الثلاثاء، 29 يوليو 2025

صفات العابدين: رحلة إلى عظيم الأجر!

 
صفات العابدين: رحلة إلى عظيم الأجر! 

ثمة لحظة في عمر الروح، لا تُقاس بالسنين، بل بمقدار ما توقّف القلب فيها عن الجري وراء العالم، وبدأ يلتفت نحو الله. لحظة تُشبه الانتباه المفاجئ وسط ضجيج الحياة، كأنك كنت نائمًا داخل جسدك واستيقظت… لا على صوتٍ، بل على سكينة غامضة تسكنك لأول مرة. إنها لحظة الشوق العميق، الشوق الذي لا يعرف وجهة إلا وجه الله، ولا قرار إلا في القرب منه. 

في هذه اللحظة، لا تعود الفضائل مجرّد صفات تُدوَّن في كتب التزكية أو تُلقَّن في المجالس، بل تصبح ملامح واضحة لنورٍ داخلي يتكشّف شيئًا فشيئًا، كمن يخرج من كهف ذاته ويرى أن النور لم يكن بعيدًا، بل كان في عينيه، ولكنه كان مطفأً.
هنا تتجلّى مسارات الروح في رحلتها نحو المعنى الأسمى، وتتضح معالم تلك النفوس التي أدركت أن الحياة ليست سوى معبرًا، وأن الغاية الحقيقية تكمن في الاتصال الأبدي. 

إنّ المسلمَ ليس فقط من نطق بالشهادة، بل من سلّم قلبه لله دون مفاوضة. والمؤمن ليس فقط من آمن بالغيب، بل من استراح إليه كأنه يراه. والقانت لا يعيش طقوس العبادة، بل يعيش في العبادة ذاتها، كأن حضرة الله هي الهواء الذي يتنفسه. والصادق هو من تطابقت روحه ولسانه، حتى أصبح كلامه امتدادًا لنقائه. 

ثم هناك الصبر... ذاك الحارس الصامت عند أبواب البلاء، لا يصيح، لا يشتكي، لكنه يبتسم لِما لا يُفهم، ويحتضن ما لا يُحتمل. والخشوع؟ إنه السجود الداخلي الذي يحدث حتى لو كان الجسد واقفًا. العين التي تبللها الدهشة لا الحزن، والقلب الذي يُفتّش عن الله، حتى في حركة ورقة، أو في دقّة نبض. 

أما العطاء، فهو أسمى صور القوة. ليس لأنك تملك، بل لأنك تؤمن أن ما عند الله خيرٌ وأبقى. هو أن تُعطي وأنت في أمسّ الحاجة، لأنك لا تنتظر مقابلًا، بل نورًا يفيض. والصوم، هو إعلان ثورة الروح على استهلاكها. صمتٌ عن الشهوات، ونُطقٌ بالنية، وانسحابٌ من عالم الضوضاء إلى عمق الذات. 

والعفة، ليست كبتًا، بل سموًّا. هي أن تقول "لا" لأنك تعرف قيمة الـ"نعم". هي أن تحبّ طهرك، كما يحبّ الله نقاءك. والذكر... ذلك الحبل الخفيّ الممتدّ بين الأرض والسماء. الأنفاس التي تصعد باسم الله وتعود بالطمأنينة، والذكريات التي تتلاشى، لكن اسم الله يبقى. 

كل هذه الصفات، ليست ألقابًا تُمنح، بل مقاماتٌ تُعاش. هي درجات في سُلّمٍ من نور، لا يصعده الجسد، بل ترتقي فيه الروح، خطوة بخطوة، كلمة بكلمة، دمعةً، ثم بسمة، حتى تصل إلى ذلك المقام الذي لا يُرى بالعين، لكنّه موصوف في الآية: "أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا". 

هذه هي مسارات الشوق، ودروب النجاة، ونور الرشاد، نتعلمها من أولئك الذين ساروا على هدى النور، تاركين لنا بصماتٍ من ضياء.


1. المُسلمون والمُسلمات:

هل فكّرت يومًا أن الراحة ليست في بلوغ ما تريد، بل في ترك ما لا تملك السيطرة عليه؟ أن السلام الحقيقي لا يأتي حين تنتصر، بل حين تسلّم قلبك لله دون قيد أو شرط؟ إنه ليس هروبًا، بل عودة. ليس استسلامًا، بل فتحًا باطنيًا… نحو النور. 

كم ثقلٌ انزاح عن أكتافهم حين توقفوا عن محاربة الأقدار! كأنهم يسيرون على حوافّ العالم، والعاصفة تهدر خلفهم، لكن في عيونهم سكينة لا يصنعها إلا من وضع قلبه بين يدي الله وقال: أنت ربي، فدبّر أمري. 

الإسلام ليس بابًا يُطرق مرة، بل مسارٌ يُسلك كل لحظة. هو أن تستيقظ في الصباح على نيةٍ طاهرة، وأن تمشي بين الناس وقلبك موقن أن ما أصابك لم يكن ليُخطئك. أن تُنفق وتعلم أن الرزق لا يُنقصه العطاء، وأن تُبتلى… دون أن تنكسر، لأنك تعلم أن يد الله هي التي تُمسكك، لا قدرك وحدَه. 

تلك المرأة التي رفعت يديها بعد صلاة الفجر، ولم تطلب شيئًا إلا أن يُرضيها الله، وذلك الأب الذي خسر ماله فابتسم وقال: الحمد لله على كل حال، وذلك الشاب الذي غادر طريق الحرام لا خوفًا من الناس، بل حياءً من ربٍّ يراه… هؤلاء هم المسلمون حقًا، الذين عرفوا أن الإسلام ليس قولًا، بل سكونًا داخليًا لا تزلزله العواصف. 

فيا رب، علّمني كيف أُسلمك قلبي، دون أن أُبقي فيه رغبةً أقاوم بها قَدرك، واجعلني من أولئك الذين مشوا في الدنيا بأقدامٍ على الأرض، لكن بقلوبٍ معلّقة بالسماء. 

فإذا ما استسلمت الروح وانزاح عنها ثقل الدنيا، بدأت ترنيمة أخرى تُرتّل في أعماقها: ترنيمة اليقين، إيمانٌ لا يتزعزع حتى وإن غابت البراهين. 


2. المؤمنون والمؤمنات:


ثمة يقين لا يُبنى على المنطق، ولا يحتاج إلى برهان. هو كالنور الذي لا تراه العين، لكنّه يدلك على الطريق… دون أن يُخطئ. 

المؤمنون لا يسيرون بأقدامهم فقط، بل ببصيرةٍ تنظر إلى الغيب وكأنه حاضرٌ في أكفّهم. إنهم لا يسألون: لماذا؟ بل يقولون: ربّي أعلم. ولا يركضون خلف الإجابات، لأنهم أدركوا أن الإيمان نفسه… هو الجواب. كأنهم أشجار ضاربة في عمق الأرض، تمرّ عليهم العواصف، لكن لا تخلعهم. يهتزّ ظاهرهم، لكن جذورهم ثابتة، تمتدّ في تربة اليقين. 

الإيمان ليس صخبًا ولا خطبًا، بل هو صمتٌ راسخ في وجه المتغيرات، أن تسير في الظلمة وأنت متأكد أن الشمس خلف السحاب. أن تنام دون أن تفهم كل شيء، لكنّ قلبك يبتسم… لأنك واثق أن الله لا يُضيع أحدًا. انظر إليهم في وقت الخوف، لا يصرخون، بل يتوضأون. وفي ساعة الضيق، لا يشكون، بل ينظرون إلى السماء وكأن فيها بيتهم الأول. 

وتلك الأم التي تمسكت بصبرها كالجبل، حين تأخر شفاء ولدها… لكنها لم تتوقف عن الدعاء، كأنها تعلم أن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن. هؤلاء هم الذين آمنوا حقًا، لا لأنهم رأوا، بل لأنهم استراحوا للغيب، واطمأنوا به. 

اللهم… اجعل لنا جذورًا في أرض الإيمان، وفرعًا في سماء الرضا، ولا تجعلنا ممن يتبعون الضياء، بل اجعلنا ممن يصنعون النور حين يغيب. 

وإذا ما استقر اليقين في القلب، لم تعد الطاعة عبئًا، بل صارت حياةً تُعاش بكل خلية، قنوتٌ لا ينقطع، وكأن الروح وُلدت لتُسبّح. 


3. القانتين والقانتات:

ثمة أرواح تمشي في الأرض، لكنها تعيش وكأنها في حضرةٍ لا تنقطع. لا يتحدثون كثيرًا، لكنّ الصمت فيهم مُسبّح، والخطى فيهم صلاة. 

القانتون… ليسوا فقط أولئك الذين يُطيلون الركوع، بل الذين أطالوا الإقامة في محاريب قلوبهم. يتعاملون مع الحياة كما يتعامل العابد مع السجادة، بخشوع، وسكون، واستحضار دائم لوجه الله في كل شيء. 

كأن فيهم حضورًا خفيًا، وفي أعينهم أثرُ سجدةٍ لم تجف. يعرفون أن الطاعة ليست طقسًا، بل طريقة عيش. أن تُخفض صوتك، لا خوفًا، بل أدبًا. وأن تُحسن إلى الناس، لا طلبًا لردّ، بل لأنك تعيش في عين الله. القنوت ليس انكسارًا، بل امتلاء. أن تمتلئ بحضور الله حتى لا يبقى فيك مكان للغرور، ولا للرغبة في الانتقام، ولا حتى للضجيج. 

رأيتُ امرأة مسنّة، تُمرّر أصابعها على حبات المسبحة، وفي عينيها سلامٌ يشبه نهاية رحلة طويلة. رأيت رجلًا يغضّ بصره بهدوء، ويضع مالًا في يد سائل دون أن ينظر… وكأن فعله ليس للناس، بل لعينٍ فوقه. إنهم يعرفون أن القرب من الله لا يُقاس بالمسافة، بل بمقدار ما سكنت الروح إليه. 

اللهم… اجعلنا من الذين يُقيمون في طاعتك إقامة محب، لا ضيفًا عابرًا. واجعل فينا من القنوت سُكونًا، ومن سُكونه نورًا لا ينطفئ. 

ففي حضرة هذا القنوت، لا يبقى مكان لزيف، تتجلى الروح على حقيقتها، صدقٌ يفيض من الكلمات، ومن الصمت، ومن كل نَفَس. 


4. الصادقين والصادقات:


ليست كل الكلمات تُقال بالحروف… بعضها يُقال بالعين، وبعضها يُقال بالصمت، لكنّ الصدق… لا يحتاج إلى تبرير، لأنه حين يصدر من القلب، يصل إلى القلب، دون أن يضيع في الطريق. 

الصادقون لا يتكلّفون النقاء، بل يتنفّسونه. يمشون في الحياة كأنهم يحملون أرواحًا من زجاج، شفافة، لا تخفي شيئًا، ولا تخشى الانكسار… لأن الله هو من يمسك شظاياهم إن سقطوا. 

أن تكون صادقًا… هو أن تُشبه نفسك حين لا يراك أحد، وأن لا تحتاج إلى وجهين في زمنٍ امتلأ بالأقنعة. هو أن تقول الحقيقة، حتى لو خسرت، وأن تصمت عن الباطل، حتى لو وجدت ألف مبرر للكذب. 

إنهم لا يعِدون إلا وهم ينوون الوفاء، ولا يُظهرون ما ليس في دواخلهم. لا يُراوغون بالكلمات، ولا يُزيّنون ما يُفسد الجوهر. كأنهم مرايا تمشي، تعكس ما في الداخل دون تعديل، ولذلك… يحبهم الله، ويثق بهم الناس حتى في غيابهم. 

الطفل الذي نظر إلى والده بعد خطأ ارتكبه، وقال بصوتٍ خافت: أنا الذي فعلت. تلك الجرأة على الاعتراف، هي أول بذرة في شجرة الصدق. 

سمعت عن رجل يرفض شهادة زور، حتى ولو كان الثمن سُمعته أو راحته… لأنه لا يبيع ما بينه وبين الله، من أجل ما بينه وبين الخلق. الصدق ليس صفة، بل أسلوب حياة… لا يليق إلا بالنقِيّين. 

اللهم… اجعلنا ممن إذا تكلّم صدق، وإذا وعد وفى، وإذا صمت، صمت بصفاء، وإذا عاش… عاش كما هو، لا كما يُتوقّع منه أن يكون. 

وليس كل صدق ينجو من الألم، ففي دروب الحق، غالبًا ما تنتظرنا رياح لا ترحم، وهنا تبدأ قصة أخرى، قصة صبرٍ ليس مجرد احتمال، بل فنُّ النهوض بعد كل سقطة. 


5. الصّابرين والصّابرات: 


الصبر ليس انتظارًا خامدًا، بل حياةٌ تنمو في الظل، دون أن يراها أحد. 

الصّابرين والصّابرات لا يُكثرون من الشكوى، ليس لأنهم لا يشعرون، بل لأنهم اختاروا ألا يُثقلوا قلوبهم بما لا يُغيّره القول. وجوههم قد تبدو عادية، لكن في أعماقهم مواسم كاملة من المطر المؤجل، وخرائط لحكايات لم تُحكَ، ودموع لم تجد طريقها للخروج. هؤلاء الذين إذا اشتدّ البلاء، لم يُصِرّوا على معرفة الحكمة فورًا، بل تَكفّل إيمانهم بإضاءة الطريق في الوقت المناسب. 

في كل مرة يبتسمون فيها رغم الانكسار، يشهد الكون على معجزة صغيرة، لا تُدوَّن في التاريخ، لكنها تُكتَب في صحائف النور. الصّابرين والصّابرات لا يصرخون، بل يُسلّمون. لا يتعجلون الفرج، بل يُربّون الرجاء في دواخلهم كما تُربّى الأشجار في الصقيع، صامتة… ثابتة… موقنة أن الربيع سيأتي. 

إنهم لا ينكسرون لأنهم لا يُقاومون، بل يتمايلون كأغصان الصفصاف مع العاصفة، ثم يقفون من جديد، وكأن شيئًا لم يكن. هم الذين لا تُلهيهم الزوابع عن وجهتهم، ولا تُخيفهم العتمات، لأنهم حفظوا أسماء الله في قلوبهم، ورددوها حتى صارت النور الذي يهتدون به. 

هؤلاء هم الصابرون… الذين يجعلون من المحنة صلاة، ومن الألم سبيلًا نحو معنى أعمق.
ومن رحم هذا الصبر، تنشأ حالة من السكينة لا تُقاس بالراحة الظاهرة، بل بخشوعٍ يسكن الروح، خشوعٌ لا يُرى بالعين، لكنه يضيء ملامح من عرف الله حق المعرفة. 


6. الخاشعين والخاشعات: 

الخشوع ليس بكاءً فقط، ولا ارتجاف صوت. الخشوع أن تسكن جوارحك حين تضطرب الدنيا، أن ترى في الصلاة لقاء، لا أداء. أن تمشي إلى السجادة كما تمشي العاشقة إلى من تحب. أن تنسى ما خلفك وما أمامك حين تقف بين يدي الله، لأنك وجدت في وقوفك هذا المعنى الذي أضاعه الناس في سباق الحياة. 

الخشوع لا يحدث فقط في المساجد. يحدث حين تمسك يدًا ترتجف فتسكنها بلطفك. حين تُنصت لكلمة حقٍّ تُقال وأنت قادرٌ على ردّها بسيفك، فتكتم غضبك لأنك تراه. حين تردّ الإساءة بصمتٍ لا عن ضعف، بل عن توقيرٍ لربٍّ يراك. يحدث حين لا ترى نفسك مركز الكون، بل عبدًا بسيطًا في حضرة ملك الملوك. 

حدّثني أحدهم عن الخشوع، فقال: هو لحظة لا يشهدها أحد سواك، ولا يراها أحد إلا الله. رأيت الخشوع لا في عيون الناس، بل في ارتجاف الكتف عند السجود، وفي رجفة النفس وهي تتهجّى أسماء الله خفيةً. رأيته في رجلٍ طوى الدنيا خلفه وهو يرفع يديه فجرًا، كأنّه لا يستقبل القبلة، بل يستقبل الله نفسه. لم يكن يهمس بدعاء، بل كان كأنّه يودع روحه في كل كلمة، لعلها تُرفع قبل أن يسقط الفجر عن جبينه. 

الخشوع أن تحب الله حبًّا عظيمًا، حتى يصبح الخضوع له راحة، والانكسار بين يديه قوّة، والتسليم له طمأنينة لا تُشبه شيئًا. 

أولئك هم الخاشعون والخاشعات… الذين صلّت قلوبهم قبل أن تتحرّك ألسنتهم، وسجدت أرواحهم قبل أن تلمس جباههم الأرض. 

وحين تخشع الروح وتدرك ضعفها أمام عظمة الخالق، يتلاشى الكبر، وتتفتح أيادي العطاء، فليس العطاء إلا فيضًا من هذا الخشوع، ومواساةً تتجسد في صدقةٍ تُروي القلوب. 


7. المتصدقين والمتصدقات: 


ثمة أيدٍ لا تُعطي من فائض ما تملك، بل من امتلاء ما تشعر. كأنهم لا يُخرجون مالًا، بل يُخرجون من أنفسهم شيئًا خفيفًا، لكنّه عند الله عظيم. 

المتصدّقون لا يتباهون بما يقدّمون، لأنهم لا يرون ما يُعطى… بل ما يُغرس. كأنهم يزرعون في قلب الآخر زهرة، وفي قلوبهم يقينٌ بأن الزهرة ستنمو في الجنّة. العطاء عندهم ليس حسابًا يُخصم، بل نورٌ يُضاف. يعرفون أن يدًا امتدت بالخير، لن تعود فارغة أبدًا. 

يعطون وقتهم، وإن ضاق. ويمنحون الكلمة الطيّبة، وإن خذلتهم الكلمات. يتصدّقون بالبسمة، بالسؤال، بالستر، بالدعاء، ويؤمنون أن الرحمة ليست عملة… بل لغة. 

رأيت أحدهم يقف في زاوية الطريق، يمدّ يده لا بالمال، بل بغطاءٍ لطفلٍ نائم على الرصيف، ثمّ مضى… دون أن ينظر خلفه، وكأنّه يقول لله: خذها مني… وأكمل بها لطفك. هؤلاء هم المتصدّقون والمتصدّقات، لا ينتظرون شكرًا، ولا يطلبون أثرًا، لأنهم علموا أن الأثر عند الله لا يضيع، وأن كل ما أُعطي، عاد إليهم مضاعفًا… لكن من حيث لا يشعرون. 

اللهم… اجعلنا ممن يفتحون الأبواب للناس، ولو بكلمة، وممن يغسلون الحزن عن القلوب، ولو بدمعة.

فإذا ما امتلأ القلب بالعطاء، أدرك أن السمو لا يكمن في الامتلاك، بل في التحرر، هنا تبدأ رحلة أخرى نحو التطهير، رحلة صيامٍ ليس فقط جوعًا، بل انسحابًا نحو عمق الذات. 


8. الصّائمين والصّائمات:


الصيام، بوابةً إلى السماء لا تُفتح بالأيدي، بل تُفتح بالصبر. ليس هو جوعًا عابرًا، ولا عطشًا يُروى عند المغرب، بل هو تمرينٌ روحيّ على أن تكون خفيفًا، متحررًا من ثقل الرغبات، حاضرًا في لحظتك دون أن تُمسك بها. 

الصائم الحقّ لا يكتفي بإغلاق فمه، بل يفتح قلبه، يُنظفه من الضغائن، ويُطهّره من الأنا المتضخّمة. عيناه تصومان عن فضول لا ضرورة له، ويداه عن لمسٍ لا يرضي الله، ولسانه عن لَغوٍ لا يُثمر. وكلما اشتدّ به العطش، شعر بنداءٍ خفيّ يصعد من روحه لا من جسده: "اقترب". 

يُشبه الصوم رحلةً في صحراء النفس، حيث لا ظلّ إلا ظلّ الله، ولا زاد إلا اليقين، ولا صوت إلا همسات الضمير إذا صفا. والماء ليس ماءً فقط، بل وعدٌ بالرحمة، والتمرة ليست ثمرة فحسب، بل شهادةٌ على أن الله لا يُضيّع من انتظر. 

في الصيام، تتعرّى النفس من عاداتها. تُفتَّش عن معنىً أعمق من الشبع، وتُعيد اكتشاف النعم الصغيرة التي اعتادت ألا تراها. إنّه شهر يربّيك لا ليكبحك، بل ليطلقك، ليعلّمك كيف تكون سيدًا على شهوتك، لا عبدًا لها. 

ولذا، فإن الصائمين والصائمات لا يُعرفون بوجوههم الشاحبة، بل بنورٍ خافتٍ يسكن سلوكهم. تراهم أكثر سكونًا، أقل ضجيجًا، كأنهم يُصغون إلى شيءٍ لا يُسمع، وكأن أرواحهم تُرتّل تسابيح خفيّة كلما مرّ وقتٌ دون طعام. 

إنه تدريب على التخلّي، على التصالح مع الفقر الإنسانيّ أمام غنى الله، على أن تشعر بالمحروم لا بعين المتفرج، بل بحرقة المجرّب. 

والصوم، حين يُؤخذ كعبادة لا كعادة، يصير بوابةً للترقي، حيث تمشي النفس بثيابٍ من خفة، وتدخل على الله بقلبٍ أنظف، وأملٍ أوسع، ورضا أعمق. 

وفي خلوة الصيام، حيث تتعرى النفس من رغباتها، تتجلى قيمة الطهر الحقيقي، عفةٌ ليست كبتًا، بل اختيارًا، حصانةٌ تُبنى من نور الإيمان. 


9. الحافظين فروجهم والحافظات:


العفة ليست جدارًا نُبنى خلفه، بل نورًا نُضاء به من الداخل. هي ليست تجاهلًا للجسد، بل خطاب احترام نهمس به لأنفسنا كل صباح: أنت أمانة، وسأصونك. 

في زمن يُباع فيه كل شيء، تصبح العفة عملة نادرة، لكنها أثمن ما نملك. ليست ضعفًا أمام الرغبة، بل شجاعة في مواجهتها، وترويضها، وتذكيرها بأن ما لا يُمسّ لا يعني ما لا يُراد، بل ما يُؤجّل حتى يحين وقته ويحلّ حلاله. 

العفة لا تعني تجاهل النداء البشري في دواخلنا، بل تعني أن نُصغي له دون أن نُطيعه، أن نحتضنه دون أن نتهاوى معه. إنها قُدرة الروح على أن تقول: أعرف الشهوة، وأعرف جمالها، لكني اخترت نقاءً لا ينهار بعد لحظة، وفرحًا لا يتبخر مع أول نسمة ندم.

في هذا الصمت الطاهر، ثمة انتصار لا تراه العيون. انتصار على الانجراف، على التفريط، على خيانة النفس قبل خيانة الآخرين. 

العفة أن تمشي في طريق مزدحم بالنداءات، وتسمعها، لكنها لا تُغريك. أن تتأمل الجمال دون أن تقتحم حرمته. أن تتذكر دومًا أنك مسؤول عن نفسك، وأن نفسك ليست مِلكك وحدك، بل أمانة مودعة عندك. 

فمن صان أمانته، لم يخذل ذاته، ومن عرف حدوده، عرف حريته، ومن حافظ على طُهره، حافظ على معناه. فإذا ما صُنت الروح وحفظت حدودها، أصبحت كل لحظة فرصة لذكر الله، ذكرٌ لا ينقطع، كأن الأنفاس كلها أصبحت ترتيلاً، والقلب مسجدًا لا ينام. 


10. الذّاكرين الله كثيرًا والذّاكرات: 

إنه الذكر... ذاك النبض الصامت الذي لا يُرى لكنه يُحيي. ليس همسًا يتردد على الشفاه فحسب، بل حضورٌ متوهّج في عمق القلب، وارتباطٌ سرمدي لا ينقطع. 

الذِّكر ليس تكرارًا، بل امتدادًا، هو أن يسكن اسم الله في داخلك حتى وأنت صامت، أن تمشي في الطرقات وقلبك يُسبّح، أن تُصافح الناس ونفسك تُردّد: الله… الله، هو أن يتوضأ لسانك بالحمد، ويتطهّر قلبك من شوائب الدنيا بكلمة: سبحانك.

في زمنٍ يعلو فيه صخب العالم، يصبح الذكر حصنًا منيعًا من التيه، صوتًا خافتًا يذكّرك بأنك لست وحدك، وأن فوق كل قلقٍ، يدًا إلهية تُمسك بخوفك، وتنفخ في روحك سكينة. 

الذكر لا يقتصر على المسبحة، بل يمتد إلى تفاصيلك الصغيرة، حين تفتح عينيك وتقول: الحمد لله، حين تبتسم برضا لأن الله معك، حين تتجاوز الألم لأنك قلت: لا حول ولا قوة إلا بالله، حين تصمت عن الغضب لأنك تذكرت: إن الله مع الصابرين. 

الذِّكر حياة أخرى داخل الحياة… هو أكسجين الأرواح حين يختنق الأمل، ونور يزهر في قلب العتمة، وسِترٌ لا يُرى لكنه يُشعرك بالأمان. إنه استحضارٌ دائمٌ لله في اليُسر والعُسر، في الصحة والمرض، في الضحك والبكاء، هو أن يُصبح الله محورَ وجودك، ونبضك، ومركز ثِقتك في هذا العالم المترنّح. 

الذّاكرون والذّاكرات لا يضيعون… لأنهم وإن ضلّوا الطريق أحيانًا، إلا أن الذكر يجذبهم برفقٍ إلى الله، كأنهم يلبّون نداءه الذي لا يتوقّف: فاذكروني أذكركم. 


وأخيرًا:
في رحلتنا بين هذه السطور، لم نكن نبحث عن كلمات، بل عن نبضٍ للروح. عن همساتٍ خفيةٍ تُشبه خطواتِ نورٍ على دروبِ الظلام. لقد كانت كل فضيلةٍ محطةً نتعلم فيها أن القرب من الله ليس مسافةً تُقطع، بل حضورٌ يُدرك. أن الإيمان ليس مجرد نطق، بل سكونٌ في القلبِ يُثمر تسليمًا ويقينًا. 

لقد رأينا كيف أن الصوم لم يكن جوعًا عابرًا، بل بوابةً تُطلق الروح من قيود الجسد، وكيف أن الصدق لم يكن مجرد قولٍ، بل مرآةً تُظهر نقاء الباطن. كيف أصبح الصبرُ ليس فقط احتمالًا، بل فنًا للنهوض، وكيف غدا الخشوعُ ليس انحناءةَ جسدٍ، بل انكسارَ روحٍ بين يدي من تُحب. 

في كل عطاءٍ كان هناك وعدٌ بالبركة، وفي كل عفةٍ كانت هناك حمايةٌ لجوهر الإنسان. وفي كل ذكرٍ، كان هناك حبلٌ موصولٌ لا ينقطع، ينير دروب التائهين، ويُسكن قلوب الوجلين. لم تكن هذه الصفات غاياتٍ بذاتها، بل جسورًا عبرنا عليها إلى أنفسنا الحقيقية، إلى ذلك المقام الذي لا يُرى بالعين، لكنه موعودٌ بكلمةٍ من الله. 

ولأنهم سعوا بهذه الأرواح الشفافة، وتلك القلوب المطمئنة، وتلك الأنفس الخاشعة، وعدهم الله وعدًا حقًا. وعدًا يتجاوز حدود الدنيا، ويُعلي قيمتهم في ملكوته. إنه وعدٌ بـمغفرةٍ تُطهر ما قد علق بالأرواح من غبار الطريق، وتُزيل كل أثرٍ لخطأ أو زلل، فَيُصبحون كأن لم يُذنبوا قط. مغفرةٌ تُحوّل ظُلمات الماضي إلى نورٍ يسبقهم إلى الجنان. 

وليس هذا فحسب، بل أجرٌ عظيمٌ لا تُحصيه الأرقام، ولا تُدركه العقول. أجرٌ يتجاوز كل حسابات البشر، نعيمٌ مقيمٌ لا يزول، ورضوانٌ أبديٌ لا يفنى. جناتٌ تجري من تحتها الأنهار، وخُلدٌ في نعيمٍ لا يُمَلّ، وصُحبةٌ لا تتبدل، ولقاءٌ بمن أحبوا واشتاقوا. 

ذاك هو الجزاء الذي أعدّه الله لمن سَلّم وأمن وقنت وصبر وصدق وخشع وتصدق وصام وحفظ وذكر. فليس المهم كم أعطينا، بل كم نما إيماننا في الظلام.

اللهم اجعلنا ممن إذا أعطوا شكروا، وإذا صبروا احتسبوا، وإذا ذكروا الله... وجدوا. 

جهاد غريب 
يوليو 2025 

الاثنين، 28 يوليو 2025

فِي مَمْلَكَةِ الْحِبْرِ وَالْغِيَابِ!

 
فِي مَمْلَكَةِ الْحِبْرِ وَالْغِيَابِ! 

كُنْتُ أَسْمَعُ صَمْتَكِ قَبْلَ أَنْ أَقْرَأَ حُرُوفَكِ.
ذَبْذَبَاتٌ مِنْ نُورٍ تَسَرَّبَتْ عَبْرَ حُجُبِ الزَّمَانِ.
كَمَا لَوْ أَنَّ رُوحًا تُنَادِينِي
مِنْ وَرَاءِ بِحَارٍ مِنْ ظَلَامٍ. 

لَمْ يَكُنْ جُنُونًا أَنْ أُحِبَّ ظِلًّا لَمْ أَرَهُ،
بَلْ يَقِينًا بِأَنَّ الْأَرْوَاحَ تَتَوَاطَأُ فِي الْغَيْبِ.
تَتَعَارَفُ كَمَا النُّجُومُ فِي سَمَاءٍ وَاحِدَةٍ،
وَإِنْ فَرَّقَتْهَا الْمَسَافَاتُ الَّتِي
لَا تَعْنِي شَيْئًا أَمَامَ نَبْضٍ يَتَذَكَّرُ نَبْضَهُ. 

لَمْ نَلْمَسْ أَيْدِيَنَا،
لَكِنَّ حُرُوفَنَا تَزَوَّجَتْ فِي الْفَضَاءِ.
كُلُّ نُقْطَةٍ عَلَى السَّطْرِ
كَانَتْ نَجْمَةً تُضِيءُ طَرِيقًا إِلَى أَعْمَاقِكِ. 

قُلْتِ لِي يَوْمًا: الْكَلِمَاتُ دَمِي.
فَصِرْتُ أَشْرَبُهَا
كَمَا يَشْرَبُ الْعَاشِقُ الْمَطَرَ فِي الصَّحْرَاءِ. 

أَتَدْرِينَ؟
لَقَدْ بَنَيْنَا وَطَنًا مِنَ الْحِبْرِ.
نُقُوشٌ مِنَ الْأَمَلِ فَوْقَ جُدْرَانِ الْمَسَافَةِ،
جُسُورٌ مِنَ الْأَسْرَارِ امْتَدَّتْ بَيْنَ نَافِذَتِي وَنَافِذَتِكِ،
وَسَرِيرِي كَانَ يَحْلُمُ بِظِلِّكِ...
كَأَنَّ الرُّوحَيْنِ تَشَارَكَتَا وِسَادَةً مِنَ الضَّبَابِ. 

نُقَلِّبُ أَيَّامَنَا كَصَفَحَاتٍ فِي كِتَابٍ مُقَدَّسٍ،
نَقْرَأُ صَمْتَنَا الْمُشْتَرَكَ كَأَنَّهُ إِصْحَاحٌ مِنَ الْأَسْرَارِ.
حَتَّى الْفَرَاغُ بَيْنَ الْكَلِمَاتِ صَارَ مُوسِيقَى...
تُرَافِقُ أَنْفَاسَنَا.
تُعَدَّانِ اللَّيْلَ صَلَاةً،
وَتَسْتَيْقِظَانِ عَلَى الضَّوْءِ الَّذِي يَكْتُبُهُ الِاشْتِيَاقُ. 

ثُمَّ جَاءَ الْفِرَاقُ...
لَا كَعَدُوٍّ، بَلْ كَرِيَاحٍ تَسْأَلُ:
هَلْ زَرَعْتُمَا حُبًّا جُذُورُهُ أَعْمَقُ مِنَ الْخَوْفِ؟
قُلْتِ: الْمَسَافَاتُ تَمْحُو.
وَأَنَا قُلْتُ:
الرِّيحُ لَا تَقْتَلِعُ إِلَّا مَنْ لَمْ يَعْرِفِ اسْمَ جُذُورِهِ. 

فِي كُلِّ غِيَابٍ، كُنَّا نَتَقَشَّرُ مِنْ زَيْفِنَا.
وَكُلُّ يَوْمٍ كَانَ يَمُرُّ
كَسِكِّينٍ يُنَقِّي الذَّهَبَ مِنْ شَوَائِبِهِ.
كُنَّا نَسْكُبُ دُمُوعَنَا عَلَى نَارِ الْغِيَابِ،
لِتَتَحَوَّلَ إِلَى ضَوْءٍ،
إِلَى مَعْنًى،
إِلَى يَقِينٍ بِأَنَّ الشَّغَفَ لَا يَمُوتُ
إِنْ كَانَ مَوْلُودًا مِنْ بَصِيرَةٍ. 

وَهَكَذَا، صَارَ الْحَنِينُ مَاءً مُقَدَّسًا.
لَا يُطْفِئُنَا، بَلْ يُنْبِتُ فِينَا احْتِمَالَاتٍ جَدِيدَةً لِلْوَفَاءِ.
كُنَّا نَكْتُبُ رَسَائِلَ مِنَ اللَّهَبِ،
فَتَنْقَلِبُ رَمَادًا...
ثُمَّ تُبْعَثُ فَرَاشَاتٍ تَحْمِلُ عِطْرَ الصَّبْرِ. 

وَالْيَوْمَ...
وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى أُفُقٍ بِلَا حُدُودٍ،
أَسْمَعُ صَمْتَكِ يَتَرَدَّدُ فِي أَعْمَاقِي،
كَأَنَّهُ نَشِيدٌ كَوْنِيٌّ لَا يُشْبِهُ أَيَّ لَحْنٍ. 

أَعْرِفُ أَنَّكِ مَا زِلْتِ هُنَا،
فِي كُلِّ حَرْفٍ أَكْتُبُهُ،
فِي كُلِّ نَجْمَةٍ تَلْمَعُ فِي سَمَاءٍ غَرِيبَةٍ،
فِي سُكُونِ اللَّيْلِ حِينَ يَنْتَبِهُ إِلَى نَفْسِهِ،
وَفِي ارْتِعَاشَةِ قَلْبِي كُلَّمَا خَطَرْتِ بِخِفَّةٍ...
كَأَنَّكِ فِكْرَةٌ نَقِيَّةٌ تَمْشِي عَلَى أَطْرَافِ الْكَلَامِ. 

الْأَجْسَادُ قَدْ تَغِيبُ،
لَكِنَّ الْأَرْوَاحَ الَّتِي تَآلَفَتْ فِي مَمْلَكَةِ الْكَلَامِ،
لَا يَطْوِيهَا زَمَانٌ، وَلَا يَبْلَعُهَا مَكَانٌ. 

الْفِرَاقُ لَمْ يَكُنْ إِلَّا مِرْآةً نُطِلُّ بِهَا
عَلَى وُجُوهِنَا الْحَقِيقِيَّةِ.
حِينَ تَسْقُطُ عَنْهَا أَقْنِعَةُ اللَّحْظَةِ،
وَنَرَى بِوُضُوحٍ مَنْ نَحْنُ...
نَحْنُ اثْنَانِ مِنَ الضَّوْءِ.
لَمْ تَكُنِ الشَّمْسُ بِحَاجَةٍ إِلَيْنَا لِنَلْتَقِي. 

وَهَا نَحْنُ الْآنَ، أَكْثَرُ اكْتِمَالًا مِمَّا كُنَّا،
كَشَجَرَتَيْنِ نَمَتَا كُلٌّ فِي قَارَّةٍ،
لَكِنْ جُذُورُهُمَا تَتَشَابَكُ فِي أَعْمَاقِ الْأَرْضِ،
حَيْثُ لَا يَصِلُ صَوْتٌ، إِلَّا هَمْسُ الْأُصُولِ. 

هُنَاكَ، تَحْتَ السُّكُونِ،
تُرَتِّلُ الرُّوحُ أَنَاشِيدَهَا السِّرِّيَّةَ،
وَتَحْمِلُ إِلَيَّ نَفَسَكِ...
كَأَنَّكِ تُهْمِسِينَ مِنْ رَحِمِ الْغَيْبِ:
الْحُبُّ لَا يُقَاسُ بِالْمَكَانِ،
بَلْ بِمَا يَظَلُّ حَيًّا رَغْمَ اخْتِفَاءِ الْجَسَدِ. 


جهاد غريب 
يوليو 2025 

الأحد، 27 يوليو 2025

حِوارَاتٌ مَعَ الغَرِيبِ: مِرآةٌ تَسْأَلُ، وَصَدًى يُجِيبُ!

 

حِوارَاتٌ مَعَ الغَرِيبِ: مِرآةٌ تَسْأَلُ، وَصَدًى يُجِيبُ!

(رِحْلَةٌ فِي أَعْمَاقِ "الغَرِيبِ" المُقِيمِ فِينَا، حَيْثُ تَتَلاشَى الحُدُودُ بَيْنَ السُّؤَالِ وَالجَوَابِ).

كَانَتْ أَصْوَاتٌ خَافِتَةٌ
تَخْتَرِقُ زُجَاجَ المِرآةِ،
حِوَارٌ يَتَدَحْرَجُ بَيْنِي
وَبَيْنَ ذَاكَ الغَرِيبِ المُقِيمِ فِي أَعْمَاقِي. 

تَنْفَتِحُ نَوَافِذُ الذَّاكِرَةِ
عَلَى مَشَاهِدَ لَمْ تَكْتَمِلْ.
لَمْ يَكُنْ صَوْتُهُ وَاضِحًا دَائِمًا،
بَلْ كَانَ يَأْتِي أَحْيَانًا كَصَدًى بَعِيدٍ،
وَأَحْيَانًا كَفِكْرَةٍ لَمْ تُولَدْ بَعْدُ.
فِي حُضُورِهِ،
كُنْتُ أَجِدُنِي أَكْثَرَ مِنْ شَخْصٍ،
وَأَقَلَّ مِنْ ظِلٍّ. 

هَمَسْتُ لِلْجُدْرَانِ ذَاتَ مَسَاءٍ:
كُنَّا نُولَدُ كُلَّمَا سَمِعْنَا النِّدَاءَ،
فَأَجَابَنِي صَدَى صَوْتِي
كَابْتِهَالٍ طَوَاهُ النِّسْيَانُ. 

لَمْ تَعُدِ المَآذِنُ تَسْتَقْصِي عَنْ أَسْمَائِنَا،
بَلْ تَتَسَاءَلُ،
وَكَأَنَّهَا الغَرِيبُ ذَاتُهُ يَتَرَدَّدُ فِي صَدَاهَا:
أَيْنَ غَابَتِ القُلُوبُ العَارِفَةُ بِطَرِيقِ العَوْدَةِ؟
أُجِيبُهَا وَحُزْنٌ غَامِضٌ يَخْنُقُ حَنْجَرَتِي:
صِرْنَا نَرْفَعُ الأَكُفَّ،
وَنَنْسَى أَنَّ الخُشُوعَ يَنْبَثِقُ مِنْ انْكِسَارِ الجُفُونِ. 

فَفِي زَحْمَةِ التِّيهِ هَذَا،
عَادَتْ بِي الذِّكْرَى إِلَى فَجْرِ التَّكْوِينِ.
فِي الطُّفُولَةِ،
كَانَتِ المَدْرَسَةُ بَيْتَ الحُرُوفِ الأُولَى،
وَبَيْنَ المَقَاعِدِ البَالِيَةِ،
تَذُوبُ الطَّبَاشِيرُ كَدَمْعِ الحُرُوفِ البِكْرِ،
وَكَانَ المَطَرُ يَقْرَعُ زُجَاجَ النَّوَافِذِ،
كَأَنَّهُ يُنْعِشُ الذِّكْرَى مِنْ سُبَاتٍ طَوِيلٍ. 

هُنَاكَ،
فِي الزَّوَايَا،
يَسْكُنُ صَمْتٌ كَخُشُوعِ المُنهَكِينَ،
وَيَقِفُ ظِلُّ المُعَلِّمِ المُسِنِّ
يُلَقِّنُ الصَّمْتَ دَرْسًا بِلَا مُسْتَمِعٍ. 

يَهْمِسُ: ابْدَأْ بِالكَلِمَةِ!
لَكِنَّ الأَعْيُنَ تَتَطَلَّعُ نَحْوَ الفَرَاغِ، 
فَقَدْ صِرْنَا فِي تِيهٍ غَابَتْ فِيهِ قُدْسِيَّةُ المَعْرِفَةِ. 
كَأَنَّمَا الكَلِمَاتُ هَجَرَتِ الكُتُبَ،
وَصَارَتْ رَهِينَةَ سُوقِ المُقَايَضَةِ وَالطَّلَبِ. 

وَكَأَنَّ تِلْكَ الطُّفُولَةَ،
كَانَتْ بِدَايَةَ التِّيهِ،
حَيْثُ آمَنَّا أَنَّ المَعْرِفَةَ سِلْعَةٌ،
لا حِوَارٌ مَعَ اللامُتَنَاهِي. 

المَدْرَسَةُ لَمْ تَكُنْ جُدْرَانًا وَأَجْرَاسًا فَقَطْ،
بَلْ كَانَتْ بِدَايَةَ الوَعْيِ
بِتِلْكَ الأَصْوَاتِ المُتَقَاطِعَةِ فِي دَاخِلِي.
هُنَاكَ،
تَعَلَّمْتُ الإِنْصَاتَ لا إِلَى المُعَلِّمِينَ،
بَلْ إِلَى الفَرَاغَاتِ بَيْنَ كَلِمَاتِهِمْ،
إِلَى النَّظَرَاتِ العَابِرَةِ،
إِلَى الكِتْمَانِ الَّذِي يَسْكُنُ فِي زَوَايَا الفَصْلِ.
لَمْ يَخْلُ رُكْنٌ مِنَ المَدْرَسَةِ، 
مِنْ إِعَادَةِ تَشْكِيلِ الغَرِيبِ فِي دَاخِلِي،
يَرْسُمُ لَهُ مَلَامِحَ
لا تُشْبِهُ أَحَدًا سِوَايَ. 

ثُمَّ جَاءَ البَيْتُ القَدِيمُ.
لَمْ يَكُنْ بَيْتًا فَقَطْ،
بَلْ مَتْحَفًا لِصَوْتِ الغَرِيبِ.
الجُدْرَانُ كَانَتْ تَهْمِسُ،
الأَرْضِيَّاتُ تُصْدِرُ صَرِيرًا
كَأَنَّهَا تَحْفَظُ خُطُوَاتِ مَنْ سَبَقُونَا،
وَالأَبْوَابُ تُفْتَحُ بِبُطْءٍ
كَأَنَّهَا تَتَرَدَّدُ بَيْنَ البَوْحِ وَالكِتْمَانِ.
لَمْ تَكُنْ ثَمَّةَ زَاوِيَةٍ، 
إِلَّا وَكَانَتْ مِرآةً لِذَاكِرَةٍ لَمْ أَعِشْهَا كَامِلَةً،
لَكِنَّهَا تَعِيشُنِي بِالكامِلِ. 

حِينَ أَجْلِسُ فِي فِنَاءِ البَيْتِ،
كَانَ الغَرِيبُ يَجْلِسُ قُبَالَتِي،
لا يَقُولُ شَيْئًا،
لَكِنْ صَمْتُهُ أَبْلَغُ مِنْ أَيِّ حَدِيثٍ.
هُنَاكَ أَدْرَكْتُ أَنَّ الغَرِيبَ لَيْسَ طَيْفًا،
بَلْ تَارِيخٌ يَنْتَظِرُ الإِصْغَاءَ. 

رَبَطَتْنِي بِالبَيْتِ وَالمَدْرَسَةِ
خُيُوطٌ لا تُرَى،
كَأَنَّ كِلَيْهِمَا كَانَا يُحَضِّرَانِي، 
لِلِقَاءِ هَذَا الكَائِنِ الدَّاخِلِيِّ. 

وَكَأَنَّ المَدْرَسَةَ...
كَانَتْ نِدَاءً أَوَّلِيًّا لِذَلِكَ الحِوَارِ الصَّامِتِ،
لِيُتَمِّمَ البَيْتُ ذَلِكَ النِّدَاءَ،
فَكَانَ امْتِدَادًا مَكَانِيًّا وَعَاطِفِيًّا، 
يَرْبِطُ البَرَاءَةَ بِالاكْتِشَافِ،
وَالخَوْفَ بِالفَهْمِ.
كُلٌّ مِنْهُمَا شَكَّلَ مَمَرًّا، 
نَحْوَ ذَاتِيَ الأَكْثَرِ صِدْقًا،
وَالأَكْثَرِ غُمُوضًا. 

ثُمَّ كَبُرْتُ...
وَاتَّسَعَتِ الذَّاكِرَةُ نَحْوَ أُفُقٍ آخَرَ: البَحْرُ.
صَارَ شَاطِئًا لِلْبَوْحِ، وَمِرآةً لِلصَّمْتِ.
مَا زَالَ البَحْرُ رَفِيقِيَ الأَمِينَ،
يُرَدِّدُ فِي كُلِّ مَوْجَةٍ:
لا تَخَفْ، فَالْحَنِينُ لَيْسَ قَبْرًا،
بَلِ المَوْجُ الَّذِي يَغْسِلُ غُرْبَةَ الرُّوحِ. 

سَأَلَتْنِي نَفْسِي:
مَنْ نَكَثَ العَهْدَ؟
أَجَبْتُهَا بِصَوْتٍ ثَقِيلٍ:
الْوَعْدُ لَمْ يُخْلَفْ،
نَحْنُ مَنْ أَغْلَقْنَا النَّوَافِذَ خَوْفًا مِنَ البَصِيرَةِ.
أَحْبَبْنَا ثُمَّ تَنَكَّرْنَا؟
رُبَّمَا...
لَكِنَّ الأَعْظَمَ هُوَ الحُبُّ الَّذِي اعْتَرَفْنَا بِهِ،
ثُمَّ حَوَّلْنَاهُ قَفَصًا يَخْنُقُ أَنْفَاسَهُ. 

الخِيَانَةُ لَيْسَتْ فِي النِّسْيَانِ،
بَلْ فِي ادِّعَاءِ أَنَّنَا لَمْ نَشْتَقْ لِذَلِكَ الوَعْدِ
الَّذِي طَالَمَا انْتَظَرْنَاهُ. 

قَدَّسْنَا أَشْيَاءَ،
ثُمَّ جَرَّدْنَاهَا مِنْ قَدَاسَتِهَا
حِينَ عَطَّلَتْ رَاحَتَنَا.
هَلْ صَارَتِ اللُّغَةُ أَدَاةَ تَهْدِيدٍ،
لا جِسْرًا لِلْحِوَارِ؟
هَلْ أَصْبَحَ الضَّمِيرُ عِبْئًا
نَسْتَحِي مِنْهُ فِي مَحَافِلِنَا؟ 

وَالرُّوحُ... آهِ، الرُّوحُ!
حِينَ سَقَطَتْ بَيْنَ أَوْرَاقِنَا الرَّسْمِيَّةِ،
اخْتَرْنَا أَنْ نُحَدِّقَ فِي السَّمَاءِ
كَأَنَّهَا سَقْفُ مُسْتَوْدَعٍ
لا نَافِذَةٌ عَلَى الكَوْنِ السَّرْمَدِيِّ. 

فِي لَحْظَةِ تَمَرُّدٍ،
حَطَّمْتُ المِرآةَ.
لَمْ أَعُدْ أَبْحَثُ عَنْ وَجْهِي،
بَلْ عَنْ صَوْتٍ فُقِدَ مُنْذُ دُهُورٍ.
وَمِنْ بَيْنِ فُتَاتِ الزُّجَاجِ،
صَعِدَ صَدًى بَعِيدٌ...
ذَاكَ الصَّوْتُ الَّذِي طَالَمَا أَنْكَرْتُهُ،
لَكِنَّهُ الْآنَ، أَصْدَقُ،
أَكْثَرُ انْكِسَارًا،
وَأَعْمَقُ حَيَاةً. 

ضَحِكَ الغَرِيبُ فِي دَاخِلِي سَاخِرًا:
تُحَاوِلُ إِحْيَاءَ مَا دَفَنْتَهُ بِنَفْسِكَ!
أَقُولُ لَهُ بِتَحَدٍّ:
بَلْ أُصْغِي لِصَرْخَةِ الوِلادَةِ فِي كُلِّ مَوْتَةٍ.
الإِنْسَانُ لَيْسَ جُثْمَانًا بِلَا رَنِينٍ،
بَلْ ظِلٌّ يَلْهَثُ وَرَاءَ ضَوْئِهِ الشَّارِدِ،
حَتَّى لَوْ كَانَ هَذَا الضَّوْءُ
وَرَاءَ بَابٍ مُوْصَدٍ بِإِحْكَامٍ. 

أَيَّتُهَا الَّتِي جَعَلْتِ السُّؤَالَ مِرآةً
تَعْكِسُ أَعْمَاقَنَا،
هَا أَنَا أَرْسُمُ كَلِمَاتِي
مِنْ وَرَاءِ حِجَابِ الصَّمْتِ، 
فَقَدْ كَانَ بَدْءُ الحِوَارِ هَمْسًا بِلَا كَلِمَاتٍ،
وَهَذَا الكِتَابُ يَحْمِلُ أَجْوِبَةً
عَنْ أَسْئِلَةٍ لَمْ تُطْرَحْ بَعْدُ. 

رُبَّمَا نَلْتَقِي يَوْمًا،
حِينَ تَتَعَلَّمُ الأَصْوَاتُ مِيلادَهَا مِنْ جَدِيدٍ،
وَحِينَ يُقَابِلُ غَرِيبُكِ غَرِيبِي،
فَيَنْصَهِرَانِ نِدَاءً وَاحِدًا
يَعْلُو فِي الفَضَاءِ...
أَوْ نَكْتَشِفُ أَنَّنَا كُنَّا دَائِمًا
صَوْتًا وَاحِدًا
يَبْحَثُ عَنْ مِرآةٍ. 

وَحِينَ آثَرَ القَلْبُ الصَّمْتَ،
انْكَشَفَتِ الأَصْوَاتُ فِي أَعْمَاقِي.
لا مِنْ حَوْلِي، بَلْ مِنْ كُهُوفٍ دَاخِلِيَّةٍ.
كَأَنَّ كُلَّ حَدِيثٍ مَبْتُورٍ
خَلَّفَ أَثَرًا أَشْبَهَ بِشَرْخٍ زُجَاجِيٍّ،
وَكُلَّ صَمْتٍ حَمَلَ سُؤَالًا مُؤَجَّلًا.
هُنَاكَ، فِي رُكْنٍ مَنْسِيٍّ مِنَ الذِّكْرَى،
الْتَقَيْتُ بِالغَرِيبِ. 
لا أَعْرِفُهُ.
مَلَامِحُهُ تَوْأَمٌ لِي حِينَ يُثْقِلُنِي الإِعْيَاءُ،
وَصَوْتُهُ صَدَى كِذْبَاتِي حِينَ أُخَادِعُ رُوحِي. 

سَأَلَنِي:
لِمَاذَا تَكْتُبُ إِنْ كُنْتَ لا تَنْشُرُ؟
أَجَبْتُهُ:
أَرْهَبُ أَنْ يَكْتَشِفَ أَحَدٌ الحَقِيقَةَ المَخْبُوءَةَ بَيْنَ السُّطُورِ.
ابْتَسَمَ:
بَلْ لأَنَّكَ تَرْجُو أَنْ يَقْرَأَهَا مَنْ يَحْمِلُ جُرْحَكَ ذَاتَهُ،
وَيَفْهَمُ دُونَ طَلَبِ غُفْرَانٍ. 

ظَنَنْتُنِي أَعْرِفُ نَفْسِي،
حَتَّى بَدَأْتُ أَسْتَجْوِبُهَا كَمَا يَفْعَلُ الغَرِيبُ.
كُلُّ سُؤَالٍ كَانَ كَوَضْعِ إِصْبَعِي عَلَى نَبْضِ الأَلَمِ،
لا لأَجْرَحَ،
بَلْ لأَتَأَكَّدَ أَنَّ الدَّمَّ مَا زَالَ يَسْرِي. 

كُنْتُ أُجِيبُهُ أَحْيَانًا،
وَأَحْيَانًا كَانَ صَمْتِي هُوَ الجَوَابُ،
وَأَحْيَانًا أُخْرَى انْتَظَرْتُ أَنْ يَنْطِقَ هُوَ نِيَابَةً عَنِّي،
فَفَعَلَ،
كَأَنَّهُ يَعْرِفُ مَسَارَ أَفْكَارِي قَبْلَ أَنْ تُولَدَ. 

ذَاتَ مَرَّةٍ،
سَأَلَنِي عَنْ بَيْتٍ قَدِيمٍ يَسْكُنُ ذَاكِرَتِي. 
قُلْتُ:
بَيْتٌ كَانَ الضَّوْءُ يَنَامُ عَلَى جُدْرَانِهِ،
وَتَبْكِي نَوَافِذُهُ عِنْدَ المَطَرِ،
لِأَنَّ أَحَدًا لا يُشْرِعُهَا.
رَدَّ:
وَمَا زَالَ فِي قَلْبِكَ مَنْ يَنَامُ عَلَى عَتَبَةِ الانْتِظَارِ. 

وَبَيْنَمَا قَطَرَاتُ المَطَرِ تَعْزِفُ عَلَى زُجَاجِ المَدْرَسَةِ البَاهِتَةِ،
كُنْتُ أَتَأَمَّلُ مِنَ النَّافِذَةِ،
كَأَنَّنِي أُفَتِّشُ عَنْ طِفْلَةٍ نَسِيتُ تَوْدِيعَهَا.
فِي لَحَظَاتِ تِيهِي،
وَأَسْئِلَتِي المُتَكَرِّرَةِ عَنِ الغَرِيبِ،
كَانَتْ هَذِهِ المَلاذَاتُ هِيَ مِرآةَ رُوحِي.
وَكَانَ البُخُورُ يَتَصَاعَدُ قُرْبَ المِحْرَابِ،
حَيْثُ كُنْتُ أَرْكَعُ لا لأَسْأَلَ شَيْئًا،
بَلْ لأَتَأَكَّدَ أَنِّي مَا زِلْتُ أَعْرِفُ كَيْفَ أَنْحَنِي لِلَّهِ. 

ثُمَّ حَلَّ صَمْتٌ طَوِيلٌ.
نَظَرْتُ إِلَى المِرآةِ.
لَمْ أَرَ وَجْهِي.
رَأَيْتُ الغَرِيبَ... 
قُلْتُ: أَكُنْتَ أَنَا؟
قَالَ: رُبَّمَا.
أَوْ كُنْتُ الصَّوْتَ الَّذِي خَبَّأْتَهُ فِي مَخْبَأٍ سِرِّيٍّ.
قُلْتُ: أَخَافُ أَنْ أُحَطِّمَ المِرآةَ.
قَالَ: بَلْ حَطِّمْهَا...
فَالصَّوْتُ لا يَظْهَرُ إِلَّا فِي الرُّفَاتِ. 

فَعَلْتُ.
وَتَنَاثَرَ حَوْلِي فُتَاتٌ زُجَاجِيٌّ
يُشْبِهُنِي وَيَخُونُنِي،
وَيَقُولُ مَا لَمْ أَجْرُؤْ عَلَى النُّطْقِ.
وَرَأَيْتُ الرُّفَاتَ تَرْقُصُ عَلَى الأَرْضِ
كَحُرُوفٍ مِنْ لُغَةٍ بَائِدَةٍ،
تُعِيدُ تَرْكِيبَ مَعْنَاهَا كُلَّمَا حَاوَلْتُ قِرَاءَتَهَا.
وَمِنْ بَيْنِ البَقَايَا،
أَطَلَّ صَوْتٌ كَانَ يُعَرِّفُنِي، حَدَّ التَّمَاهِي، 
فَكَانَ يَحْمِلُ فِي رَنِينِهِ...
أَصْدَاءَ كُلِّ الَّذِينَ مَرُّوا بِي. 

حِينَئِذٍ أَدْرَكْتُ
أَنَّ كُلَّ كِتَابَاتِي كَانَتْ حِوَارًا وَاحِدًا مُمْتَدًّا،
مَعَ وَجْهٍ لَمْ أَعْرِفْهُ تَمَامًا،
وَمَعَ ظِلٍّ يُشْبِهُنِي حِينَ أَنْسَى. 

وَفِي اللَّحْظَةِ الَّتِي ظَنَنْتُ الحَدِيثَ انْتَهَى،
سَمِعْتُ صَوْتًا آخَرَ...
صَوْتًا يَعْرِفُنِي أَكْثَرَ مِنِّي، 
هَمَسَ لِي: 
الوَعْدُ وَالخِيَانَةُ يَتَقَاسَمَانِ سَرِيرًا وَاحِدًا:
أَحَدُهُمَا يَنَامُ عَلَى الجَانِبِ الأَيْمَنِ مِنَ القَلْبِ،
وَالآخَرُ يَسْرِقُ الغِطَاءَ لَيْلًا.
رُبَّمَا كَانَ هُوَ "الوَعدَ"،
وَرُبَّمَا كَانَتْ هِيَ "الخَائِنَةَ"،
وَرُبَّمَا هُمَا مَعًا،
يَضْحَكَانِ كَوَجْهَيْنِ لِعُمْلَةٍ،  
مِفْتَاحُهَا لَيْسَ فِي أَكُفِّ البَائِعِينَ.

أَخِيرًا،
الأَصْوَاتُ الَّتِي صَارَتْ مَرَايَا،
بَدَأَتْ تَتَحَدَّثُ كَأَنَّهَا تَغْسِلُ أَسْمَاءَهَا فِي نَهْرِ الأَسْئِلَةِ.
الغَرِيبُ كَانَ ضَبَابًا،
وَالضَّبَابُ كَانَ غَرِيبًا.
وَالحِوَارُ بَيْنَهُمَا لَمْ يُخْلَقْ لِيَفْهَمَهُ العَقْلُ،
بَلْ لِتَحْيَاهُ الرُّوحُ. 

أَعْظَمُ الحِوَارَاتِ...
هِيَ الَّتِي لا تَمُوتُ،
بَلْ تَتْرُكُ البَابَ مُشْرَعًاــ
لِأَصْوَاتٍ...
لَمْ نَكُنْ نَدْرِي أَنَّا نَحْمِلُهَا فِي جُيُوبِنَا السِّرِّيَّةِ. 


جهاد غريب 
يوليو 2025 

هشاشتُنا المُشتَعِلَةُ: رقصَةُ الأرواحِ العاريةِ فوقَ هاويةِ الوجود!

 

هشاشتُنا المُشتَعِلَةُ: رقصَةُ الأرواحِ العاريةِ فوقَ هاويةِ الوجود!

"نحنُ من نُكسَرُ، كي تولَدَ في شظايانا مرايا تُعيدُ خلقَ العالم!"

نحنُ، كائناتٌ تَحمِلُ مرايا بداخلِها، لكنّ هذه المرايا ليست من زُجاجٍ صافٍ، بل من شظايا جِراحٍ مُضمَّدةٍ بضماداتِ العطاء.
كلُّ جُرحٍ يَنبضُ، وكلُّ نَبضةٍ تلمَعُ في مرآةِ الآخَر.
نَمدُّ أيدينا – تلكَ الأيدي التي تَرتعِشُ كأوراقِ الخريفِ المُتمردةِ على سُقوطِها المُحتوم – لا لِتَمسحَ الدمَ عن مرايانا فحسب، بل لِتُلمِّعَ مرايا غيرِنا بقطراتٍ من نُورِنا المُشتَرَك.

ألَيسَ العطاءُ، في صَميمِ هستيريا وجودِنا، هو الصَّرخةُ الأكثرُ إلحاحًا؟
صرخةٌ تُعلنُ: ها أنا ذا!
جُرحي يَنزف، لكنَّ نزيفي هذا قادرٌ على أن يُروِي عطشَ غريبٍ في صَحراءِ روحِه!

نضحكُ حينَ نُعطي، ضحكاتٍ كحَبّاتِ الرَّملِ في عاصفةٍ صحراوية،
ضحكاتٌ ساخرةٌ تكادُ تُخنِقُنا بِمَرارتِها، لأنَّنا نَعرِفُ السِّرَّ المُخيف:
أنّنا، ونحنُ نُقدِّمُ جُرعةَ ماءٍ من قِرْبَتِنا المُثقوبةِ لِشارِدٍ في القَفر،
إنّما نَسقي ظمأنا الأعمق، ظمأً إلى معنًى يَطفو فوقَ بحرِ العبَث.

نَسرقُ من جُوعِنا لِإشباعِ جوعِ الآخر،
وفي عمليّةِ السَّرقةِ المُقدَّسةِ هذه، نشعرُ بِشَبَعٍ غريبٍ،
كأنَّ أحشاءَنا احتَضنَتْ حُقولًا ذهبيّةً تتوهَّج!
وبُطونَنا امتلأتْ بسَنابلِ قمحٍ من نور!

ونحنُ، أيُّها الغُرباءُ في قطارِ الوجودِ المُهتزّ،
نسيرُ في رِحلةِ العِطاشى.
كلٌّ منّا يَحمِلُ كأسًا مَشروخًا، يَبحثُ عن يَنبوعٍ يملأه.
لكنَّ المُفارقةَ الساخرة، المُرّة كطَعمِ الفَلسِ الأخيرِ في فمِ جائع،
هي أنَّ الينابيعَ الحقيقيّة تكمُنُ في صَحراءِ بعضِنا البعض.

نَنحني عندَ قدَمي غريبٍ، ناسينَ عطَشنا اللاهِب،
لنَهمِسَ له: خُذ، هذا الماءُ الباقي لي.
وفي لَحظةِ مَنحِ تلكَ القَطرةِ البائسة، يَحدثُ المُعجَز:
يَنفتِحُ باطنُ الأرضِ تحتَ أقدامِنا نحنُ المُعطين،
وتتَفجَّرُ ينابيعُ لم نكن نَعرِفُها في صَميمِ صَحرائنا!

جَبرُ الخَواطرِ هذا، أيُّها الجائعونَ إلى اللُّقيا،
ليسَ مجرَّدَ كلمةٍ طيّبة، إنّه حوارٌ صامتٌ بين الأرواحِ العارية،
رقصَةٌ كونيّةٌ حيثُ يَلمسُ الجَريحُ جُرحَ أخيه،
فيتحوَّلُ اللّمسُ إلى نَبضٍ مُشتَرَك، وإلى موسيقى.
نعم... موسيقى الصَّمت!

ألَا تَسمعونها؟
تِلكَ السِّيمفونيّةُ الصامتةُ التي تُعزَفُها الأقداحُ الفارغة وهي تَتصادَمُ في قاعِ الوجود؟
إنّها موسيقى الجَبرِ الخفيّ.
كلُّ لمسةِ جَبرٍ، كلُّ نظرةِ تعاطُف، كلُّ قطرةِ عطاء،
هي نُوتةٌ في هذهِ المَقطوعةِ الأبديّة.

الألمُ، ذو الوجهين:
وَجهٌ قاسٍ كحَجرِ الصَّوّان، يَقدَحُ الشَّرَر،
ووجهٌ آخرُ رَخيمٌ كالوَترِ المشدود، يَنتظرُ اللّمسَةَ ليُطلِقَ نَغمتَه.

والأمل؟
لَيسَ طائرًا ورديًّا يُغرِّدُ في سماءٍ زرقاء...
كلا.
إنّه الشَّرارةُ التي تُولدُ من احتكاكِ حَجرِ الألمِ بحَجرِ العطاءِ في ظَلامِ الليل.

نحنُ نَعزفُ على أوتارِ جِراحِنا، ونَسمعُ، بينَ النغماتِ الحزينة،
صَدى أملٍ عنيدٍ، كصوتِ رَضيعٍ يَبكي في أنقاضِ مدينةٍ مدمَّرة –
بُكاءٌ يُعلِن الحياة، رغمَ الدمار.

وها نحنُ نَصلُ إلى اللّغزِ الأكبر:
كيف، ونحنُ نَمنحُ الآخَرينَ شظايا من قلوبِنا، نُعطي لأنفُسِنا؟
كيف نَستظلُّ بِظلِّ الإنسان، ونحنُ نمدُّ ظلَّنا لِيُظَلِّلَ الآخرين؟
إنّه سِحرٌ وجوديٌّ، لُعبةُ مرايا مُعتِمة.

حينَ نَنحني لِنرفعَ مُنكسِرًا، نكتشفُ فجأةً أنَّ قاماتِنا قدِ استقامَت.
حينَ نَمسحُ دمعةً عن خدٍّ غريبٍ، نَشعرُ بِحرارةٍ غريبةٍ تذيبُ عن قلوبِنا جَليدَ الوحشة.

العطاءُ، في هذهِ اللعبةِ الكونيّةِ العجيبة،
هو المرآةُ التي نَرى فيها صورتَنا الحقيقيّة،
صورةَ الكائنِ الذي يَستمدُّ قوّتَه من ضَعفِه، وغِناه من فقرِه، ووجودَه من مَنحِ جوهرِه.

نَضحكُ ضِحكةً مَجنونة،
تِلكَ القَهقهةُ التي تولَدُ من رَحمِ التَّناقضِ الأزليّ،
التي تُدرِكُ عَبثيّةَ الأمر:
نَكسِرُ الخُبزَ النّادر لِنُعطيه للجائعِ بِجوارِنا،
ونَكتشفُ أنَّ الجُوعَ في داخِلِنا قدِ اختفى،
ليس لأنَّنا شَبِعنا، بل لأنَّنا صِرنا بُذورًا تُغرسُ في جِراحِ الأرضِ العَطشى!
بينما رُوحٌ لنا اشتَعلت فُرنًا يُدفِّئُ الكون!

وتَتكلمُ الأيدي المُرتعِشة، أيُّها المُرتجِفونَ بسِحرِ الهَشاشة!
لا بلغَتنا الواضحة، بل بلُغةِ الارتِجافِ نَفسِه،
بلُغةِ الاهتزازِ الذي يَنتقِلُ من يدٍ إلى يدٍ عبرَ سلسلةٍ بشريّةٍ لا تَنتهي.

انظُروا إلى سوسيولوجيا العَطاء!
إنّها ليستْ فضيلةً نُخبويّةً تُعلَّقُ في المتاحفِ الأخلاقيّة، كلا.
إنّها حاجةٌ مُعلَنة، صارِخةٌ كعُواءِ الذِّئبِ في ليلةِ شِتاء،
أساسيّةٌ كالهَواءِ الذي نَتنفَّسُه.

نُعلِنُ فقرَنا بِالعطاء، نُعلِنُ خوفَنا بالشّجاعة، نُعلِنُ عُزلتَنا بالاحتِواء.
نَصنعُ طقوسًا اجتماعيّةً حول مَنحِ القَليل:
كوبُ شاي، ابتِسامةٌ في مِترو الأنفاقِ المُزدحِم، إصغاءٌ لسَردٍ مُملٍّ من غريبٍ وحيد.

تِلكَ الطُّقوس ليستْ تَرَفًا، بل خيوطُ النجاةِ التي نَنسُجُها جماعيًّا فوقَ هاويةِ اللامعنى.

نَمنحُ، لأنّنا لو توقّفنا عن المَنح،
لَتحوّلت مرايا جِراحِنا إلى سُجونٍ مُظلِمة،
وانفجَرَت ينابيعُنا الداخليّة فجفَّت،
وتحوَّلت موسيقى صَمتِنا إلى صَرخةٍ صَمّاءَ لا تجدُ أُذنًا،
واختفى ظلُّنا تحتَ شَمسٍ قاسيةٍ لا تَعرفُ الرحمة.

العطاءُ هو الفعلُ الثوريُّ الأكبرُ ضدَّ العَدَميّة:
نَحنُ نَمنح، فنقولُ للوجود:
أنتَ موجودٌ، لأنني أنا موجودٌ، ولأننا نَوجَدُ معًا،
في رَقصَةِ الجِراحِ والمرايا، والينابيع، والأيدي المُرتَعِشة،
التي، برغمِ ارتِعاشِها، تُمسِكُ بِشَمعَةِ الأملِ الوحيدةِ
في هذا الليلِ الكونيِّ الطويل.

نحنُ نَمنح، لا لأنّنا أقوياء، بل لأنّنا نَعرِفُ أنَّ في هشاشتِنا المُشتركة،
وفي ارتعاشِ أيدينا وهي تَلتقي،
تَكمُنُ القوّةُ الوحيدةُ التي تستحِقُّ الاسم:
قوّةُ الوجودِ معًا.
في مواجهةِ الرِّيحِ العاتية، نَنزف، نَضحكُ ضحكتَنا المشقوقة،
ونُواصلُ السَّير، حامِلينَ مرايانا وكُؤوسَنا المَشروخة،
عَطاشى إلى ينابيعِ بعضِنا البعض،
حتى آخِرِ نَفَس.


جهاد غريب
يوليو 2025

السبت، 26 يوليو 2025

أطلس القلوب: من الرماد إلى النور!

 
أطلس القلوب: من الرماد إلى النور! 
"دماء العابرين إلى النور"

في ذلك الصمت السحيق الذي يسبق هطول المطر، حيثُ تختنق الأصوات بثقل الأسئلة الوجودية التي لا جواب لها، تنبض قلوبنا كأجراسٍ مهشمةٍ في صدر الكون الواسع. هنا، في هذا الفراغ المليء بصدى الخطوات الضائعة والآمال المحطمة، تُولد القصيدة الأولى من جراحٍ لا تُرى، وتُدفن الأخيرة تحت أقدام زمن غادر لا يرحم. 

إنه عالمٌ يحمل قلبه على كفٍّ من شوك الحيرة والأسى، ويسير على حافة انهيارٍ دائمٍ بين "كان" و"لم يعد"، بين ذاكرة تلسع وحاضر يخنق. في هذا الموطن الوجودي، تبدأ حكايتنا مع تلك الكينونة الرقيقة والقاسية: القلب.
 
قلوبٌ مُنهَكةٌ تئنُّ تحت وطأة الليالي الطويلة، كحمالين يعجزون عن وضع أحمالهم الثقيلة. قلوبٌ متعبةٌ من حمل أسئلةٍ بلا أجوبة، تتدلى من أوتارها أثقالُ أسًى لم يُدفن، بل تراكم كالغبار في زوايا الروح. إنها قلوبٌ موجوعةٌ كزجاجٍ مكسورٍ في عاصفةٍ عاتيةٍ، كل شظية تحمل ذكرى مؤلمة.

وقلوبٌ واجفةٌ كطيرٍ حاصرته النيران من كل حَدَب، لا ملاذ ولا مفر. حتى التوبةُ فيها، تلك الصلاة الليلية، سكينٌ يُطهِّر الجرحَ بالتمزيق، فلا سكينةَ للقلوب المضطربةِ التي تسكنها عواصفُ الشك والندم والوحشة. كسيرةٌ هي، محطمة الأضلاع، لكنّ كسرها هذا ليس نهاية المطاف، بل هو كالشرر الخفي الذي ينتظرُ الوقود ليشتعل من جديد. 

ففي أعماقها السحيقة، تحت رماد اليأس، تشتعلُ نيرانُ شوقٍ لا يُطفأ إلى ما فقدتْ، إلى وطن الروح، إلى اكتمال مفقود. وتتوهّج حيرةٌ كثيفةٌ كضبابٍ صباحي يغلفُ طريق العودة، يحجب المعالم ويضلّل الخطى. كلّ نبضةٍ هنا هي صرخةٌ مدوية في معبدٍ مهجور، ترنّ في الفراغ بحثًا عن صدى إلهي، أو إنساني على الأقل.

وهكذا، في الفضاء المشحون لهذه القلوب المحطَّمة، وُلِدَ زمنٌ خاص، زمنٌ منطفئٌ كشمعةٍ في مقبرة مهجورة، نورها خافت ومحتضر. زمنٌ آفِلٌ سقط فجأة من تقويم الوجود، كأنّما دُفِنَ تحت ركام الذكريات الثقيلة والهزائم المتكررة. زمنٌ منسيٌّ هو، حتى من نفسه، كحلم طواه النسيان. زمنٌ انكسرَ ظهرُه على صخرةِ النسيانِ القاسيةِ، لم يعد قادرًا على النهوض.

زمنٌ تلاشى كظلٍّ عند الغروب، يطول ثم يضمحل حتى يغيب. زمنٌ غادرَ دون وداعٍ، كخائن في الليل، طواه الرحيلُ كجثةٍ في لفافةٍ مهترئة من الزمن الماضي نفسه. زمنٌ انحدرَ نحو الغيابِ كحجرٍ في هوّة سحيقة، يسقط بلا صوت يرافقه. حتى تهدَّمَ أخيرًا في دهاليز الذاكرة المعتمة، فأصبح خراباً نعبره كلّما أغمضنا عيوننا، أنقاضاً من لحظات لن تعود وصورًا باهتة. لم يعد زمنًا حيًا يسير، بل تحوّل إلى شاهد قبرٍ صامت على أيّامٍ ولّت، على فرص ضائعة، على "ما كان يمكن أن يكون. 

لكنّ من بين تلك الأنقاض، من قلب ذلك الظلام والخراب، تنبت زهرةٌ غريبة من حديد وإيمان: إنها دماءُ الذين رفضوا أن تساوم أعينُهم على ومضة النور، الذين فضلوا العمى على أن يروا الحق منكسرًا. دماءُ المؤمنينَ بحلمٍ أكبر من جدران اليأس السميكة، حلم يتحدى منطق المستحيل. 

دماءُ السائرين على دربٍ وعرةٍ، لكنها مضيئةٌ بنور العقيدة الراسخة في قلوبهم قبل عيونهم، نور يهديهم حيث تعجز الشمس. دماءُ الموقنينَ بالطريقِ رغم وعورته، رغم الدماء التي تسيل على حجارته. دماءُ الأوفياءِ للحقِّ حتى عندما خانته السُبُل وخذلته الوجوه، حتى عندما وقف وحيداً في الميدان. 

لقد وهبوا حياتهم طوعًا قربانًا للمعنى الذي آمنوا به، فصاروا حُلمَ الخلودِ بلا خوفٍ من الفناء، لأنهم أدركوا أن الخلود حصاد الإيمان والفعل الصادق. حملوا الرسالةَ في صدرهم كمشعل مقدس، ومضوا إلى حيثُ تنتهي الخرائط وتتوقف أقدام الخائفين، إلى حافة المجهول المؤكد. 

دماءٌ أنقياءُ في زمنِ التيهِ والضباب، حينما اختلط الحق بالباطل. دماءٌ صادقةٌ كوعد الأرضِ الأزلي للبذور، تدفن في الظلام لتنبت حياة. كلُّ قطرةٍ منها هي شمسٌ صغيرة تشرقُ من أعماق الجرح، تنير الدرب للقادمين.
 
فها هي الحياةُ في جوهرها: قلوبٌ تحترق بنيران الأسى والشوق والحيرة، وأزمنةٌ تندثر وتنطمس تحت أقدام السنين والنسيان، ودماءٌ تُخلِّد وتُضيء في أطلس الوجود. في هذه الدائرة المقدّسة من الألم والفداء، من الكسر والبناء، نكتشفُ الحقيقة الكبرى: أنَّ القلبَ الكسيرَ، رغم هشاشته الظاهرة، هو الوعاءُ الوحيدُ القادرُ على حملِ كلّ أسرار الوجود: أسرار حبنا، وجرحنا، وأملنا. 

هو الوعاءُ الذي يحتضنُ تعبَنا اللامتناهي، وشوقَنا الذي لا يشبع، وحيرتنا التي لا تنقشع، وإيماننا الذي يتحدى العقل أحيانًا. وهو الأرضُ الخصبةُ التي تُدفَن فيها أزمِنتنا الميتة، بذورًا لربما تنبت ذات يوم. وهو أيضاً البوتقةُ التي تُنبتُ من دماءِ الشهداءِ والصادقين زيتونًا جديداً على منحدرات التاريخ القاسية، شاهداً على أن الحياة أقوى من الموت، وأن النور أقوى من الظلام. 

ربما لم نعد نملك في نهاية المطاف سوى هذا القلبُ العالمُ – منه نبدأ رحلتنا الأرضية، وفيه ينكسر الزمن ويُعاد تشكيله، ومن أعماقه المظلمة المليئة بالجروح والجمال، يولد النور الأبدي الذي يهدي خطانا، نور الإنسانية المتحدية للفناء.

جهاد غريب 
يوليو 2025 

الجمعة، 25 يوليو 2025

النور الذي لم يغب: رحلة من الغربة إلى العشق الذاتي!


النور الذي لم يغب: رحلة من الغربة إلى العشق الذاتي!


في زحام الوجود، حيث تتدافع الأسئلة وتتشابك المسارات، نبحث عن موطئ قدم في أرضٍ لا تعرف وقع خطواتنا. نمدّ الأيدي إلى الخارج كمن يحاول التقاط الهواء في قبضةٍ عطشى، بينما النبع الصافي يتفجّر بصمتٍ في أعماقنا. 

هناك، حيث تسكن الحقيقة دون زينة، تبرز غربةٌ لا يعرفها إلا من أدرك أن الوطن الحقيقي ليس مكانًا نصل إليه، بل نبضًا نعود إليه. إنها ليست رحلة إلى الخارج، بل رحلة تأملية عميقة نحو الداخل، من وهم الغربة إلى يقين الكينونة.

ما من بداية تُعلن عن نفسها، بل يأتي الصمت أولًا، يحمل على ظهره دهشتنا حين ندرك أن النور لم يكن هناك… بل هنا، في أعمق نقطة تجاهلناها طويلًا. الغربة ليست مكانًا ننتمي إليه أو نبتعد عنه، بل هي المسافة التي نصنعها بأنفسنا حين ننسى أن الظلمة لا تُهزم بمصابيح الغير، بل بالشموع التي تشعلها روحك في زواياها المهملة.

لم تكن الغربة يومًا مجرد مسافة تُقاس بالكيلومترات، أو مدينة تُقطع تذكرتها ذهابًا بلا عودة، بل هي شعور داخلي خافت، يتسلل إلى الروح كما يتسلل البرد في آخر الليل إلى العظم. إنها ليست غربة الجسد، بل غربة القلب عن موطنه، وغربة العين عن المعنى، وغربة الإنسان عن ذاته حين يصبح الوطن أقرب من نفسه إليه، وحين لا يعود يعرف في أي زاوية من داخله اختبأ صوته الأصلي.

الغربة وحدها هي من تُعلّمنا أن الوطن ليس مكانًا نصل إليه، بل هو عينٌ نرى بها، وحين نفتحها أخيرًا، نجد أننا كنا في الديار طوال الوقت، نذرعها بأقدامٍ تائهة وقلوبٍ لا تدرك أنها وصلت.

نحن أبناء الغربة… لا بالهوية ولا بالجنسية، بل بالقلق. هذا القلق الذي يسكننا كلما أطفأ أحدهم نور المعنى في داخلنا، فبدأنا نتلمّس طريقنا في الخارج، نبحث عن إشراقات في كل زاوية لا تشبهنا… نحدّق في العيون، نعانق الضجيج، نغادر البلاد، نعدّ الإنجازات، بينما ضوء الداخل يرتجف خجلًا، كشمعة تُذيب نفسها في صمت.

كم من مرة تحدثنا مع أنفسنا ونحن غرباء عنها؟ كم من مرة عدنا متعبين، لا ننتبه كيف عبرنا الطريق ولا متى وصلنا؟ نفتح الباب، نمرّ بين الجدران كالغرباء، نترك أجسادنا ترتاح، بينما أرواحنا تواصل السير وحدها في متاهة أخرى، لأن الغربة هنا لا علاقة لها بالمكان، بل بعطبٍ في البوصلة. 

الغربة وهم، نعم، لكنها وهم عميق، وهم متقن الصنع، يبدأ حين ننسى كيف نصغي لصوتنا الأول، ونبدأ نرتدي أقنعةً حتى نكاد ننسى ملامح أرواحنا.

وفي لحظات ما قبل النوم، حين تخفت الأصوات كلها، ويغلق الليل أبوابه، يظهر سؤال خافت: "أين أنا؟" ليس أين مكاني، بل أين أنا مني؟ أين وجهي الذي كنت أعرفه حين كنت أضحك من قلبي؟ أين تلك السكينة التي كنت أشعر بها دون أن أملك شيئًا؟ 

الغريب في الأمر أن هذا الحنين لا يكون أحيانًا إلا إلى الداخل. ليس إلى شخص، ولا إلى زمان، بل إلى حالةٍ من النقاء فقدناها داخل أنفسنا. ليس اشتياقًا لنسخةٍ بريئة، بل لنسخةٍ رغم هشاشتها، كانت تحمل شيئًا من النقاء قبل أن يتكاثر الضجيج حولها ويُرغمها على الصمت.

في الغربة الطويلة عن الذات، تصبح الروح مدينة مهجورة. نوافذها مغلقة، أبوابها تصدر صريرًا حزينًا عند كل محاولة عبور، وطرقاتها مغطاة بالغبار. نسكنها، نعم، لكننا نعيش في أطرافها فقط، لا نقترب من وسطها، من قلبها، حيث الحقيقة المؤلمة، حيث الجرح الذي تجاهلناه طويلًا، حيث الضوء الذي نسي كيف يضيء.

لكن، ما إن نقرر أن نغوص في الأعماق، أن نعود، أن نواجه تلك المدينة ونزيل الغبار، حتى يبدأ النشيد. نعم، النشيد لا يبدأ في الفرح، بل في العتمة. حين نجرؤ على النظر في المرآة دون أقنعة، وننصت لصوتٍ مبحوحٍ يقول: "لقد كنت هنا طوال الوقت… فقط لم تكن تصغي".

نحمل أوطاننا في صدورنا كحروف مبعثرة في كتاب مهجور، نبحث عن جملة تمنحنا معنى، عن فاصلة نلقي عندها رحالنا. لكن الحقيقة الأعمق تكشف أن الغربة وهم كبير، مجرد حائط رسمناه بأيدينا ثم شكونا ضيق الجدران. هناك، في تلك الزاوية التي نخبئها داخل خزانة الذكريات، يقبع نور لم ينطفئ.

الغربة، إذًا، ليست عيبًا في الحياة، بل نداء. نداء يدعونا للعودة. وكلما استجبنا له، كلما اقتربنا أكثر من النسخة الأكثر صدقًا منا، فالإنسان لا يضيع لأنه لم يجد الطريق، بل لأنه توقف عن البحث داخله.

أجل، كيف نضل الطريق ونحن لم نغادر أجسادنا؟ كيف نبحث في الخارج عن شيء لم نفقده إلا في الداخل؟ نحن لا نحتاج سفرًا بعيدًا، بل إنصاتًا عميقًا، إلى تلك الأصوات القديمة، إلى الطفل الذي فينا، إلى الحالم، إلى الصامت، إلى الخائف، إلى من كان يصدق كل شيء… ثم صار يشك بكل شيء.

عندما نتوقف عن الهروب من أنفسنا، نكتشف أن الغربة كانت جسرًا من الدخان يتبدد بالسير فيه. لقد أمضينا وقتًا طويلًا نبحث عن بصمة في رمال الآخرين، بينما كنا نحفر بأيدينا مقابر لأصواتنا الداخلية. الغريب ليس فقط من يعيش في بلد غير بلده، بل أيضًا من يعيش في روح غير روحه.

وحين نعود من هروبنا الطويل، لا نلتقي بالمكان، بل بمن كنا نحاول طمسه داخلنا. الحنين ليس إلى زمن مضى، بل إلى ذلك الجزء منا الذي لم يزل بكرًا، لم تُشوهه شائعات الوجود. إنه النداء الخافت الذي يصرخ من تحت أنقاض التراكمات: "أنا لم أغب.. أنا تحت هذه الطبقات كلها!".

وأخيراً، لم نكن ضائعين، كنا فقط نقرأ الخريطة بالمقلوب. الغربة لم تكن سوى ستارًا من الدخان اخترناه لأننا آمنا أن الحقيقة قد تحرقنا. لكن النار التي تخشاها الروح هي نفسها التي تعيد إليها الحياة، وحين نعبر النار، سواء كنا مجبرين أو مخيّرين، نكتشف أننا لم نكن سوى الفحم الذي يتحول إلى ماس تحت الضغط.  

هناك، في تلك المنطقة التي تقع بين الضياع والاكتشاف، نقف أخيراً أمام مرآة لا تعكس سوى ما نحن عليه حقاً. لا ظلال للآخرين، لا أقنعة، لا رتوش. فقط نحن، كما لو أننا نكتشف أنفسنا لأول مرة، دون دروع أو تعليمات، نقف ببراءة من لم يُلقن بعد كيف يخاف.

العودة إلى الذات لا تعني الرجوع إلى الماضي، بل إلى النواة الأولى، إلى البذرة التي كنا عليها قبل أن يتكاثر علينا الضجيج. إنها لحظة صفاء، قد تبدأ بانكسار، أو بخسارة، أو حتى بشعور ساحق بالتيه، لكنها تعيد تشكيلنا، كرحلة تائهة تعود إلى موطنها بعدما سالت دموعها فوق الرمال، ثم وجدت في صوتها الداخلي طريق العودة. ذلك الرجوع، ذلك الخفق، هو اللقاء الحقيقي مع الذات.

وفي المفارقة الكبرى، ندرك أن الضياء لا يأتي من النوافذ وحدها، ولا من الشمس أو القمر فقط، بل من شرارة الصدق الأولى حين نقرّر أن نكون أنفسنا، لا ما يريدونه الآخرون. الشعلة الحقيقية لا تنبعث من وهج خافت ينبعث من مصابيح بلا روح، ولا من شاشات تبث ضوءًا بلا حياة. وأن نقبل جراحنا لا لنبكيها، بل لنفهمها ونصادقها.

نحتاج أحيانًا إلى أن نشعر بالغربة كي ندرك أننا لسنا سوى نورٍ مختبئ في زوايا الوجود، لأن الغربة ليست دائمًا غيابًا، بل قد تكون دعوة إلى الحضور الكامل… حضورنا نحن، في داخلنا، حيث لا صوت يعلو على الحقيقة.

الغربة كانت حباً من طرف واحد، خفناه لأننا لم نعرف كيف نعشق ذواتنا، لكن الحب الحقيقي يبدأ الآن!، عندما نعشق حتى ضياعنا، لنكتشف أننا لم نكن ضائعين أبداً. كنا دوماً هنا، نكتب قصتنا بأحرف من نور على جدران القلب. اليوم، وقد انكشفت الأقنعة، لم يعد هناك غربة ولا ضياع. فقط عشق قديم بين الروح ونفسها، كان هنا طوال الوقت، ينتظرنا أن نفتح أعيننا.

والآن، وبعد كل هذه الدروب، ندرك أن العودة إلى الذات ليست خيارًا، بل ضرورة. أن نعيد ترتيب الداخل، ونسكنه لا كمنفى، بل كوطن. أن نحب أنفسنا، لا من باب الأنانية، بل من باب الأمان. أن نصافح أرواحنا في الصباح كما نصافح من نحب. أن نكون أوفياء للطفل الذي كنّاه، للحلم الذي طمسوه فينا، وللنور الذي حاول أن يشعّ في عيوننا ذات لحظة… فأغلقناه.

الغربة ليست نقصاً في المكان، بل هي فائضٌ في الزمن الذي أضعناه في انتظار ذواتنا. كنا نظن أننا نعيش في منفى، لكننا كنا ببساطةٍ نسكن في غرفةٍ لم نفتح نوافذها بعد. هناك، في صمت الأعماق، حيث لا تُسمع إلا همسات الروح، نجد أنفسنا جالسين بانتظارنا منذ زمنٍ طويل. ننحني لالتقاط أشلاءٍ من مرآةٍ مهشمة، فلا نعرف أن اليد التي تحملها هي ذاتها التي كسرتها.  

لا يوجد منفى حقيقي سوى ذلك الذي نصنعه بأنفسنا. حين ندرك أن الجدران التي تحيط بنا هي من صنع أيادينا، نكتشف فجأةً أن الأبواب كانت مفتوحةً طوال الوقت. الشرارة التي كنا نبحث عنها في عيون الآخرين، في شوارع المدن البعيدة، في كتب الحكماء، كانت دوماً هنا، في ذلك المكان الذي تخفيه عنا صرخاتنا.  

المنفى الذاتي هو ذلك الصدى الذي يتردد حين ننادي على أنفسنا فلا تجيب. ربما كنا نصرخ في وادٍ، ولم ندرك أن الصوت الذي نسمعه ليس صدى، بل هو صوتنا الحقيقي يعود إلينا من أعماق لم نجرؤ على النزول إليها بعد. وهنا يبرز السؤال الأهم: هل سبق وأن وقفنا صامتين كفايةً لنسمع الجواب؟

الغربة لا تُهزم بالوصول إلى مكان، بل بالوصول إلى الذات. وصدقني، حين تصل إلى ذاتك الحقيقية، لا يعود العالم كما كان. تتغير نظرتك لكل شيء، تتبدل ألوان الحياة وأشكالها، وتصبح قادرًا على رؤية الضوء حتى في أحلك اللحظات، لأن الوهج الذي كنت تبحث عنه في الآفاق، لم يكن يومًا إلا شعلة متقدة بداخلك، تنتظر أن تمنحها فرصة لتضيء كل زواياك.

في النهاية، لم نكن غرباء كما ظننا، كنا فقط نحلم بأننا كذلك، وحين أفقنا، أدركنا أن الحلم نفسه لم يكن ضياعًا، بل دليلاً خفيًا يقودنا نحو الجوهر، فالطريق الذي حسبناه طويلًا لا يؤدي إلى الذات، بل كان هو الذات نفسها.

وهكذا، نعود إلى زحام الوجود، لكن بأقدامٍ تعرف الآن أن موطئها ليس في الأرض، بل في ذلك النبض الذي كان ينتظرنا طوال الوقت... النبع الذي ظل يتفجّر في الأعماق، بينما كنا نبحث عنه في الخارج.



جهاد غريب 
يوليو 2025 


الخميس، 24 يوليو 2025

ظلال الصبر على جدار الوقت!

 
ظلال الصبر على جدار الوقت! 

في دهاليز الروح، تتراقص الظلال، وتسكن الشمس السوداء عظامي. نورٌ مقلوب، يمتص الدفء، ويترك خلفه صقيعًا وجوديًا. لا ضياء فيه، إلا وهج الألم الخافت، يلسع خلايا الذاكرة، ويغرس جذوره في أعمق النخاع. 

هو ذاك الثقل الذي يشدني إلى الأرض، إلى غياهب ذاتي. حيث تتكشف الحقائق دون ستار، ويصبح الصمت وحده شاهدًا على تمزقٍ لا يُرى. إنه نداء الداخل المدوي، صوتٌ يتردد صداه في كل مفصل، يذكرني بحدود الأفق، وبالمجهول الذي ينتظر.

وفي غبارِ الأيامِ المتراكمة، تستقبلني اعترافاتُ مرآةٍ مغبّرة؛ سطحٌ مهملٌ، لكنه ما زال يُظهر لي صورًا مشوّشة. وجوهٌ تتداخل، وتتلاشى، ثم تعود فجأةً! كأنها لم تغب قط. أصداءٌ لما كنتُ، ولما أصبحت، وكلما نفضتُ عن وجهها غبارَ النسيان، انبثقت حقيقةٌ موجعة: أن الصورة لم تكن يومًا كاملة، وأن الاعتراف بالنقص هو أولى خطوات الرؤية الصادقة.

هي مرآةٌ لا تُجمّل، بل تُعرّي. تُريني أن الكمالَ سراب، وأن الهشاشة هي جوهر الوجود. وفي كل خدشٍ على زجاجها، قصةٌ لم تُروَ بعد، وإضاءةٌ خاطفة لِما كان خفيًّا يتألم في الصدى الخالي.

ومن هذا التجلي المؤلم يتكلم الجليدُ الداخلي؛ بصوتٍ خافت، كصريرِ الريحِ في ليلةِ صقيع، لكنه يحمل حكمةً ثقيلة. ليس بردًا سرمديًا صامتًا، بل هو صمتٌ ثرثار، يروي دون أن يتكلم، ويحكي عن انكساراتٍ، عن بلادةٍ، عن لحظاتٍ انكمشت فيها الروح، خوفًا من لسعاتِ العالم، حتى تجمدت المشاعر، وتحوّلت إلى قشرةٍ واقية.

وما يزال الجليدُ الداخلي يهمس بأن البرودة لم تكن ضعفًا، بل كانت ملاذًا، واستراحةً من لسعاتٍ لا تُعد. وأن العزلة، رغم جمودها، كانت حصنًا صامتًا، يحرس ما تبقّى من اشتعال داخلي لم يكن مستعدًا بعدُ للانطفاء. في هذا التجمد، تكمن قسوةٌ لا تُرى قسوةٌ تُعلّم الصمود، وتُنذر، بهدوءٍ جليدي، أن الانصهار قادمٌ لا محالة! لكن، بعد حين. حين تستوعب الكينونة كلّ ما يمكن أن يُقال في صقيع الروح.

وحين تتقن الإصغاء، لأبسط رعشةٍ في داخلها. يتجسّد هذا الصمت، لا في الفراغ، بل في مذكرات بحرٍ متجمّد. مساحاتٌ شاسعة، من رويةٍ ساكنة، تخفي تحت سطحها المتصلّب تياراتٍ جارفة، وعوالمَ كاملة لا تراها العين. هنا، في هذا القاع الهادئ، تُدوّن الأحلامُ المؤجلة، تُسجّل الأفكارُ التي لم تجد طريقًا إلى النور، والمشاعرُ التي خنقتها الرهبة، قبل أن تنطق بكلمة.

كل نقطة في هذا البحر المتجمّد حكايةُ انتظار، وخفقةُ قلبٍ ظلّ صامتًا طويلًا، لكنه ما زال ينبض. إيمانٌ عميق بأن الداخل السحيق يحمل السر، أن السطح المتبلّد ليس سوى قناعٍ مؤقت، وأن خلف هذا الصقيع، دفءٌ كامن، ينتظر فقط شرارةَ يقظة... لينهار الفراغ القطبي، ويتدفق المعنى من جديد.

لقد حملتُ روحي مسافرًا بلا حقيبة؛ خفيفًا من أثقال الماضي متجردًا من كل ما يمكن أن يُعيق خطاي نحو المجهول. لا أوراقَ تثبت هويتي، ولا ذكرياتَ تُطالب بي في منتصف الطريق.

كنت أمشي وكأن الأرض ليست لي، لكن السماء تومئ لي بأني لست ضائعًا تمامًا. لا أحمل معي سوى وعيي الهش، ذاك الذي يرتجف كشمعة في مهبّ المعنى. وقلبي، ذاك الذي تعلّم كيف يرقص على أنغام الفقدان، لا لأن الرقص نجاة، بل لأنه اللغة الوحيدة التي فهمتُ بها الحزن. 

هي رحلةُ تجردٍ من كل التصورات المسبقة، من كل يقينٍ زائفٍ تَسرّب إلى روحي دون أن أدري. نحو فراغٍ يحتمل كل الاحتمالات، ويفتح ذراعيه على اتساع العالم. كل خطوة هي استسلام لعدم اليقين، ولحظة صفاءٍ وسط ضباب التوقعات.

تصالحٌ هادئ مع فكرة أن الانتماء ليس مكانًا، بل حالة وجود. وأن الأمان الحقيقي... ربما كان دائمًا هناك، في القدرة العميقة على التحرر... لا من العالم، بل من الصورة التي رسمناها لأنفسنا فيه.

ومع كل هذا التيه، أدركت أن حضن العالم كان ثقبًا في الهواء؛ لم أجد فيه الأمان الذي بحثت عنه، ولا الدفء الذي طالما حلمت به. كنت أمدّ يدي بأمل فأعود بها فارغة. أطرق الأبواب مرارًا، لكن الصدى كان وحده من يجيبني. كلما حاولت أن أرتمي في أحضان الحياة، وجدتني أهوي في فراغٍ لا نهاية له، كأن كل الأذرع الممتدة كانت مجرد أشباح، وكل الوعود... مجرد سراب.

تكررت الخيبة، حتى أصبحت يقينًا، والطمأنينة التي كنت أرجوها؟ لم تكن سوى فكرة بعيدة، تسكن سقفًا لا يسند شيئًا. إنه الشعور بأن العالم، بكل اتساعه، لم يكن يومًا بيتًا، بل ممرًا طويلًا... يملؤه الصدى لا الكلام، والغبار لا الذكريات.

لكن، ومع هذا الانكسار العميق، لم تكن النهاية، بل نقطة التحول. إدراكٌ بأن الأمان لا يأتي من الخارج، بل ينبع من الداخل السرّي. وأن الحماية الحقيقية، تُنسج من خيوط الصمود الذاتي، ومن التصالح مع حقيقة الفراغ.

فمن بين ركام هذا التيه، ومن عمق قرار هذا السكون... الصمت ينسجني من جديد. لم يعد سكونًا جليديًّا، ولا صمتًا يتكلّم، بل خفوتًا خلاقًا. يعيد ترتيب الأجزاء المبعثرة، ويرمّم الشروخ القديمة. هو ليس نهاية الرحلة، بل بداية ولادة أخرى... حيث تتلاشى الأنا القديمة، ليفُسح المجال لروحٍ جديدة؛ أكثر وعيًا... وأشدّ مرونة.

في هذا الخرس العميق تُنسج أعصاب الوعي من جديد. شيءٌ ما في الأغوار ينبض بهدوء، كأن الزمن، في سهوٍ عن وجعي، مرّ الصبر كظلٍّ بلا ملامح... لم ينظر حتى خلفه. التجارب القاسية لا تختفي، بل تنصهر في بوتقة واحدة. ليس على عجل، بل كما يذوب الجليد تحت شمسٍ ترتجف في قرارها... لا تُقْدِم، ولا تُحْجم.

كل ألم لا يعود مجرد ندبة، بل يصبح نقطة نورٍ خافتة، تكشف شيئًا خفيًا كنا نغفل عنه طويلًا، وكل خيبةٍ لم تكن نهاية، بل درسًا عميقًا يتسلل ببطء، كقطرة على حجرٍ صبور. إنها عملية لا تتوقف، ولا تُعلن عن نفسها بصخب، بل تعمل في العتمات... بصمتٍ حميم.

نسيجٌ من الوجود يتجدد باستمرار، لا يرفض شيئًا... لا الماضي، ولا التناقض. يتقبل الخيالات الباهتة، كما يتقبل النور، ويحتضن كل تناقضاته... بحنوّ من فهمٍ أخير. عندها فقط... حين يهدأ كل شيء في داخلك، وحين تُسْكِت الصراعات أنفاسها، تُعلن الحياة همسًا: أنها، بكل ما فيها من قسوةٍ وجمال، ليست دعوةً للاستقرار، بل لإعادة اكتشاف الذات، وللتحليق، حتى من قلب الثقب في الهواء.

جهاد غريب 
يوليو 2025 

احتراقُ الأسئلةِ في مدى الروح!

 
احتراقُ الأسئلةِ في مدى الروح!

في البداية، كان هناك صمتٌ يشبه الضوءَ قبل أن يستيقظ في العينين. صمتٌ يذكّرنا بأننا لسنا سوى أصداءٍ لتساؤلٍ قديم، تائهةٍ بين الحلم واليقظة. هكذا تبدأ الرحلة الحقيقية، حين تجرؤ على أن تسأل: مَن أنا؟ وما هذا العبثُ الجميلُ المسمّى حياةً؟

تخيّلْ نفسكَ واقفًا على حافةِ مرآةٍ كبيرة، لا تنعكسُ عليها صورتُك، بل تنعكسُ الأشياءُ التي لم تقُلْها بعد، والأسئلةُ التي لم تجرؤْ على طرحِها. كلُّ شيءٍ هنا يتحرّك في دائرةٍ مفرغة بين الواقع والخيال، بين ما يُرى وما يُحَسّ. 

الخيالُ ليس هروبًا، بل هو الحقيقةُ الأعمقُ، النابضةُ تحت جلدِ الواقع. أحيانًا، تكون الكلماتُ جمرًا يتوهّجُ في يديك، فتختارُ بين أن تُحرِقَ بها نفسَك، أو تُضيءَ بها طريقًا لم يسلُكْه أحدٌ قبلك.

ثمّة أوراقٌ لا تحترق. أوراقٌ كُتبت بمدادِ الألم والفرح، وبقيت رغم كل محاولاتِ النسيان. هي ليست ذكريات، بل شظايا روحٍ تتناثر في الفراغ، كنجومٍ ميتةٍ لا يزال ضوؤها يصل إلينا. هذه الأوراقُ تحمل رسائلَ من زمنٍ آخر، من ذلك الجزءِ منك الذي لم يمت، ولم يولد بعد. رسائلُ تقول: أنت أكثرُ من جسد، أكثر من عقل، أنت السرّ الذي لا يُحلّ.

وفي لحظةٍ ما، حين يُغمض العقلُ عينيه من التعب، يظهر الجنونُ كضيفٍ غير مُنتظَر. لا، ليس الجنونَ الذي يخيفُ الناس، بل ذلك النورُ الذي يكسِرُ قيودَ المنطق، فيُريكَ العالمَ كما لم ترَه من قبل. هنا، تحت ضوء القمرِ البارد، تُدرك أن الحقيقةَ ليست واحدة، بل هي كالمرايا المتعددة، كلٌّ منها يُظهر وجهًا آخر للوجود. 

الجنونُ هو أن ترى كلّ هذه الوجوه دفعةً واحدة، فتحبّها جميعًا. وهو أن تحتضن هذا التناقض في صدرك، لا كمرض، بل كنبعٍ للحرية. حين تعانق جنونك، يصبح صوت العقل أكثر نقاءً، كأنك تسمع الموسيقى لأوّل مرةٍ بعد طولِ صَمَم. تصبح الغريبةُ فيك هي الجزءُ الذي كان يدّعي الاعتدال، بينما الجنون هو الوطنُ الحقيقيّ للروح.

وفي النهاية، بعد كل هذا الغوصِ في الأعماق، تعود إلى السطح حاملًا معك سؤالًا واحدًا: هل يكفي أن نعيش؟ أم أن الحياةَ تستحق أن نُحرَق فيها كالشمعة، حتى نضيءَ شيئًا ما، ولو لثانيةٍ واحدة؟

ستظلّ الأسئلةُ تحترقُ في صدرك، وستظلّ الأجوبةُ تهربُ منك كالظلّ. لكن، في هذا العجز، في هذا الشوقِ الدائم، ستجد جمال الرحلة، لأنّ الروح لا تبحث عن إجابات، بل تبحث عن سؤالٍ يُحرّك فيها الحياةَ من جديد.

كلّما اقتربتَ من الحقيقة، ازدادَ السؤالُ جمالًا.

جهاد غريب 
يوليو 2025 


الأربعاء، 23 يوليو 2025

حين اختار القلب أن يصمت!

 
حين اختار القلب أن يصمت! 
"مذكرات روحٍ سكنت أبوابها، وكتبت للعطش رسائل من كوكبٍ بعيد"

نحن الذين تعلّمنا الإصغاء لما لا يُقال، نعرف أن بعض القلوب تتحدث من خلف جدران الصمت، وتكتب مذكراتها دون أن تكتب شيئًا على الورق. نحن الذين طالت إقامتنا في المساحات الرمادية بين الكلام والسكوت، نعرف جيدًا كيف يتحول الصمت من هزيمة إلى حكمة، ومن جدارٍ بارد إلى غطاءٍ دافئ نلفّ به هشاشتنا عن أعينٍ لا تقرأ إلّا ما يُقال.

كنا نكتب رسائل خفية على حواف الأرواح، نبعثها من كوكبٍ اسمه الكتمان، حيث الهواء ثقيل بالكلمات المبتورة، والمطر لا يهطل إلا حين تختنق السحب بالبكاء المؤجل. هناك، لا تصل الرسائل إلا لمن تذوّق طعم الكتمان ذات جرح، ولا يفكّ شيفرتها سوى من تعلّم أن يقرأ الصمت كما تُقرأ القصائد العميقة، بعينٍ ثالثةٍ تسكن في القلب لا الرأس.

ثم تفتح الذاكرة دفاترها الباهتة، ونقف أمام المرآة التي لا تعكس ملامحنا بقدر ما تعكس ظمأً طويلًا لم يُروَ، كأن في داخلنا جدولًا جفّ قبل أن يصل إلى بساتينه، وكأننا نحاسب ذلك العطش العاطفي الذي لم يختر أن يكون، لكنه أتى بقدرٍ لا يعترف بالاحتياجات. فكم مرة منحنا دون أن نُسأل، وانتظرنا دون أن يُلتفت إلينا، وتجاوزنا لأن الكرامة أهم من النداء؟ وليس لأن القلب لا يحتاج، بل لأنه تعلّم كيف يطوي حاجته في جيبٍ داخلي لا تصل إليه سوى الروح.

وعندما يصير الداخل مزدحمًا بما لا يُقال، نبحث عن زاويةٍ ساكنة، عن بحيرةٍ لا تعكرها المراكب ولا تصطادها العيون. هناك نُحادث أنفسنا بصمتٍ أقرب إلى التنهيدة، ونسألها: من نحن الآن؟ ماذا تبقى من تلك النسخ القديمة التي صدّقت، ووهبت، وبَكَت؟ ولا ننتظر إجابة، فالصمت أحيانًا أبلغ من كل ردّ. البحيرة الساكنة تعرفنا أكثر مما يعرفنا الآخرون، تعكس قلقنا وطمأنينتنا في آن، تنصت إلينا دون أن تحاول تغييرنا.

ثم نعود، لا كالهاربين، بل كمن فهم المعادلة. نغلق الباب من الداخل، لا لنمنع أحدًا من الدخول، بل لنحمي ما تبقى في الداخل. والباب لا يصرخ، لا يشكو، لا يبرر، فقط يُغلق... كصمتنا حين نقرّر أن لا نُفسد سلامنا بالتفسير. ونحن، حين نغلق الباب، لا نختبئ، بل نتنفس. من خلفه نرتّب الفوضى التي خلّفتها العواطف العابرة، نُلملم الحكايات غير المكتملة، ونطفئ المصابيح التي لم تعد تُضيء إلا للمارة.

نقيم في مملكة الأبواب الموصدة، لا عن كبرياء، بل عن وعي. هناك حيث لا تُطرق الأبواب إلا حين يُشتاق، ولا يُفتح القلب إلا لمن يملك مفتاح الصدق لا مفتاح التسلل. مملكة لا تُعلن قيامها، ولا ترحب بالسائحين العاطفيين. نحن من سكّانها، نبني جدرانها من التجارب، ونزرع في نوافذها زهور الحذر، ونحرسها بسياجٍ من السكينة.

ومع كل ذلك، لا نكره الحب، ولا نُعادي القرب، لكننا نريد أن نُسمع قبل أن نُسأل، وأن نُحتضن قبل أن ننهار، وأن تُفهم أرواحنا دون أن نُعيد ترجمة أرواحنا مرارًا. لأن القلب الذي صمت طويلًا، لم يفقد صوته، بل ينتظر أن يجد من يسمعه حقًا، دون أن يُجبره على الصراخ.

وما لا يُقال لا يعني أنه لم يكن، بل يعني أنه أثمن من أن يُبدّد في طرقٍ لا تؤدي إلا إلى الخيبة. نحن الذين اخترنا الصمت، لا لأننا لا نملك الكلمات، بل لأننا لم نعد نمنحها إلا لمن يقرأنا كما نُحب أن نكون: صادقين، عميقين، دون حاجة لإثبات شيء لأحد. لقد اكتشفنا أن بعض الأبواب لا تُفتح، لأن خلفها نحن... ولا نريد الخروج.


جهاد غريب 
يوليو 2025 

الثلاثاء، 22 يوليو 2025

أصواتٌ في الفراغ: أطلالٌ تهمس بلا صدى!

 
أصواتٌ في الفراغ: أطلالٌ تهمس بلا صدى! 

"أصواتٌ تنتظر... لعلّك تكون أنت الذي يسمع"


كأن الزمن نسيَ أن يطويَ الصفحة الأخيرة من الماضي، فظلّتْ معلّقةً كورقة خريفية لا تدري إن كانت ستسقط أم تُحتضن، بين رياح الغياب وأشجار الرجاء. تلك الأصوات التي كانت تملأ الأركان بالحياة، ما عادت تُسمع، لا لأنها سكتت، بل لأننا نحن من أغلق أبواب الإصغاء. 

في كهفٍ منسيّ، نحيبٌ يحاكي دقات قلبٍ قديم. كان النحيب ذات زمنٍ صوتَ توبةٍ أو رجاء، لكنّ من نُوديَ باسمه انشغل بعالمٍ لا يسمع فيه إلا ضجيج ذاته. صخورٌ تلتقط أنفاسه الأخيرة، ثم تخلد إلى صمتها، كأنها تخبئ سرًّا لم يعد لأحدٍ حقُّ معرفته. لم يكن النحيب ضعفًا، بل ذاكرةَ رجاءٍ لم يجد من يواسيه، فذبل في داخله الصوت، كما تذبل الوردة حين لا يُشمّ عطرها. 

يرتفع الأذان في الأفق كنداءٍ منسيّ، يخترق الغبار المتراكم على الأرواح، لكن لا أحد يجيبه. ما فائدة الدعوة إذا كانت الأرواح مغلقة، والقلوب مسافرة في حقائب فارغة من النور؟ كانت المآذن تعرف أسماء العائدين، وتحتفظ بدموع التائبين، أما اليوم فهي تنادي على غرباء لا يعرفون حتى كيف تكون العودة. لا تزال الآيات تُتلى، لكن بعض الألسنة تقرأ دون أن تُنصت، وبعض القلوب تُصغي دون أن تخشع. 

أنينٌ آخر، لا يشبه الألم بل يشبه السؤال: لماذا هُجر المكان؟ صوت الشيخ العجوز الذي كان يعلّم الأطفال "اقرأ" لا يزال عالقًا في الجدران، لكنّ الجدران نفسها لم تعد تقرأ شيئًا. الطباشير التي كتبت الحروف الأولى صارت غبارًا، واللوح الخشبي الذي كان يلمع من أثر الكلمات، الآن باهتٌ كأنه لم يُكتب عليه شيء. وحدها الأرواح القديمة تتذكّر، تتحسّس النقش الباقي على الحجارة، وتهمس بخوف: "كم مرة قلنا إن العودة قريبة، لكننا لم نعد؟" 

في جوف البحر، على صخرةٍ تنام بين الموج والملح، تستقر أغنية يتيمة. لا أحد يتذكر متى غُنيت لأول مرة، ولا من كان صاحبها. وحده البحر يحتفظ بنبضها، يهمس بها للشطآن حين يشتد الحنين. لكنها، رغم كل شيء، تظل عالقة هناك، لا تتحرر، ولا تُنسى، كأنها وعدٌ لم يُوفَ، أو حبٌ لم يُعترف به. الأغاني التي لا تجد من يردّدها، تموت واقفة، كالأشجار التي لا تزورها العصافير. 

وفي مكانٍ أعمق من البحر وأبعد من الصوت، تاه نداءٌ في دهاليز الروح. نداءٌ لم يكن استغاثة، بل توقًا... لحضن، أو يقين، أو ربما ضوء صغير خلف باب مغلق. ظلّ الصوت يرتدّ بين الجدران الداخلية، يصطدم بالخوف، والخذلان، والذكريات التي لم تُشفَ بعد. وكان كل ارتداد، وكل صدى، يبدّده أكثر. لم يكن أحدٌ هناك ليفتح الباب، أو حتى ليسأل: من الطارق؟ لقد اعتادت الأرواح على الإنكار، حتى صارت لا تعترف بصوتها حين يصرخ من الداخل. 

وعند آخر المحراب، على رمادِ سجادةٍ قديمة، يرتجف دعاءٌ مكتوم. دعاءٌ لم يُرفع بصوت، بل بوجع. قد يكون صدى أمٍّ أفنت قلبها في الرجاء، أو نَفَس نبيٍّ ضاق بصبره الطريق، أو حشرجة عاشقٍ أراد أن يُحسن لكنه ضلّ درب الفهم. لا هو صعد إلى السماء، ولا سقط إلى الأرض، فقط ظلّ عالقًا بين الحناجر والغيوم، يطفو كأنه ينتظر نفسًا تُؤمن، أو دمعة تُوقظه. هو دعاء بلا وجه، بلا توقيع، بلا زمن، لكنه حيٌّ، لأن الإخلاص لا يذبل، وإن نُسي. 

وهذه الأصوات التي نتحاشاها ليست أشباحًا؛ نحن من تخلّى عن ملامحه، وتحوّل إلى أشباحٍ نعبر المرآة دون أن نجرؤ على مواجهة انعكاسنا. نرتدي أقنعةً شفافةً نظنّها تخدع الزجاج، وننسى أن المرآة لا تعكس الملامحَ بل تُظهرُ ما أنكرته الأرواح. حين نغلق أعيننا أمامها، لا نختفي، بل نتحوّل إلى ظلٍّ يرتعد أمام ذاته، كطفلٍ يُغمض عينيه ويظنّ أن العالمَ قد اختفى. 

نبرع في تزيين الهروب: أصابع ترتعش فوق الأقلام، وآذان تختار الصممَ المريحَ على سماع الحقائق التي تقشعر لها الأبدان. نطفئ المصابيحَ كي لا نرى ما يفضحه الضوء، ثم نعوي كالذئاب في الظلام الذي نسجناه بأيدينا. الكلماتُ لا تموت، بل تفرّ منّا كأسماكٍ تحت جليدٍ سميك، حاملةً كلَّ الاعترافات التي أخفيناها حتى عن ضمائرنا. 

تلك المرآة التي لا تكلّ تظلّ تعيد إلينا، بلا رحمة، كلَّ ما دفنّاه: نظرات التهرب، وألسنةً تبتلع الكلام، وقلوباً تتوارى خلف أقنعةٍ شفافةٍ تكشفُ عوراتنا أكثرَ مما تسترها. وحين نجدُ الشجاعةَ أخيرًا لنفتح أعيننا، نكتشف أننا كنا طوال الوقت نراقب ذواتنا من بين فراغاتِ أصابعنا المتشابكة، كأطفالٍ يظنون أن الاختباءَ خيارٌ وليس هروباً. 

فلا شيء يموت حقًا... الأصوات تبقى، تختبئ في صدورنا، على الأرصفة، خلف النوافذ، وبين سطور لم تُكتب. فقط، نحتاج أن نصمت بما يكفي لنسمعها. 


جهاد غريب 
يوليو 2025 


قُبْلَةٌ بين الفناء والخلود!




قُبْلَةٌ بين الفناء والخلود!

"تأملٌ في لحظةِ العبور بين الوجود والغياب"


إلى كلِّ شفتينِ، التقتا فخلَّدتا اللحظةَ في قُبْلَةٍ.


في اللحظةِ التي تذوبُ فيها الشفتانِ كظلِّ زهرةٍ على مرآةِ العدم، يَبرزُ السؤالُ الأزلي: أهذا ذوبانٌ أم اكتمال؟ أهُنا ينتهي الجسدُ حيثُ تبدأ الروحُ رحلتها نحوَ المجهول، أم أنَّ الخلودَ يُختزلُ في لمحةِ عينٍ تلامسُ حافةَ الأبدية؟  


تلك القُبْلَةُ التي تُسَلِّمُ نفسَها للفَناءِ، هي ذاتُها التي تختزلُ الكونَ في نبضةٍ واحدة!، كأنَّ الزمنَ، ذلك الساحرُ العجوز، يتوقفُ فجأةً ليُدركَ أنَّه واهِمٌ في سباقِه الطويل. هُنا، حيثُ يلتقي العابرُ بالباقي، يصبحُ الفناءُ بوابةً إلى حقيقةٍ أعمقَ من كلِّ وجودٍ مألوف.  


في هذا المدى الضيقِ بينَ الشهقةِ والزفير، بينَ اللمسةِ والغياب، تُوْلدُ الأسرار، والكونُ يعيدُ ترتيبَ أسراره في تلكَ الثغرةِ الضائعةِ بينَ القلبين. كلُّ شيءٍ ينهارُ، وكلُّ شيءٍ يُبنى من جديد. الجسدُ يترنحُ كأوراقِ الخريف، لكنَّ الروحَ تنتصبُ كشجرةٍ أسطوريةٍ تمتدُّ جذورُها إلى ما قبلَ التاريخ، وأغصانُها تُلامسُ ما بعدَ النهاية.  


أيُّ سحرٍ هذا الذي يجعلُ من اللحظةِ العابرةِ أبدًا؟ وأيُّ لغزٍ يدفنُ الخلودَ في شفتينِ تذوبان؟ القُبْلَةُ همسةٌ يلقِيها الفناءُ في أذنِ الخلود: "أنتِ مثلي، لا تُمسَكين".  


يبحثُ الإنسانُ عن الديمومةِ في كلِّ مكان، لكنها تُخبئُ نفسَها في زوايا اللحظاتِ الهاربة، كفراشةٍ تحترقُ في لهبِ الشمعة، لكنَّ ضوءَها يبقى عالقًا في الذاكرةِ كحلمٍ غامض. نحنُ نحلمُ بالخلود، لكننا نعيشُ في حنينٍ دائمٍ إلى ما يموتُ قبلَ أنْ يولد.  


ربما الخلودُ ليسَ مكانًا نصلُ إليه، بل ذاكرةً نتركُها خلفنا!، وربما هو ليسَ بقاءً، بل شظيةُ نورٍ تُضيءُ في عينَيّ من يرانا ونحنُ نغيب. القُبْلَةُ التي تُعطَى في لحظةِ الوداعِ الأخير، قد تكونُ هي الأكثرُ حياةً، لأنها تحملُ كلَّ ما لم يُقل، وكلَّ ما لنْ يُنسى.  


لا يهمُّ إنْ كنّا أطيافًا تذوبُ في ضوءِ الفجر، أو نجومًا تُخلَّدُ في سوادِ الليل. المهمُّ أننا، ولو لمرةٍ واحدة، اختبرنا ذلكَ التمازجَ العجيبَ بينَ أنْ نكونَ ولا نكون. بينَ أنْ نعانقَ المصيرَ ونُقبِّلَهُ على عينيه، ثمَّ نذوبَ كحلمٍ في يقظةِ الكون.  


لعلَّ هذهِ هي الحكمةُ الكبرى: أنْ تعيشَ كما لو أنَّكَ تُقبِّلُ العالمَ للمرةِ الأخيرة، لأنَّ كلَّ قُبْلَةٍ — مهما تكرَّرتْ — هي في حقيقتِها الأولى والأخيرة.


كُلُّ لقاءٍ هو غيابٌ يُقلِّبُ كفَّيهِ أمام العينين، فيُظهرُ وجودًا كالسراب، لكنَّه وجودٌ يُشبهُ الرُّوحَ: لا يُمسَكُ، لكنَّه لا يُفْقَدُ.


وكلُّ حُبٍّ هو غيابٌ يرفعُ جفنيه نحوَ الضوء، فيتوهَّجُ بيننا خالدًا — ليس لأنَّه هربَ من الموت، بل لأنَّه عرفَ كيف يموتُ في كلِّ لحظةٍ، ثم يُبعَثُ من جديد.


الخلودُ والفناءُ وجهانِ لعملةٍ واحدةٍ تُسكَبُ في قالبِ اللحظةِ الحاضرة: أنْ تكونَ هنا، وكأنَّك لن تكونَ أبدًا بعدَ الآنْ، فنحنُ، مثلُ تلك القُبْلَةِ، نذوبُ كي نُخلَّد، ونغيبُ عن الضوءِ لنرى النور، ونموتُ في أحضانِ اللحظةِ كي نُولدَ في ذاكرةِ الوجود. 


الخلودُ لا يُكتَبُ في سجلاتِ الزمن، بل يُوشَمُ على الشفاهِ التي عرفَتْ كيف تقولُ كلَّ شيءٍ بصمت. هو النبضُ الذي يبقى بعدَ أنْ يتوقَّفَ القلبُ عن الخفقان، وهو تلك القُبْلَةُ التي لم تُعطَ لتمسكَ، بل لتحرِّر — كطائرٍ يُطلقُه الحبُّ في الهواء، فيصيرُ سماءً كلَّما حلَّق. وهو الظلُّ الذي يطولُ حينَ تقصُرُ الشمس.



جهاد غريب 
يوليو 2025 


الاثنين، 21 يوليو 2025

بوصلةُ القلبِ.. وخارطةُ الروح!

 
بوصلةُ القلبِ.. وخارطةُ الروح! 

في هذا الكونِ الذي يحاولُ قياسَ كلِّ شيءٍ، تتكسرُ أدواتُ العقلِ أمام هشاشةِ الوجدان، وتضيعُ الخرائطُ على صخورِ المشاعرِ. هنا، لا تنفعُ الإحداثياتُ، ولا تُجدي المسافاتُ، لأننا لا نتحرّكُ على الأرضِ فحسب، بل نُبحرُ في أعماقِنا، باحثينَ عن مرافئ لا تظهرُ على أيّ خريطة.

المشاعرُ النبيلةُ لا تُقاسُ بالمسطرةِ ولا تُوزنُ بالمنطق، بل هي ذلك النبضُ الخافتُ الذي يعرفُ أكثر مما يظنُّ العقلُ أنهُ يعلم. إنها مثلُ النجومِ: لا تُمسَكُ باليد، لكنها تُضيءُ لنا الطريق، وتمنحُ الغريبَ ملامحَ الأخ، وتجعلُ من المستحيلِ ممكنًا. ولعلّنا لا نُدركُ كم أن أصدقَ الحقائقِ هي تلك التي لا تحتاجُ إلى برهان، وأنّ أعظمَ الهداياتِ لا تُرى بالعيون، بل تُستشعَرُ بالقلب.

هنا، حيث تنتهي كلُّ اللغاتِ، تبدأ لغةُ الأرواح. لغةٌ لا تُكتَبُ بالحروفِ، بل تُصاغُ من نبضاتِ الشعور، وتُقرأُ بنورِ الضمير. ما قيمةُ الخريطةِ إذا لم تُظهِرْ حدود الحب؟ وما فائدةُ البوصلةِ إنْ عجزتْ عن إرشادنا إلى الحقيقةِ التي تلمعُ في أعين من نحب؟ إنّ شهادةَ القلبِ، وحدها، تسبقُ كلَّ الأدلة، وتعلو فوقَ كلِّ صمتٍ أو كلام.

وفي لحظاتِ الصدقِ العاريةِ، حينَ ينكشفُ القلبُ كما ينحسرُ البحرُ عندَ الجزر، نرى الحقيقةَ بلا زينة، ونفهمُ دونَ تفسير. نضحكُ أو نبكي دونَ سببٍ منطقي، لأنّ القلبَ يعرفُ، والمنطق - في لحظاتِ النور - قد يكونُ أعمى. وفي تلك اللحظات، لا يعودُ الصمتُ عجزًا، بل لغةً أعمقَ من كلِّ تعبير.

العقلُ؟ نعم، هو السفينةُ التي تُبحرُ بنا في بحارِ الحياة، لكنّ القلبَ هو النجمُ الذي يهديها. لا تعارضَ بين الاثنين إذا كان العقلُ حرًّا والقلبُ نقيًّا، بل إنّ أعمقَ الفهمِ هو ذلك الذي يجمعُ صفاءَ المشاعرِ ونضجَ الفكر. المشاعرُ التي نُعوّلُ عليها هنا ليست تلك التي تولدُ من الخوفِ أو الغضب، بل تلك التي تنبضُ بالسكينة، وتُضيءُ بنُبلها الطريق.

فإذا ارتبكت المسالكُ، وسألكَ أحدهم: كيف تثقُ ببوصلةٍ لا تراها؟ فقلْ له: لأنني أسمعُ صوتها، ولأنّ في اللحظةِ التي يهمسُ فيها القلبُ، يصمتُ كلُّ شيءٍ حولي، وتُضاءُ بداخلي الطرقات. وفي ذلك الصوتِ الخافتِ، البعيدِ عن صراخِ العقلِ أو ضجيجِ العالم، أجدُ يقيني.

في زمنٍ تُختزلُ فيه المشاعرُ في رموزٍ رقمية، وتُحوَّلُ فيه الأحاسيسُ إلى بياناتٍ قابلةٍ للقياس، تذكّرْ أنَّ بعضَ الحقائقِ لا تُقاس. الحبُّ لا يُوزن، والحنينُ لا يُبرَّر، والفرحُ لا يُدرَجُ في جداولَ. تذكّرْ أنَّ في صدركَ خريطةً لا تبلى، وبوصلةً لا تخون، إذا ما صدقتَ الإنصاتَ.

فإذا ما ضاعتْ منك الطرقُ، لا تبحثْ في الخارجِ، بل أغمضْ عينيك، وضعْ يدكَ على صدرك. هناك، في ذلك المكان الدافئ، ستسمعُ صوتًا لا يُشبهُ سواه... صوتًا لا يصرخُ، بل يهمسُ ويهدي ويعرف. فاجعلْ قلبكَ خريطتَك، ومشاعركَ بوصلتَك، وستصلَ - لا محالةَ - إلى الحقيقةِ التي تبحثُ عنها، حتى وإن قال لكَ العالمُ كلّه إنكَ تائه.


جهاد غريب 
يوليو 2025 

المصباح الذي في القلب!

 

المصباح الذي في القلب! 

في الظلمةِ التي تعلو، حين تنطفئُ كلُّ المصابيح، وتنزوي الأضواء خلف ستائرِ العتمة، يبقى هناك نورٌ لا يُطفأ، إنه لا يشبهُ تلك الأضواءَ التي تتكسّرُ على الجدران، ولا تلك الومضات التي تبهتُ أمام ريحٍ عابرة، إنه نورٌ ينبعُ من أعماق القلب، كشمعةٍ لا تُرى، لكنّ لهبَها يغمرُ الكون كلَّه.  

قلبُك مصباحٌ، لكنّه ليس من زجاجٍ ولا معدن!، لا يُكسَرُ بالرياح، ولا يَصدأُ بمرورِ الأيام، إنه وعاءٌ للنورِ الذي لا يُستعارُ من شمسٍ ولا قمر، نورٌ يُولدُ معكَ، ويشتعلُ رغمَ كلِّ شيء. قد تُغلَقُ كلُّ النوافذِ حولَك، وقد تُسدُّ المنافذُ حتى لا يتسللُ خيطُ ضوءٍ واحد، لكنّ ظلمةَ العالمِ لا تستطيعُ أن تصل إلى هناك، إلى ذلك الحيزِ الصغيرِ الذي يحملُ كلَّ هذا السُّراج.  

تأمّلْ: كم مصباحًا انطفأَ في حياتِك؟ كم ضوءًا وعدكَ ثمّ خانك؟ كم مرّةً ظننت أنّ النهار لن يعود بعد غيابِ تلك الشمسِ الخارجية؟ لكنّ القلب كان يبتسمُ في الخفاء، يعرفُ سرَّه القديم: أنَّ النور الحقيقيَّ لا يأتي من السماء، بل ينبثقُ من الأعماق.  

هناك بشرٌ تحملُ قلوبَها كالمصابيحِ المطفأة!، تمشي بين الناسِ بلا وهج، تبحثُ عن شرارةٍ في عيونِ الآخرين، عن قبسٍ يُعيدُ لها الحياة، لكنّ القلب الذي يعرفُ ذاته لا ينتظرُ من أحدٍ أن يُضيءَ له، إنه يُشعِلُ طريقَه بنفسِه، يصنعُ من ألمِه زيتًا، ومن أسئلتِه فتيلًا، ومن صمتهِ لهبًا لا ينضب. ولذا، حين يأتي الامتحان الحقيقي، لا يتردد، بل يسير على هدي هذا النور، يعرف أين يضع خطاه، حتى وإن بدا الطريق فارغًا من المعالم.

وأحيانًا، تكونُ الظلمةُ ضروريةً كي نرى. نعم، حين تنطفئُ كلُّ الأضواءِ الوهمية، نكتشفُ فجأةً أنّنا لسنا بحاجةٍ إليها، ونكتشفُ أنّنا كنّا نحملُ النور طوال الوقت، لكنّنا كُنّا مشغولينَ بجمعِ الشموعِ من حولِنا. كم من مرّةٍ أغمضتَ عينيكَ في الظلامِ فوجدتَ نفسَكَ مُضاءً من الداخل؟ كم من لحظةٍ صمتَّ فيها فسمعتَ صوتَ ذلك النور يُناجيك؟  

النورُ الخارجيُّ خادعٌ!، إنه يُظهرُ الأشياء لكنّه لا يُظهرُ الحقيقة، أمّا نورُ القلبِ فهو يُضيءُ ما خفيَ عن العيون، يُريكَ ذاتكَ كما هيَ، ويُريكَ العالم كما يجبُ أن تراه. إنه لا يُظهِرُ الأشجارَ والجبالَ فحسب، بل يُريكَ كيف تُغنّي الأشجارُ حين لا يسمعُها أحد، وكيف تبكي الجبالُ في صمتِها الأزلي.  

لا تخفْ إذا ما انطفأَ كلُّ شيءٍ حولك. لا تظنّنَّ أنّ الظلمةَ نهاية. ثقْ بأنّ في صدرِك ما يكفي من النورِ لتعيدَ رسم العالم. قلْ للظلامِ: "لن تصلَ إليّ، فمصباحي لا يحترقُ بالزيتِ، بل باليقين". وتذكّرْ دائمًا: أعمقُ الظلالِ تُولدُ من أقوى الأنوارِ الخارجية، لكنّ القلب الذي يُضيءُ من داخله لا يُلقى بظلٍّ أبدًا.  

في النهاية، لن يبقى إلّا ما أضاءَ من الداخل!، وكلُّ الأضواءِ ستتبدّدُ كحلمٍ عندَ الفجر، لكنّ المصباحَ الذي في القلبِ سيظلُّ يرفرفُ كفراشةٍ من نورٍ في صدرِ الوجود، وسيظلُّ يهمسُ لكَ في كلِّ مرةٍ تنسى: "أنتَ لستَ بحاجةٍ إلى شمسِ أحد، فأنتَ تحملُ شمسَكَ فيكَ".  

هكذا هيَ القلوبُ الحيّة: تُضيءُ حين تنطفئُ كلُّ المصابيح.


جهاد غريب 
يوليو 2025 



الهاوية التي تصعد بنا!

 
الهاوية التي تصعد بنا!

تترامى ظلال الأمس فوقنا، كأشرعة سفينة مثقلة بجراح الغرق، وحين تتهادى الروح نحو القاع، حيث لا صوت يُسمع سوى أصداء الوجع، نظنّ أننا بلغنا النهاية، وأن هذا القاع هو المنتهى. لكنّ الهاوية قد تكونُ بدايةَ صعودٍ لا يدركه إلا من عانقَ قاعَها بكلتا يديه، كما يلامس الفينيق رماده قبل أن ينهضَ من جديد.

في عتمة السقوط تتجلّى ملامح قوةٍ خفيّة، كالنبتة التي تشقّ التربةَ لتصل إلى الشمس، وكالضوء الذي لا يظهر إلا حين تخفت كل المصابيح. قوة ترتوي من مرارة الألم، وتورق أغصاناً جديدة، تمتدّ جذورها عميقاً في تربة التجربة. وكما قال نيتشه: "ما لا يقتلني يجعلني أقوى".

كم مرة حسبنا أنفسنا أسرى حفرة لا مخرج منها، وارتعدنا من الوحل الذي يلتف على أطرافنا؟ لكننا لم نكن نغرق، بل كنا نعود إلى رحم يعيد تشكيلنا، كالنحات الذي يضرب الصخر، لا لينكسر، بل ليظهر تحفةً مدهشة كانت مخفية داخله.

الألم هنا ليس عدواً، ولا سجّاناً، بل هو المايسترو الذي يقود أوركسترا وجودنا. هو النغمة التي تُضفي عمقًا على سيمفونية الحياة، وإزميل الفنان الذي لا يكلّ عن النحت فينا، صارخًا: "أنت أكثر من مجرد كتلة، أنت تحفةٌ قيد التشكيل!"

كل شرخ يتركه فينا ليس عيباً، بل نافذة. وكل ندبةٍ هي سطر في قصيدة وجودنا، علامة ترقيم في رواية أرواحنا، ودليل حيّ على أننا ما زلنا نحيا، ما زلنا ننبض، ونتشكل، ونزهر.

ها هو الألم يحوّل أعماقنا إلى ورشةٍ دائمة، تُصهر فيها التجارب القاسية لتصنع نسخاً منا أكثر نقاءً، أكثر صلابة، أكثر إشراقًا. فما أقسى الألم إلا برهانٌ على قدرتنا على الشعور، على الانتماء إلى الحياة، رغم ما تفعل بنا.

ليست المسألة في تجنب الهاوية، بل في تعلّم الرقص على حافّتها. في تحويل عويل الريح إلى لحن، وصدى الانكسار إلى نشيد. إن احتضان الشرخ في الروح لا يعني الخضوع، بل يعني الاعتراف به كمدخلٍ للنور، كنافذة نطلّ منها على اتساع كنا نجهله.

"ربما نحتاج إلى أن نغرق في القاع كي ندرك أن الألم هو مجرد نهر عابر، لا محيط أبدي". فكل دمعة تسقط، تُزرَع بذرة أمل، وكل تنهيدة ليست إلا زفرة حياة، وكل كسرة في القلب تصبح شرفة نطل منها على أفق جديد.

السقوط قدر لا خيار لنا فيه، أما الصعود فقرار. وليس الصعود انتصاراً على السقوط، بل هو السقوط ذاته حين يُحتضن بوعي، ليصبح جسراً نعبر فوقه إلى ذواتٍ أعلى، أكثر صلابةً واتساعاً. كل حجر نعثر به، كل وجعٍ نتكئ عليه، هو درجة في سلّمٍ مقلوبٍ نحو الأعالي.

وحين تدرك الروح أخيرًا أن هذه الهاوية التي ظنتها نهاية، لم تكن سوى معراجٍ خفي، تهتز الأرض طربًا، وتصفّق لها النجوم، لأنها أدركت أن الأجنحة لا تنبت إلا بعد السقوط.

فلا تطلب من الحياة أن تكون أقل عمقًا، بل اطلب من نفسك أن تكون أطول جناحًا، لأنّ أعمق الوديان تُنبت أعلى القمم، وأشد لحظات انكسارنا… هي بالذات لحظة الميلاد الحقيقي لأجنحتنا.

جهاد غريب 
يوليو 2025 


الأحد، 20 يوليو 2025

حين تلمس السماء القلب!

 
حين تلمس السماء القلب! 

هل شعرت يومًا بوميضٍ خافتٍ ينبعث من أعماقك؟ ليس من ذكرى عابرة، أو حلمٍ بعيد، بل من مجرد نظرة إلى تلك اللجة الزرقاء، أو السواد المخملي المرصّع باللآلئ، إنها لحظة تتلقفها الروح فورًا، كأنها تعرفها منذ الأزل، حين تتجلّى السماء ليس كفضاءٍ شاسعٍ فوقنا، بل كمرآةٍ شفافةٍ تعكس أعمق الأسرار الكامنة في القلب.

هناك، حيث تلتقي اللانهاية بالمتناهي، ويتلاشى الفاصل بين ما هو مرئي وما هو محسوس، تولد تلك الرجفة التي لا تأتي من الشفق، ولا تذوب في زوال الليل، بل تبقى ساكنة، عميقة، كوشمٍ أبديٍّ على جدار الروح.

إنها رجفة ليست رجفة خوفٍ ولا برد، بل هي دهشة وجود، ارتعاشة صمت أمام عظمةٍ لا تُدرك كنهها العقول، لكنها تلامس شغاف القلب مباشرة. وكأن الكون، بكل اتساعه وسكونه، يهمس إلينا بسرٍّ قديمٍ عن أنفسنا، عن كوننا خيوطًا متشابكة في هذا النسيج الكوني.

ما الذي يجعلنا نرتجف أمام سماءٍ مليئة بالنجوم، أو عند رؤية شروق الشمس يصبّ ذهبه على الأفق؟ ليست الألوان وحدها، ولا الأبعاد الفلكية، بل هو ذلك الصدى الذي يتردد في أعماقنا، صدى الأصالة والجمال المطلق، الذي يوقظ فينا ما كان نائمًا، ويُعيد وصل ما انقطع بين الروح ومصدرها الأول.

تتسلل أشعة الشمس الأولى عبر نافذة الروح، فتُضيء زواياها المنسية، وتُبعث الحياة في كل خلية. السماء، بتجلّياتها المختلفة، ليست مجرد سقفٍ للعالم، بل صفحة قلبٍ كونيٍّ نُطالِع فيها أسرارنا. 

هي تُحدث فينا صحوةً لا تُشبه الصحوات المعتادة؛ صحوة تُلغي حدود الزمن والمكان، وتدعونا لنتجاوز حواسنا الخمس، لنُلامس ما لا يُلمس، ونُبصر ما لا يُرى بالعين المجرّدة، وكأن السماء لا تكتفي بأن تظل فوقنا، بل تسكن فينا لتُعيد ترتيب العالم من الداخل.

إنها تذكرة بأننا لسنا مجرد كائناتٍ مادية، بل نحن أرواحٌ تسكن أجسادًا، أرواحٌ تتوق إلى الوصال، إلى الاندماج في هذا الجمال الكوني العظيم.

تلك الرجفة التي تُلامس القلب، لا هي من رياحٍ عابرة، ولا من نورٍ خافت، بل هي من وهجِ الحقيقة، من لمسةٍ علويةٍ تجعلنا نُدرك أننا جزءٌ من كلٍّ أكبر، وأن سرّ وجودنا يكمن في هذا الاتصال الروحي العميق. هي ليست مجرد إعجابٍ بصري، بل هي تماهٍ صوفيّ، انصهارٌ للذات في بحر الكون اللامتناهي.

تُرى، أهي الرجفة نفسها التي تأتينا حين نرى البحر يتقاطع مع ضوء القمر، فيتوهج كأنفاس كائن سماوي؟ تلك اللحظة التي لا يكتفي فيها الجسد بالمشاهدة، بل تُنصت الروح، ويتسع القلب لأكثر من مشهد، لأكثر من إحساس. 

حين نصغي إلى حفيف الريح في جنح الليل، نشعر كأننا نسمع أنفاس كائناتٍ خفيّةٍ تتراقص بين النجوم. إنها لحظات لا يكتفي فيها البصر بالتأمل، بل تتوق الأذن لالتقاط سيمفونية الكون الخفيّة، وتتوق الروح للذوبان في وصالٍ حسي شامل، كأن الريح تُقلّب صفحات كتابٍ كونيٍّ مُذهّب.

لقد أدرك الأقدمون هذا السرّ، فنسجوا من النجوم حكاياتهم، وجعلوا السماء جسرًا بين عالمهم الفاني والماوراء الأبدي، كما فعلت الحضارات القديمة التي رأت في كل نجمةٍ قصةً، أو إلهًا، معتبرينها دليلًا لا على الطريق فحسب، بل على سرّ الوجود ذاته.

ما تظنه ضعفًا أمام اتساع السماء، هو في جوهره انتماءٌ صامتٌ لقوةٍ خفيةٍ تنبض بك. ما تلك الرجفة سوى توقيع الكون علينا، نحن أبناءه الشرعيون، المنتمون إليه أكثر مما نعي.

نحن لسنا مجرد مشاهدين على مسرح هذا الكون؛ نحن فاعلون فيه، متلقّون للّمسات، ومُشِعّون لها بدورنا. ويظل في القلب أثرٌ دافئ، ورجفة خفية، كأن الزمن توقف ليُصغي إلينا.

وعندما تُسدل السماء ستائرها الليلية، وتُضيء كواكبها ونجومها، لا يبقى في القلب سوى ذلك الأثر الدافئ، تلك الرجفة الهادئة التي تُخبرنا بأننا وُجدنا لنُحب الجمال، ونستشعره في كل ذرةٍ من هذا الوجود، وأن أرواحنا تتنفس من فيض السماء، وتُروى من غيثِ هذا الكون المعطاء.

في المرة القادمة التي ترفع فيها رأسك إلى السماء، تذكّر أنك لا تنظر إلى فراغ، بل إلى مرآة روحك، إلى إشاراتٍ صامتةٍ تُخاطبك بلغةٍ لا تُقال. دع تلك الرجفة تدبُّ في أوصالك، واستقبل همسات الضوء كما لو كانت رسائل موجَّهة إليك وحدك. فذلك الارتجاف الخفي... ليس من البرد، بل من الضوء الذي يعبر القلب قبل أن يلامس العين.

ألم يقل جلال الدين الرومي: لقد وُلدتَ بجناحين، فلماذا تُصرّ على الزحف؟ ارفَعْ رأسك، ليس لترى السماء، بل لتتذكّر أنك منها... وأن كل ما فيك يشتاق إليها، كما يشتاق الضوء إلى مصدره، والنجم إلى مجرّته. 


جهاد غريب 
يوليو 2025 

حين تمشي العتمة مع اليقين!

 
حين تمشي العتمة مع اليقين!

كأنك تسير في ممرٍ لا يُنبئك إن كان ينتهي ببابٍ أم بجدار. الخطى ترتجف بين الشك والانتظار، والهواء ثقيلٌ بحملِه كل الأسئلة التي لم تُنطق بعد. العتمة هنا ليست نقضًا للنور، بل ممرًا إليه، رحمًا يختلط فيه الغموض بالبصيرة، كي ينضج اليقين قبل أن يولد حقيقةً تتنفس.

نمشي، لا لأن الطريق واضح، بل لأن في التوقف خيانةً لذلك الصوت الخفيّ الذي لا يُسمع إلا عندما يصمت كل شيء. قد لا ندرك هل نسير نحو الحقيقة أم نحو وهمٍ يرتدي ثوبها، لكننا نخطو لأن الجهل بالوجهة أخفُّ وطأةً من اليقين الزائف، وأقل قسوةً من التجمُّد في دهاليز الخوف.

الشك لا يغزو القلب فجأة، بل يتسلل كحبرٍ في ماءٍ صافٍ، لا ليشوّهه، بل ليُظهر هشاشة وضوحه المزيف. ليس كلُّ وضوحٍ نعمةً، فكم من نورٍ أعمى العيون عن رؤية ما وراءه. وليست الأسئلة سياط تعذيب، بل مفاتيح نطرق بها أبوابًا لم نكن نعرف أنها مُغلقة. كم مرّة ظننتُ أني أبصرت الحقيقة، فإذا بي أفقد بصيرتي؟ وكم من يقينٍ هدأني، ثم تحوّل إلى قفصٍ مذهّبٍ جعلني أنسى اتساع الأفق وشهوة الطيران؟

حين تتوقّف عن مقاومة العتمة، وتُمسك بيدها كرفيقٍ لا كعدوّ، تبدأ في رؤية ما لم يكن مرئيًا تحت وهج الضوء: ارتعاشةُ القلب حين يخلو إلى نفسه، ووجوهُ الأحبة في طيّات الظلال، وحتى الفراغ يصبح انعكاسًا يفضح ما نحاول إخفاءه. هناك، في عمق الظلمة، تكتشف أن النور الذي تبحث عنه كان يسكنك طوال الوقت، لكنك كنت تقف خلف ذاتك، تتفرج.

السؤال ليس لعنةً، بل نافذةً تُجبرك على مواجهة صورتك الحقيقية بكل شقوقها. واليقين ليس دائمًا خلاصًا، بل قد يكون سجنًا يحجب عنك احتمالاتٍ أخرى لأن تكون، لأن تتغيّر، لأن ترى العالم بعينٍ لم تُبصر بعد. النور لا يولد دائمًا كصاعقةٍ تُبهر العيون، بل كأنفاسٍ خافتةٍ تصعد من أعماق الروح، من حيث الألم، لا من حيث الراحة.

عندما نعترف بأننا لا نسيطر على الطريق، ولا حتى على أنفسنا، تنبت فينا أجنحةٌ من فهمٍ جديد. يصبح اليقين ليس صخرةً نتمسّك بها، بل فضاءً نتعلم فيه أن نحلّق فوق الأسئلة، لا أن نغرق تحتها.

تسكن التموجاتُ الداخلية حين تدرك أن العتمة ليست عدوًا، بل كائنًا يُريك وجه خوفك الحقيقي كما لو أنك تراه لأول مرة، بلا أقنعة ولا مؤثرات. وأن النور لا يكمن في المصابيح، بل في الفهم الذي يولد من الصدق مع الذات. وأن الصوتَ الحقيقي لا يُسمع في الضجيج، بل في تلك اللحظة التي تنصت فيها إلى السكون كأنه اعترافٌ صادق.

لا نخرج من العتمة إلى الضياء، بل نوقظ الضوء من داخلنا، بأسئلتنا، بضعفنا، بشجاعتنا في أن نقف عراةً أمام أنفسنا. من يجرؤ على مواجهة الفراغ، لا ليملأه بعجلة، بل ليفهمه، هو وحده من يمنح الحياةَ معنى لا يتبدّد.

وفي لحظةٍ هادئة، عند مفترق طرقٍ بلا علامات، تسند ظهرك إلى جدار روحك، وتغمض عينيك كمن عاد من رحلةٍ طويلة، وتهمس: لم أكن أبحث عن يقينٍ ثابت، بل عن دفءٍ لا يرتعش في حضن السؤال.

وهكذا، لا تشكر النور وحده، بل تشكر العتمة لأنها قادتك إلى حيث يُخلع كل قناع، وحيث يُكتشف أن القلب كان دليلَه الخاص طوال الوقت.


جهاد غريب 
يوليو 2025 

همسات الوجود وصدى القلب!

 
همسات الوجود وصدى القلب! 

أحيانًا، لا نحتاج إلى إجابة. نحتاج فقط أن يُربّت الوجود على قلوبنا، أن يهمس لنا: "أنا معك"، دون أن يقول شيئًا.

في اللحظة التي ينساب فيها الكون إلى جوف القلب، يصبح كل شيء أغنية بلا كلمات. هناك، حيث يذوب الحاجز بين الداخل والخارج، تُولد لغة أخرى: لغة الهمس الذي لا يحتاج إلى صوت. الوجود لا يتكلّم، بل يُناجيك بإشاراته الصامتة، عبر نسيمٍ عابر، أو ومضةٍ مفاجئةٍ في عينيك، كأنما يضع يده على كتفك ويقول: "أنت هنا، وأنا هنا، وهذا يكفي".

القلب ليس مجرّد مضخة دم؛ إنه صياد الخفايا، ومترجم اللامرئي. حين يصمت العقل، يبدأ القلب في الرؤية. يسمع دبيب النملة على ورقة، ويرى الظلّ الذي تتركه الفكرة قبل أن تولد. في أعماقه، تتكسر الأضواء إلى ألوان لم تُسمَّ بعد، وتصير الأصوات ذبذبات تهز الروح دون أن تُسمَع. فالقلب لا يفسّر الوجود، بل يحسّه، يعيشه، ويذوب فيه.

هل شعرت يومًا أنك تسمع النجوم؟ ليس بالأذن، بل بذلك الموضع الغامض خلف الضلوع. قد تكون واقفًا تحت سماء صافية، أو بين جدران عادية، وفجأة يغمرُك إحساس بأن الكون ينشد لك أغنية قديمة، كأن كل الذرات من حولك ترقص على نغمة واحدة. في تلك اللحظة، لا تكون مستمعًا فحسب، بل العازف، والآلة، والأغنية ذاتها.

لكي تسمع همس الوجود، عليك أن تصمت أكثر مما تتكلم. السكون ليس فراغًا، بل وعاء يمتلئ بالمعنى. حين تهدأ الضوضاء الداخلية، تبدأ الأصوات الحقيقية بالظهور: صوت النهر وهو يسعى نحو البحر، صوت الزهرة وهي تتفتح عند الفجر، صوت الروح وهي تتمدد كالظلّ تحت شمس اليقين. في هذا السكون، تصير الكلمات زائدة عن الحاجة؛ فالصمت حوار، والغياب حضور، والوحدة لقاء.

وفي النهاية، لا يهم إن كنت قد فهمت الكون أم لا. المهم أنك شعرت به. أنك وقفت تحت سمائه، أغمضت عينيك، وسمعت قلبك يهمس بكلمة واحدة: "أنا موجود". وهذا يكفي. يكفي أن تدرك أنك جزء من أغنية كُتبت قبل أن تولد، وسيستمر صداها بعد أن ترحل، فالوجود لا ينتهي، والقلب لا ينسى. إنه فقط يُغمض عينيه... ويستمع. وكلما استمع، أدرك أنه لم يكن يومًا وحيدًا.

جهاد غريب 
يوليو 2025 

السبت، 19 يوليو 2025

شرنقة اللهب... ومنارة القلب!

 
شرنقة اللهب... ومنارة القلب! 

في أعماقك، حيث لا يُبصر الساهرون، ينبت الفانوس الذهبيّ. لا يشبهه إلا ما يُشبه النورَ حين يلامس النور. قلبه يتنفّس ضياءً، وحوله تدور الأسرار كعوالم صغيرةٍ تبحث عن يدٍ تسكن فيها. هذا هو فانوسك، لا زجاج يحميه ولا ريح تطفئه، لأنّ النور الذي ينبع من الأعماق لا يُسرَب، ولا يُستعار. 

في الظلّ، حيث تتدلّى الخيوطُ الأخيرةُ من النهار، يبدأ الضوءُ بالانتصاب كشجرةٍ عتيقة. لا تخدعك العتمة، فكلّ ظلمةٍ هي مجرّد نورٍ لم يجد بعدُ طريقه إلى العينين. والقلبُ الذي عرف الجرحَ، يعرف أيضًا كيف يخيط جراحه بخيوطٍ من شمس. هكذا تُنبِت الظلمةُ ضوءَها: كبذرةٍ تشهق نحو الضوء، أو كطفلٍ يتعلّم المشيَ على أرضٍ غير مضمونة، لكنّ خطواته — رغم ذلك — تترك أثرًا يُضيء.

وإذا صمتَّ قليلًا، ستسمع الكونَ يصغي. الأنهارُ تهمسُ باسمك، والنجومُ تترنّم بلغةٍ لا تحتاج إلى أذنٍ كي تُفهم. قلبُك المضيءُ ليس غريبًا هنا، إنّه الصديقُ القديمُ للفراغِ الذي يملأ السماء، وللصمتِ الذي يسبق الكلامَ العظيم. في هذا الكون، حيث كلّ شيءٍ يُناجي كلَّ شيء، أنت لستَ زائرًا، أنت الندى الذي يروي الأرضَ، والقصيدةَ التي تنتظر قارئها.

لا تخف من العتمة، فالنورُ الحقيقيُّ لا يخافُ السقوط. حتى لو التُفَّ القلبُ بالليلِ كالشرنقة، فداخله فراشةٌ من لهب، وكلّما اشتدّ الظلامُ، تذكّر: أنت لم تُخلقْ لتُحاط، بل لتُضيء. النورُ الذي فيك لا يُقاسُ بكمّية الهواء حوله، ولا بمسافة السماء فوقه، بل بقدرته على أن يظلّ يُغنّي حين تخرُّ كلُّ الأصوات.

وفي النهاية، حين تُلملم الأشياءُ ظلالَها، وتعود الكلماتُ إلى مناجاةِ الصمت، ستُدرك أن النور لم يكنْ مجرّدَ ضوءٍ عابر، بل كان القلبَ نفسه. قلبًا صار منارةً، ليس لأنّه لم يعرف الظلمة، بل لأنّه — وببساطةٍ موجعة — لم يجد بدًّا من أن يُشرق.

لأن النور لا يُستعار… بل يُولد في لحظة صدق، حين يصغي الإنسان إلى ما يُضيء فيه، فيكتشف أن في داخله شمسًا لا تغيب.

جهاد غريب 
يوليو 2025 

البوح الصادق: ملاذٌ في صمت المعنى!

 
البوح الصادق: ملاذٌ في صمت المعنى!

في زمنٍ ضجّت فيه الأصوات، وتكاثرت فيه الكلمات حتى بات الصمت عملة نادرة، يصبح البوح الصادق غايةً يُشقى لأجلها، ومنشودًا يُرتجى في متاهة اللفظ، لا ذاك البوح الذي يتكئ على ضجيج الفراغ، ولا ذاك الكلام الذي يترنّح في أروقة المجاملات، أو يُزيَّف بزينة العبارات الخاوية، إنما هو بوحٌ مشدودٌ كوترٍ على حبلٍ من صدق، لا يخدع بزيف، ولا يرتجف أمام الوجوه الخاوية، ولا يتجمل بقناع من ذهب على وجهٍ من طين.

يسكن هذا البوح صمتٌ ثقيل، لكنه ليس صمت الموتى، بل صمت الحكماء، أولئك الذين يعرفون أن الكلمة زهرة لا تتفتح إلا في تربة التأمل. صمتٌ عامرٌ بالمعنى، كأن اللغة نفسها اختبأت في مساماته، خجلاً من أن تنطق قبله. 

هو الصمت الذي يسبق الكلمة كما يسبق الغمام المطر، يُختمر فيه الكلام كما تُختمر الخمر في جرار الزمن، حتى إذا نطق، نطق نقيًّا كندى الفجر، ثقيلًا كدمعة الندم. إنه صمت لا يفرغ القلب، بل يُثقل الكلمة بالروح والمعنى، ويمنحها مقامها قبل أن تصل إلى الشفاه.

وفي عالمٍ تتداعى فيه الجسور بين البشر، يصبح البوح الصادق الجسر الأخير الذي يُبنى عليه الرجاء، حجرًا فوق حجر. فما جدوى الكلام إن لم يكن جسرًا يعبر من قلبٍ إلى قلب؟ وما نفع العلاقات إن قامت على طقوس باردة، وعبارات لا تشبه أرواح أصحابها؟ 

إن الصدق هنا ليس مجرد فضيلة، بل هو الروح التي تُبقي العلاقة حيّة، هو النور الذي يمنع الحب من أن يتحول إلى ظلٍّ بلا جسد، والصداقة من أن تصبح مجرّد إجراءٍ اجتماعي، وهو الهواء النقي في رئة العلاقات، والماء العذب في بئر التواصل.

وما أقسى العيش في عالمٍ يغيب عنه هذا البوح! حيث تتراكم المشاعر كالسحب الركامية، لكنها لا تمطر. وحينها، تتحول الكلمات إلى أقنعة، والمجالس إلى مسارح، ويصير الصمت جدارًا لا يحمي، بل يعزل. ليس صمت الحكمة، بل صمت الخوف والشك وسوء الفهم، حيث تنمو الضغائن كأعشابٍ ضارة بين أحجار لا تتكلم، وقلوب لا تصدق، وعيون تتوارى خلف ابتساماتٍ لا روح فيها.

لكن، كيف نعبر من ضجيج العالم إلى جزيرة البوح الصادق؟ لعل البداية في التوقف، تمامًا كما يفعل المسافر حين يضيع منه الطريق وسط الزحام. نسأل أنفسنا: هل ننطق لنُسمِع، أم نقول لنفهم أنفسنا أولًا؟ 

إن البوح الصادق لا يولد من اللسان، بل من جرأة القلب وصفاء النية. يتطلب شجاعة الغواص الذي يغوص في أعماق البحر بحثًا عن لؤلؤة، وسط الظلام والتيارات الخفية. ويتطلب كذلك صفاء من ينظف مرآة قلبه كل صباح، حتى لا يشوّه الغبار صورة الحقيقة.

ولنعترف بيننا: ليس كل كلام بوحًا، وليس كل صمت حكمة، فالثرثرة عاصفة من الكلمات التي لا تحمل إلا الفراغ، أما البوح الصادق، فهو قطرة ندى تسقط على ورقة يابسة فتنهض خضراء من جديد. هو الناي الذي يُخرج النغم من قلبه، لا كالعاصفة التي تخرج من فراغها، وتبعثر كل شيء دون أن تقول شيئًا. الفرق بينهما هو الفرق بين الحياة والتقليد، بين المعنى والصدى، بين روحٍ تُمنح وروحٍ تُستنزف.

وفي النهاية، يبقى البوح الصادق هو الكنز المفقود في عالمٍ يلهث وراء البريق ويغفل عن الجوهر. هو الكلمة التي تُولد من رماد الزمن، لا من عادة اللسان. هو الصوت الذي لا يخشى الصمت، بل ينبثق منه، كما ينبثق النور من رحم الظلام. إنه الملاذ الذي نلجأ إليه، حين تتعرى الحقيقة فلا تجد ما تخفيه، وحين نكتشف أن الكلمات ليست حجارة نرميها في بحر الحياة، بل أشرعة نُبحر بها نحو شواطئ المعنى.

فلنصغِ لهذا الصمت، ولنحترم مقام الكلمة، حتى إذا بُحنا، صدقنا.


جهاد غريب 
يوليو 2025 

الثلاثاء، 15 يوليو 2025

ها أنا... كما أريد، لا كما أرادوا!

 
ها أنا... كما أريد، لا كما أرادوا!

هل شعرت يومًا أنك تركض بلا توقف، لكنك لا تقترب من وجهتك؟ كأنك تصطدم بحاجزٍ شفاف، لا تراه لكنه يمنعك من الارتفاع؟

نُحمّل الطريق المسؤولية، فنبدّل الاتجاهات، نخطط لهروب كبير، نبحث عن أبواب جديدة... بينما تكمن المشكلة في تفصيلة صغيرة منسية: مفهوم قديم لم نتجرأ على مراجعته. أحيانًا لا تحتاج الحياة إلى ثورة، بل إلى نافذة صغيرة تُفتح في جدار ظنناه مغلقًا إلى الأبد. يكفي أن تنظر من خلالها، لتكتشف أن الضوء كان ينتظرك منذ البداية.

نحن نحمل عبارات مثل: "هذا مستحيل"، "هذا قدري"، "الناس سيقولون..." كأنها حقائق لا تقبل الشك، بينما هي في الأصل أفكارٌ زُرعت فينا مبكرًا، فكبرت معنا مثل شجرة جذورها مدفونة في أساس البيت. صارت جزءًا منا دون أن ننتبه. جرّب اليوم أن تكتب ثلاثة معتقدات تُوجه قراراتك، ثم اسأل نفسك: ماذا لو كان العكس هو الصحيح؟
قد تندهش حين تكتشف أن بعض السقوف التي منعتك من التحليق، لم تكن إلا ظلالًا من أوهام، وأن المفتاح كان في يدك منذ البداية.

لكن العقبة لا تكمن في المعتقدات وحدها، بل أيضًا في تلك "البوصلة" التي نُهملها وسط الزحام. نضع أهدافًا واضحة، نرسم خططًا دقيقة، ونسير بإصرار... لكننا ننسى أن نسأل أنفسنا: هل ما زلتُ أريد هذا الطريق؟ كأنك تسافر بعيدًا، ثم تكتشف فجأة أنك لم تعد تُحب السفر. 

الالتزام بالخطة لا يعني أن تتجاهل تحوّلاتك الداخلية. توقّف قليلًا، أخرج بوصلة ذاتك واسأل: هل ما زالت هذه القيم تعبّر عني؟ أم أنني أسير فقط وفاءً لنسخةٍ قديمة مني؟ العودة إلى الذات ليست تراجعًا، بل علامة نضج، وحنوّ على الروح.

ولا تحتاج هذه العودة إلى انقلاباتٍ عنيفة. التغيير الجذري قد يبدو مخيفًا، لكن التغيير الهادئ – التدريجي – كالماء، يتسلل من أضيق الشقوق ويصنع مجرى جديدًا. 

ابدأ من تفاصيلك الصغيرة: غيّر روتينك الصباحي، قل "لا" لشيء كنت تقول له "نعم" مجاملةً، أعد ترتيب غرفتك. غالبًا ما تكون الفوضى من حولنا انعكاسًا للفوضى في دواخلنا. وكما قال جلال الدين الرومي: "أنت لست قطرة في المحيط، بل المحيط كله في قطرة". يكفي أحيانًا ثقب صغير، حتى يفيض منه النور.

وهذا النور لا يأتي من الخارج، بل ينبت من الداخل، حين تعثر على صوتك الخاص وسط ضجيج التوقعات. المجتمع يصرخ فيك: "كن هكذا!"، لكن الحكمة أن تكتشف ما يُحييك، لا ما يُرضيهم. فكّر: متى كانت آخر مرة فعلت شيئًا فقط لأنك أردته؟ تذكّر: الضوء لا يحتاج إلى بوابة كبيرة... يكفيه شقّ صغير وشجاعة حقيقية ليتسلل.

وفي النهاية، لن يُطلب منك أن تهدم كل الجدران، بل أن تفتح كوةً تكفي لترى نفسك من جديد.
ربما يكون اليوم هو اليوم الذي تُطفئ فيه ضوءًا اصطناعيًا ظلّ مضاءً لأن الجميع ظنّك نائمًا،
أو اليوم الذي تهمس فيه لقلبك: "حسنًا... لنجرب طريقًا آخر". لأن الحياة ليست سباقًا نحو خط نهاية، بل رحلةٌ نكتشف فيها أنفسنا عند كل منعطف. وإذا صادفت ذاتك يومًا، فلا تتردد... ابتسم، وقل: "ها أنا... لم أعد أختبئ."

لا تبحث عن الباب... فقد تكون تحمل المفتاح منذ زمن، دون أن تدري.


جهاد غريب 
يوليو 2025 

خزائن البرق: احتجاجٌ يُضيء قلبَ العتمة!

  خزائن البرق: احتجاجٌ يُضيء قلبَ العتمة!  "احتجاجٌ صامتٌ على الانهيار.. كبرقٍ يخزن نوره في أَعماقِ القشور" في زحمة الفوضى التي ان...