الأربعاء، 2 يوليو 2025

مقال: انكسارات الضوء البارد!


انكسارات الضوء البارد!   

في الأعماقِ حيثُ تنكسرُ المرايا على حافةِ الصمت، تُولدُ الأسئلةُ كندوبٍ قديمةٍ تلمعُ في الظل. هناك، حيثُ يتوقّفُ الزمنُ عن عدِّ أنفاسهِ، يُصبحُ السقوطُ تحليقًا، والضياعُ طريقًا إلى بيتٍ لم تعرفهُ من قبل.  

كلُّ شيءٍ هنا يقطرُ شفافيةً مؤلمة: الجدرانُ زجاجيةٌ، والأصواتُ تتدلّى كقطراتِ ندى على خيطِ الفجر. حتى الضوءُ الذي كانَ يدفأُ ككفٍّ حنون، صارَ باردًا كشفرةِ ماضي لم يُدفنْ بعد.  

في هذهِ العزلةِ الشفافة، حيثُ لا أحدَ سوى صدى نفسكَ المُتعب، تُدركُ أنَّ الحقيقةَ ليستْ سوى جرحٍ تعلّمَ الغناء. كلُّ الكلماتِ التي رفعتها سُتراتًا بينك وبين العالم، تسقطُ الآنَ كأوراقِ خريفٍ مبلولة. اللغةُ تعجزُ، لكنّ الصمتَ يبدأُ بنحتِ كيانٍ جديدٍ من رحمِ الفراغ.  

هل سمعتَ يومًا صوتَ الظلِّ وهوَ يتحوّلُ إلى مرآة؟ هل رأيتَ كيفَ تُمسي الذكرياتُ سفنًا راسيةً على سطحٍ متجمّد، تنتظرُ ذوبانًا لن يأتي؟ في اللحظةِ التي تظنُّ فيها أنَّكَ انكسرتَ للأبد، يخرجُ من بينِ عظامكَ نداءٌ خفيٌّ يقودُك إلى حافةِ الوجود. هناك، حيثُ لا شيءَ يحتملُ الوقوفَ عليه، تتعلمُ أن تكونَ هواءً لا ينكسر.  

الانهيارُ الهادئُ ليسَ نهايةً، بل هوَ الفجرُ الذي ينسجُ نفسهُ بخيوطِ عنكبوتٍ رقيق. كلُّ منْ يذوبُ ظلُّه لا يختفي... بعضُ الأرواحِ لا تُولدُ إلا بعدَ أنْ تمرَّ في النارِ كالزجاج.  

في النهاية، حينَ تُلملمُ الأشياءُ نفسها، وتصبحُ اليدُ التي تمسكُها خاويةً وخفيفة، تشعرُ بدفءٍ غريبٍ ينسابُ كدمعةٍ لم تسقط. ربما لأنَّك أخيرًا فهمتَ: كلُّ هذا السقوطَ كانَ رحيلًا إلى بُعدٍ آخرَ في نفسِ المكان.

جهاد غريب 
يوليو 2025 

مواسم الروح... سيرة الضوء، والثرى!

 
مواسم الروح... سيرة الضوء، والثرى!

حين تُسكَب الأيام...
كعطرٍ خرج للتو من غياهب الزمان...
في كأس الوجود،
وتنضج الثمار على أغصان الزمن،
يأتيك موسم التجلّي العظيم...
حاملًا خلاصةَ العُمر.
ذلك الرحيق النقي...
المستخلص من مرارةِ الدروس،
وحلاوة اللحظات الهاربة،
وملوحةِ الدموع...
التي تشبه ملح الذكريات الأولى على صخور الذاكرة.

هنا،
تحت ظلّ دوحةِ الحياة،
تجلسُ كحارسٍ للأسرار...
أسرار علّمتك إياها العواصف،
وخسارات...
كانت تقتلعك من الجذور،
لتعيدك إليها...
متشبّثًا كالسنديان.

لم يكن الطريق إليك مُعَبّدًا بالورود...
بل كان دربًا من الشوك... والنجوم.
ضللتَ فيه،
أحببتَ من لا يستحق،
منحتَ الغفران كهديةٍ ثمينة،
لمن لم يعرفوا وزنَ ما احتملتَ من وجع.

لكن الندم... لا مكان له هنا؛
فما ذهب... كان ضروريًا،
كالماء...
الذي جرف الرمال...
ليُظهِر جوهرَ الصخر.
كلُّ رزقٍ كتبه القدر، سيصل.
أو ربما...
كان غيابه، هو الرزقُ الأكبر.

النضجُ... ليس سباقًا،
بل هو رقصةٌ مع الفصول.
من يعرفون الآخرين،
يحملون حكمةَ العالم،
أما من يعرفون أنفسهم،
فقد أشعلوا مصابيحَهم في أعماق الليل.
فحصادُ العمر،
لا يُجنى إلا حين...
تفتح كفّيكَ للسماء،
وتتقبّل...
أنكَ غصنٌ في دوحةِ الوجود العتيقة.
لا تندبْ ما فات،
ولا تُصارع النهر...
فالثرى الذي تسير عليه،
يحمل أنفاس من سبقوك.

عِش... كما يعيش السرّ الذي ينمو بصمت.
تُرسل جذورَه في الأعماق،
تُعلّق أغصانَه بالضوء،
وتُسلّم ثمارَه للريح... دون سؤال.
وافعلْ ما يجبُ، بكلّ ما فيك...
ثم دع الحياة...
تبتسم لك، أو تمرّ بصمت.

اللحظة الماسيّة...
هي تلك اللحظةُ التي يتوازنُ فيها الطموح،
كطائرٍ يحلّق،
والرضى... كبحرٍ هادئ.
أنت...
لست جسدًا،
ولا عقلًا،
ولا روحًا فحسب...
أنت الكون،
يُعيد اكتشاف ذاته فيكَ.
فلا تسمح لأحد،
أن يكسِر هذه الوحدةَ المقدّسة.

أحيانًا...
يكون الفقدُ هو اليدُ التي تنقذك من الغرق،
وأحيانًا...
يكون الابتعادُ، هو البابُ الذي يفتحُ على الهواء النقي.

تعلّم أن تسامحَ نفسَك أولًا،
وأن تحترمَ جسدَك...
الذي حملكَ عبر العواصف،
وأن تُصغي إلى حدسِك،
الذي يهمسُ لك...
كمثل ترنيمةٍ داخلية...
شديدةِ الوضوح:
"هذا لك... وهذا... ليس لك". 

اللحظة النادرة،
تتجلّى حين...
تلتقي ما تحبّه، كقصيدةٍ...
تكتبها بدمّ القلب،
وما تُجيده... كسيفٍ، صقله الزمن،
وما يحتاجه العالمُ منك،
كهديةٍ من أسرارِ الزمن المكتوم،
وما يُغنيك، دون أن يسرقَ من روحك لؤلؤتَها.
وحين تتآلف تلك المكوّنات...
تهبطُ عليك السكينةُ، كالمطر الأخير.

اخترْ عملًا يزرع... لا يحرق.
واجعلْ لهوايتك الحميمة وقتًا كالصلوات.
واجعل للتأمل...
أو للكتابة،
أو للمشي تحتَ النجوم...
طقسًا يوميًا،
كإزاحةِ الغبار عن جوهرةٍ دفينة.

وتذكّر...
أن النموَّ البطيءَ،
هو ابنُ الأرض... والأصالة،
أما اللهاث...
فليس إلا غبارُ الطرقات.

دوّامةُ العصر،
تجبرنا على أن نُولد من جديد... في كلّ محطة.
هذا... قلق،
لكنه أيضًا تحرير.
فلا تخفْ من إعادة تشكيل نفسك،
فالحياة...
ليست متحفًا لتماثيل الماضي.

بعد كلّ عاصفة،
أعِدْ النظر في علاقاتكَ...
كما تُعيد قراءة كتابٍ قديم.
فتكتشف بين سطوره،
ما لم تكن تراه من قبل.
وتتحول عاداتُك... رويدًا رويدًا،
كأغصانِ دوحةِ الصبر،
التي تنحني مع الريح...
دون أن تنكسر.
وتلك الأجزاء منك...
التي ظننتَها وهنًا،
تتبيّن يومًا بعد يوم،
كجذورٍ خفيّة...
تمتدّ في أعماقك،
تسقيك قوّةً... لم تكن تعرفها.

أيها الإنسان،
المجبول من ضوءٍ وأسرار،
الحامل تحت أضلاعك... نغمة الوجود الأولى:
النضج... لا يُقاس بعدد الشموع في احتفالٍ عابر،
بل بعدد الندوبِ...
التي صنعتَ منها نوافذ، تطلّ على الحكمة.
وبكيفيةِ نهوضِك، بعد كلّ انكسار...
كغصنٍ بلّله الصباح،
ينهضُ...
حاملاً تاريخَ الترابِ في خلاياه.

هنا...
نلمس جوهر الإنسانية،
دون افتراض أن القلب النابض... حكرٌ على أحد.
فالكلُّ يحمل هذه المعجزة... تحت أضلاعه.
ما غابَ عنك،
فليس ضياعًا،
بل هو حمايةٌ... لا تعرفها بعد.
فالعالم كلّه،
يعمل بصمتٍ لأجلكَ...
حتى حين يبدو كعدوٍّ قاسٍ.

اصنع من موسمك الماسي... تاجًا.
تاجًا من الدروس المكتسبة،
من الغبار... الذي علق بقدميك في الطريق،
من الأغنيات...
التي علّمتك كيف تبكي.
فمن ذاقَ الانكسارَ بكرامة،
ومن حملَ جراحَه... كشهادات على البقاء،
يستحقّ أن يعيش بسلام.

سلامٌ...
كالذي يسبق العاصفةَ الأخيرة،
وسلامٌ...
كالذي يملأ الكأس... بعد آخرِ قطرةٍ.


جهاد غريب 
يوليو 2025 

الثلاثاء، 1 يوليو 2025

نص ابداعي: الرجل الذي رأى ظله يذوب!

 
الرجلُ الذي رأى ظِلَّه يذوب...

عن رجلٍ لم يهرب من ظلّه،
بل تبِعه، حتى ذابَ فيه.

بين أضلاعه، انفتحت أبوابٌ لم يكن يعرفها.
رحلةٌ بلا حقائب، بلا خرائط، فقط ذلك الإيقاع الغامض،
الذي يطرق من أعماق العظام...
إيقاعٌ يشبهُ نبضَ كوكبٍ مجهول.

كلما توغّلَ في الصحراءِ الداخلية،
اكتشف أن ما يبحث عنه لم يكن مفقودًا،
بل مغطى بطبقاتٍ كثيفةٍ من الضجيجِ الذي كان يسميه حياته.

الفهمُ العميق للنفس،
طلَّ كشمسٍ سوداء.
أضاء كلَّ الزوايا،
لكن ضوءه لم يكن دافئًا.

رأى الأثاث الخفي في غرف روحه:
كرسي الوحدة المهترئ،
خزانة الأسرار المنسية،
ومرآة الاعتراف المُغَبَّرة.

رأى نفسه عاريًا أمام نفسه... فخارت قواه.

في لحظةٍ واحدة،
سقط جدارٌ من زجاج،
فاشتهى حضنًا رمزيًا...
نظرةً لا تسأل، ولا تُجيب...
صمتًا، يُوضَع على قلبه، كقطنٍ طبيٍّ فوق جرحٍ نازف.

لكن أيادي العالم بدت من بعيد...
وكأنها ظلالٌ تمشي على جدار ذاكرةٍ متشققة.

العزلة العاطفية...
سجنٌ بلا قضبان.

يرى الناس، يسمعهم،
لكن كلماتهم تصل إليه خالية من رحيقها،
كأصدافٍ جميلةٍ، لكن بلا نبض.

حاول أن يبوح،
لكن كلماته كانت تسقط كحجارةٍ في بئرٍ معلّقةٍ في العدم...
لا صدى لها سوى تكرار صوته هو...
مشوشًا... وحيدًا.

شمسٌ ذهبيةٌ كانت تذوبُ جدران العالم الخارجي،
بينما في داخله،
ضوءٌ باردٌ ينمو، يُلقي بظلالٍ متحرّكةٍ لأشياءَ لا اسم لها.

الشمسُ تضحك على الشواطئ،
وهو في قلعته الزجاجية،
يلمس برودة فهمه الجديد.

التواصل صار لغزًا:
كيف تلقي حبلَك في بحرٍ تجمَّد فجأة؟
كل محاولة للكلام،
كأنك ترمي حصاةً في بركةٍ انكمش فيها الزمن...
وصوتك لا يخترق السطح الأملس.

لكن الرحلة... كانت تنضج في صمت.
النضجُ لم يكن ثمرةً حلوة،
بل صلابةً جديدةً في عظام الروح.

رأى توازنًا هشًّا،
جميلًا كنسيج عنكبوت في الفجر.

الذات لم تعد قلعةً منعزلة،
ولا الآخر بحرًا مستحيلًا.

صار بينهما جسرٌ من ضباب...
يمرّ فيه ضوءُ الداخل، ويُدفَّأ بشيءٍ من دفء العالم.

تعلمَ أن يحمل حجرَ الاعتراف في جيبه، دون أن يثقله.
أن يسمع في صمت الآخرين... هُتافًا خفيًا.

ذابت الجدران الزجاجية...
وصار هو رقيقًا كالهواء، مرئيًا دون أن ينكسر.

وفي تلك الشفافية...
وجد أن الحضن الحقيقي،
ليس احتضان الأجساد،
بل أن تَسكُنَ مع الآخر،
في نفس الفضاء...
تحت نفس السماء...
التي تُذيب الجليد بلطف،
وتُبحِر فيها السفن الورقية للكلمات،
من جديد...
فوق بحرٍ رقّ سطحه، بعد تجمُّدٍ طويل.

جهاد غريب 
يوليو 2025 

مقال: الرجل الذي رأى ظله يذوب!

 
الرجل الذي رأى ظله يذوب! 

"عن رجلٍ لم يهرب من ظلّه، بل تبعه حتى ذابَ فيه" 

بين أضلاعه، انفتحت أبوابٌ لم يكن يعرفها. بدأت الرحلةُ بلا حقائب، بلا خرائط، فقط ذلك الإيقاعُ الغامضُ الذي يطرقُ من أعماق العظام، إيقاعٌ يشبه نبضَ كوكبٍ مجهول. كانت المفارقة الأولى: كلما توغل في الصحراءِ الداخلية، اكتشف أن ما يبحث عنه لم يكن مفقودًا، بل كان مُغطى بطبقاتٍ كثيفةٍ من الضجيجِ الذي يُسميه "حياته".

كان الفهمُ العميقُ للنفس يطلُ كشمسٍ سوداء. أضاء كل زاوية، لكن ضوءه لم يكن دافئًا. كشف الأثاثَ الخفي في غرف روحه: كرسي الوحدة المهترئ، وخزانةُ الأسرارِ المنسية التي تصدرُ صريرًا عند منتصف الليل، ومرآةُ الاعترافِ المُغَبَّرة. رآه كلَّه، عاريًا أمام نفسه، فخارت قواه. 

في تلك اللحظةِ بالضبط، عندما شعرَ بانكشافٍ يُشبه سقوطَ جدارٍ من زجاج، اشتهى حضنًا رمزيًا، نَظرةً لا تسأل ولا تُجيب، صمتًا يحمله كالقطنِ الطبيّ فوق جرحٍ نازف، لكن أيادي العالم بدت من بعيد، وكأنها ظلالٌ تمشي على جدارِ ذاكرةٍ مُتشققة. 

العزلةُ العاطفيةُ كانت سِجنًا بلا قضبان، يرى من خلاله الآخرين، لكن كلماتهم تصلُ إليه مُفرغةً من رحيقها، كأصدافٍ جميلةٍ خالية. حاول البوحَ، حاول الفضفضةَ، لكن كلماته كانت تسقطُ كحجارةٍ في بئرٍ مُعَلَّقةٍ في العَدَم، لا صَدى لها سوى تكرارِ صوتهِ هو، مشوّشًا، وحيدًا.

تناقضٌ مؤلمٌ: شمسٌ ذهبيةٌ تذوبُ جدرانَ العالمِ الخارجي، بينما في داخله، كان ضوءٌ باردٌ ينمو، يُلقي بظلالٍ متحركةٍ لأشياءَ لا اسم لها. كانت الشمسُ الخارجيةُ تضحكُ على الشواطئ، وهو في قلعتهِ الزجاجيةِ يلمسُ برودةَ فهمه الجديد. التواصلُ صار لغزًا: كيف تُلقي حبلكَ في بحرٍ تجمد فجأةً؟ كلُّ محاولةٍ للكلام كانت كمن يرمي حصاةً في بركةٍ انكمش فيها الزمن، وصوتٌ جافٌ لا يخترقُ السطحَ الأملس. 

لكن الرحلة، رغم قسوتها، كانت تنضجُ في صمت. النضجُ لم يكن ثمرةً حلوة، بل كان صلابةً جديدةً في عظام الروح. بدأ يلمحُ توازنًا هشًا، جميلًا كنسيجِ عنكبوتٍ في الفجر. لم تعد الذاتُ قلعةً منعزلةً، ولا الآخرُ بحرًا مستحيلًا. 

صار الفضاءُ بينهما جسرًا من ضباب، يسمحُ بمرورِ أشعةِ ذلك الضوءِ الداخليِّ البارد، ويدفئها قليلٌ من دفءِ العالم. تعلمَ أن يحملَ حجرَ الاعترافِ في جيبهِ دون أن يثقله، وأن يسمعَ في صمتِ الآخرين هُتافًا خفيًا. 

انصهرت الجدرانُ الزجاجيةُ ببطء، وصار هو رقيقًا كالهواء، مرئيًا دون أن يكونَ منكسرًا. وفي تلك الشفافيةِ، وجد أخيرًا أن الحضنَ الحقيقيَّ قد يكونُ مجردَ وجودٍ متوازنٍ في نفسِ الفضاء، تحت نفسِ السماءِ التي تُذيبُ الجليدَ بلطف، حيث تُبحرُ السفنُ الورقيةُ للكلماتِ من جديد، فوق بحرٍ رقّ سطحه بعد تجمدٍ طويل. 

جهاد غريب 
يوليو 2025 

قلبٌ يكتبُ كي لا يختفي: تأملات في فلسفة المهزومين!

 
قلبٌ يكتبُ كي لا يختفي: تأملات في فلسفة المهزومين! 

كانَ ينبغي لي أنْ أشتري نظارةً جديدةً منذُ زمن. ربما لو فعلتُ ذلك، لَما ظننتُ أن سرابَكِ واحةٌ، ولَما ظللتُ أجرّ أذيالَ حُلْمي على رمالٍ تلظّى، ككائنٍ صغيرٍ يتشبثُ بذيلهِ، كأنه حبلُ نجاة، لكنّي ـ كالعادة ـ فضلتُ أن أكونَ "فيلسوفَ العشقِ المُفلس"، أدرسُ طبيعةَ الوهمِ بينما تنزفُ قدمي على شظايا الزجاجِ الذي كسرْتِهِ أنتِ ببرودٍ.

تخيّلي معي أنكِ تدخلين غرفتي فجأةً، فتجدين جسدي المُعلّق على حائطٍ من دموع! نعم، إنها "لوحةٌ وجودية" تُجسّدُ لحظةَ انتحارِ الروحِ أمامَ مرآةِ الحب. الجثةُ تبتسمُ - بالطبع - لأنها تعلمُ أنكِ ستسألين: "لماذا ارتدى سُترةً بهذا اللون الباهت؟" لا تهتمين أبداً بأنه كانَ يرتدي قلبَه على كُمّهِ طوالَ الوقت.

وربما، حين تمعنّتُ وجهَ رفاتي المُعلّق في انعكاسكِ الذي لم يعد يراني، لم أعد أبحث عن تفسيرٍ فيكِ... بل وجدتُني أفتّش في ملامحي عن شيءٍ ضاع منذ زمن. تذكّرتُ كم من مرةٍ كنتُ أبحثُ في عينيكِ عن خلاصٍ، بينما كنتِ تبحثين في ابتسامتي عن سببٍ للغياب. عندها فقط، أدركتُ متأخرًا أن اللعبة كانت أكبر من مجرد مشهد درامي... لقد كانت حياةً بأكملها نُراهن عليها في محطةٍ لم توجد قط.

الحبُّ هو أن تدفعَ كلَّ ما تملكُ ثمنًا لتذكرةِ قطارٍ، ثم تكتشفَ أن المحطةَ كلها وهمية، لكنّنا نستمرّ في الصفّ الطويل، لأننا - كبشر - نؤمنُ بأن الخداعَ الجماعيَّ يُشبهُ الديمقراطية: كلّنا نعرفُ أنها مُربكة، لكننا نُصفّق كي لا نضطر للاعترافِ بالهزيمة.

وكلما طال الانتظار في ذاك الصفّ الوهمي، ازددتُ يقينًا أن الحظّ ليس غائبًا فحسب، بل كان يجلسُ يراقبُني من بعيد ويضحك.

في أحد الأيام، قررتُ أن أُجري حوارًا مع "حظّي العاثر". سألتهُ: "لماذا تختارني دائمًا ضحيةً؟" فضحكَ وقال: "لأنكَ الوحيدُ الذي لا يشتري!" ثم ناولني كوبًا من المُرّ، فشربتُه مُبتسمًا، ظننتُه قهوة. هكذا يُعلّمنا العارفُ أن السُّكران لا يُميّز بين العلقم والنبيذ.

ومن ذلك الضحك، تولد في داخلي صورةٌ للفراق، لا تشبه النهايات المعتادة، بل لوحةً من رمادٍ يحاول أن يشتعل رغم فقدانه لروحه.

لو كانَ لي أن أرسم فراقنا، لرسمتُ حديقةً من الشموعِ المُطفأة، تُنبتُ بينها أزهارٌ بلا رائحة. في المنتصفِ، يقفُ رجلٌ يحاولُ إشعالَ النارِ بأضلاعه، بينما تمرّين أنتِ - كظلٍّ بلا جسد - فتسحبين الهواءِ من حوله، ثم تهمسين، وكأنكِ تجهلين أن الهواء الذي سحبتيه، هو ما كان سيشعلُه.

نحن كائناتٌ مهووسةٌ بالمعنى، نبحثُ عنه حتى في ركامِ انكساراتنا، نُزيّن الألمَ بشيءٍ من البلاغة، ونخطّ القصائد على جدرانِ السجن كي نخدعَ أنفسنا بأنّنا أحرار! فنحن لا نُقرّ بأننا نحبُّ سجاننا، بل نقول إننا نكتب له كي نُغويه إلى باب الهروب.

هكذا يتحوّلُ العشقُ إلى فلسفةِ المُهزومين: نثبتُ من خلال النزيفِ أننا لم نمت بعد، ونُعلنُ عن حضورنا الأبدي بالغياب. نُغلقُ الأبواب خلفنا كي يسمعوا صوتَ الرحيل، لا لأننا نريد الذهاب، بل لأننا نرجو أن يركضَ أحدهم خلفنا... ولو مرة.

جهاد غريب 
يوليو 2025 


مقال: انكسارات الضوء البارد!

انكسارات الضوء البارد!    في الأعماقِ حيثُ تنكسرُ المرايا على حافةِ الصمت، تُولدُ الأسئلةُ كندوبٍ قديمةٍ تلمعُ في الظل. هناك، حيثُ يتوقّفُ ا...