الثلاثاء، 30 سبتمبر 2025

حين يضيء الأفق بعد العتمة

 

حين يضيء الأفق بعد العتمة

رسالة في الصبر والفرج


 

في زحام الأيام الثقيلة، حيثُ تتكدّس الهموم في الصدر كما تتكدّس الغيوم فوق سماءٍ ضاقت عن مطرها، نشعرُ كأنّ الروح تحاصرها الجدران من كل جانب، وأنّ الانتظار لم يعد سوى امتحانٍ يطيل السهر ويثقل الخطوات. لحظة صامتة يختلط فيها الحزن بالرجاء، ويبدو الزمن متجمّدًا، كأنه يتآمر مع الوجع ليزيد وطأته. وفي وسط هذا الثقل، يُسمع صوتٌ داخلي يتهامس: متى ينفرج هذا القيد؟ وأي نافذة يمكن أن تُفتح بعد كل هذا الانسداد؟

لكن يا قلب.. تمهّل. فما الضيق إلا مقدّمة رحبة لرحمة الله. هو وحده صاحب الأمر، يؤجّل ليمنح، ويبتلي ليطهّر، ويعلّمنا أن نرفع أعيننا نحوه لا نحو غيره. وما بين ابتلاء وتأخير، يزرع فينا الله بذور الصبر حتى نثمر يقينًا لا تهزّه الرياح. وقد قال في كتابه العزيز: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا. إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}، فكيف ييأس من علم أن اليُسر يتعانق بالعسر، وأنّ الظلمة لا بدّ أن تمهّد للفجر؟

وإذا أنصتَّ جيدًا، ستلمح العلامات. ابتسامة عابرة تأتي في وقتها كدواء، يدٌ تمتدّ من حيث لا تدري، فكرة صغيرة تضيء طريقًا معتماً، أو حتى نَفَسٌ بارد يمرّ على جمر القلب فيخفّف من حرّه. كلها إشارات، صغيرة لكنها واثقة، تقول لك إنّ الله يُعدّ لك شيئًا أجمل مما تصورت. إنّها البشائر، كنجومٍ تتلألأ في العتمة لتعلن أن الصباح يقترب.

فلا تُعقّد قلبك بالظنون، ولا تسمح لليأس أن يبني له بيتًا في صدرك. أحسن الظن بربّك، وتذكّر أنّ الطير ينام وفي جوفه رزق الغد، وهو لا يدري من أين يأتيه، لكنه مطمئن للرازق الكريم. تفاءل ولو بدا الحائط سدًا منيعًا، فكم من ريح دفعت جدارًا، وكم من يد فتحت نافذة للضوء حين حسبنا أن كل شيء انتهى.

وحين تبدأ ملامح الفرج تتشكّل، وتأتي الأيام القادمة محمّلة ببشائر لا تُخطئها العين، كأنّها وعدٌ من السماء بأنّ كل تأخير كان إعدادًا، وكل ضيق كان تمهيدًا، وكل دمعة كانت تسقي بذور الفرح القادم. الديون التي أثقلت القلب، والمخاوف التي سكنت الصدر، كلها ستذوب في نور الفرج حين يأذن الله، لا حين نُخطّط أو نُقدّر. ألم أخبرك أن لله في كل شيء حكمة؟ في كل تأجيل، درسٌ في التوكل. وفي كل ابتلاء، تطهيرٌ للنية. وفي كل عثرة، دعوةٌ للعودة إليه. فلا تظن أن الله غافل عنك، ولا تظن أن تأخر الفرج يعني نسيانًا. إنّه يُدبّر، يُمهّد، يُربّي فيك يقينًا لا يُقاس بالأيام، بل يُقاس بالثقة التي تنمو في قلبك رغم كل شيء.

كن على تفاؤل، لا تصعّبها على نفسك. فالأمور لا تُحلّ بالقلق، بل بالثقة. ولا تُفتح الأبواب بالجزع، بل بالدعاء. ولا تُزهر الحياة باليأس، بل بالأمل الذي لا يخبو. انظر حولك، ستجد إشارات لا تُحصى: شخصٌ يسأل عنك فجأة، فكرةٌ تطرق بابك دون موعد، راحةٌ في قلبك لا تفسير لها.. كلها رسائل تقول لك: "اقترب الفرج، فاثبت."

وفي لحظةٍ ما، ستدرك أن كل ما مرّ بك لم يكن عبثًا. وأنّك كنت تُصاغ من جديد، تُنقّى، تُهيّأ لفرحٍ يليق بصبرك. وأنّ الله، الذي لم يتركك في أشدّ لحظاتك، لن يتخلى عنك حين يزهر الطريق. فامضِ يا قلب، واثقًا مطمئنًا. واذكر دائمًا: أن الله لا يُخلف وعده، وأنّ الفرج حين يأتي، يُنسيك كل ما قبله.

وفي الختام، أوجّهها لنفسي قبلك: اطمئن. فما بعد الضيق إلا سعة، وما بعد الصبر إلا فرح يليق بصدق الدعاء. القادم أجمل بإذن الله، والنور الذي تبحث عنه بدأ يلوح في الأفق، فلا تنكسر. كن قويًا بإيمانك، رقيقًا بانتظارك، جميلًا بثقتك. وارفع دعاءك خاشعًا: اللهم اجعل فرجك القريب أجمل مما تمنينا، وأوسع مما تصوّرنا، وألطف مما نرجو.

 

جهاد غريب

سبتمبر 2025

 

على حافة الانهيار.. تُولد رقصة الكرامة!

 

على حافة الانهيار.. تُولد رقصة الكرامة!

 

"تأملات في فن البقاء: حين يكون الوعي مَلْجَأً، والثقة صدقًا، والحرية مسؤولية"

 

 


في تلك اللحظة التي يتكاثف فيها الظلّ، وتنطوي المسافة بين نداء القلبِ وحِجاج العقل، حتى يصير الوجودُ ممرًا ضيقًا بين قلبٍ ينزفُ وعقلٍ يتعثّر بأسئلةٍ لا آخر لها... هناك، لا يعود القرارُ اختبارًا للمنطق، بل محكّةً للروح. نعرفُ الصوابَ لكنه يثقل كحجرٍ رحى، لا نجد له كتفًا تحمله. هناك، على حافة الانهيار، حيث تُغرينا المسالكُ السهلةُ بمخدّر النسيان، تنبتُ قراراتُنا كزهرةٍ صَبُور في صدعٍ صخري؛ لا لتموت، بل لتشهدَ أن النورَ لا يحتاج إلى سماءٍ رحبة، بل إلى بذرةٍ ترفضُ الظلام.

الوعي هنا ليس حارسًا قاسيًا، بل هو المنارة في داخلك. إنه لا يمنع العاصفة، لكنه يمنعك من الاصطدام بالصخور. الوعي لا يُنقذنا لأنه يملك الإجابة، بل لأنه يرفض أن يهرب؛ يضعنا أمام أنفسنا لا ليُدين، بل ليُضيء. إنه ذلك الصمت الذي يعلو فوق ضجيج الهروب، ليُذكرك بأن الكرامة ليست تمثالًا من كبرياء يُنحت للساحات العامة، بل هي الجذور المتشبثة بالأرض حين تهبّ كل الرياح. هي قدرة على البقاء دون أن نُفرّط بما يجعلنا بشرًا. أن تظلّ قائمًا، لا لأنك لا تشعر بالألم، بل لأنك تعرف أن هناك شيئًا فيك أقدس من الألم.

وفي هذه المساحة الهادئة والقاسية معًا، تُعاد ولادة الثقة. وهي ليست مقامرة، بل هي فنُّ الصدق الرحيم. لا على أنها جسرٌ مهترئ نمشي عليه نحو المجهول، بل أن تمنح نفسك للعالم كالنبع يمنح ماءه، لا لأنه يضمن العطش، بل لأن العطاء جزء من طبيعته. أن تثق لا كمراهنة، بل كإقرار بأن الصدق – حتى لو جُرح – هو النسيج الوحيد الذي تُحاك منه كل علاقة أصيلة، بدءًا من علاقة المرء بنفسه.

في رقصة الوجود الأبدية، العقل والعاطفة لا يتصارعان، بل يتعانقان كرفيقين في رحلة. فالعقل هو البوصلة التي تحفظ الاتجاه وتُهذّب المسير، والعاطفة هي النجوم التي تُضيء الدرب. العقل لا يُلغي العاطفة، بل يُهذّبها، والعاطفة لا تُضعف العقل، بل تُضيء له الطريق حين يتيه في التفاصيل. حين يتيه العقل في متاهات التحليل، تأتي العاطفة لتهمس: "انظر، هناك جمال يستحق العناء". وحين تثور العاطفة كبحر هائج، يأتي العقل ليمدّ لها حبل النجاة. بينهما تنشأ لحظة القرار النبيل، لا كمعركة، بل كـرقصة دقيقة بين الخوف والرجاء، تتناغم فيها إيقاعاتهما معًا، مولّدة لحن الصمود. من يظن أن الطريق السهل هو النجاة، لم يختبر بعد طعم الصمود النبيل، حين نختار ألا نُساوم، لا لأننا أقوياء، بل لأننا نحب أنفسنا بما يكفي لنحميها من التنازل.

أما الحرية، فهي الوعاء الذي نحمل فيه مسؤولية اختياراتنا. إنها ليست هيئة للفرار من الثقل، بل هي فنُّ حمل الثقل بيدين لا ترتعشان. الحرية ليست أن نختار ما نشاء فحسب، بل أن نتحمّل تبعات ما اخترناه. هي أن نُعيد تعريفها لا كانفلات ورغبة عابرة، بل كـقدرة على الوقوف في وجه الإغراء، حين يكون الثمن هو التخلي عن الذات. أن نُفرغها من وهج الرغبة العابرة، دون أن نُجردها من وقار المسؤولية. هي أن نقف عند الحافة، وننظر إلى الهاوية، ثم نختار الالتفاف؛ لأن في دواخلنا بئرًا من نور نرفض أن نطفئه.

ولمن يوشك أن يستسلم، لا نقول له "اصبر"، بل "انظر". نمرر لك مصباح الذاكرة. انظر إلى ما تبقّى فيك من نور، إلى ما لم يُكسر بعد. أترى ذلك الجزء الذي لم ينكسر بعد؟ تلك اللحظة التي ضحكت فيها من أعماقك؟ ذلك الحلم الذي ما زال ينبض تحت الرماد؟ لا أحد يطلب منك أن تكون بطلًا، فقط ألا تُطفئ ما فيك من صدق، أن لا تُفرّط بما يجعلك جديرًا بالثقة، حتى من نفسك. الصمود ليس صرخة مدوية، بل هو الهمسة التي ترددها لنفسك في منتصف الليل: "سأمضي.. لأن فيَّ ما يستحق البقاء".

وفي هذا الوفاءِ يكمنُ سرُّ الصمود؛ فهو ليس بطولةً استثنائية، بل هو وفاءٌ ذاتيٌ صِرف. وفاءٌ للذاتِ التي أحببتَ، وللحلمِ الذي راودك، وللقيمةِ التي آمنتَ بها ذاتَ مساءٍ بعيد. اخترْ أن تُكملَ الطريق، لا لأنَّ الألمَ غائب، بل لأنَّ في داخلكَ جمالًا ترفضُ أن تُخونه.

وحينَ تهدأُ العواصفُ، وتصيرُ أيامُ البكاءِ ظلالًا في ذاكرةِ الزمن، لن يُسألْ أحدٌ عن مراتِ ترددك، بل سيبقى السؤالُ الوحيدُ ماثلًا في عينيكَ حينَ تلتقيهما في المرآة: هل ما زلتُ أنا؟ نعم، أنت ما زلتَ أنت، وبقوتك الداخلية، ستستمر رحلة الصمود والصدق.

 

جهاد غريب

سبتمبر 2025

 

 

ظلال الدِّين وثِقْل الحرية

 

ظلال الدِّين وثِقْل الحرية

حين تتحول الأزمات إلى امتحانٍ للروح قبل الجيوب


 

قد يبدو الاقتراض في أول وهلة كمخرجٍ يلوح في الأفق المظلم، كنافذة صغيرة يتسلل منها بعض الهواء، لكنه ليس أكثر من عبورٍ وهمي بين جدارين متقابلين. إنه نقلٌ للثقل من كتف إلى آخر، كما لو أننا نغيّر الضمادة دون أن نقترب من الجرح ذاته. فالأزمة لا تُمحى بمجرد تبديل حاملها، بل تُعاد صياغتها في هيئة جديدة قد تكون أشد وطأة وأطول ظلاً.

هو أشبه بما يحدث حين يعجز إنسان عن حمل حجرٍ ثقيل، فيتوهم خفته إذا ما وُضع على كتف غيره. لحظة قصيرة من تنفسٍ كاذب، سرعان ما تتحول إلى قيد مضاعف، إذ يُقترض من المستقبل ليُرتهن به الحاضر، وتُستبدل الحرية بوهمٍ مؤجل.

والأرقام حين تكبر لا تبقى مجرد أعداد على ورق. إن ضخامة الرقم لا تُقاس بما تبلغه من خانات فحسب، بل بما تحمله من تبعات تتجاوز المال إلى الروح، إلى حرية القرار، إلى اتساع الخطى. هي أحمالٌ لا تكتفي بتقييد الضمانات، بل تُضيق مساحة الحلم، وتترك صاحبها يتردد عند كل منعطف. ومثلما لا يُباع البحر لمن لا يُحسن السباحة، لا يليق أن تُساق الذات إلى دوامة تفقدها توازنها في لحظة هي أحوج ما تكون فيها إلى رسوخٍ وثبات.

لكن الأرقام، مهما بدت جافة، لا تبقى حبيسة الورق. فهي تنزلق إلى النفوس، وتضغط على القرارات، وتستدعي العاطفة لتبحث عن مخرجٍ سريع. وهنا تبدأ النفس في التعلق بأي حبل، ولو كان هشًا. فالعاطفة تُغري بالاندفاع، فهي دافئة لكنها خادعة، تُنير الحاضر لتُخفي الغد. أما العقل، فهو ذاك المصباح البعيد، لا يُغري بسطوعٍ لحظي، لكنه يرسم الطريق بأناة ووضوح. ليس إنكارًا لقيمة القلب، بل اعترافًا بأن الأزمات الكبرى لا يُداويها إلا بصيرة نافذة، تزن العواقب ولا تُسلم الروح إلى قفزات عمياء.

والثقة بين البشر، مهما كانت راسخة، ليست معبرًا لعبور الحقائق المغلقة. فالمحبة لا تعني أن نُسلم مصيرنا إلى المجازفة، والثقة لا تعني أن نغضّ الطرف عن ثِقلٍ قد يُحني ظهورنا. بل قد تكون أصدق معاني الثقة أن نقول: *أخشى أن أحملك ما لا طاقة لك به*، لا أن نُسلمك إلى مصير مجهول باسم الود.

الزمن، وهو الكريم دائمًا، يعلّم أن الأزمات مهما طالت فإن لها نهاية، وأن الصبر ليس استسلامًا بل فنٌّ في مواجهة الواقع كما هو، لا كما نريد أن يكون. وأصعب الحلول قد يكون أكثرها أمانًا، حين نقرر أن نحمل جرحنا بأنفسنا، ونخوض امتحانه حتى النهاية، بدلاً من أن نُسلّمه لغيرنا فيتحول إلى سلسلة لا تنقطع.

فالعلاقات الإنسانية، حين تُبنى على الصراحة، لا تتهشم باختلافٍ عابر، بل تُزهر. إن الخلاف، حين يصدر عن الحرص، يصبح امتحانًا للصدق وفرصة للنمو معًا، لا حاجزًا للفراق. وربما تكون الأزمات المالية – في جوهرها – صورة من صور الشرط الإنساني ذاته، ذاك الذي يُمتحن فيه البشر في كل زمان ومكان بقدرتهم على الصمود دون أن يفقدوا إنسانيتهم، وعلى مواجهة ثِقل الأرقام والقرارات بالوعي لا بالهروب.

إن الطريق الذي يبدأ صعبًا لكنه حقيقي، يبقى أرحم من الطرق المستعارة التي لا تؤدي إلا إلى متاهات تتشابه مخارجها. فما الجدوى من الخروج بأي ثمن إذا كان الثمن هو أنفسنا؟ الأجمل أن نخرج من المحنة ونحن أوفى، أحرارًا، أصلب، قادرين أن نقول: لم نهرب، لم نخدع، بل واجهنا وتجاوزنا.

وهنا تتكشف الحكمة: فالأزمات ليست مجرد امتحان للقدرة على الدفع، بل امتحان للقدرة على أن نكون كما نريد أن نكون. ومن يخرج من الظلمة وهو أكثر إنسانية، أكثر صلابة، وأكثر وفاءً، يكون قد ربح ما لا يُشترى بالدَّين ولا يُقاس بالأرقام. إنها دعوة لأن نتذكر دائمًا أن قوة المرء لا تُقاس بما يقترضه، بل بما يتحمل، وبالقدرة على أن يجعل من المحنة فرصة للنهوض لا ذريعة للانكسار.

وهكذا تتحول الأزمات من محنة إلى منحة، حين نعي أنها امتحان للروح قبل أن تكون امتحانًا للجيوب، امتحان للقدرة على أن نظل واقفين في وجه الريح، وأن نتحمل مسؤولية أنفسنا دون أن نرهن حريتنا أو نثقب مراكب من نحب. ومن يخرج منها وفي قلبه بقايا دفء، وفي عينيه بريق أمل، وفي خطاه رسوخٌ لا يتزحزح، يكون قد عاد أكثر إنسانية، أعظم وعيًا، وأشد قدرة على العطاء. فالكرامة بحر لا يُباع، والحرية كنز لا يُقترض، والنصر الحقيقي أن نخرج من الظلمة حاملين نورًا لا يكفي لأنفسنا وحدنا، بل يفيض على كل من يمضي بجوارنا.

لأننا في النهاية، لا نُختبر فقط بما نكسب، بل بما نختار أن نحمل. فأن تحمل جرحك خيرٌ من أن تورثه، وأن تواجه ألمك خيرٌ من أن تُسلمه لغيرك باسم الحب أو الثقة. فبعض الأعباء لا تُقسم، وبعض الكرامات لا تُستعار. ومن يختار أن يواجه، لا أن يُورّث، يكون قد كتب لنفسه فصلًا جديدًا من الحرية، لا يُقاس بالأرقام، بل يُقاس بالصدق، وبالقدرة على أن يظل واقفًا، مهما اشتدت الريح.

 

جهاد غريب

سبتمبر 2025

 

 

 

الاثنين، 29 سبتمبر 2025

جمال ما لم يُقَل: كيف يتسرب المعنى عبر فجوات اللغة؟

 

جمال ما لم يُقَل: كيف يتسرب المعنى عبر فجوات اللغة؟

"حين يكون الصمت أكثر بلاغة من الكلام"

 



ثمّة لحظات في الحياة نقف فيها عاجزين، تتكدّس المشاعر في الحلق، وتتجمّع الذكريات في الصدر، بينما تبقى الكلمات عاجزةً عن النهوض من قاع الروح. في هذه اللحظات بالذات، ندرك أن اللغة ليست وعاءً أمينًا للمعنى، بل هي كائن حيّ، ينضح بما يفوق الاحتمال، ويتسرّب من بين ثناياه ما يعجز عن التصريح به. إنها تشبه ذلك الضوء الذي يتسلّل من خلال فجوة في ستائر غرفة مظلمة، فيرسم على الجدران أشكالًا لم نكن لنراها لو انفتحت الستائر على مصراعيها. الضوء لا يخترق الحاجز، بل يتفاعل معه، فيخلق من الفجوات نفسها مصدرًا للجمال والعمق. وهكذا اللغة؛ لا تتوقف عند حدود ما تقوله، بل تبدأ حكايتها الحقيقية من حيث تعجز كلماتها.

إن محاولة وصف لوعة فراق، أو بهجة لقاء، أو حتى طعم فاكهة لم يذقها الآخر، أشبه بمحاولة رسم العطر بألوان مائية. الكلمات هنا تقف خجلة عند حافة التجربة، تلمح ولا تمسك، تروي ولا تنقل. هذا العجز ليس فشلًا في اللغة، بل هو شهادة على سعة العالم الإنساني الذي يتجاوز أي وعاء لغوي. حتى الفلاسفة الذين أمضوا حياتهم في أحضان الكلمات، يعترفون بهذه الهوّة. فيتجنشتاين يخبرنا أن "حدود لغتي تعني حدود عالمي"، لكن ماذا عن ذلك العالم الشاسع الذي يقع خارج هذه الحدود؟ العالم الذي نعيشه في صمت قلوبنا، وفي احتدام أحزاننا، وفي تلك اللمحات من البصيرة التي تخطفنا من أنفسنا؟ هنا، بالضبط، حيث تتوقف المفردات، تبدأ فجوات المعنى في التشكل.

هذه الفجوات ليست فراغًا، بل هي مساحات حيّة تنبض بالاحتمالات. منها الوجودي، الذي تتكسر عليه أقوى الحجج وأعمق الأفكار، كسؤال الموت والخلود والغاية. فكل خطاب فلسفي عن الموت يتحول إلى مجرد حديث حوله، بينما تبقى التجربة ذاتها محتجزة في صمت الكائن. ومنها العاطفي، الذي يجعلنا نقول "أشتاق إليك" بينما يحمل القلب ما يعادل بحرًا من الذكريات واللوعة لا تجد لها مخرجًا في هذه العبارة البسيطة. وحتى على مستوى الثقافات، نجد أن بعض الكلمات ترفض الرحيل من لغتها الأم؛ فكيف نترجم "الحنين" إلى لغة لا تعرف ذلك المزج بين الشوق والألم والذاكرة؟ وكيف ننقل "الوقار" إلى ثقافة لا تملك في تراثها ذلك الخليط من الهيبة والاحترام والرهبة؟

لكن اللغة لا تستسلم بسهولة. إذا عجزت عن قول المعنى مباشرة، فإنها تفتح له منافذ سرّية يتسلل منها. إنه التسرب الذي يشبه السحر. ألا ترى أن أعمق ما في القصيدة ليس في كلماتها، بل في الصمت المحشور بين سطورها؟ إنه البياض الذي يتركه الشاعر بين كلمة وأخرى، ليمنحنا نحن، القرّاء، مساحة لنملأه بدموعنا أو بابتساماتنا. وكذلك لغة الجسد؛ تلك النظرة التي تقول كل شيء دون حرف واحد، وتلك اليد المرتعشة التي تنطق بالخوف أكثر من خطب مطوّلة عن الرهبة. حتى في الحياة اليومية، عندما نسكت في لحظة فرح أو ألم، فإننا نستخدم لغة أخرى موازية، لغة التسرب، التي تنقل ما تعجز عنه لغة التصريح.

بل إنني لأزعم أن هذه الفجوات نفسها هي التي أنقذت اللغة من الجمود والموت. فلو كانت اللغة مكتملة مغلقة، قادرة على احتواء كل تجربة إنسانية، لتحولت إلى سجن للمعنى بدلًا من أن تكون حديقة له. إن عجزها النسبي هو ما يدفع البشر، على مر العصور، إلى الإبداع. هذا العجز هو الذي دفع الشعراء إلى ابتكار الاستعارات الجديدة، والفنانين إلى اختراع لغات التشكيل والموسيقى، والعشاق إلى ابتكار نظرات تقال مرة واحدة ولا تُنسى. إنه الدافع الخفي وراء كل محاولة للتعبير عن الخفي، والمسكوت عنه، والمستحيل قوله. إن جمال اللغة لا يكمن في قدرتها على التعبير الكامل، بل في قدرتها على التلميح الناقص، الذي يحفز خيال المتلقي ليصبح شريكًا في خلق المعنى.

لذلك، عندما نكتب أو نتحدث، لا ينبغي لنا أن نحاول سد هذه الفجوات، بل أن نتعلم الرقص على حافتها. أن نثق بأن القارئ أو المستمع يحمل في داخله ما يكمل به ما تركناه غير مكتمل. إنه أشبه بمن يرمي حجرًا في بركة ساكنة، ثم يترك الأمواج لتصل إلى الشاطئ بطريقتها الخاصة. الثقة بالمتلقي هي التي تحول الخطاب من إملاء إلى حوار، ومن نقل إلى مشاركة.

وفي النهاية، ربما كان أعظم دروس اللغة هو تعليمنا التواضع. التواضع أمام سعة التجربة الإنسانية، وأمام غموض الوجود، وأمام قدرة القلب على احتواء ما تعجز الكلمات عن حمله. ففي كل مرة نحاول فيها التعبير، نكتشف أن هناك شيئًا يبقى خارج الإمساك، شيئًا يتسرّب مثل الضوء من بين أصابعنا. وهذا بالضبط هو الجمال الحقيقي؛ الجمال الذي لا يكمن في الوضوح الكامل، بل في الظل والنور، في الملموس وغير الملموس، في المسموح به والمتسرّب. إن أجمل ما في لغتنا ليس ما تنطق به، بل ذلك الهمس الخافت الذي يصلنا من خلال صمتها، ذلك الضوء المتسرّب الذي يضيء جوانب من أنفسنا لم نكن نعرف أنها موجودة. ففي هذه الفجوات، نلتقي ليس فقط بمعنى الكلمات، بل بمعنى وجودنا نفسه.

 

جهاد غريب

سبتمبر 2025

 

في هندسة الصعود: حين ينهض المستقبل دون أن ينسى ظلاله

 

في هندسة الصعود: حين ينهض المستقبل دون أن ينسى ظلاله

 

"لكل صعودٍ ظلٌّ ينبغي أن يُؤخذ في الحسبان، فالنور لا يكتمل إلا حين يُنير ما تحته"

 

 


النمو ليس قفزة في الفراغ، بل نَفَسٌ طويلٌ تتردّد أصداؤه في شرايين الزمن، يتشكّل من الحلم حين يُصغي للعقل، ومن الخطة حين تُعانق الخيال. تتسارع الدول في بناء نهضتها كما تتسارع النجوم في انبثاقها، تُطلق قراراتها كمن يُطلق سهامًا نحو الغد، تُشيّد مدنًا لا تُشبه الماضي، وتُعيد رسم الخرائط لا وفق ما كان، بل وفق ما ينبغي أن يكون.

كل شيء يتحرك: الإسمنت، الأفكار، اللغة، حتى الذاكرة تُعاد تشكيلها لتواكب هذا الاندفاع. تُبنى الجسور لا لعبور الأنهار فقط، بل لعبور الفجوات بين الحلم والواقع، بين الممكن والمأمول. تُصبح اللوائح أنظمةً للزمن، وتُصبح الخطط مرايا للمستقبل.

لكن في هذا الاندفاع، ثمة ما يُنسى. ليس عن قصد، بل عن انشغالٍ يُشبه الغفلة. تُنسى تلك الدول التي لم تُمنح ترف الانطلاق، التي ما زالت تقف عند أول الطريق، تُحدّق في الأفق ولا تملك مركبة، تُنصت لصوت التقدم ولا تملك لغةً للرد. الفقر ليس فقط نقصًا في المال، بل هو خمولٌ في الموارد، وتكلّسٌ في الحلم، وانطفاءٌ في العين التي لا ترى إلا الحاضر.

هذه الدول لا تعيش في الماضي، بل في حاضرٍ لا يتحرك، حاضرٍ يُراقب ولا يُشارك، يُسجّل ولا يُكتب. وهنا، تتبدى المفارقة: هل يمكن للصعود أن يكون إنسانيًا؟ هل يمكن للنهضة أن تُبنى دون أن تُصبح جدارًا يُقصي من لم يلحق؟ إن فكرة التقدم، حين تُمارَس دون التفات، تُشبه من يصعد سلّمًا في الظلام، لا يرى من خلفه، ولا يسمع من تحته. ليست المشكلة في الصعود، بل في نسيان أن الطريق ذاته يحتاج إلى تمهيد، لا فقط لمن يركض، بل لمن يتعثر أيضًا.

ليست الدعوة هنا إلى الإبطاء، ولا إلى توزيع الحمل بالتساوي، بل إلى شيء أدق: إلى أن تُمنح الدول الأخرى أدوات التفكير، مفاتيح الرؤية، خرائط الاحتمال. أن يُشاركها من سبقها خلاصات التجربة، لا كمن يُلقي دروسًا، بل كمن يُضيء شمعة في طريقٍ آخر. الدعم لا يعني المال دائمًا، بل يعني أن تُمنح القدرة على الحلم، أن تُستعاد شرارة الإمكان، أن يُقال لتلك الدول: "لست وحدك في هذا الكوكب، ولست خارج الزمن".

إن العالم ليس سباقًا، بل نسيجًا. وكل خيطٍ فيه، مهما بدا ضعيفًا، يُسهم في تماسك الكل. حين تُبنى المدن، يجب أن تُبنى معها القدرة على الحلم. وحين تُصدر اللوائح، يجب أن تُؤخذ في الاعتبار تلك الأصوات التي لا تملك منابر. فالمستقبل، إن لم يكن مشتركًا، لن يكون مستدامًا. والنهضة، إن لم تكن ذات ظل، ستُصبح وهجًا يحرق من لا يملك سقفًا.

"إن الإنسان لا يُصبح إنسانًا إلا حين يُدرك أن وجوده مرتبط بوجود الآخر، وأن الصعود لا يُقاس بالعلو، بل بما يُضيء في الطريق."  إيمانويل ليفيناس.

ثمة استعارة لا تغيب: أن الصعود الحقيقي لا يكون إلا حين يحمل في طياته من لم يستطع أن يصعد. أن تكون النهضة جسراً، لا برجًا. أن يكون التقدم نهرًا، لا جدارًا. أن تُصبح الفكرة ذاتها، فكرة النمو، مشبعةً بالرحمة، لا بالاستعلاء. أن يُعاد تعريف النجاح، لا كمن وصل، بل كمن أوصل معه آخرين.

في النهاية، ليست الفكرة أن نُبطئ، بل أن نُضيء. أن نُدرك أن الصعود، حين يكون بلا ظل، يُصبح قفزًا في الفراغ. وأن النهضة، حين تُبنى على تجاهل الآخر، تُصبح هندسةً ناقصة، لا تُعمر الأرض، بل تُقسمها. فالمستقبل، حين يُبنى على المشاركة، يُصبح أكثر من زمنٍ قادم: يُصبح وعدًا، ويُصبح وطنًا للجميع.

 

جهاد غريب

سبتمبر 2025

 

الأحد، 28 سبتمبر 2025

حين تصبح المعرفة مقاومة

 

حين تصبح المعرفة مقاومة

 

"السوسيولوجيا والبحث عن المعنى في التشظي العربي" 

 


لا يزال صمت الأطلال يحمل همس الأسئلة التي لم تُجب، همساً يختلط فيه صوت الماضي بقلق الحاضر. في فضاء عربي يعاني من تشظٍّ وجودي، حيث لم يعد الزمن خطاً مستقيماً يمضي من ماضٍ مُشرّف إلى مستقبل مُنتَظَر، بل تحوّل إلى دوامات من الذكريات المجروحة والآتي المجهول. هنا، حيث تتداخل الهُويّات كظلال على جدار كهف حديث، تبرز الحاجة إلى فعل المعرفة ليس كترف فكري، بل كضرورة للبقاء. إنها رحلة التأمل في ذاكرة المجتمع وجسدِه الممتد من روابط الماضي العضوية إلى روابط الشبكة الافتراضية، بحثاً عن معنى للإنسان العربي في عالم لم يعد يحتمل اليقينيات القديمة.

ومن هذا المدخل التأملي، تنبثق السوسيولوجيا ليس كمادة جامدة، بل كشاهد على العصر. فقد نشأت في العالم العربي معبّرة عن لحظة تأسيسية ملتبسة، حاملةً معها رهاناتها المعرفية والسياسية منذ البداية؛ فكانت تارة أداةً لفهم المجتمع وتحديثه، وتارة أخرى سلاحاً في معارك التحرر الوطني وبناء الدولة الحديثة. لكنها، كأي معرفة وافدة، حملت في طياتها إشكالية التبني والتطبيق، محاولةً قياس واقع متشابك بأدوات وُلدت في سياقات مغايرة، فشكّلت منذ ولادتها مشروعاً نقدياً يسائل السلطة ويحفر في البنى الخفية، مما جعلها دوماً على حافة الهامش والمركز، بين رغبة النظام في ضبط المجتمع وحاجة المثقف إلى تحريره.

ولم تكن تلك الرهانات سوى انعكاس لتحولات كبرى هزّت البنى التحتية للوجود الاجتماعي نفسه. لقد تراجعت مركزية الدولة الكلية، التي كانت يوماً المظلة الجامعة والمرجعية الأخيرة، لتحلّ محلها تشظيات الفرد الذي ألقى بنفسه في أحضان هويات فرعية تمنحه شعوراً بالانتماء قد تعجز عنه الدولة المُثقلة بالتحديات.

وفي هذه الرحلة من الانزياح، انتقلنا من واقع مادي ملموس، تحكمه جغرافيا الثوابت، إلى فضاء رقمي سائل أعاد تشكيل كل شيء: العلاقات، السلطة، بل والهوية ذاتها. فظهر "الوجود الشبكي" حيث لم يعد الفرد كائناً في مكان واحد، بل أصبح ظلاً متعدداً يعيش حيوات متوازية؛ حياة في الشارع وأخرى على الشاشة، مما طرح إشكالية جذرية حول مفهوم "الحقيقة" الاجتماعية ذاتها. وأصبحت "الحركات الرقمية" تعبيراً عن سياسات جديدة، لم تعد تنطلق من الساحات فحسب، بل من مجموعات التواصل، محققةً نوعاً من الزخم العاطفي السريع الذي قد يفتقر إلى الجذور التنظيمية المتجذرة في الواقع.

وهذا الانزياح من المادي إلى الافتراضي، ومن الكلي إلى الجزئي، كشف عن أزمة مفاهيمية ومنهجية عميقة. فكيف ندرس ظاهرة "القبيلة الجديدة" التي تتشكل حول المؤثرين على منصات التواصل، والذين يجمعون ملايين المتابعين في جماعات افتراضية تُشبه في ولائها وتماسكها البنى الاجتماعية الكلاسيكية، بلغة نظرية وُضعت لتحليل مجتمعات ما قبل الرقمنة؟ وكيف نفسر صعود "العائلة الرقمية" التي تجمع أفراداً لم يلتقوا وجهًا لوجه، كما في مجموعات الدعم النفسي والاجتماعي على تطبيقات مثل "واتساب" أو "تيليجرام"، بلغة سوسيولوجيا العائلة التقليدية؟

هنا تتبدى أزمة الاستعارة المعرفية، حيث نكتفي باستيراد مناهج ونماذج جاهزة كأدوات "جاهزة للاستخدام" لفهم واقع شديد التعقيد، مما يؤدي إلى عزلة وهمية داخل الأبراج الأكاديمية. لقد فشلت نماذج التحديث الخطية في تفسير تعثر التنمية، لأنها لم تأخذ في الاعتبار البنى النفسية والثقافية التي ترفض أن تُساق في مسار واحد. وهذا يدفعنا إلى الحاجة الملحة لأدوات مفهومية محلية، تولد من رحم الواقع العربي نفسه، قادرة على فهم ظواهر مثل التشكيلات الشبكية الجديدة في عالم الأعمال أو السياسة، أو "اقتصاد الظل" الذي يعيد إنتاج الفقر ليس كمشكلة تقنية بل كبنية اجتماعية متجذرة.

وفي خضم هذا التشظي البنيوي والمنهجي، شهدنا تحولاً موازياً في العالم الرمزي والثقافي؛ تحولاً يمكن تسميته "بما بعد الأيديولوجيا". لقد تراجعت الخطابات الكبرى – القومية والاشتراكية – التي كانت تمنح إطاراً شاملاً لمعنى الحياة والوجود، تاركةً الفراغ لصعود هويات فرعية متعددة، من الطائفية إلى الإثنية إلى الهويات الجندرية، كل منها يبحث عن اعتراف في فضاء عام منقسم.

حتى التدين شهد تحولاً جذرياً من طابعه المؤسسي الجماعي إلى "تدين شعبي فردي"؛ نمط يتبنى فيه الشخص معتقداته وممارساته بعيداً عن سلطة المؤسسة الدينية الرسمية، بطريقة انتقائية تتجلى في فضاءات رقمية، مما يخلق شكلاً هجيناً من الإيمان يلبّي حاجات نفسية في زمن اللايقين. وتطرح العولمة الثقافية قيماً جديدة تتصادم أحياناً مع الموروث، مما يخلق حالة من "الازدواجية القيمية" حيث يعيش الفرد في عالمين أخلاقيين مختلفين، تاركاً إياه في حالة من القلق الوجودي الذي يتطلب من السوسيولوجيا أن تكون أداة لفكك هذه الرموز الجديدة وتفكّك تشابكاتها.

إذن، أمام هذا المشهد المعقّد من الانزياحات، أليست السوسيولوجيا مدعوة لأن تكون أكثر من مجرد أداة تحليل؟ إنها، في جوهرها، "فعل مقاومة معرفية". مقاومة ضد تبسيط التعقيد البشري إلى أرقام وإحصائيات، ضد استلاب العقول بنماذج جاهزة لا تمتّ لوجداننا بصلة، وضد التكرار الممل للمقولات الفكرية التي فقدت قدرتها التفسيرية. إن مقاومتها تكمن في قدرتها على إعادة ربط ما انفصل، على تسليط الضوء على الهوامش والصوت الخافت، وعلى طرح الأسئلة المحرجة التي ترفض السلطات – سياسية كانت أم دينية أم ثقافية – الإجابة عنها. إنها يقظة دائمة ضد النوم في أحضان اليقين.

وهكذا، نعود إلى صمت الأطلال، لكنه صمت لم يعد فارغاً، بل ممتلئاً بترددات أسئلة جديدة. هل نستطيع، كعرب، أن نعيد تركيب هوية من هذا التشظي دون أن نقع في براثن النزعات الانغلاقية؟ هل يمكن لفعل المعرفة هذا أن يكون جسراً بين واقعين، ماضي لم ينقضِ وحاضر لم يستقر بعد؟ قد لا تحمل الخاتمة إجابة قاطعة، لأن طبيعة الرحلة لا تقبل إلا بتساؤلات توقظ النائمين. فربما تكون مهمة السوسيولوجيا الأكثر جوهرية ليست في تقديم الأجوبة، بل في إدامة السؤال نفسه، كشمعة تحترق في دهاليز الزمن العربي المأزوم، لا لتنير الطريق كله، بل لتمنع الظلام من أن يكون كاملاً.

 

جهاد غريب

سبتمبر 2025

 

السبت، 27 سبتمبر 2025

رسالة إلى ظلّي على ضوء القمر

 

رسالة إلى ظلّي على ضوء القمر 

"في استدعاء ما تُخفيه الأنوار"

 


لكل منا أطيافًا تمتدُّ خلف خطواته، وتظهر أوضح حين تنعكس في ضوء القمر. هذه الأطياف ليست أشباحًا فرديّة بقدر ما هي خريطةٌ للتجارب والدوافع والذكريات. إنها محاولة لقراءة هذه الخريطة بصوتٍ واضح ومتعاطف، بحثًا عن طرق للمصالحة مع ما تبقّى.

في سكون الليل الحميم، حيث تتثاقل الكلمات وتصبح الأنفاس وحدها قادرة على قراءة ما لا يُقال، تنفتح أمام المرآة الباهتة مساحاتٌ من الذاكرة والصمت. القمر يرسم على صفحة الماء خيوطًا من فضة لا تكمل الصورة، فتظل شظايا من الضوء تشير إلى داخلٍ لا يُعرف له عنوان ثابت. في هذا الفضاء تُولَد رسائلٌ لا تدعو إلى العودة فحسب، بل تهدي من تبقّى من الحضور بعضًا من الطمأنينة.

الكتابة هنا ليست خطة محكمة بقدر ما هي قارورة أُلقيت في صدر الزمان، محشوةٌ بآثار خساراتٍ قديمة وأملٍ بضوءٍ لم يُكتشف بعد. تُسجَّل الخسارات، وتُستعاد ألحانٌ انكسرت. الكلمات تصبح رمادًا يدفئ بعد احتراق، والسطور تنهيداتٌ تخرج من صدورٍ اعتادت على الصمت كرفيق. إنها مرافعةٌ صامتة ضدّ انكسار الروح، ومحاولة لتحويل الوجع إلى مادةٍ قابلة للنحت.

من مياه "مرآة الليل" تُجمع شظايا كثيرة؛ لتشكيل مرآة تكشف الذات أولًا، ثم الظل، ثم المتلقي المحتمل. تُجمع هذه الشظايا كما يجمع من يصغي لبقايا عطرٍ مكسور، بحثًا عن نفحاتٍ لزهرةٍ كانت هنا يومًا — محاولة لفهم سبب التمسك بما فقدناه. وربما، في هذا الجمع، نكتشف أن الظلَّ ليس عدونا، بل هو الشاهد الوحيد على كل خطوة مشيناها، حتى تلك التي حاولنا محوها من سجلّ الوجود. إنه يحمل بصمتِه أسرارَنا التي لم نجرؤ على البوح بها للشمس.

لا تُعدُّ هذه الكلمات شهادةً على ماضٍ فحسب، بل هي يد تمتد من بين السطور تحمل ضوءًا نقياً، نور القمر بعد نهاية حربٍ طويلة، وتعلن حضورها بصمتٍ حاسم. إنها دعوة للمشي معًا عبر ما تبقّى من الرماد وتحويل الفقد إلى بدايةٍ جديدة. هدفها ليس توجيه اللوم، بل فتح نافذة صغيرة تطلُّ على احتمالات العودة، وعلى فرصٍ لحفظ جمالٍ باقٍ وإحياء ما بدا ميّتا. إنها وقفةٌ أمام ذلك التناقض الجميل: كيف يمكن لضوء القمر، وهو في جوهره انعكاسٌ باردٌ لضوء الشمس، أن يمنحنا الدفء والرؤية في أحلك اللحظات؟ ربما لأن في انعكاسيتِه إقرارًا بأن وجودنا، أيضًا، مبنيّ على انعكاسات ذاتنا عن أسطح الحياة المختلفة.

المضي بهذا الطريق يتطلب جرأة على احتضان الكسر، وقراءة الشظايا كقطع فسيفساء تصوغ هوية الروح. في الاحتراق بذورُ ولادةٍ جديدة، وفي التشظّي بذورُ جمالٍ لم يولد بعد. القوة الحقيقية ليست في اكتمال الذات، بل في قدرة الإنسان على جمع ما تفرّق وصياغة معدنٍ أصفى من نار التجربة. هذه رحلة لإعادة البقايا إلى الحاضر: كمن يرمم سفينةٍ غارقة قطعةً قطعة، مؤمنًا بأن الماء لا يمنع ولادة شراعٍ جديد. إنها مسيرة نتعلم فيها أن نكون أصدقاء لظلالنا، لا هاربين منها. نتعلم أن نسألها: ماذا تريدين أن تخبريني؟ أي جرحٍ فيّ لم يندمل بعد، فأصبحتِ أنتِ تتكلمين نيابةً عنه؟

هنا قد تُحْصَل سكينةٌ تختلف عن سكينة النسيان؛ هي سكينة المصالحة مع ما كان — قبلةٌ بين الماضي والحاضر تُخفف عن القلب أعباء التراكمات. من دواخل الذات إلى آفاق العالم، هذه رحلة مشتركة تُكتب بالقلب قبل القلم، علّها تصل إلى من تاه في التفاصيل فيعود إلى ذاته كاملة، متصالحة، ينبعث جمالها من عدم الاكتمال. فالجمال الحقيقيّ ليس في النقاء المُطلق، بل في النقوش التي يتركها الزمن والمشي على صفحة الروح، كما ينقش القمرُ ظلَّ الشجرة على الأرض في ليلةٍ هادئة.

لتكن هذه الكلمات مجرد ضوء قمرٍ يسقط على طريقك، فلا تُضيئه كلّه، بل تلمح بما فيه الكفاية لمواصلة السير. قد تجد فيها مرآةً لظلّك، فتقف معه لحظة. ربما يكون أعظم المصالحة هو أن تمنح نفسك الإذن بأن تترك للظلّ مساحته. ففي النهاية، الظلُّ دليلٌ على أن ثمة نورًا يسقط علينا، حتى ولو كان منبعثًا من قمرٍ بعيد. وهو، كالقمر نفسه، قد يكون هلالًا تارةً وبدرًا تارةً أخرى، لكنّه دائمًا جزء من سماء وجودنا.


جهاد غريب

سبتمبر 2025

 

الأربعاء، 24 سبتمبر 2025

بين قمةٍ تُبنى وذاكرةٍ تُلاحق

 

بين قمةٍ تُبنى وذاكرةٍ تُلاحق

 

عن الإنسان الذي يشيد مناراته وهو يجرّ خلفه خيوط الذكرى

 


 

مرايا العمر المتكسّرة

تمرُّ سنوات العمر، لا كالنهر الهادر، بل كأمواج متلاطمة تترك على شاطئ الوعي حطامَ علاقاتٍ وومضاتِ ذكريات. جلستُ، كما يجلس المرء أمام مرآة الزمن، أتساءل عن بصمات الوجوه التي عبرت حياتي: الأصدقاء، الأقارب، زملاء العمل. تلك الشبكة المعقدة من الصلات التي تُنسج منها أجزاءُ هويتنا. وفي قلب هذا التيه من التساؤلات، تبرز أمامي سيرة امرأة، قصةٌ استثنائية، ليست حكايةَ صعودٍ مألوف، بل هي لوحة إنسانية رسمتها امرأة جعلت من الطموح فنًا، ومن العطاء مشروع حياة.

 

المرأة التي تُعلّم من على قمة جبلها الشخصي

ليست مجرد معلمة تؤدي وظيفة، بل هي مؤلفةٌ لمشروع حياتها على صفحات الأجيال. خمسة وعشرين عامًا، أودعت فيها عصارة فكرها وروحها في تربية النشء داخل جدران القطاع الخاص. كانت الفصول الدراسية مسرحها، والعقول النقية هي مادتها الخام، والإرث الفكري هو منتوجها النهائي. ثم، في لحظة تحولية، قررت أن تنتقل من كونها لبنة في جدار المؤسسة، إلى أن تكون هي مهندسة الجدار نفسه. قررت أن تؤسس مركزها التعليمي الخاص، حاملةً على عاتقها رؤيةً تربويةً متكاملة، لتجمع حولها نخبةً من الخبراء، وتُطلِق مشروعًا يكون امتدادًا لخبراتها وترجمةً حيةً لشغفها التربوي الذي لا يعرف حدودًا.

ها هي، تقف على قمة إنجازها الخاص، تطلُّ على آفاق مستقبلها الواسع. تخطط، تشرف، تُنظّم، وتحقق الغايات. إنها لحظةٌ يغمرها ضوء النجاح ويبدو فيها المستقبل مشرقًا كشمس منتصف النهار. ولكن، حتى على قمم الجبال، هناك همسات وهموم صغيرة لا تهدأ.

 

الفلسفة والمفارقة: حين يصبح الطموح بوابةً إلى الماضي

وهنا تكمن المفارقة الإنسانية العميقة. ففي خضم الحديث عن المخططات المستقبلية، أثناء مكالمة هاتفية مثلًا، نجد أن خيط الحديث عن الطموح ينزلق، لا إراديًا أحيانًا، إلى سراديب الذاكرة. نبدأ بالحديث عن تطلعاتنا المستجدة، فنجد أنفسنا فجأةً ننقب في ذاكرة عمرها ربع قرن، نستعيد مواقفَ، وندوبًا، وصراعاتٍ ربما ظنّناها طويت تحت غبار السنين.

هذا الانزياح الطفيف، هذا "التنقيب" اللاإرادي، هو بمثابة ظلّ يلاحق ضوء المستقبل. إنه يُعَطِّل، ولو للحظات، إضاءة بعض الزوايا في ذلك المشروع الواعد. وكأن العقل، في ذروة انطلاقته نحو الأمام، يربط خُطاه بسلاسل من زمنٍ مضى، سلاسل لا نراها لكننا نحسّ بثقلها.

لماذا نفعل ذلك؟ لأن المساحات الذهنية المخصصة لـ "بناء الغد" تظل حساسة وهشة. إن التركيز على المستقبل يتطلب طاقة هائلة، وأي شرود نحو الماضي، حتى لو كان طفيفًا، يشكل هدرًا لهذه الطاقة. إنه كمن يحاول تشييد صرح شامخ، بينما هو منشغل بإصلاح التشققات في أساسات قديمة. التشققات التي حفرها مسير السنين.

 

المنارة الوهمية: عندما نخلد ظلّنا خلفنا

إن الخطر الحقيقي لا يكمن في وجود الذكريات بحد ذاتها، فهي تشكّل نسيج رحلتنا، بل يكمن في أن نمنحها منصبًا لم تُخلق له: أن نُسلمها مفتاح البوصلة. فالمنارة الحقيقية تُشيّد من أجل الآخرين، لتُنبئ بالساحل وتقي من الغرق. أما ذلك البناء الوهمي، فإننا نَبنيها بأنفسنا، من ركام أحلام قديمة وندوب لم تندمل تمامًا. نرفعها في ساحة الذاكرة، لا لتضيء الطريق إلى الأمام، بل لتجعل من ماضينا نقطة جذبٍ دائمة.

وهنا يكمن التناقض الأليم: نحن بحاجة إلى نور نهدي به طريقنا، ولكننا، أحيانًا وببراعة لا واعية، نصمم نورًا يسرقنا من حاضرنا. أليست هذه الآلية الدفاعية، في جوهرها، محاولة يائسة لاستدعاء الأمان عبر التعلق بما نعرفه، حتى لو كان ألمًا مألوفًا؟ قد نتمسك بها لأن وهجها، وإن بدا خادعًا، يمنحنا شعورًا زائفًا بالاتصال والهوية، كمن يخشى أن يضيع إذا محا المعالم التي تعود عليها، حتى لو كانت معالم شقاء.

لكن السؤال الأهم: هل يمكن لهذه المنارة الوهمية أن تتحول إلى منارة حقيقية؟

الإمكانية قائمة، ولكن بشروط. ذلك يحدث فقط عندما نوقفها عن مهمة الإضاءة للهروب إلى الماضي، ونبدأ بمهمة جديدة: الإضاءة للفهم. حين ننظر من خلال ضوئها لا لنتألم من جديد، بل لنتعلم كيف تشكلت تضاريس روحنا، وكيف انعكست على خطواتنا.

وهذا التحول ليس حكرًا على الفرد وحده، بل هو بصمة مجتمعية أيضًا. فالمجتمعات التي تختار أن تجعل من ماضيها مُختَبَرًا للحكمة بدلًا من أن يكون ساحة للصراع، والتي تتبنى فلسفة الفهم لا فلسفة الحنين الأعمى، هي وحدها القادرة على تشييد منارات جماعية تهديها نحو مستقبل أكثرَ إشراقًا وتسامحًا.

عندها، تتحول المنارة من مجرد إشارة حنين أو ندم إلى بوصلة فهم ذاتي، تُعلمنا بالمياه الضحلة التي يجب تجنبها، لا أن تدفعنا للعودة إليها. وهنا، ربما يجدر بكلٍ منا أن يتوقف لحظةً ليسأل نفسه: أي منارةٍ أرفع في داخلي؟ وهل الضوء الذي تشعه ينير لي الطريق إلى الأمام، أم يعيدني القهقرى إلى شواطئ قديمة لم أعد أملك إلا ظلالها؟

وهكذا، يصبح الماضي عتبةً لا يُقف عندها، بل يُعبر من خلالها. الفرق الجوهري ليس بين نسيان الماضي أو تذكره، بل بين أن تكون ذاكرتك سجنًا يغلق عليك أبواب المستقبل، أو تكون مكتبةً تزودك بالحكمة للإبحار نحو آفاق لا تعرفها بعد. والخسارة الفادحة تكمن في البقاء واقفًا على عتبة البوابة، نُهدر طاقاتنا في ترميم آثار الأمس، بينما عوالم البناء والخلق تنتظر على الجانب الآخر.

 

تأسيس "إمبراطورية" الذات

هذه السيدة، بعظمتها ورؤيتها المتقدة، لا تَبني صرحًا معرفيًا فحسب، بل تُؤسس إمبراطوريةً للإنسان. إمبراطورية قوامها لا حجارةٌ أو حدود، بل قِيَمٌ راسخة، وتأثيرٌ وجدانيٌّ يلامس الأعماق، ومعرفةٌ تزرع بذور التغيير. إنها إمبراطورية لا تُقاس بمساحة الأرض، بل بمساحة العقول التي توقظها، والقلوب التي تلمسها، والأرواح التي تُلهمها. وربما يكمن سرّ متانة هذه الإمبراطورية في تلك الفلسفة الخفية التي تتبناها: فلسفة التعامل مع الذاكرة ليس كمقبرةٍ للندم، بل كمخزونٍ للحكمة.

ليس المطلوب محو الماضي، فهذا محال، بل المطلوب هو تحرير البوصلة الداخلية من سطوة الأمس. أن نتعلم كيف نحمل ذاكرتنا كحقيبة سفر خفيفة، نأخذ منها ما يفيدنا في الطريق، لا أن نحملها كصخرة ثقيلة نجرّها خلفنا. أن نجعل من الذاكرة أداةً للحكمة، لا سجنًا للطاقة. الفرق بين الماضي كمصدر إلهام والماضي كسجنٍ هو قرارٌ وحيد. قرارٌ بإطفاء ذلك الضوء المضلّل الذي لا يزال يشعُّ نحو الوراء، وإشعال شعلةٍ جديدة في أعلى قمة نصل إليها، لتكون دليلًا لا يضلّ طريقًا، يشعُّ نحو الأمام فقط.

فالمستقبل المشرق، في نهاية المطاف، هو حصيلة النظر إلى الأفق الواسع الذي لا تحدّه إلا امتدادات رؤيتنا، بينما تستريح دروس الماضي في مكانها الآمن، كخريطةٍ للمسار المُقبل، لا كقيدٍ على الخطوة التالية.

 

جهاد غريب

سبتمبر 2025

 

 

الثلاثاء، 23 سبتمبر 2025

حين يفكّر السؤال فينا

 

حين يفكّر السؤال فينا

 

من الدهشة إلى الانصهار: كيف تختارنا الأسئلة وتعيد تشكيل وعينا

 


كان المطر قد توقّف لتوّه. لم يبقَ سوى قطرات متفرقة ترتطم بزجاج النافذة، وصمتٌ كثيف يملأ الغرفة كما لو أن العالم حبس أنفاسه فجأة. في تلك اللحظة، تسلّل سؤالٌ إلى ذهني، بسيطٌ إلى حدٍّ مُريب: "لماذا يكون الصمت بعد العاصفة أكثر إثارة للرهبة من العاصفة نفسها؟"

لم يكن سؤالًا فكّرت فيه، بل كأنّه هو من فكّر فيّ. لم يأتِ من مسار منطقي، بل من تلك المسافة الدقيقة بين آخر رعدة للنافذة وأولى قطرة ماء تتراقص على الزجاج. ككائنٍ حيٍّ وُلد كاملًا من رحم السكون، جلس في داخلي دون استئذان، يحفر مكانه وينتظر.

ومن هنا، تتضح لنا الطبيعة الحقيقية للأسئلة: كثيرًا ما نظن أننا نحن من نصوغها، لكن الحقيقة أن الأسئلة أحيانًا هي التي تنسجنا في خيوطها، تقتحم وعينا في اللحظة التي يكون فيها وعينا مهيأ لاستقبالها، وتعيد ترتيب نظرتنا للعالم كما لو كانت مرآة خفيّة. لحظة السؤال ليست مجرد بداية للمعرفة، بل هي اهتزاز في أعماقنا، صدمة دهشة أولى، تنصهر بعدها المعاني وتتشكل من جديد. سنرافق السؤال في رحلته بين ولادته واختياره لنا، ونتأمل أثره العميق الذي يبقى في وعينا أكثر من أي إجابة؟

هكذا تحلّ الأسئلة في وعينا: كغرباء يطرقون الباب دون موعد. بعضها يتفتّت كغبار، وبعضها يتشعّب ذاتيًا، يُنبت استفهامات تشبهه أو تتناقض معه، حتى تمتلئ الغرفة بأصداء لا يُسمع فيها سوى صوته الأول. هناك سؤال نلقيه في العالم كحجر في بِركة، نراقب تموجاته، وهناك سؤال ينبثق من أعماقنا، كنبتةٍ غريبة تتغذى على قلقنا وتنمو معنا. والأسئلة الكبرى غالبًا لا نطرحها نحن، بل تختارنا هي، في اللحظة التي يكون فيها وعينا مهيأ لاستقبالها.

الدهشة إذن، ليست في الإجابة، بل في السؤال نفسه. الإجابات تمنحنا شعورًا بالطمأنينة، كمن يُلقي شبكة في بحر مجهول فيخرج منها سمكة ملموسة. لكن السؤال الجوهري هو المحيط بلا شواطئ، اللاحدود – الذي يذكّرنا بضآلة وجودنا وعظمته في آنٍ واحد. وكما قال أرسطو: "الدهشة هي بداية التفلسف". فالدهشة لحظة الاصطدام باللامعقول المستتر في المألوف، انكشاف ما كنا نظنه مفهومًا، وباب نحو معرفة أعمق للكينونة.

لكن ماذا يحدث حين ينصهر السؤال؟ أحيانًا ينصهر حين نجد له إجابة مُرضية، فيذوب في نسيج فهمنا للعالم، كالملح في الماء. وأحيانًا أكثر إثارة، ينصهر بلا إجابة: كمن يسأل عن سرّ الضوء في نهاية النفق، ليكتشف أنّه يسير في دائرة، وأن النور الذي رآه كان ينبعث من عينيه هو. في هذه اللحظة يتحوّل السؤال من حجر عثرة إلى جسر، يقودنا إلى سؤال أعمق أو يعيدنا إلى أنفسنا بصدق أكبر.

وهنا يظهر الفرق بين الانصهار والانطفاء: الانطفاء موت بالنسيان، إهمال بلا أثر. أما الانصهار فهو تحوّل خلاّق، كثلج يذوب ليصبح ماءً، ثم يتبخر ليغدو سحابة، ثم يعود مطرًا من جديد. السؤال الذي ينصهر لا يزول، بل يتخفى في وعينا كطبقة شفافة تضيف لونًا جديدًا إلى رؤيتنا للعالم.

في لحظات اليأس، نسأل عن معنى كل شيء، وفي لحظات النشوة، نسأل عن سرّ الجمال. أسئلتنا ليست منفصلة عنّا، بل هي صورنا الأخرى، تفصح عنّا أكثر مما نفعل نحن. ولعلّ السؤال الأهم: هل نحن من نختار أسئلتنا، أم أن الأسئلة تختارنا؟ أحيانًا أشعر أن السؤال الحقيقي يسكن الوعي القادر على احتماله، كما لو أن البذرة لا تنبت إلا في الأرض التي تناسبها.

وتبقى هناك أسئلة لا تنطفئ ولا تنصهر. أسئلة معلقة في فضاء الوجود، كنجوم ميتة ما زال نورها يصل إلينا: ما المعنى؟ لماذا الوجود؟ هل للوجود غاية؟ ليست هذه العجز عن المعرفة، بل وقودها. فحضارتنا كلها، من الأساطير إلى العلوم، ليست سوى محاولات متكررة لتهدئة رعدة هذه الأسئلة الأبدية. الإجابات تتغير، لكن السؤال يبقى شاهدًا على أننا كائنات تسأل قبل أن نكون كائنات تعرف.

قد يصبح كل سؤال نحنه، قطعة من ضوء يذوب في فضاء وعينا، حتى يختلط بالهواء نفسه الذي نتنفسه، وكأننا نكون والسؤال واحد. كما يعود المطر بعد دورته الطويلة في السماء، تعود الأسئلة لتسقي وجداننا، فتزهر فينا دهشة جديدة لم نعرفها من قبل. وربما لا نصل يومًا إلى نهاية الطريق، وربما السر كله أن نستمر في السير، نحمل الأسئلة معنا، كأجنحة خفية تدفعنا بعيدًا عن الشواطئ الآمنة نحو البحار اللامتناهية.

في النهاية، قد تكون الحياة معبرًا خفيًا، حيث تولد الدهشة فجأة، ويذوب السؤال ببطء في أعماقنا، تاركًا أثره الخفي في كل خلية من روحنا. وكل ما نسميه إجابات ليس سوى استراحات عابرة نلتقط فيها أنفاسنا قبل أن يفاجئنا السؤال التالي. وربما سرّ الوجود أن نظل دائمًا على هذا الطريق: محمولين بدهشة لا تنطفئ، ومشدودين إلى أسئلة لا تكفّ عن مطاردتنا، كأننا نحن أنفسنا الأسئلة التي نبحث عنها.

 

جهاد غريب

سبتمبر 2025

الاثنين، 22 سبتمبر 2025

مراكز الأبحاث: العقل الاستراتيجي الذي يُدير العالم

 

مراكز الأبحاث: العقل الاستراتيجي الذي يُدير العالم

 

كيف يُعيد صُنّاع الأفكار ومختبرات الفكر صياغة واقعنا من وراء الكواليس

ولماذا هي السلاح الأهم لبناء مستقبل لا يُرتجل

 


في زوايا المدن، خلف الأبواب التي لا تُفتح إلا للباحثين، وفي صمت المكاتب التي لا تُسمع فيها إلا همسات التفكير، تنبض مراكز الأبحاث والدراسات بالحياة. إنها العقول الجماعية التي تُفكر نيابة عن المجتمع، في عالم يزداد تعقيدًا كل يوم، وتتشابك فيه التحديات حتى لم تعد القرارات تُتخذ من فراغ، ولم تعد الحلول تُستخرج من رمية نرد. ليست مجرد مؤسسات أكاديمية أو كيانات تنظيمية، بل هي مصانع الأفكار، ومختبرات الرؤية، ومراصد التغيير التي تُعيد صياغة الواقع بلغة العلم والمعرفة.

هذه المراكز لا تكتب تقارير فقط، بل تكتب مستقبلًا. إنها تسبر أغوار الواقع عبر أدوات دقيقة، وعيون ترى ما لا يُرى، وعقول لا تكتفي بما هو كائن، بل تسعى لما يجب أن يكون. نحتاج إليها لأن الحياة لا تُدار بالحدس، ولا تُبنى على الانطباعات. في زمن تتسارع فيه المتغيرات، وتتصادم فيه التيارات، تصبح المعرفة أداة للبقاء، والفهم العميق ضرورة للتقدم. فهي من يمنح صانع القرار بوصلة الاتجاه، ويمنح المجتمع مرآة يرى فيها ذاته بوضوح. هي من تطرح الأسئلة التي لا يجرؤ أحد على طرحها، وتبحث عن إجابات لا تأتي من العناوين، بل من التفاصيل.

ولكن عمل هذه المراكز ليس حبيس الأوراق أو قاعات الندوات؛ بل يمتد ليلمس حياة الناس بشكل مباشر وملموس. فمن خلال فرق من الباحثين والخبراء، تقدم خدمات حيوية تُحسن جودة الحياة فعليًا. تتنوع هذه الخدمات لتشمل دراسات اجتماعية تساعد في فهم التحولات الثقافية وتُوجه السياسات نحو تعزيز التماسك المجتمعي، وأبحاث اقتصادية تساهم في رسم خطط التنمية وتحسين توزيع الموارد، وتشمل أيضًا التحليلات السلوكية التي تُستخدم في تطوير التعليم والصحة والإعلام، والاستشارات الاستراتيجية للقطاعين العام والخاص التي تضمن اتخاذ قرارات مبنية على بيانات دقيقة، لا على افتراضات عابرة. وكل خدمة من هذه الخدمات حالما تُنفذ بإتقان تُحدث فرقًا في حياة الفرد، وتسهم في بناء مجتمع أكثر وعيًا، وأكثر قدرة على مواجهة تحدياته.

وفي هذه الرحلة نحو التغيير، كثيرًا ما يُثار سؤال عن العلاقة بين الفكر والممارسة، بين الاختراع والرؤية. فالاختراعات تُدهشنا، لكن الأفكار هي التي تُغيرنا. في المجتمعات الحية، لا يكون المخترع وحده هو البطل، بل المفكر أيضًا. العلاقة بين صانع القرار والمفكر يجب أن تكون علاقة تكامل، لا تنافس. فالأول يملك السلطة، والثاني يملك الرؤية. وإذا اجتمعت السلطة بالرؤية، وامتزج القرار بالمعرفة، كانت النتيجة سياسات تنبض بالحكمة، ومشاريع تنمو على أرض الواقع لا في دفاتر التخطيط. كم من اختراع لم يُفهم، فمات قبل أن يولد؟ وكم من أفكارٍ لم تجد من يصغي إليها، فظلّت حبيسة الورق؟ هنا يأتي دور مراكز الأبحاث، لتمثل الجسر الواصل بين العقول والسلطة، بين الرؤية والتنفيذ، بين الحلم والواقع.

وفي النهاية، يبقى الفرد هو القلب النابض في صميم هذه المعادلة. كل دراسة، وكل بحث، وكل ورقة تُكتب، تهدف في جوهرها إلى تحسين حياة الإنسان. ليس الإنسان كرقم في الإحصاءات، بل ككائن حي يشعر ويتألم ويحلم ويطمح. حين تُبنى السياسات على دراسات، تُصبح أكثر عدالة. وحين تُصمم الخدمات بناءً على فهم حقيقي للاحتياجات، تُصبح أكثر فاعلية. الفرد هو الغاية، والمراكز هي الوسيلة. وبين الغاية والوسيلة، تُكتب قصة مجتمع يسير نحو النضج، لا بالصدفة، بل بالعلم والمعرفة.

وفي زمن الضجيج، تبقى مراكز الأبحاث هي الصوت الهادئ الذي يقول الحقيقة. وفي زمن السرعة، تبقى هي من يُبطئ الخطى قليلًا، ليفكر، ليتأمل، ثم يُقرر. إنها ليست رفاهية، بل ضرورة وجودية. وليست ترفًا فكريًا، بل أساسًا لحضارة إنسانية حقيقية.

لكن هذا الدور المحوري لا يخلو من تحديات جسام؛ فاستقلالية البحث العلمي وضمان تمويله دون شروط مُقيّدة، والسعي الدائم نحو الجودة والموضوعية، هي معارك دائمة تخوضها هذه المراكز لتظلّ مصدرًا للثقة، وحارسًا للحقيقة.

لذلك، من أراد أن يبني وطنًا لا يهتز أمام رياح التغيير، عليه أن يبدأ من لبنة الفكرة، مرورًا بصرح التصور العلمي السليم، وصولًا إلى بناء الرؤية الواضحة. ومن أراد أن يصنع مستقبلًا لا يُرتجل على عُجالة، عليه أن يستثمر في العقل. فوراء كل مدينة ناجحة، وكل سياسة حكيمة، وكل قرار تاريخي، هناك عقلٌ فكر، وبحثٌ أنار الطريق. مراكز الأبحاث هي البوتقة التي تنصهر فيها الأفكار، فتغدو رؤى قابلة للتنفيذ... والأزمات حلولًا، والبدايات آفاقًا أوسع.


جهاد غريب

سبتمبر 2025

السبت، 20 سبتمبر 2025

عالم تتقاطع فيه الأرواح!

 

عالم تتقاطع فيه الأرواح!

 

حين نصغي إلى هشاشة البيوت التي نسكنها في أرواحنا


 

في صمت الغرفة، حيث لا يقطعه سوى حفيف الذكريات ونبض النفس العميق، تبدأ هندسة التعايش مع الذات. صمت لا يُسمع بل يُحس، لا يُفرغنا بل يزرعنا من جديد. هناك، في ذلك الحيز الهشّ من الكينونة، نعيد بناء عالمنا من رماده الداخلي؛ كأن كل انكسار قديم يتحول إلى لبنة جديدة، وكل جرح قديم يصير نافذة نطل منها على ضوء مختلف.

التعايش ليس هدنةً بين اختلافين، بل فنّ خفيّ لا يُعلَّم في قاعات الجامعات، بل يُكتسب من تعرجات الذاكرة ومن كسور القلب. إنه بناء داخلي رقيق، يشبه بيتًا بلا سقف يحمي ولا جدران تعزل، لكنه رغم ضعفه الظاهر يمنحنا شعورًا بوجود مأوى. وفي هذا الهشاشة يكمن سرّه: فهو لا يُشيَّد بالصلابة، بل بالمساحات الفارغة التي تتيح للأرواح أن تتنفس.

السلام الداخلي لا يُفرض، بل يُستدرج. إنه مثل طائرٍ خائف، لا يقترب إلا حين نكفّ عن مطاردته. وحين يحطّ، لا يُغني ولا يصرخ، بل يصمت، ويتركنا نصغي إلى ما لم نكن نصغي إليه من قبل. تلك اللحظات النادرة من الصدق مع الذات، هي ما يدعم جدران البيت المعلّق على الفراغ، ويمنحه قوة تفوق متانة الحجر.

ثم تأتي الأمنيات المتأخرة. ليست ضالة الطريق، بل انتظرت أن نتغيّر نحن. أمنيات لا تطرق الأبواب بلهفة الطفولة، بل تهمس من خلف الجدران بصوت نضج، كأنها تخشى أن تُربك السلام الذي بالكاد بدأ يتكوّن. وحين تطرق أبواب القلب، لا تفعل ذلك بعجلة، بل كمن يعرف ثمن الرغبة، فيأتي متأنيًا، مطمئنًا إلى أن الزمن قد أعطى القلب ما يكفي من الخبرة ليستقبلها بوعي جديد.

الصمت، هذا الغريب الذي يزورنا بلا موعد، لا يأتي فارغًا. إنه يزرع فينا بذورًا لا نراها، لكنها تغيّر تضاريسنا الداخلية. نسمع خشخشة الأفكار وهي تتسلل، ونشعر بثقل الأمنيات وهي تتمدد في صدورنا كأغصانٍ تبحث عن الضوء. هناك نفهم أن بعض الثمار لا تُقطف في الخارج، بل تنضج في الداخل، فتتحول إلى حب أوسع، وعطاء أعمق، وقدرة أكبر على التعايش مع عالم يزداد صخبًا كل يوم.

في النهاية، ندرك أن التعايش ليس محطة نصلها ولا بيتًا نؤسسه، بل حالة عابرة نتعلّم أن نسكنها. وأن الأمنيات ليست وعدًا بالتحقق، بل مرآة تعكس قدرتنا على الصبر، وأن الصمت ليس غيابًا للصوت، بل حضورًا آخر للحقيقة. عند هذه العتبة، نتوقف طويلًا، فنفهم أن الحياة لا تمنحنا دائمًا ما نريد، لكنها تمنحنا ما يجعلنا قادرين على أن نكون.


جهاد غريب

سبتمبر 2025

 

 

 

الجذور التي ترويها الدموع!

  الجذور التي ترويها الدموع!   "رحلة معلّمة من الألم إلى الحكمة"   تأتي بعض الدروس من الكتب، وتأتي أخرى من التجارب. لكن أع...