الاثنين، 21 يوليو 2025

بوصلةُ القلبِ.. وخارطةُ الروح!

 
بوصلةُ القلبِ.. وخارطةُ الروح! 

في هذا الكونِ الذي يحاولُ قياسَ كلِّ شيءٍ، تتكسرُ أدواتُ العقلِ أمام هشاشةِ الوجدان، وتضيعُ الخرائطُ على صخورِ المشاعرِ. هنا، لا تنفعُ الإحداثياتُ، ولا تُجدي المسافاتُ، لأننا لا نتحرّكُ على الأرضِ فحسب، بل نُبحرُ في أعماقِنا، باحثينَ عن مرافئ لا تظهرُ على أيّ خريطة.

المشاعرُ النبيلةُ لا تُقاسُ بالمسطرةِ ولا تُوزنُ بالمنطق، بل هي ذلك النبضُ الخافتُ الذي يعرفُ أكثر مما يظنُّ العقلُ أنهُ يعلم. إنها مثلُ النجومِ: لا تُمسَكُ باليد، لكنها تُضيءُ لنا الطريق، وتمنحُ الغريبَ ملامحَ الأخ، وتجعلُ من المستحيلِ ممكنًا. ولعلّنا لا نُدركُ كم أن أصدقَ الحقائقِ هي تلك التي لا تحتاجُ إلى برهان، وأنّ أعظمَ الهداياتِ لا تُرى بالعيون، بل تُستشعَرُ بالقلب.

هنا، حيث تنتهي كلُّ اللغاتِ، تبدأ لغةُ الأرواح. لغةٌ لا تُكتَبُ بالحروفِ، بل تُصاغُ من نبضاتِ الشعور، وتُقرأُ بنورِ الضمير. ما قيمةُ الخريطةِ إذا لم تُظهِرْ حدود الحب؟ وما فائدةُ البوصلةِ إنْ عجزتْ عن إرشادنا إلى الحقيقةِ التي تلمعُ في أعين من نحب؟ إنّ شهادةَ القلبِ، وحدها، تسبقُ كلَّ الأدلة، وتعلو فوقَ كلِّ صمتٍ أو كلام.

وفي لحظاتِ الصدقِ العاريةِ، حينَ ينكشفُ القلبُ كما ينحسرُ البحرُ عندَ الجزر، نرى الحقيقةَ بلا زينة، ونفهمُ دونَ تفسير. نضحكُ أو نبكي دونَ سببٍ منطقي، لأنّ القلبَ يعرفُ، والمنطق - في لحظاتِ النور - قد يكونُ أعمى. وفي تلك اللحظات، لا يعودُ الصمتُ عجزًا، بل لغةً أعمقَ من كلِّ تعبير.

العقلُ؟ نعم، هو السفينةُ التي تُبحرُ بنا في بحارِ الحياة، لكنّ القلبَ هو النجمُ الذي يهديها. لا تعارضَ بين الاثنين إذا كان العقلُ حرًّا والقلبُ نقيًّا، بل إنّ أعمقَ الفهمِ هو ذلك الذي يجمعُ صفاءَ المشاعرِ ونضجَ الفكر. المشاعرُ التي نُعوّلُ عليها هنا ليست تلك التي تولدُ من الخوفِ أو الغضب، بل تلك التي تنبضُ بالسكينة، وتُضيءُ بنُبلها الطريق.

فإذا ارتبكت المسالكُ، وسألكَ أحدهم: كيف تثقُ ببوصلةٍ لا تراها؟ فقلْ له: لأنني أسمعُ صوتها، ولأنّ في اللحظةِ التي يهمسُ فيها القلبُ، يصمتُ كلُّ شيءٍ حولي، وتُضاءُ بداخلي الطرقات. وفي ذلك الصوتِ الخافتِ، البعيدِ عن صراخِ العقلِ أو ضجيجِ العالم، أجدُ يقيني.

في زمنٍ تُختزلُ فيه المشاعرُ في رموزٍ رقمية، وتُحوَّلُ فيه الأحاسيسُ إلى بياناتٍ قابلةٍ للقياس، تذكّرْ أنَّ بعضَ الحقائقِ لا تُقاس. الحبُّ لا يُوزن، والحنينُ لا يُبرَّر، والفرحُ لا يُدرَجُ في جداولَ. تذكّرْ أنَّ في صدركَ خريطةً لا تبلى، وبوصلةً لا تخون، إذا ما صدقتَ الإنصاتَ.

فإذا ما ضاعتْ منك الطرقُ، لا تبحثْ في الخارجِ، بل أغمضْ عينيك، وضعْ يدكَ على صدرك. هناك، في ذلك المكان الدافئ، ستسمعُ صوتًا لا يُشبهُ سواه... صوتًا لا يصرخُ، بل يهمسُ ويهدي ويعرف. فاجعلْ قلبكَ خريطتَك، ومشاعركَ بوصلتَك، وستصلَ - لا محالةَ - إلى الحقيقةِ التي تبحثُ عنها، حتى وإن قال لكَ العالمُ كلّه إنكَ تائه.


جهاد غريب 
يوليو 2025 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

بوصلةُ القلبِ.. وخارطةُ الروح!

  بوصلةُ القلبِ.. وخارطةُ الروح!  في هذا الكونِ الذي يحاولُ قياسَ كلِّ شيءٍ، تتكسرُ أدواتُ العقلِ أمام هشاشةِ الوجدان، وتضيعُ الخرائطُ على ص...