همسات الوجود وصدى القلب!
أحيانًا، لا نحتاج إلى إجابة. نحتاج فقط أن يُربّت الوجود على قلوبنا، أن يهمس لنا: "أنا معك"، دون أن يقول شيئًا.
في اللحظة التي ينساب فيها الكون إلى جوف القلب، يصبح كل شيء أغنية بلا كلمات. هناك، حيث يذوب الحاجز بين الداخل والخارج، تُولد لغة أخرى: لغة الهمس الذي لا يحتاج إلى صوت. الوجود لا يتكلّم، بل يُناجيك بإشاراته الصامتة، عبر نسيمٍ عابر، أو ومضةٍ مفاجئةٍ في عينيك، كأنما يضع يده على كتفك ويقول: "أنت هنا، وأنا هنا، وهذا يكفي".
القلب ليس مجرّد مضخة دم؛ إنه صياد الخفايا، ومترجم اللامرئي. حين يصمت العقل، يبدأ القلب في الرؤية. يسمع دبيب النملة على ورقة، ويرى الظلّ الذي تتركه الفكرة قبل أن تولد. في أعماقه، تتكسر الأضواء إلى ألوان لم تُسمَّ بعد، وتصير الأصوات ذبذبات تهز الروح دون أن تُسمَع. فالقلب لا يفسّر الوجود، بل يحسّه، يعيشه، ويذوب فيه.
هل شعرت يومًا أنك تسمع النجوم؟ ليس بالأذن، بل بذلك الموضع الغامض خلف الضلوع. قد تكون واقفًا تحت سماء صافية، أو بين جدران عادية، وفجأة يغمرُك إحساس بأن الكون ينشد لك أغنية قديمة، كأن كل الذرات من حولك ترقص على نغمة واحدة. في تلك اللحظة، لا تكون مستمعًا فحسب، بل العازف، والآلة، والأغنية ذاتها.
لكي تسمع همس الوجود، عليك أن تصمت أكثر مما تتكلم. السكون ليس فراغًا، بل وعاء يمتلئ بالمعنى. حين تهدأ الضوضاء الداخلية، تبدأ الأصوات الحقيقية بالظهور: صوت النهر وهو يسعى نحو البحر، صوت الزهرة وهي تتفتح عند الفجر، صوت الروح وهي تتمدد كالظلّ تحت شمس اليقين. في هذا السكون، تصير الكلمات زائدة عن الحاجة؛ فالصمت حوار، والغياب حضور، والوحدة لقاء.
وفي النهاية، لا يهم إن كنت قد فهمت الكون أم لا. المهم أنك شعرت به. أنك وقفت تحت سمائه، أغمضت عينيك، وسمعت قلبك يهمس بكلمة واحدة: "أنا موجود". وهذا يكفي. يكفي أن تدرك أنك جزء من أغنية كُتبت قبل أن تولد، وسيستمر صداها بعد أن ترحل، فالوجود لا ينتهي، والقلب لا ينسى. إنه فقط يُغمض عينيه... ويستمع. وكلما استمع، أدرك أنه لم يكن يومًا وحيدًا.
جهاد غريب
يوليو 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق