السبت، 26 يوليو 2025

أطلس القلوب: من الرماد إلى النور!

 
أطلس القلوب: من الرماد إلى النور! 
"دماء العابرين إلى النور"

في ذلك الصمت السحيق الذي يسبق هطول المطر، حيثُ تختنق الأصوات بثقل الأسئلة الوجودية التي لا جواب لها، تنبض قلوبنا كأجراسٍ مهشمةٍ في صدر الكون الواسع. هنا، في هذا الفراغ المليء بصدى الخطوات الضائعة والآمال المحطمة، تُولد القصيدة الأولى من جراحٍ لا تُرى، وتُدفن الأخيرة تحت أقدام زمن غادر لا يرحم. 

إنه عالمٌ يحمل قلبه على كفٍّ من شوك الحيرة والأسى، ويسير على حافة انهيارٍ دائمٍ بين "كان" و"لم يعد"، بين ذاكرة تلسع وحاضر يخنق. في هذا الموطن الوجودي، تبدأ حكايتنا مع تلك الكينونة الرقيقة والقاسية: القلب.
 
قلوبٌ مُنهَكةٌ تئنُّ تحت وطأة الليالي الطويلة، كحمالين يعجزون عن وضع أحمالهم الثقيلة. قلوبٌ متعبةٌ من حمل أسئلةٍ بلا أجوبة، تتدلى من أوتارها أثقالُ أسًى لم يُدفن، بل تراكم كالغبار في زوايا الروح. إنها قلوبٌ موجوعةٌ كزجاجٍ مكسورٍ في عاصفةٍ عاتيةٍ، كل شظية تحمل ذكرى مؤلمة.

وقلوبٌ واجفةٌ كطيرٍ حاصرته النيران من كل حَدَب، لا ملاذ ولا مفر. حتى التوبةُ فيها، تلك الصلاة الليلية، سكينٌ يُطهِّر الجرحَ بالتمزيق، فلا سكينةَ للقلوب المضطربةِ التي تسكنها عواصفُ الشك والندم والوحشة. كسيرةٌ هي، محطمة الأضلاع، لكنّ كسرها هذا ليس نهاية المطاف، بل هو كالشرر الخفي الذي ينتظرُ الوقود ليشتعل من جديد. 

ففي أعماقها السحيقة، تحت رماد اليأس، تشتعلُ نيرانُ شوقٍ لا يُطفأ إلى ما فقدتْ، إلى وطن الروح، إلى اكتمال مفقود. وتتوهّج حيرةٌ كثيفةٌ كضبابٍ صباحي يغلفُ طريق العودة، يحجب المعالم ويضلّل الخطى. كلّ نبضةٍ هنا هي صرخةٌ مدوية في معبدٍ مهجور، ترنّ في الفراغ بحثًا عن صدى إلهي، أو إنساني على الأقل.

وهكذا، في الفضاء المشحون لهذه القلوب المحطَّمة، وُلِدَ زمنٌ خاص، زمنٌ منطفئٌ كشمعةٍ في مقبرة مهجورة، نورها خافت ومحتضر. زمنٌ آفِلٌ سقط فجأة من تقويم الوجود، كأنّما دُفِنَ تحت ركام الذكريات الثقيلة والهزائم المتكررة. زمنٌ منسيٌّ هو، حتى من نفسه، كحلم طواه النسيان. زمنٌ انكسرَ ظهرُه على صخرةِ النسيانِ القاسيةِ، لم يعد قادرًا على النهوض.

زمنٌ تلاشى كظلٍّ عند الغروب، يطول ثم يضمحل حتى يغيب. زمنٌ غادرَ دون وداعٍ، كخائن في الليل، طواه الرحيلُ كجثةٍ في لفافةٍ مهترئة من الزمن الماضي نفسه. زمنٌ انحدرَ نحو الغيابِ كحجرٍ في هوّة سحيقة، يسقط بلا صوت يرافقه. حتى تهدَّمَ أخيرًا في دهاليز الذاكرة المعتمة، فأصبح خراباً نعبره كلّما أغمضنا عيوننا، أنقاضاً من لحظات لن تعود وصورًا باهتة. لم يعد زمنًا حيًا يسير، بل تحوّل إلى شاهد قبرٍ صامت على أيّامٍ ولّت، على فرص ضائعة، على "ما كان يمكن أن يكون. 

لكنّ من بين تلك الأنقاض، من قلب ذلك الظلام والخراب، تنبت زهرةٌ غريبة من حديد وإيمان: إنها دماءُ الذين رفضوا أن تساوم أعينُهم على ومضة النور، الذين فضلوا العمى على أن يروا الحق منكسرًا. دماءُ المؤمنينَ بحلمٍ أكبر من جدران اليأس السميكة، حلم يتحدى منطق المستحيل. 

دماءُ السائرين على دربٍ وعرةٍ، لكنها مضيئةٌ بنور العقيدة الراسخة في قلوبهم قبل عيونهم، نور يهديهم حيث تعجز الشمس. دماءُ الموقنينَ بالطريقِ رغم وعورته، رغم الدماء التي تسيل على حجارته. دماءُ الأوفياءِ للحقِّ حتى عندما خانته السُبُل وخذلته الوجوه، حتى عندما وقف وحيداً في الميدان. 

لقد وهبوا حياتهم طوعًا قربانًا للمعنى الذي آمنوا به، فصاروا حُلمَ الخلودِ بلا خوفٍ من الفناء، لأنهم أدركوا أن الخلود حصاد الإيمان والفعل الصادق. حملوا الرسالةَ في صدرهم كمشعل مقدس، ومضوا إلى حيثُ تنتهي الخرائط وتتوقف أقدام الخائفين، إلى حافة المجهول المؤكد. 

دماءٌ أنقياءُ في زمنِ التيهِ والضباب، حينما اختلط الحق بالباطل. دماءٌ صادقةٌ كوعد الأرضِ الأزلي للبذور، تدفن في الظلام لتنبت حياة. كلُّ قطرةٍ منها هي شمسٌ صغيرة تشرقُ من أعماق الجرح، تنير الدرب للقادمين.
 
فها هي الحياةُ في جوهرها: قلوبٌ تحترق بنيران الأسى والشوق والحيرة، وأزمنةٌ تندثر وتنطمس تحت أقدام السنين والنسيان، ودماءٌ تُخلِّد وتُضيء في أطلس الوجود. في هذه الدائرة المقدّسة من الألم والفداء، من الكسر والبناء، نكتشفُ الحقيقة الكبرى: أنَّ القلبَ الكسيرَ، رغم هشاشته الظاهرة، هو الوعاءُ الوحيدُ القادرُ على حملِ كلّ أسرار الوجود: أسرار حبنا، وجرحنا، وأملنا. 

هو الوعاءُ الذي يحتضنُ تعبَنا اللامتناهي، وشوقَنا الذي لا يشبع، وحيرتنا التي لا تنقشع، وإيماننا الذي يتحدى العقل أحيانًا. وهو الأرضُ الخصبةُ التي تُدفَن فيها أزمِنتنا الميتة، بذورًا لربما تنبت ذات يوم. وهو أيضاً البوتقةُ التي تُنبتُ من دماءِ الشهداءِ والصادقين زيتونًا جديداً على منحدرات التاريخ القاسية، شاهداً على أن الحياة أقوى من الموت، وأن النور أقوى من الظلام. 

ربما لم نعد نملك في نهاية المطاف سوى هذا القلبُ العالمُ – منه نبدأ رحلتنا الأرضية، وفيه ينكسر الزمن ويُعاد تشكيله، ومن أعماقه المظلمة المليئة بالجروح والجمال، يولد النور الأبدي الذي يهدي خطانا، نور الإنسانية المتحدية للفناء.

جهاد غريب 
يوليو 2025 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

خزائن البرق: احتجاجٌ يُضيء قلبَ العتمة!

  خزائن البرق: احتجاجٌ يُضيء قلبَ العتمة!  "احتجاجٌ صامتٌ على الانهيار.. كبرقٍ يخزن نوره في أَعماقِ القشور" في زحمة الفوضى التي ان...