المصباح الذي في القلب!
في الظلمةِ التي تعلو، حين تنطفئُ كلُّ المصابيح، وتنزوي الأضواء خلف ستائرِ العتمة، يبقى هناك نورٌ لا يُطفأ، إنه لا يشبهُ تلك الأضواءَ التي تتكسّرُ على الجدران، ولا تلك الومضات التي تبهتُ أمام ريحٍ عابرة، إنه نورٌ ينبعُ من أعماق القلب، كشمعةٍ لا تُرى، لكنّ لهبَها يغمرُ الكون كلَّه.
قلبُك مصباحٌ، لكنّه ليس من زجاجٍ ولا معدن!، لا يُكسَرُ بالرياح، ولا يَصدأُ بمرورِ الأيام، إنه وعاءٌ للنورِ الذي لا يُستعارُ من شمسٍ ولا قمر، نورٌ يُولدُ معكَ، ويشتعلُ رغمَ كلِّ شيء. قد تُغلَقُ كلُّ النوافذِ حولَك، وقد تُسدُّ المنافذُ حتى لا يتسللُ خيطُ ضوءٍ واحد، لكنّ ظلمةَ العالمِ لا تستطيعُ أن تصل إلى هناك، إلى ذلك الحيزِ الصغيرِ الذي يحملُ كلَّ هذا السُّراج.
تأمّلْ: كم مصباحًا انطفأَ في حياتِك؟ كم ضوءًا وعدكَ ثمّ خانك؟ كم مرّةً ظننت أنّ النهار لن يعود بعد غيابِ تلك الشمسِ الخارجية؟ لكنّ القلب كان يبتسمُ في الخفاء، يعرفُ سرَّه القديم: أنَّ النور الحقيقيَّ لا يأتي من السماء، بل ينبثقُ من الأعماق.
هناك بشرٌ تحملُ قلوبَها كالمصابيحِ المطفأة!، تمشي بين الناسِ بلا وهج، تبحثُ عن شرارةٍ في عيونِ الآخرين، عن قبسٍ يُعيدُ لها الحياة، لكنّ القلب الذي يعرفُ ذاته لا ينتظرُ من أحدٍ أن يُضيءَ له، إنه يُشعِلُ طريقَه بنفسِه، يصنعُ من ألمِه زيتًا، ومن أسئلتِه فتيلًا، ومن صمتهِ لهبًا لا ينضب. ولذا، حين يأتي الامتحان الحقيقي، لا يتردد، بل يسير على هدي هذا النور، يعرف أين يضع خطاه، حتى وإن بدا الطريق فارغًا من المعالم.
وأحيانًا، تكونُ الظلمةُ ضروريةً كي نرى. نعم، حين تنطفئُ كلُّ الأضواءِ الوهمية، نكتشفُ فجأةً أنّنا لسنا بحاجةٍ إليها، ونكتشفُ أنّنا كنّا نحملُ النور طوال الوقت، لكنّنا كُنّا مشغولينَ بجمعِ الشموعِ من حولِنا. كم من مرّةٍ أغمضتَ عينيكَ في الظلامِ فوجدتَ نفسَكَ مُضاءً من الداخل؟ كم من لحظةٍ صمتَّ فيها فسمعتَ صوتَ ذلك النور يُناجيك؟
النورُ الخارجيُّ خادعٌ!، إنه يُظهرُ الأشياء لكنّه لا يُظهرُ الحقيقة، أمّا نورُ القلبِ فهو يُضيءُ ما خفيَ عن العيون، يُريكَ ذاتكَ كما هيَ، ويُريكَ العالم كما يجبُ أن تراه. إنه لا يُظهِرُ الأشجارَ والجبالَ فحسب، بل يُريكَ كيف تُغنّي الأشجارُ حين لا يسمعُها أحد، وكيف تبكي الجبالُ في صمتِها الأزلي.
لا تخفْ إذا ما انطفأَ كلُّ شيءٍ حولك. لا تظنّنَّ أنّ الظلمةَ نهاية. ثقْ بأنّ في صدرِك ما يكفي من النورِ لتعيدَ رسم العالم. قلْ للظلامِ: "لن تصلَ إليّ، فمصباحي لا يحترقُ بالزيتِ، بل باليقين". وتذكّرْ دائمًا: أعمقُ الظلالِ تُولدُ من أقوى الأنوارِ الخارجية، لكنّ القلب الذي يُضيءُ من داخله لا يُلقى بظلٍّ أبدًا.
في النهاية، لن يبقى إلّا ما أضاءَ من الداخل!، وكلُّ الأضواءِ ستتبدّدُ كحلمٍ عندَ الفجر، لكنّ المصباحَ الذي في القلبِ سيظلُّ يرفرفُ كفراشةٍ من نورٍ في صدرِ الوجود، وسيظلُّ يهمسُ لكَ في كلِّ مرةٍ تنسى: "أنتَ لستَ بحاجةٍ إلى شمسِ أحد، فأنتَ تحملُ شمسَكَ فيكَ".
هكذا هيَ القلوبُ الحيّة: تُضيءُ حين تنطفئُ كلُّ المصابيح.
جهاد غريب
يوليو 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق