الأحد، 1 يونيو 2025

حين يتكلم الصوت: تأملات في الشغف، والشراكة، والملكية الخفية!

 
حين يتكلم الصوت: تأملات في الشغف، والشراكة، والملكية الخفية! 

في زحام الحياة، ثمة أشياء لا تُرى، لكنها تُسمع. أشياء لا تُلمس، لكنها تُحس. الصوت، مثل ظل الروح، ينساب عبر الأثير حاملاً معه حكايات لا تُحكى، وملامح لا تُرسم. في إحدى الزوايا المنسية من هذا العالم، وُلد مشروع صغير، لا يشبه المعامل التجارية، بل يشبه بيتًا للصوت، أو محرابًا يتلو فيه الإبداع صلاته.

كل شيء بدأ بفكرة. لكن الأفكار، حين تكون وحدها، تشبه البذور في أرض قاحلة. احتاجت هذه الفكرة إلى شريك يرويها. أحدهما جاء بالحلم والحنجرة، بالليل الطويل والميكروفون المفتوح، والآخر جاء بالمبلغ الضروري لكي تدور عجلة البداية. كان الاتفاق بسيطًا: شراكة بين المال والرؤية. لكن كما يقول أحد الحكماء: المال يفتتح المشروع، أما القلب فيصنع مجده.

ومضت الأعوام، تتنفس القصائد في الغرف العازلة للصوت، تنمو المشاريع، يُذكر الاسم في المحافل، تُنشر التسجيلات، وتحصد الإعجابات. وكان من الطبيعي أن يُطرح السؤال ذات يوم: من يملك هذا الاسم الذي صار ماركة؟ من يحق له أن يستحوذ على هذه الهوية؟
هل الملكية تُقاس بما دُفع من نقود، أم بما سُكب من روح؟
هل يكفي أن توقّع على عقد لتصبح سيدًا لصوت لا تعرف كيف يولد؟

الصوت لا يعرف الحسابات. إنه يعرف فقط الدفء. يعرف اليد التي تُصلح العطب في نصف الليل، والعين التي تلمح خطأ بسيطًا في نغمة، في حين لا يراه أحد. يعرف من يناديه لا كوظيفة، بل كحياة. ولأن الصوت لا يُشترى، فإن الشغف لا يُباع.

في كل مشروع فني، خاصةً تلك التي تعتمد على الروح أكثر من السلعة، يصبح من الضروري أن نُعيد تعريف "الملكية". الاسم ليس مجرد شعار. إنه خلاصة تجارب، لحظات تعب، تواريخ مسجلة في الذاكرة الجمعية، وارتباط لا واعٍ بين المستمعين ومن صنع لهم هذا العالم الخفي.

لهذا، حين نناقش الحقوق، لا يجب أن نختزلها في عقود جامدة. بل في العدالة. العدالة التي تقول: من بنى الهوية، من أدار، من أحيا، من نشر، من تواصل، من تعب، له النصيب الأوفى. أما من ساعد ماديًا، فله احترامنا، لكن ليس له حق تغيير الملامح التي لم يرسمها.

وهنا تبرز أهمية التوثيق. لا لأننا نشك بالآخرين، بل لأننا نثق في الإبداع ونريد أن نحميه. العقود ليست قيدًا، بل حماية للأحلام. إنها إطار يضمن ألا يتحوّل الفن إلى سلعة يُنتزع منها اسمها ويُمنح لغير أهلها.

كثيرون يعتقدون أن الشراكة تتأسس على المال. لكن الشراكة الحقيقية تُبنى على الرؤية. المال يضيء اللمبة، لكن الإبداع هو من يجعل النور له معنى. ولأن العالم مليء بمن يملكون المال، لكنه فقير بمن يملكون الروح، فإننا بحاجة إلى أن نعيد تعريف قيمة الأشياء.

ما يُنقش في الذاكرة، لا يأتي من بطاقة مصرفية، بل من لحظة صدق. وما يُخلّد ليس الاسم، بل الحكاية خلف الاسم. لذلك، فإن الشراكة التي لا تنصف الإبداع، لا تُثمر. وإن ثمَرت، تظل ناقصة، متأرجحة بين الضجيج والانكسار.

في نهاية الأمر، ليس كل ما يُملَك يُورَث، وليس كل ما يُستثمَر يُقَيَّم بالربح. هناك أشياء تُقاس بما تُحدثه في القلب، بالصدى، بالنبض. الصوت لا يسأل: "من دفع؟"، بل يسأل: "من أحبني حتى صنعتُ منه معنى؟". ففي عالم الإبداع، ليس المال هو البذرة، بل الشغف. ليس الاسم هو اللوحة المعدنية التي تُعلّق على الأبواب، بل هو الارتعاش الخفي الذي يمرّ في روح المستمع حين يتردد الصوت.

الإبداع كائن حي، يتغذى من الحلم، ويرتوي من السهر، وينمو في ظلال الإخلاص. إنه لا يعترف بالعقود وحدها، بل يُقسم على نبض القلب، ويرتبط باليد التي امتدت لتصقل الفكرة من ضباب الحلم إلى نور الواقع. ومهما تشابهت الأسماء، يبقى الأصل لمن نزف من داخله ليمنح الحياة نغمة، ويمنح الكلمة جناحين.

فربّما يُفتَح الاستوديو بأموال الآخرين، لكن الروح التي تحوم بين جدرانه، بين المايكروفون والسكون، لا يُمكِن شراؤها. إنها تلك الروح التي تعرف متى تصمت لتُنصت، ومتى تهمس لتُدهش، ومتى تصرخ لتوقظ فينا معنى الجمال.

وإن كنا نبحث عن العدالة، فلن نكتبها بالحبر وحده، بل بالاعتراف: أن هناك من يعمل بصمت، ومن يضع اسمه على الضوء. لكن الضوء الحقيقي لا يُشترى، بل يُكتسب، حين يكون الصوت امتدادًا للروح، لا لدفتر الشيكات.

لذا، حين نسمع مقطوعة تنبض بالإحساس، أو قصيدة تمشي على نَفَسٍ، فلن نسأل عن اسم المستثمر، بل سنهمس، كما تهمس القلوب حين تُمسّ: "ها هنا عاش من أحب الفن حتى صار هو ذاته نغمةً لا تُنسى".

جهاد غريب 
يونيو 2025

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الخروج من الظل: سيرة الوعي بين الفقدان والاكتشاف!

  الخروج من الظل: سيرة الوعي بين الفقدان والاكتشاف!  في زوايا الروحِ حيثُ ينسابُ الضوءُ خافتًا، تُولدُ الصحوةُ، كأنّما كنتَ نائمًا في قفصِ ا...