حين تمشي العتمة مع اليقين!
كأنك تسير في ممرٍ لا يُنبئك إن كان ينتهي ببابٍ أم بجدار. الخطى ترتجف بين الشك والانتظار، والهواء ثقيلٌ بحملِه كل الأسئلة التي لم تُنطق بعد. العتمة هنا ليست نقضًا للنور، بل ممرًا إليه، رحمًا يختلط فيه الغموض بالبصيرة، كي ينضج اليقين قبل أن يولد حقيقةً تتنفس.
نمشي، لا لأن الطريق واضح، بل لأن في التوقف خيانةً لذلك الصوت الخفيّ الذي لا يُسمع إلا عندما يصمت كل شيء. قد لا ندرك هل نسير نحو الحقيقة أم نحو وهمٍ يرتدي ثوبها، لكننا نخطو لأن الجهل بالوجهة أخفُّ وطأةً من اليقين الزائف، وأقل قسوةً من التجمُّد في دهاليز الخوف.
الشك لا يغزو القلب فجأة، بل يتسلل كحبرٍ في ماءٍ صافٍ، لا ليشوّهه، بل ليُظهر هشاشة وضوحه المزيف. ليس كلُّ وضوحٍ نعمةً، فكم من نورٍ أعمى العيون عن رؤية ما وراءه. وليست الأسئلة سياط تعذيب، بل مفاتيح نطرق بها أبوابًا لم نكن نعرف أنها مُغلقة. كم مرّة ظننتُ أني أبصرت الحقيقة، فإذا بي أفقد بصيرتي؟ وكم من يقينٍ هدأني، ثم تحوّل إلى قفصٍ مذهّبٍ جعلني أنسى اتساع الأفق وشهوة الطيران؟
حين تتوقّف عن مقاومة العتمة، وتُمسك بيدها كرفيقٍ لا كعدوّ، تبدأ في رؤية ما لم يكن مرئيًا تحت وهج الضوء: ارتعاشةُ القلب حين يخلو إلى نفسه، ووجوهُ الأحبة في طيّات الظلال، وحتى الفراغ يصبح انعكاسًا يفضح ما نحاول إخفاءه. هناك، في عمق الظلمة، تكتشف أن النور الذي تبحث عنه كان يسكنك طوال الوقت، لكنك كنت تقف خلف ذاتك، تتفرج.
السؤال ليس لعنةً، بل نافذةً تُجبرك على مواجهة صورتك الحقيقية بكل شقوقها. واليقين ليس دائمًا خلاصًا، بل قد يكون سجنًا يحجب عنك احتمالاتٍ أخرى لأن تكون، لأن تتغيّر، لأن ترى العالم بعينٍ لم تُبصر بعد. النور لا يولد دائمًا كصاعقةٍ تُبهر العيون، بل كأنفاسٍ خافتةٍ تصعد من أعماق الروح، من حيث الألم، لا من حيث الراحة.
عندما نعترف بأننا لا نسيطر على الطريق، ولا حتى على أنفسنا، تنبت فينا أجنحةٌ من فهمٍ جديد. يصبح اليقين ليس صخرةً نتمسّك بها، بل فضاءً نتعلم فيه أن نحلّق فوق الأسئلة، لا أن نغرق تحتها.
تسكن التموجاتُ الداخلية حين تدرك أن العتمة ليست عدوًا، بل كائنًا يُريك وجه خوفك الحقيقي كما لو أنك تراه لأول مرة، بلا أقنعة ولا مؤثرات. وأن النور لا يكمن في المصابيح، بل في الفهم الذي يولد من الصدق مع الذات. وأن الصوتَ الحقيقي لا يُسمع في الضجيج، بل في تلك اللحظة التي تنصت فيها إلى السكون كأنه اعترافٌ صادق.
لا نخرج من العتمة إلى الضياء، بل نوقظ الضوء من داخلنا، بأسئلتنا، بضعفنا، بشجاعتنا في أن نقف عراةً أمام أنفسنا. من يجرؤ على مواجهة الفراغ، لا ليملأه بعجلة، بل ليفهمه، هو وحده من يمنح الحياةَ معنى لا يتبدّد.
وفي لحظةٍ هادئة، عند مفترق طرقٍ بلا علامات، تسند ظهرك إلى جدار روحك، وتغمض عينيك كمن عاد من رحلةٍ طويلة، وتهمس: لم أكن أبحث عن يقينٍ ثابت، بل عن دفءٍ لا يرتعش في حضن السؤال.
وهكذا، لا تشكر النور وحده، بل تشكر العتمة لأنها قادتك إلى حيث يُخلع كل قناع، وحيث يُكتشف أن القلب كان دليلَه الخاص طوال الوقت.
جهاد غريب
يوليو 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق