الأحد، 1 يونيو 2025

الخيط الذي لا يُرى!

 
الخيط الذي لا يُرى! 

كلّ رحلةٍ تبدأ بسؤالٍ لا يُراد له جواب، بل يُراد له أن يُوقظ شيئًا في الداخل؛ كأنّ الوعي نفسه يُلقي بذرةً في تربةِ الروح، منتظرًا أن تتشقّق الأرض وتخرج منها جذورٌ تبحث عن الضوء لا عن الحقيقة. إننا لا نبحث كي نعرف، بل نبحث لنعيش، لأن المعرفة التي لا تغيّر صاحبها لا تُسمّى معرفة، بل فهرسًا ميتًا لمكتبةٍ لا يزورها أحد.

وليس كلُّ سعيٍ مجرّد حركة!، هناك سعيٌ يشبه التنهيدة التي لا يسمعها أحد، لكنه يُحرّك جدارًا قديمًا في النفس. إنّ الساعي لا يُقاس بوجهته، بل بقدرته على الإصرار رغم أن الأبوابَ موصدةٌ والممراتِ غارقةٌ في الضباب. السعي، في جوهره، ليس مهنة العابرين بل قدر المختارين؛ أولئك الذين قرروا ألا يكونوا صفحةً مكررةً في دفتر الزمن.

ومن بين الخطى، يظهر أولئك الذين مرّوا دون ضجيج، وتركوا فينا أثرًا لا نعرف متى بدأ ولا كيف استقرّ؟! لم يقولوا الكثير، ولم يُهندسوا مصائرنا، لكنهم نقلوا إلينا شيئًا خفيًا، شيئًا يشبه النور حين يتسلل من ثقبٍ في الجدار، لا يُرى مصدره، لكنّنا نشعر بالدفء؛ هؤلاء، بإتقانهم الصامت، حوّلوا القيم إلى نبض، والتفاصيل الصغيرة إلى شعائر. كانوا كالنحات الذي لا يفرّق بين منحوتةٍ لملكٍ وتمثالٍ يُزيّن به باب كوخٍ، لأن الروح واحدة، والاتقان عندهم ليس طموحًا للمديح بل حالة وجودية لا تعرف الزيف.

ومع مرور الزمن، ندرك أنّ ما ظننّاه مواقف عابرة كان في الواقع إرثًا، وأنّ الكلمات التي سمعناها ذات غفلةٍ تحوّلت لاحقًا إلى معيارٍ نقيس به قراراتنا؛ هكذا يتسلّل الإرث المعنوي إلى داخلنا، لا بالحفظ بل بالتحوّل؛ فنصبح شيئًا من أولئك الذين أثّروا فينا، دون أن نتقمّصهم؛ وكأنّهم تركوا فينا نسخةً روحيةً مصغّرة منهم، تنمو معنا وتُربّت على أكتافنا حين نتعثر.

ثم تأتي لحظةٌ يعرض فيها العالم علينا اختباراتٍ قاسية، لحظات نُجبر فيها على مراجعة قناعاتنا، على فكّ الأحكام المسبقة التي بنيناها بحسن نية. وهنا، يظهر الانفتاح لا كترفٍ أخلاقي، بل كقوةٍ عميقة، كشجاعة الاعتراف بأننا لم نكن نعرف. أن نستمع لا لنرد، بل لنفهم، أن نُغيّر المسار لا خنوعًا بل اعترافًا بأنّ القلب يعرف أحيانًا ما لا يقدر العقل على تصديقه.

أما عن اليأس، فهو ليس فقط خيانة للحلم، بل اغتيالا للجزء الأصدق فينا؛ فالذين يتمسكون بأحلامهم رغم الخسائر لا يعيشون في الوهم، بل يكتبون في كلّ فجرٍ سطرًا جديدًا في ملحمةٍ لا يقرؤها إلا من سار في العتمة. إن كلّ لحظةِ نهوضٍ بعد تعثّر، هي احتجاجٌ على الموت الرمزيّ، وتأكيدٌ أنّ النور ليس رفاهية، بل حاجة، وأنّنا إن لم نجده سنخلقه، وإن لم يُنر لنا الطريق سنشعل أنفسنا شموعًا لمن بعدنا.

وربما لن نعرف أبدًا من تأثر بنا، وربما لن تصلنا رسالةٌ تقول: "لقد غيّرتني"، لكننا نواصل المسير لأننا نؤمن أن في كلّ لمسة صادقة، كلّ موقف نقي، كلّ فكرة نابعة من عمقٍ صادق، هناك احتمالٌ صغير أن تُوقظ شيئًا في أحدهم، تمامًا كما حدث معنا يومًا دون أن يدري من أشعل شمعتنا.

وهكذا، نرحل نحو ذواتنا لا بحثًا عن إجاباتٍ نهائية، بل لنكون جديرين بالسؤال. نرحل، نُتقن، نؤمن، ننفتح، نتأثّر ونتحوّل. نكتبُ قصيدةَ الكون بخيوطٍ لا تُرى، ونترك في الأثر وهجًا لا يطفئه الغياب.

جهاد غريب 
يونيو 2025

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

على مرمى شُعلة: ملحمة العابر بين العواصف!

  على مرمى شُعلة: ملحمة العابر بين العواصف!  لا تُنبت الحياة أزهارها إلا في تربة مختبرة، كأنها تقول لك: "إن كنت موجودًا، فلتثبت ذلك...