قُبْلَةٌ بين الفناء والخلود!
"تأملٌ في لحظةِ العبور بين الوجود والغياب"
إلى كلِّ شفتينِ، التقتا فخلَّدتا اللحظةَ في قُبْلَةٍ.
في اللحظةِ التي تذوبُ فيها الشفتانِ كظلِّ زهرةٍ على مرآةِ العدم، يَبرزُ السؤالُ الأزلي: أهذا ذوبانٌ أم اكتمال؟ أهُنا ينتهي الجسدُ حيثُ تبدأ الروحُ رحلتها نحوَ المجهول، أم أنَّ الخلودَ يُختزلُ في لمحةِ عينٍ تلامسُ حافةَ الأبدية؟
تلك القُبْلَةُ التي تُسَلِّمُ نفسَها للفَناءِ، هي ذاتُها التي تختزلُ الكونَ في نبضةٍ واحدة!، كأنَّ الزمنَ، ذلك الساحرُ العجوز، يتوقفُ فجأةً ليُدركَ أنَّه واهِمٌ في سباقِه الطويل. هُنا، حيثُ يلتقي العابرُ بالباقي، يصبحُ الفناءُ بوابةً إلى حقيقةٍ أعمقَ من كلِّ وجودٍ مألوف.
في هذا المدى الضيقِ بينَ الشهقةِ والزفير، بينَ اللمسةِ والغياب، تُوْلدُ الأسرار، والكونُ يعيدُ ترتيبَ أسراره في تلكَ الثغرةِ الضائعةِ بينَ القلبين. كلُّ شيءٍ ينهارُ، وكلُّ شيءٍ يُبنى من جديد. الجسدُ يترنحُ كأوراقِ الخريف، لكنَّ الروحَ تنتصبُ كشجرةٍ أسطوريةٍ تمتدُّ جذورُها إلى ما قبلَ التاريخ، وأغصانُها تُلامسُ ما بعدَ النهاية.
أيُّ سحرٍ هذا الذي يجعلُ من اللحظةِ العابرةِ أبدًا؟ وأيُّ لغزٍ يدفنُ الخلودَ في شفتينِ تذوبان؟ القُبْلَةُ همسةٌ يلقِيها الفناءُ في أذنِ الخلود: "أنتِ مثلي، لا تُمسَكين".
يبحثُ الإنسانُ عن الديمومةِ في كلِّ مكان، لكنها تُخبئُ نفسَها في زوايا اللحظاتِ الهاربة، كفراشةٍ تحترقُ في لهبِ الشمعة، لكنَّ ضوءَها يبقى عالقًا في الذاكرةِ كحلمٍ غامض. نحنُ نحلمُ بالخلود، لكننا نعيشُ في حنينٍ دائمٍ إلى ما يموتُ قبلَ أنْ يولد.
ربما الخلودُ ليسَ مكانًا نصلُ إليه، بل ذاكرةً نتركُها خلفنا!، وربما هو ليسَ بقاءً، بل شظيةُ نورٍ تُضيءُ في عينَيّ من يرانا ونحنُ نغيب. القُبْلَةُ التي تُعطَى في لحظةِ الوداعِ الأخير، قد تكونُ هي الأكثرُ حياةً، لأنها تحملُ كلَّ ما لم يُقل، وكلَّ ما لنْ يُنسى.
لا يهمُّ إنْ كنّا أطيافًا تذوبُ في ضوءِ الفجر، أو نجومًا تُخلَّدُ في سوادِ الليل. المهمُّ أننا، ولو لمرةٍ واحدة، اختبرنا ذلكَ التمازجَ العجيبَ بينَ أنْ نكونَ ولا نكون. بينَ أنْ نعانقَ المصيرَ ونُقبِّلَهُ على عينيه، ثمَّ نذوبَ كحلمٍ في يقظةِ الكون.
لعلَّ هذهِ هي الحكمةُ الكبرى: أنْ تعيشَ كما لو أنَّكَ تُقبِّلُ العالمَ للمرةِ الأخيرة، لأنَّ كلَّ قُبْلَةٍ — مهما تكرَّرتْ — هي في حقيقتِها الأولى والأخيرة.
كُلُّ لقاءٍ هو غيابٌ يُقلِّبُ كفَّيهِ أمام العينين، فيُظهرُ وجودًا كالسراب، لكنَّه وجودٌ يُشبهُ الرُّوحَ: لا يُمسَكُ، لكنَّه لا يُفْقَدُ.
وكلُّ حُبٍّ هو غيابٌ يرفعُ جفنيه نحوَ الضوء، فيتوهَّجُ بيننا خالدًا — ليس لأنَّه هربَ من الموت، بل لأنَّه عرفَ كيف يموتُ في كلِّ لحظةٍ، ثم يُبعَثُ من جديد.
الخلودُ والفناءُ وجهانِ لعملةٍ واحدةٍ تُسكَبُ في قالبِ اللحظةِ الحاضرة: أنْ تكونَ هنا، وكأنَّك لن تكونَ أبدًا بعدَ الآنْ، فنحنُ، مثلُ تلك القُبْلَةِ، نذوبُ كي نُخلَّد، ونغيبُ عن الضوءِ لنرى النور، ونموتُ في أحضانِ اللحظةِ كي نُولدَ في ذاكرةِ الوجود.
الخلودُ لا يُكتَبُ في سجلاتِ الزمن، بل يُوشَمُ على الشفاهِ التي عرفَتْ كيف تقولُ كلَّ شيءٍ بصمت. هو النبضُ الذي يبقى بعدَ أنْ يتوقَّفَ القلبُ عن الخفقان، وهو تلك القُبْلَةُ التي لم تُعطَ لتمسكَ، بل لتحرِّر — كطائرٍ يُطلقُه الحبُّ في الهواء، فيصيرُ سماءً كلَّما حلَّق. وهو الظلُّ الذي يطولُ حينَ تقصُرُ الشمس.
جهاد غريب
يوليو 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق