السبت، 19 يوليو 2025

البوح الصادق: ملاذٌ في صمت المعنى!

 
البوح الصادق: ملاذٌ في صمت المعنى!

في زمنٍ ضجّت فيه الأصوات، وتكاثرت فيه الكلمات حتى بات الصمت عملة نادرة، يصبح البوح الصادق غايةً يُشقى لأجلها، ومنشودًا يُرتجى في متاهة اللفظ، لا ذاك البوح الذي يتكئ على ضجيج الفراغ، ولا ذاك الكلام الذي يترنّح في أروقة المجاملات، أو يُزيَّف بزينة العبارات الخاوية، إنما هو بوحٌ مشدودٌ كوترٍ على حبلٍ من صدق، لا يخدع بزيف، ولا يرتجف أمام الوجوه الخاوية، ولا يتجمل بقناع من ذهب على وجهٍ من طين.

يسكن هذا البوح صمتٌ ثقيل، لكنه ليس صمت الموتى، بل صمت الحكماء، أولئك الذين يعرفون أن الكلمة زهرة لا تتفتح إلا في تربة التأمل. صمتٌ عامرٌ بالمعنى، كأن اللغة نفسها اختبأت في مساماته، خجلاً من أن تنطق قبله. 

هو الصمت الذي يسبق الكلمة كما يسبق الغمام المطر، يُختمر فيه الكلام كما تُختمر الخمر في جرار الزمن، حتى إذا نطق، نطق نقيًّا كندى الفجر، ثقيلًا كدمعة الندم. إنه صمت لا يفرغ القلب، بل يُثقل الكلمة بالروح والمعنى، ويمنحها مقامها قبل أن تصل إلى الشفاه.

وفي عالمٍ تتداعى فيه الجسور بين البشر، يصبح البوح الصادق الجسر الأخير الذي يُبنى عليه الرجاء، حجرًا فوق حجر. فما جدوى الكلام إن لم يكن جسرًا يعبر من قلبٍ إلى قلب؟ وما نفع العلاقات إن قامت على طقوس باردة، وعبارات لا تشبه أرواح أصحابها؟ 

إن الصدق هنا ليس مجرد فضيلة، بل هو الروح التي تُبقي العلاقة حيّة، هو النور الذي يمنع الحب من أن يتحول إلى ظلٍّ بلا جسد، والصداقة من أن تصبح مجرّد إجراءٍ اجتماعي، وهو الهواء النقي في رئة العلاقات، والماء العذب في بئر التواصل.

وما أقسى العيش في عالمٍ يغيب عنه هذا البوح! حيث تتراكم المشاعر كالسحب الركامية، لكنها لا تمطر. وحينها، تتحول الكلمات إلى أقنعة، والمجالس إلى مسارح، ويصير الصمت جدارًا لا يحمي، بل يعزل. ليس صمت الحكمة، بل صمت الخوف والشك وسوء الفهم، حيث تنمو الضغائن كأعشابٍ ضارة بين أحجار لا تتكلم، وقلوب لا تصدق، وعيون تتوارى خلف ابتساماتٍ لا روح فيها.

لكن، كيف نعبر من ضجيج العالم إلى جزيرة البوح الصادق؟ لعل البداية في التوقف، تمامًا كما يفعل المسافر حين يضيع منه الطريق وسط الزحام. نسأل أنفسنا: هل ننطق لنُسمِع، أم نقول لنفهم أنفسنا أولًا؟ 

إن البوح الصادق لا يولد من اللسان، بل من جرأة القلب وصفاء النية. يتطلب شجاعة الغواص الذي يغوص في أعماق البحر بحثًا عن لؤلؤة، وسط الظلام والتيارات الخفية. ويتطلب كذلك صفاء من ينظف مرآة قلبه كل صباح، حتى لا يشوّه الغبار صورة الحقيقة.

ولنعترف بيننا: ليس كل كلام بوحًا، وليس كل صمت حكمة، فالثرثرة عاصفة من الكلمات التي لا تحمل إلا الفراغ، أما البوح الصادق، فهو قطرة ندى تسقط على ورقة يابسة فتنهض خضراء من جديد. هو الناي الذي يُخرج النغم من قلبه، لا كالعاصفة التي تخرج من فراغها، وتبعثر كل شيء دون أن تقول شيئًا. الفرق بينهما هو الفرق بين الحياة والتقليد، بين المعنى والصدى، بين روحٍ تُمنح وروحٍ تُستنزف.

وفي النهاية، يبقى البوح الصادق هو الكنز المفقود في عالمٍ يلهث وراء البريق ويغفل عن الجوهر. هو الكلمة التي تُولد من رماد الزمن، لا من عادة اللسان. هو الصوت الذي لا يخشى الصمت، بل ينبثق منه، كما ينبثق النور من رحم الظلام. إنه الملاذ الذي نلجأ إليه، حين تتعرى الحقيقة فلا تجد ما تخفيه، وحين نكتشف أن الكلمات ليست حجارة نرميها في بحر الحياة، بل أشرعة نُبحر بها نحو شواطئ المعنى.

فلنصغِ لهذا الصمت، ولنحترم مقام الكلمة، حتى إذا بُحنا، صدقنا.


جهاد غريب 
يوليو 2025 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

شرنقة اللهب... ومنارة القلب!

  شرنقة اللهب... ومنارة القلب!  في أعماقك، حيث لا يُبصر الساهرون، ينبت الفانوس الذهبيّ. لا يشبهه إلا ما يُشبه النورَ حين يلامس النور. قلبه ي...