احتراقُ الأسئلةِ في مدى الروح!
في البداية، كان هناك صمتٌ يشبه الضوءَ قبل أن يستيقظ في العينين. صمتٌ يذكّرنا بأننا لسنا سوى أصداءٍ لتساؤلٍ قديم، تائهةٍ بين الحلم واليقظة. هكذا تبدأ الرحلة الحقيقية، حين تجرؤ على أن تسأل: مَن أنا؟ وما هذا العبثُ الجميلُ المسمّى حياةً؟
تخيّلْ نفسكَ واقفًا على حافةِ مرآةٍ كبيرة، لا تنعكسُ عليها صورتُك، بل تنعكسُ الأشياءُ التي لم تقُلْها بعد، والأسئلةُ التي لم تجرؤْ على طرحِها. كلُّ شيءٍ هنا يتحرّك في دائرةٍ مفرغة بين الواقع والخيال، بين ما يُرى وما يُحَسّ.
الخيالُ ليس هروبًا، بل هو الحقيقةُ الأعمقُ، النابضةُ تحت جلدِ الواقع. أحيانًا، تكون الكلماتُ جمرًا يتوهّجُ في يديك، فتختارُ بين أن تُحرِقَ بها نفسَك، أو تُضيءَ بها طريقًا لم يسلُكْه أحدٌ قبلك.
ثمّة أوراقٌ لا تحترق. أوراقٌ كُتبت بمدادِ الألم والفرح، وبقيت رغم كل محاولاتِ النسيان. هي ليست ذكريات، بل شظايا روحٍ تتناثر في الفراغ، كنجومٍ ميتةٍ لا يزال ضوؤها يصل إلينا. هذه الأوراقُ تحمل رسائلَ من زمنٍ آخر، من ذلك الجزءِ منك الذي لم يمت، ولم يولد بعد. رسائلُ تقول: أنت أكثرُ من جسد، أكثر من عقل، أنت السرّ الذي لا يُحلّ.
وفي لحظةٍ ما، حين يُغمض العقلُ عينيه من التعب، يظهر الجنونُ كضيفٍ غير مُنتظَر. لا، ليس الجنونَ الذي يخيفُ الناس، بل ذلك النورُ الذي يكسِرُ قيودَ المنطق، فيُريكَ العالمَ كما لم ترَه من قبل. هنا، تحت ضوء القمرِ البارد، تُدرك أن الحقيقةَ ليست واحدة، بل هي كالمرايا المتعددة، كلٌّ منها يُظهر وجهًا آخر للوجود.
الجنونُ هو أن ترى كلّ هذه الوجوه دفعةً واحدة، فتحبّها جميعًا. وهو أن تحتضن هذا التناقض في صدرك، لا كمرض، بل كنبعٍ للحرية. حين تعانق جنونك، يصبح صوت العقل أكثر نقاءً، كأنك تسمع الموسيقى لأوّل مرةٍ بعد طولِ صَمَم. تصبح الغريبةُ فيك هي الجزءُ الذي كان يدّعي الاعتدال، بينما الجنون هو الوطنُ الحقيقيّ للروح.
وفي النهاية، بعد كل هذا الغوصِ في الأعماق، تعود إلى السطح حاملًا معك سؤالًا واحدًا: هل يكفي أن نعيش؟ أم أن الحياةَ تستحق أن نُحرَق فيها كالشمعة، حتى نضيءَ شيئًا ما، ولو لثانيةٍ واحدة؟
ستظلّ الأسئلةُ تحترقُ في صدرك، وستظلّ الأجوبةُ تهربُ منك كالظلّ. لكن، في هذا العجز، في هذا الشوقِ الدائم، ستجد جمال الرحلة، لأنّ الروح لا تبحث عن إجابات، بل تبحث عن سؤالٍ يُحرّك فيها الحياةَ من جديد.
كلّما اقتربتَ من الحقيقة، ازدادَ السؤالُ جمالًا.
جهاد غريب
يوليو 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق