الأربعاء، 4 يونيو 2025

رسائلنا السرية إلى ذواتنا المقبلة!

 
رسائلنا السرية إلى ذواتنا المقبلة!

في زحمة الحياة، حيث تتهاوى الأحلام كأوراق الخريف على صخور الواقع القاسية، نجد أنفسنا نمدّ أيادينا إلى الآخرين، لا كمنقذين أشداء، بل كعطاشى إلى قطرة من المعنى في صحراء الوجود. جبر الخواطر ليس بذلة نخيطها لستر عورات الآخرين، بل هو رداء نلفّ به جراحنا التي لم تجف بعد. إننا حين نهمس بكلمة عزاء في أذن منكسر، فإنما نهمس في سراديب أعماقنا: "ها أنا ذا، ما زلتُ قادراً على الإحساس، ما زال قلبي ينبض بالحياة".

في هذه اللحظات، يصبح العطاء كالمرآة القديمة في القصور العتيقة، تظهر الصورة مشوّشة، متكسرة الأطراف، لكنها تبقى صادقة في انعكاسها، أكثر صدقًا من كل المرايا الحديثة المصقولة. نرى فيها وجوهًا نحسبها للآخرين، فإذا بها وجوهنا نحن، مكلومةً ولكنها لم تزل قادرة على البسمات. 

إننا نلمس جراح الآخرين بأصابع مرتعشة، كمن يبحث عن نبض الحياة في صمت الوجود. تلك اليد الممدودة ليست سوى جسرٌ من إنسانية إلى إنسانية، حيث نلتقي في منتصف الطريق، نحن الباحثون عن معنى في ظلمات الدروب، اخترنا أن نكون نوراً لبعضنا في هذا المسير الوعر.

وحين نلتقي بإنسانٍ تحطم كزجاجَةِ العاصِفَة، ونلمحُ كيفَ تُعيدُ كلمَاتُنَا البسيطةُ تشكيلَ شظاياه، فإننا - في اللحظةِ ذاتِها - نلتقطُ قطعَنا المُتناثرةَ من على الأرض. كلُ همسةِ دعمٍ وجبرٍ تخرجُ من بين شفاهنا كالدخانِ في يومٍ بارد، ليست سوى محاولةٍ لتدفئةِ أيدينا نحنُ أولاً!، وتلكَ النظرةُ الدافئةُ التي نمنحُها ليست إلا مرآةً نرى فيها وهجَ إنسانيتنا قبلَ أن تنطفئ. 

إنّ القوةَ التي نزرعها في الآخرينَ حين نرفعهم من كبوتهم، ما هي إلا ضياءٌ من مصباحٍ أخفيناه في زوايا أرواحنا. نراهم ينهضونَ كالسنابلِ بعدَ المطر، فتنكشفُ لنا فجأةً تلك البذورُ الغافيةُ في تربتنا، ونتعرفُ إلى قدرتنا على الانتصابِ أمامَ أعاصيرِ الدهر. وهكذا يتحولُ جبرُ الخواطرِ إلى مواءمةٍ سريةٍ بين جُرحين: جرحٌ يبحثُ عن مغفرةٍ في منحِ العطاء، وجرحٌ يبحثُ عن خلاصٍ في قبولِ العون. 

إنها رقصةُ الأرواحِ الواهنةِ التي تتدافعُ في الظلام، كلٌ منها يحملُ شمعةً صغيرةً ليضيءَ للآخرِ درباً، وهو يعلمُ أن هذه الشعلةَ قد تنطفئُ في أيِّ لحظة!، لكننا نرقصُ معاً، لأننا نعرفُ أن الضوءَ الحقيقيَّ ليس في لهيبِ الشمعة، بل في تلكَ اللحظةِ العابرةِ التي تتلامسُ فيها الأيدي المرتعشةُ في العتمة.

لكنْ، في أعماقِ هذا الحوارِ الهادئ، يتربصُ خوفٌ أشبهُ بظلِّ الساعةِ الرمليةِ حينَ تقتربُ حباتُها من النفاد. خوفٌ لا يعترفُ بهِ العطاءُ الظاهرُ، لكنه يختبئُ بينَ طياتِ كلِّ مواساةٍ، كظلِّ ورقةِ خريفٍ تتشبثُ بالغصنِ قبل السقوط. نحنُ لا نمدُّ الأيدي لأننا شجعان، بل لأننا نرتعبُ من فكرةِ العيشِ في عالمٍ يتحولُ إلى صحراءٍ قاحلةٍ من الأنانيّة. 

إنّ تلكَ الكلمةَ الطيبةَ التي نهمسُ بها في أذنِ المنكسر، ما هي إلا تعويذةٌ نرددها لطردِ أشباحِ القسوةِ التي قد تلاحقنا غداً. والصمتُ الحانيُّ ليس فراغاً، بل هو كالفراغِ بينَ نجومِ المجرة، يبدو خالياً لكنه ممتلئٌ بأسرارِ الوجود. إنه اللغةُ الوحيدةُ التي تفهمُ عظمةَ الألمِ دونَ حاجةٍ لترجمة. 

في تلكَ اللحظاتِ المقدسةِ حيثُ يتوقفُ الزمنُ عن الجريان، لا يحتاجُ الجريحُ إلى خطبٍ منمقةٍ تشرحُ لهُ سببَ آلامه، بل يحتاجُ إلى صمتٍ يعانقُهُ كأمٍّ تحتضنُ طفلها المُنهار. صمتٌ يقولُ له: "جراحُك مشروعةٌ كالنسيمِ والعواصف، ولنْ أطلبَ منكَ أن تلتئمَ قبلَ أوانِكَ". 

إننا نقدمُ العونَ لأننا نعرفُ أننا قد نكونُ غداً في مقعدِ المُحتاج، لكنّ الحقيقةَ الأعمقَ هي أننا نقدمُه لأننا لا نستطيعُ العيشَ في عالمٍ لا مكانَ فيهِ للرحمة!، وكما يُقال، فإنّ آخرَ شجرةٍ تُقطعُ هي تلكَ التي تجلسُ في ظلها لتستريح.

وفي صميم هذا المشهد الإنسانيّ الرهيف، يعلو العطاءُ الروحيّ كشجرةٍ باسقةٍ في صحراء الوجود، جذورها ممتدةٌ في أعماق الضعف الإنسانيّ، وأغصانها تتلمّسُ سماءَ المطلق، لكنّ هذه الشجرةَ العظيمة، في حقيقتها، ليست سوى بذرةٍ صغيرةٍ ندفنها في تربةِ الغيب، لا نعلمُ أيّ ريحٍ ستأخذُها، أو في أيّ أرضٍ ستستقرّ، أو إن كنّا سنجني ثمارَها يوماً.

نحن ننثرُ كلماتِ العزاءِ كالفلاحِ الذي يبذرُ في أرضٍ لا يملكها، وقد لا تطأها قدماه مرةً أخرى. نروي جراحَ الآخرينَ بدموعِ التعاطف، كمن يسقي غرساً لن يجلسَ في ظلّه. لكنّنا نستمرّ، لأنّنا نعلمُ - في أعماقنا - أنّ الحياةَ ليست سوى دَينٍ معنويٍّ متبادَل، تُسدّدُه الأقدارُ بطريقتها الغامضة. قد لا يعودُ إلينا العطاءُ من نفسِ اليدِ التي منحناها، لكنّ الكونَ العظيمَ يرسلُ إلينا العونَ في اللحظةِ المناسبة، من حيثُ لا نحتسبُ ولا ننتظر.

وهنا يكمنُ السرّ الأعمق: إنّ التواضعَ الحقيقيّ في العطاءِ ليس اختياراً أخلاقياً فحسب، بل هو اعترافٌ صامتٌ بحاجتنا الأزلية. حين تمدّ يدكَ لمساعدةِ آخر، فأنت في الحقيقةِ تبحث عن يدٍ أخرى تمسكُك حين تتعثر!، إنّه ذلك التبادلُ الخفيّ الذي يجعلُ من كلّ عطاءٍ أخذاً، ومن كلّ أخذٍ عطاءً. كالبحرِ يعطي النهرَ ملوحتَه، ويأخذُ منه عذوبتَه، في عمليةٍ لا تنتهي من التكاملِ والتبادل.

فنحنُ لا نعطي لأنّنا نملك، بل نعطي لأنّنا نحتاج. نعطي لأنّ العطاءَ هو الطريقةُ الوحيدةُ التي نتأكّدُ بها أنّنا ما زلنا أحياءً، وما زلنا قادرينَ على الشعور. وفي هذه الحلقةِ المقدّسةِ من الأخذِ والعطاء، نكتشفُ المعنى الحقيقيّ للإنسانية: أن نكونَ جسراً يعبرُ عليه الآخرون، بينما نحنُ أنفسُنا عابرون.

وفي النهاية، حين ننظرُ بعينِ القلبِ إلى تلكَ الوجوهِ التي سندناها، لا نرى سوى شظايا من مصائرنا المبعثرة. هم ليسوا آخرين، بل هم ذواتٌ محتملةٌ لم تولد بعد، أو ذكرياتٌ عن أنفسٍ كناها ذات يوم. في أعينهم الرطبة، نقرأُ سطراً من مخطوطةِ القدرِ التي لم تُكتب بعد، كأنما الحياةَ تُمسكُ بيدينا لنخطَ معاً حكايةً واحدةً بمدادِ الألمِ والأمل.

إنهم مرايا متحركةٌ لحالاتنا الإنسانية، تذكرنا بأن الخيطَ الذي يربطُ الأرواحَ لا ينقطعُ حتى في أحلكِ الليالي، وإنما يختبئُ كالنجمِ خلفَ السحاب، ينتظرُ اللحظةَ المناسبةَ ليلمعَ من جديد، وربما كانت هذه هي الكنزُ الحقيقيُ الذي نكتشفه في رحلةِ العطاء: أن كلَ كلمةِ عزاءٍ نهمسُ بها تتحولُ إلى صدىً يترددُ في وديانِ أرواحنا حين نكونُ نحنُ المحتاجين.

تلك اليدُ التي نمدها اليوم، ليست سوى جسرٍ نبنيهِ لأنفسنا غداً، وفي اللحظةِ التي نحتضنُ فيها أحزانَ الآخرين، فإننا نكتبُ رسالةً سريةً إلى ذاتنا المستقبلية، تقول: "ها قد رسَخَ في الكونِ شيءٌ من اللطفِ لأني زرعتُه ذات يوم، فثقي بأن الأرضَ ستردُ لكِ بعضَ ما بذرتِ". 

وهكذا، في هذه الدائرةِ المقدسةِ من العطاءِ والأخذ، نكتشفُ أننا لسنا سوى حباتِ مسبحةٍ واحدة، تتناقلُ الأيدي الدعاءَ من خلالها، في سلسلةٍ لا تنتهي من الألمِ والتعزية، حتى تصلَ إلى يدي القدرِ نفسه!، ففي النهاية، ليس هناكَ من هو معطٍ أو آخذ، بل نحن جميعاً مسافرون في قطارٍ واحد، نتبادلُ الأماكنَ والأدوار، لكننا في الرحلةِ ذاتها.

جهاد غريب 
يونيو 2025

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

فارسُ الخلود: دماءٌ على صهيلِ العودة!

  فارسُ الخلود: دماءٌ على صهيلِ العودة!  الليلُ ثقيلٌ كحِملٍ من رُفاتِ نُجومٍ،  والريحُ تَعوي في صدرِ الفراغِ، كنائحةٍ  على زمنٍ طواهُ الرحي...