الأربعاء، 23 يوليو 2025

حين اختار القلب أن يصمت!

 
حين اختار القلب أن يصمت! 
"مذكرات روحٍ سكنت أبوابها، وكتبت للعطش رسائل من كوكبٍ بعيد"

نحن الذين تعلّمنا الإصغاء لما لا يُقال، نعرف أن بعض القلوب تتحدث من خلف جدران الصمت، وتكتب مذكراتها دون أن تكتب شيئًا على الورق. نحن الذين طالت إقامتنا في المساحات الرمادية بين الكلام والسكوت، نعرف جيدًا كيف يتحول الصمت من هزيمة إلى حكمة، ومن جدارٍ بارد إلى غطاءٍ دافئ نلفّ به هشاشتنا عن أعينٍ لا تقرأ إلّا ما يُقال.

كنا نكتب رسائل خفية على حواف الأرواح، نبعثها من كوكبٍ اسمه الكتمان، حيث الهواء ثقيل بالكلمات المبتورة، والمطر لا يهطل إلا حين تختنق السحب بالبكاء المؤجل. هناك، لا تصل الرسائل إلا لمن تذوّق طعم الكتمان ذات جرح، ولا يفكّ شيفرتها سوى من تعلّم أن يقرأ الصمت كما تُقرأ القصائد العميقة، بعينٍ ثالثةٍ تسكن في القلب لا الرأس.

ثم تفتح الذاكرة دفاترها الباهتة، ونقف أمام المرآة التي لا تعكس ملامحنا بقدر ما تعكس ظمأً طويلًا لم يُروَ، كأن في داخلنا جدولًا جفّ قبل أن يصل إلى بساتينه، وكأننا نحاسب ذلك العطش العاطفي الذي لم يختر أن يكون، لكنه أتى بقدرٍ لا يعترف بالاحتياجات. فكم مرة منحنا دون أن نُسأل، وانتظرنا دون أن يُلتفت إلينا، وتجاوزنا لأن الكرامة أهم من النداء؟ وليس لأن القلب لا يحتاج، بل لأنه تعلّم كيف يطوي حاجته في جيبٍ داخلي لا تصل إليه سوى الروح.

وعندما يصير الداخل مزدحمًا بما لا يُقال، نبحث عن زاويةٍ ساكنة، عن بحيرةٍ لا تعكرها المراكب ولا تصطادها العيون. هناك نُحادث أنفسنا بصمتٍ أقرب إلى التنهيدة، ونسألها: من نحن الآن؟ ماذا تبقى من تلك النسخ القديمة التي صدّقت، ووهبت، وبَكَت؟ ولا ننتظر إجابة، فالصمت أحيانًا أبلغ من كل ردّ. البحيرة الساكنة تعرفنا أكثر مما يعرفنا الآخرون، تعكس قلقنا وطمأنينتنا في آن، تنصت إلينا دون أن تحاول تغييرنا.

ثم نعود، لا كالهاربين، بل كمن فهم المعادلة. نغلق الباب من الداخل، لا لنمنع أحدًا من الدخول، بل لنحمي ما تبقى في الداخل. والباب لا يصرخ، لا يشكو، لا يبرر، فقط يُغلق... كصمتنا حين نقرّر أن لا نُفسد سلامنا بالتفسير. ونحن، حين نغلق الباب، لا نختبئ، بل نتنفس. من خلفه نرتّب الفوضى التي خلّفتها العواطف العابرة، نُلملم الحكايات غير المكتملة، ونطفئ المصابيح التي لم تعد تُضيء إلا للمارة.

نقيم في مملكة الأبواب الموصدة، لا عن كبرياء، بل عن وعي. هناك حيث لا تُطرق الأبواب إلا حين يُشتاق، ولا يُفتح القلب إلا لمن يملك مفتاح الصدق لا مفتاح التسلل. مملكة لا تُعلن قيامها، ولا ترحب بالسائحين العاطفيين. نحن من سكّانها، نبني جدرانها من التجارب، ونزرع في نوافذها زهور الحذر، ونحرسها بسياجٍ من السكينة.

ومع كل ذلك، لا نكره الحب، ولا نُعادي القرب، لكننا نريد أن نُسمع قبل أن نُسأل، وأن نُحتضن قبل أن ننهار، وأن تُفهم أرواحنا دون أن نُعيد ترجمة أرواحنا مرارًا. لأن القلب الذي صمت طويلًا، لم يفقد صوته، بل ينتظر أن يجد من يسمعه حقًا، دون أن يُجبره على الصراخ.

وما لا يُقال لا يعني أنه لم يكن، بل يعني أنه أثمن من أن يُبدّد في طرقٍ لا تؤدي إلا إلى الخيبة. نحن الذين اخترنا الصمت، لا لأننا لا نملك الكلمات، بل لأننا لم نعد نمنحها إلا لمن يقرأنا كما نُحب أن نكون: صادقين، عميقين، دون حاجة لإثبات شيء لأحد. لقد اكتشفنا أن بعض الأبواب لا تُفتح، لأن خلفها نحن... ولا نريد الخروج.


جهاد غريب 
يوليو 2025 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حين اختار القلب أن يصمت!

  حين اختار القلب أن يصمت!  "مذكرات روحٍ سكنت أبوابها، وكتبت للعطش رسائل من كوكبٍ بعيد" نحن الذين تعلّمنا الإصغاء لما لا يُقال، نع...