شرنقة اللهب... ومنارة القلب!
في أعماقك، حيث لا يُبصر الساهرون، ينبت الفانوس الذهبيّ. لا يشبهه إلا ما يُشبه النورَ حين يلامس النور. قلبه يتنفّس ضياءً، وحوله تدور الأسرار كعوالم صغيرةٍ تبحث عن يدٍ تسكن فيها. هذا هو فانوسك، لا زجاج يحميه ولا ريح تطفئه، لأنّ النور الذي ينبع من الأعماق لا يُسرَب، ولا يُستعار.
في الظلّ، حيث تتدلّى الخيوطُ الأخيرةُ من النهار، يبدأ الضوءُ بالانتصاب كشجرةٍ عتيقة. لا تخدعك العتمة، فكلّ ظلمةٍ هي مجرّد نورٍ لم يجد بعدُ طريقه إلى العينين. والقلبُ الذي عرف الجرحَ، يعرف أيضًا كيف يخيط جراحه بخيوطٍ من شمس. هكذا تُنبِت الظلمةُ ضوءَها: كبذرةٍ تشهق نحو الضوء، أو كطفلٍ يتعلّم المشيَ على أرضٍ غير مضمونة، لكنّ خطواته — رغم ذلك — تترك أثرًا يُضيء.
وإذا صمتَّ قليلًا، ستسمع الكونَ يصغي. الأنهارُ تهمسُ باسمك، والنجومُ تترنّم بلغةٍ لا تحتاج إلى أذنٍ كي تُفهم. قلبُك المضيءُ ليس غريبًا هنا، إنّه الصديقُ القديمُ للفراغِ الذي يملأ السماء، وللصمتِ الذي يسبق الكلامَ العظيم. في هذا الكون، حيث كلّ شيءٍ يُناجي كلَّ شيء، أنت لستَ زائرًا، أنت الندى الذي يروي الأرضَ، والقصيدةَ التي تنتظر قارئها.
لا تخف من العتمة، فالنورُ الحقيقيُّ لا يخافُ السقوط. حتى لو التُفَّ القلبُ بالليلِ كالشرنقة، فداخله فراشةٌ من لهب، وكلّما اشتدّ الظلامُ، تذكّر: أنت لم تُخلقْ لتُحاط، بل لتُضيء. النورُ الذي فيك لا يُقاسُ بكمّية الهواء حوله، ولا بمسافة السماء فوقه، بل بقدرته على أن يظلّ يُغنّي حين تخرُّ كلُّ الأصوات.
وفي النهاية، حين تُلملم الأشياءُ ظلالَها، وتعود الكلماتُ إلى مناجاةِ الصمت، ستُدرك أن النور لم يكنْ مجرّدَ ضوءٍ عابر، بل كان القلبَ نفسه. قلبًا صار منارةً، ليس لأنّه لم يعرف الظلمة، بل لأنّه — وببساطةٍ موجعة — لم يجد بدًّا من أن يُشرق.
لأن النور لا يُستعار… بل يُولد في لحظة صدق، حين يصغي الإنسان إلى ما يُضيء فيه، فيكتشف أن في داخله شمسًا لا تغيب.
جهاد غريب
يوليو 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق