكنه يُحفر في الذاكرة كوصيّةٍ أخيرة للعقل: لا تُحوّل هشاشة الآخرين إلى ساحة لاختبار قوتك.
ومن لا يعرف كيف ينسحب بلطافة، لن يعرف يومًا كيف يربح بكرامة، لأن النصر الحقيقي لا يُقاس بمن بقي واقفًا، بل بمن اختار أن لا يُسقط أحدًا. النصر هو أن تترك المكان وقد حافظت على كرامة الجميع، كعابرٍ يغلق الباب بهدوء، وكان بمقدوره أن يصرعه غضبًا.
الأرض التي تتراجع عنها اليوم بوعي، قد تصبح غدًا أرضًا مشتركة تُزرع فيها بذور السلام؛ والقوة التي تمنعك من الكلام الجارح، هي ذاتها التي تمنحك القدرة على الترميم بالصمت، وعلى الانتصار بدون إعلان، لأن أعمق الانتصارات، تلك التي لا تُرى، ولا تُصفق لها الجماهير، بل تهمسها الأرواح الهشّة في لحظة نجاة: "لقد مرّ هذا الألم... دون أن يتحوّل إلى جرح".
ربما لم نكن بحاجة إلى كل هذه الكلمات... فالصمت كان كافيًا، والغياب كان أبلغ، والانسحاب كان هو الحل الوحيد الذي لم نجرّبه بعد، لكننا اخترنا أن نكتب القصة حتى النهاية، كي نكتشف أن النهاية الحقيقية كانت تلك التي لم نكتبها.
جهاد غريب
يونيو 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق