الأحد، 23 مارس 2025

 

حدائق الروح: حينما يزهر الجمال في قلوبنا!

 

أحياناً، يكمن السحر في التفاصيل التي تمر بنا دون أن ننتبه، لكنها تلامس أرواحنا بصمت، مثل زبد القهوة الذي يطفو للحظات قبل أن يختفي، نراقبه بشغف ثم نذوب فيه بحب، كذلك هي لحظات الحياة البسيطة، قد تكون عابرة، لكنها تصنع دفءَ الأيام، وحين نلتفت إليها ندرك كم نحن محظوظون بها، فلماذا نتردد في احتضان ما يسعدنا؟ بعض الأشياء تأسرنا من أول نظرة، تثير فينا شعوراً لا نملك له تفسيراً، تماماً كما يفعل زبد القهوة بعشاقها، فلماذا نخجل من حب الأشياء الصغيرة؟ ولماذا نحرم أنفسنا من متعة عابرة فقط لأنها لا تبدو ذات أهمية؟ أحياناً، ما يمنحنا السعادة ليس الشيء ذاته، بل إحساسنا به.

 

لكن الجمال ليس محصوراً في فنجان قهوة أو لحظة عابرة، بل هو حولنا في كل شيء، في غروب الشمس حين يصبغ السماء بلون الشفق، وفي قطرات الندى التي تلمع على أوراق الأشجار كحبات لؤلؤ، وفي صوت المطر وهو يعزف سيمفونية هادئة تهدهد الروح، إنه في ضحكة طفل تنطلق بلا تكلّف، وفي لمسة يد حانية، وفي قصيدة تُقرأ بصوت عذب، وفي لوحة ترسم مشاعرنا دون كلمات، وفي لحن موسيقي يجعلنا نشعر وكأن العالم قد توقف للحظة!، الجمال ليس مادة ملموسة، إنه إحساس، وتذوق، ولحظة اندماج مع الكون.

 

وربما يكمن أعمق أنواع الجمال في الإنسان نفسه، في ذلك النور الخفي الذي يشع من داخله قبل أن تلمحه العين في ملامحه!، إن الطيبة، حين تكون صادقة، تمنح الوجه إشراقاً لا تصنعه أجمل الألوان، ودفء الروح يضفي على صاحبه حضوراً لا يُنسى، مهما كانت بساطة مظهره!، فهناك جمال يُرى بالعين، لكنه مؤقت، يتلاشى مع الزمن، وهناك جمال يُحس بالقلب، يظل خالداً حتى بعد أن يغيب صاحبه!، إنه جمال الصدق حين تتحدث العيون بما لا تستطيع الشفاه قوله، وجمال الوفاء حين يكون القلب ملاذاً آمناً لا يخون، وجمال اللطف حين يُمنح بلا حساب، لا انتظاراً لمقابل، بل لأن الخير طبيعة أصيلة في صاحبه، وهذا النوع من الجمال هو الذي يرسّخنا في ذاكرة من نحب، ليس فقط كأشخاص مرّوا في حياتهم، بل كأثر ممتد لا تمحوه السنوات.

 

لكن هل لاحظت يوماً كيف أن اللحظات الجميلة لا تدوم؟ وكأن الزمن، ذلك اللص المتربص، يسرقها قبل أن نرتوي منها، فلا نكاد نلمسها حتى تتلاشى بين أيدينا كحبات رمل تذروها الرياح، ربما لهذا السبب أصبحنا مهووسين بالتقاط الصور، نحاول أن نحبس الزمن في إطار، وأن نوقف عقارب الساعة عند لحظة نود لو تبقى للأبد، لكن الحقيقة أن الجمال لا يُحبس، بل يُعاش، فالصور تحفظ الشكل، لكنها لا تستطيع أن تنقل حرارة اللحظة، ورعشة الفرح التي سرت في القلب، ذلك الشعور العابر الذي يجعلنا نشعر أننا أحياء بحق.

 

وكم من مرة غرقنا في التفكير في الماضي، نحاول إعادة استحضار لحظة جميلة عشناها، أو خشينا المستقبل فقلقنا على لحظة لم تأتِ بعد، ونسينا أننا نملك شيئاً أعظم: "الآن"!، هذا الحاضر الذي بين أيدينا، واللحظة التي لم تكتمل بعد، والجمال الذي يمر أمام أعيننا بينما نحن مشغولون عنه!، فكم مرة جلسنا مع من نحب، لكن عقولنا كانت تائهة في مكان آخر؟ وكم مرة رأينا غروب الشمس، ولم ننتبه إلى أنه قد يكون الأجمل في حياتنا؟ كم مرة كانت السعادة قريبة، لكننا لم نمدّ أيدينا لنمسك بها؟

 

إن اللحظات الجميلة لا تحتاج إلى التوثيق، بل إلى التقدير!، نحن لا نحتاج إلى تسجيل كل لحظة، بل إلى عيشها بكل جوارحنا، وأن نرتشف القهوة، لا لنأخذ صورة مثالية لها، بل لنشعر بحرارتها تتسلل إلى أرواحنا، وأن نستمع إلى ضحكة طفل، لا لنخبر الآخرين كم هو لطيف، بل لنتركها تتردد في أعماقنا كأجمل سيمفونية، وأن ننظر إلى من نحب، لا لنأخذ صورة نتذكره بها، بل لنحفر ملامحه في القلب، حيث لا تصل إليه يد الزمن، فلنتعلم أن نعيش الجمال بدلاً من مطاردته، وأن نستمتع به بدلاً من الخوف من زواله، وأن ندرك أن السعادة ليست في الأشياء العظيمة، بل في التفاصيل الصغيرة التي تصنع حياة لا تُنسى.

 

هناك شيء سحري في القدرة على رؤية الجمال في كل شيء، وفي تحويل العادي إلى استثنائي، وفي أن تفتح عينيك كل صباح فتشعر بامتنان حقيقي!، لأن يوماً جديداً قد بدأ، ولأن الشمس أشرقت رغم كل شيء، ولأن لديك فرصة أخرى لتذوق الحياة!، فالجمال ليس في الأحداث الكبيرة التي ننتظرها بشغف، بل في التفاصيل الصغيرة التي تمر بنا كل يوم دون أن نلتفت إليها، وفي الاستمتاع بلحظة شروق دون التفكير في المهام المؤجلة، وكأن الضوء المتسلل من الأفق ليس مجرد بداية ليوم جديد، بل رسالة تخبرنا أن هناك دائماً فرصة للبدايات!، وفي ارتشاف القهوة دون عجلة، ودون أن يكون الهدف منها مجرد استعادة النشاط، بل أن تتحول إلى طقس مقدس، ولحظة تواصل صامت مع الذات، حيث يصبح مذاقها، ودفء الكوب بين يديك، وصوت ارتشافها سيمفونية خفية لا يسمعها إلا من ينتبه للحياة.

 

هذه التفاصيل التي نغفل عنها، ربما تكون هي سر السعادة الذي نبحث عنه طيلة الوقت، السعادة التي نظن أنها كامنة في المستقبل، أو في تغيير الظروف، أو في تحقيق الإنجازات، بينما هي أقرب إلينا مما نتصور!، فكر في أجمل لحظة مرت عليك مؤخراً، هل كانت لحظة استثنائية وغير متكررة؟ أم أنها كانت شيئاً بسيطاً، كضحكة صادقة مع شخص تحب، أو دفء كلمة قيلت في الوقت المناسب، أو مشهد غروب ألهمك رغم أنك رأيته آلاف المرات من قبل؟ نحن نربط الجمال بالندرة، أو بالسفر، أو بالمناسبات العظيمة، وننسى أن أجمل اللحظات قد تكون تلك التي تحدث كل يوم، لكننا لا ننتبه إليها.

 

ماذا لو كان الجمال يحيط بنا دائماً، لكنه ينتظر منا أن نراه؟ ماذا لو أن السعادة ليست في امتلاك أشياء عظيمة، بل في تقدير الأشياء الصغيرة؟ ماذا لو أن السرّ ليس في تغيير الحياة، بل في تغيير الطريقة التي ننظر بها إليها؟ ربما، لو تعلمنا أن نرى الجمال في أبسط الأمور، سنكتشف أن الحياة لم تكن يوماً باهتة، بل كنا نحن من أغلقنا أعيننا عن ألوانها!، سنجد الفرح في نسمة هواء تحرك ستائر النافذة برقة، وفي صوت طفل يركض بلا هموم، وفي كتاب يمنحنا فكرة تغير طريقة تفكيرنا، وفي لقاء عابر يترك في القلب أثراً أعمق مما نظن.

 

الحياة تمنحنا جمالها، لكن علينا أن نكون مستعدين لاستقباله!، وعلينا أن نتعلم التوقف للحظة، وأن نتنفس بعمق، وأن ننظر حولنا، وأن نلمس الأشياء لا بأيدينا فقط، بل بقلوبنا، فالجمال ليس نادراً، لكنه يحتاج إلى عين تعرف كيف تراه، وقلب يعرف كيف يعيشه، ونفس تسمح لنفسها بأن تبتهج، ولو للحظة، دون أن تبحث عن سبب منطقي لذلك.

 

جهاد غريب

مارس 2025

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

في قلب الخديعة: رحلة إلى أعماق الصدق!

  في قلب الخديعة: رحلة إلى أعماق الصدق! في البدء، لا يولد الإنسان وهو يعرف الفرق بين الوهم والحقيقة، بين ما يُقال له وما يجب أن يقوله لنفسه!...