النور الذي لم يغب: رحلة من الغربة إلى العشق الذاتي!
في زحام الوجود، حيث تتدافع الأسئلة وتتشابك المسارات، نبحث عن موطئ قدم في أرضٍ لا تعرف وقع خطواتنا. نمدّ الأيدي إلى الخارج كمن يحاول التقاط الهواء في قبضةٍ عطشى، بينما النبع الصافي يتفجّر بصمتٍ في أعماقنا.
هناك، حيث تسكن الحقيقة دون زينة، تبرز غربةٌ لا يعرفها إلا من أدرك أن الوطن الحقيقي ليس مكانًا نصل إليه، بل نبضًا نعود إليه. إنها ليست رحلة إلى الخارج، بل رحلة تأملية عميقة نحو الداخل، من وهم الغربة إلى يقين الكينونة.
ما من بداية تُعلن عن نفسها، بل يأتي الصمت أولًا، يحمل على ظهره دهشتنا حين ندرك أن النور لم يكن هناك… بل هنا، في أعمق نقطة تجاهلناها طويلًا. الغربة ليست مكانًا ننتمي إليه أو نبتعد عنه، بل هي المسافة التي نصنعها بأنفسنا حين ننسى أن الظلمة لا تُهزم بمصابيح الغير، بل بالشموع التي تشعلها روحك في زواياها المهملة.
لم تكن الغربة يومًا مجرد مسافة تُقاس بالكيلومترات، أو مدينة تُقطع تذكرتها ذهابًا بلا عودة، بل هي شعور داخلي خافت، يتسلل إلى الروح كما يتسلل البرد في آخر الليل إلى العظم. إنها ليست غربة الجسد، بل غربة القلب عن موطنه، وغربة العين عن المعنى، وغربة الإنسان عن ذاته حين يصبح الوطن أقرب من نفسه إليه، وحين لا يعود يعرف في أي زاوية من داخله اختبأ صوته الأصلي.
الغربة وحدها هي من تُعلّمنا أن الوطن ليس مكانًا نصل إليه، بل هو عينٌ نرى بها، وحين نفتحها أخيرًا، نجد أننا كنا في الديار طوال الوقت، نذرعها بأقدامٍ تائهة وقلوبٍ لا تدرك أنها وصلت.
نحن أبناء الغربة… لا بالهوية ولا بالجنسية، بل بالقلق. هذا القلق الذي يسكننا كلما أطفأ أحدهم نور المعنى في داخلنا، فبدأنا نتلمّس طريقنا في الخارج، نبحث عن إشراقات في كل زاوية لا تشبهنا… نحدّق في العيون، نعانق الضجيج، نغادر البلاد، نعدّ الإنجازات، بينما ضوء الداخل يرتجف خجلًا، كشمعة تُذيب نفسها في صمت.
كم من مرة تحدثنا مع أنفسنا ونحن غرباء عنها؟ كم من مرة عدنا متعبين، لا ننتبه كيف عبرنا الطريق ولا متى وصلنا؟ نفتح الباب، نمرّ بين الجدران كالغرباء، نترك أجسادنا ترتاح، بينما أرواحنا تواصل السير وحدها في متاهة أخرى، لأن الغربة هنا لا علاقة لها بالمكان، بل بعطبٍ في البوصلة.
الغربة وهم، نعم، لكنها وهم عميق، وهم متقن الصنع، يبدأ حين ننسى كيف نصغي لصوتنا الأول، ونبدأ نرتدي أقنعةً حتى نكاد ننسى ملامح أرواحنا.
وفي لحظات ما قبل النوم، حين تخفت الأصوات كلها، ويغلق الليل أبوابه، يظهر سؤال خافت: "أين أنا؟" ليس أين مكاني، بل أين أنا مني؟ أين وجهي الذي كنت أعرفه حين كنت أضحك من قلبي؟ أين تلك السكينة التي كنت أشعر بها دون أن أملك شيئًا؟
الغريب في الأمر أن هذا الحنين لا يكون أحيانًا إلا إلى الداخل. ليس إلى شخص، ولا إلى زمان، بل إلى حالةٍ من النقاء فقدناها داخل أنفسنا. ليس اشتياقًا لنسخةٍ بريئة، بل لنسخةٍ رغم هشاشتها، كانت تحمل شيئًا من النقاء قبل أن يتكاثر الضجيج حولها ويُرغمها على الصمت.
في الغربة الطويلة عن الذات، تصبح الروح مدينة مهجورة. نوافذها مغلقة، أبوابها تصدر صريرًا حزينًا عند كل محاولة عبور، وطرقاتها مغطاة بالغبار. نسكنها، نعم، لكننا نعيش في أطرافها فقط، لا نقترب من وسطها، من قلبها، حيث الحقيقة المؤلمة، حيث الجرح الذي تجاهلناه طويلًا، حيث الضوء الذي نسي كيف يضيء.
لكن، ما إن نقرر أن نغوص في الأعماق، أن نعود، أن نواجه تلك المدينة ونزيل الغبار، حتى يبدأ النشيد. نعم، النشيد لا يبدأ في الفرح، بل في العتمة. حين نجرؤ على النظر في المرآة دون أقنعة، وننصت لصوتٍ مبحوحٍ يقول: "لقد كنت هنا طوال الوقت… فقط لم تكن تصغي".
نحمل أوطاننا في صدورنا كحروف مبعثرة في كتاب مهجور، نبحث عن جملة تمنحنا معنى، عن فاصلة نلقي عندها رحالنا. لكن الحقيقة الأعمق تكشف أن الغربة وهم كبير، مجرد حائط رسمناه بأيدينا ثم شكونا ضيق الجدران. هناك، في تلك الزاوية التي نخبئها داخل خزانة الذكريات، يقبع نور لم ينطفئ.
الغربة، إذًا، ليست عيبًا في الحياة، بل نداء. نداء يدعونا للعودة. وكلما استجبنا له، كلما اقتربنا أكثر من النسخة الأكثر صدقًا منا، فالإنسان لا يضيع لأنه لم يجد الطريق، بل لأنه توقف عن البحث داخله.
أجل، كيف نضل الطريق ونحن لم نغادر أجسادنا؟ كيف نبحث في الخارج عن شيء لم نفقده إلا في الداخل؟ نحن لا نحتاج سفرًا بعيدًا، بل إنصاتًا عميقًا، إلى تلك الأصوات القديمة، إلى الطفل الذي فينا، إلى الحالم، إلى الصامت، إلى الخائف، إلى من كان يصدق كل شيء… ثم صار يشك بكل شيء.
عندما نتوقف عن الهروب من أنفسنا، نكتشف أن الغربة كانت جسرًا من الدخان يتبدد بالسير فيه. لقد أمضينا وقتًا طويلًا نبحث عن بصمة في رمال الآخرين، بينما كنا نحفر بأيدينا مقابر لأصواتنا الداخلية. الغريب ليس فقط من يعيش في بلد غير بلده، بل أيضًا من يعيش في روح غير روحه.
وحين نعود من هروبنا الطويل، لا نلتقي بالمكان، بل بمن كنا نحاول طمسه داخلنا. الحنين ليس إلى زمن مضى، بل إلى ذلك الجزء منا الذي لم يزل بكرًا، لم تُشوهه شائعات الوجود. إنه النداء الخافت الذي يصرخ من تحت أنقاض التراكمات: "أنا لم أغب.. أنا تحت هذه الطبقات كلها!".
وأخيراً، لم نكن ضائعين، كنا فقط نقرأ الخريطة بالمقلوب. الغربة لم تكن سوى ستارًا من الدخان اخترناه لأننا آمنا أن الحقيقة قد تحرقنا. لكن النار التي تخشاها الروح هي نفسها التي تعيد إليها الحياة، وحين نعبر النار، سواء كنا مجبرين أو مخيّرين، نكتشف أننا لم نكن سوى الفحم الذي يتحول إلى ماس تحت الضغط.
هناك، في تلك المنطقة التي تقع بين الضياع والاكتشاف، نقف أخيراً أمام مرآة لا تعكس سوى ما نحن عليه حقاً. لا ظلال للآخرين، لا أقنعة، لا رتوش. فقط نحن، كما لو أننا نكتشف أنفسنا لأول مرة، دون دروع أو تعليمات، نقف ببراءة من لم يُلقن بعد كيف يخاف.
العودة إلى الذات لا تعني الرجوع إلى الماضي، بل إلى النواة الأولى، إلى البذرة التي كنا عليها قبل أن يتكاثر علينا الضجيج. إنها لحظة صفاء، قد تبدأ بانكسار، أو بخسارة، أو حتى بشعور ساحق بالتيه، لكنها تعيد تشكيلنا، كرحلة تائهة تعود إلى موطنها بعدما سالت دموعها فوق الرمال، ثم وجدت في صوتها الداخلي طريق العودة. ذلك الرجوع، ذلك الخفق، هو اللقاء الحقيقي مع الذات.
وفي المفارقة الكبرى، ندرك أن الضياء لا يأتي من النوافذ وحدها، ولا من الشمس أو القمر فقط، بل من شرارة الصدق الأولى حين نقرّر أن نكون أنفسنا، لا ما يريدونه الآخرون. الشعلة الحقيقية لا تنبعث من وهج خافت ينبعث من مصابيح بلا روح، ولا من شاشات تبث ضوءًا بلا حياة. وأن نقبل جراحنا لا لنبكيها، بل لنفهمها ونصادقها.
نحتاج أحيانًا إلى أن نشعر بالغربة كي ندرك أننا لسنا سوى نورٍ مختبئ في زوايا الوجود، لأن الغربة ليست دائمًا غيابًا، بل قد تكون دعوة إلى الحضور الكامل… حضورنا نحن، في داخلنا، حيث لا صوت يعلو على الحقيقة.
الغربة كانت حباً من طرف واحد، خفناه لأننا لم نعرف كيف نعشق ذواتنا، لكن الحب الحقيقي يبدأ الآن!، عندما نعشق حتى ضياعنا، لنكتشف أننا لم نكن ضائعين أبداً. كنا دوماً هنا، نكتب قصتنا بأحرف من نور على جدران القلب. اليوم، وقد انكشفت الأقنعة، لم يعد هناك غربة ولا ضياع. فقط عشق قديم بين الروح ونفسها، كان هنا طوال الوقت، ينتظرنا أن نفتح أعيننا.
والآن، وبعد كل هذه الدروب، ندرك أن العودة إلى الذات ليست خيارًا، بل ضرورة. أن نعيد ترتيب الداخل، ونسكنه لا كمنفى، بل كوطن. أن نحب أنفسنا، لا من باب الأنانية، بل من باب الأمان. أن نصافح أرواحنا في الصباح كما نصافح من نحب. أن نكون أوفياء للطفل الذي كنّاه، للحلم الذي طمسوه فينا، وللنور الذي حاول أن يشعّ في عيوننا ذات لحظة… فأغلقناه.
الغربة ليست نقصاً في المكان، بل هي فائضٌ في الزمن الذي أضعناه في انتظار ذواتنا. كنا نظن أننا نعيش في منفى، لكننا كنا ببساطةٍ نسكن في غرفةٍ لم نفتح نوافذها بعد. هناك، في صمت الأعماق، حيث لا تُسمع إلا همسات الروح، نجد أنفسنا جالسين بانتظارنا منذ زمنٍ طويل. ننحني لالتقاط أشلاءٍ من مرآةٍ مهشمة، فلا نعرف أن اليد التي تحملها هي ذاتها التي كسرتها.
لا يوجد منفى حقيقي سوى ذلك الذي نصنعه بأنفسنا. حين ندرك أن الجدران التي تحيط بنا هي من صنع أيادينا، نكتشف فجأةً أن الأبواب كانت مفتوحةً طوال الوقت. الشرارة التي كنا نبحث عنها في عيون الآخرين، في شوارع المدن البعيدة، في كتب الحكماء، كانت دوماً هنا، في ذلك المكان الذي تخفيه عنا صرخاتنا.
المنفى الذاتي هو ذلك الصدى الذي يتردد حين ننادي على أنفسنا فلا تجيب. ربما كنا نصرخ في وادٍ، ولم ندرك أن الصوت الذي نسمعه ليس صدى، بل هو صوتنا الحقيقي يعود إلينا من أعماق لم نجرؤ على النزول إليها بعد. وهنا يبرز السؤال الأهم: هل سبق وأن وقفنا صامتين كفايةً لنسمع الجواب؟
الغربة لا تُهزم بالوصول إلى مكان، بل بالوصول إلى الذات. وصدقني، حين تصل إلى ذاتك الحقيقية، لا يعود العالم كما كان. تتغير نظرتك لكل شيء، تتبدل ألوان الحياة وأشكالها، وتصبح قادرًا على رؤية الضوء حتى في أحلك اللحظات، لأن الوهج الذي كنت تبحث عنه في الآفاق، لم يكن يومًا إلا شعلة متقدة بداخلك، تنتظر أن تمنحها فرصة لتضيء كل زواياك.
في النهاية، لم نكن غرباء كما ظننا، كنا فقط نحلم بأننا كذلك، وحين أفقنا، أدركنا أن الحلم نفسه لم يكن ضياعًا، بل دليلاً خفيًا يقودنا نحو الجوهر، فالطريق الذي حسبناه طويلًا لا يؤدي إلى الذات، بل كان هو الذات نفسها.
وهكذا، نعود إلى زحام الوجود، لكن بأقدامٍ تعرف الآن أن موطئها ليس في الأرض، بل في ذلك النبض الذي كان ينتظرنا طوال الوقت... النبع الذي ظل يتفجّر في الأعماق، بينما كنا نبحث عنه في الخارج.
جهاد غريب
يوليو 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق