الثلاثاء، 23 سبتمبر 2025

حين يفكّر السؤال فينا

 

حين يفكّر السؤال فينا

 

من الدهشة إلى الانصهار: كيف تختارنا الأسئلة وتعيد تشكيل وعينا

 


كان المطر قد توقّف لتوّه. لم يبقَ سوى قطرات متفرقة ترتطم بزجاج النافذة، وصمتٌ كثيف يملأ الغرفة كما لو أن العالم حبس أنفاسه فجأة. في تلك اللحظة، تسلّل سؤالٌ إلى ذهني، بسيطٌ إلى حدٍّ مُريب: "لماذا يكون الصمت بعد العاصفة أكثر إثارة للرهبة من العاصفة نفسها؟"

لم يكن سؤالًا فكّرت فيه، بل كأنّه هو من فكّر فيّ. لم يأتِ من مسار منطقي، بل من تلك المسافة الدقيقة بين آخر رعدة للنافذة وأولى قطرة ماء تتراقص على الزجاج. ككائنٍ حيٍّ وُلد كاملًا من رحم السكون، جلس في داخلي دون استئذان، يحفر مكانه وينتظر.

ومن هنا، تتضح لنا الطبيعة الحقيقية للأسئلة: كثيرًا ما نظن أننا نحن من نصوغها، لكن الحقيقة أن الأسئلة أحيانًا هي التي تنسجنا في خيوطها، تقتحم وعينا في اللحظة التي يكون فيها وعينا مهيأ لاستقبالها، وتعيد ترتيب نظرتنا للعالم كما لو كانت مرآة خفيّة. لحظة السؤال ليست مجرد بداية للمعرفة، بل هي اهتزاز في أعماقنا، صدمة دهشة أولى، تنصهر بعدها المعاني وتتشكل من جديد. سنرافق السؤال في رحلته بين ولادته واختياره لنا، ونتأمل أثره العميق الذي يبقى في وعينا أكثر من أي إجابة؟

هكذا تحلّ الأسئلة في وعينا: كغرباء يطرقون الباب دون موعد. بعضها يتفتّت كغبار، وبعضها يتشعّب ذاتيًا، يُنبت استفهامات تشبهه أو تتناقض معه، حتى تمتلئ الغرفة بأصداء لا يُسمع فيها سوى صوته الأول. هناك سؤال نلقيه في العالم كحجر في بِركة، نراقب تموجاته، وهناك سؤال ينبثق من أعماقنا، كنبتةٍ غريبة تتغذى على قلقنا وتنمو معنا. والأسئلة الكبرى غالبًا لا نطرحها نحن، بل تختارنا هي، في اللحظة التي يكون فيها وعينا مهيأ لاستقبالها.

الدهشة إذن، ليست في الإجابة، بل في السؤال نفسه. الإجابات تمنحنا شعورًا بالطمأنينة، كمن يُلقي شبكة في بحر مجهول فيخرج منها سمكة ملموسة. لكن السؤال الجوهري هو المحيط بلا شواطئ، اللاحدود – الذي يذكّرنا بضآلة وجودنا وعظمته في آنٍ واحد. وكما قال أرسطو: "الدهشة هي بداية التفلسف". فالدهشة لحظة الاصطدام باللامعقول المستتر في المألوف، انكشاف ما كنا نظنه مفهومًا، وباب نحو معرفة أعمق للكينونة.

لكن ماذا يحدث حين ينصهر السؤال؟ أحيانًا ينصهر حين نجد له إجابة مُرضية، فيذوب في نسيج فهمنا للعالم، كالملح في الماء. وأحيانًا أكثر إثارة، ينصهر بلا إجابة: كمن يسأل عن سرّ الضوء في نهاية النفق، ليكتشف أنّه يسير في دائرة، وأن النور الذي رآه كان ينبعث من عينيه هو. في هذه اللحظة يتحوّل السؤال من حجر عثرة إلى جسر، يقودنا إلى سؤال أعمق أو يعيدنا إلى أنفسنا بصدق أكبر.

وهنا يظهر الفرق بين الانصهار والانطفاء: الانطفاء موت بالنسيان، إهمال بلا أثر. أما الانصهار فهو تحوّل خلاّق، كثلج يذوب ليصبح ماءً، ثم يتبخر ليغدو سحابة، ثم يعود مطرًا من جديد. السؤال الذي ينصهر لا يزول، بل يتخفى في وعينا كطبقة شفافة تضيف لونًا جديدًا إلى رؤيتنا للعالم.

في لحظات اليأس، نسأل عن معنى كل شيء، وفي لحظات النشوة، نسأل عن سرّ الجمال. أسئلتنا ليست منفصلة عنّا، بل هي صورنا الأخرى، تفصح عنّا أكثر مما نفعل نحن. ولعلّ السؤال الأهم: هل نحن من نختار أسئلتنا، أم أن الأسئلة تختارنا؟ أحيانًا أشعر أن السؤال الحقيقي يسكن الوعي القادر على احتماله، كما لو أن البذرة لا تنبت إلا في الأرض التي تناسبها.

وتبقى هناك أسئلة لا تنطفئ ولا تنصهر. أسئلة معلقة في فضاء الوجود، كنجوم ميتة ما زال نورها يصل إلينا: ما المعنى؟ لماذا الوجود؟ هل للوجود غاية؟ ليست هذه العجز عن المعرفة، بل وقودها. فحضارتنا كلها، من الأساطير إلى العلوم، ليست سوى محاولات متكررة لتهدئة رعدة هذه الأسئلة الأبدية. الإجابات تتغير، لكن السؤال يبقى شاهدًا على أننا كائنات تسأل قبل أن نكون كائنات تعرف.

قد يصبح كل سؤال نحنه، قطعة من ضوء يذوب في فضاء وعينا، حتى يختلط بالهواء نفسه الذي نتنفسه، وكأننا نكون والسؤال واحد. كما يعود المطر بعد دورته الطويلة في السماء، تعود الأسئلة لتسقي وجداننا، فتزهر فينا دهشة جديدة لم نعرفها من قبل. وربما لا نصل يومًا إلى نهاية الطريق، وربما السر كله أن نستمر في السير، نحمل الأسئلة معنا، كأجنحة خفية تدفعنا بعيدًا عن الشواطئ الآمنة نحو البحار اللامتناهية.

في النهاية، قد تكون الحياة معبرًا خفيًا، حيث تولد الدهشة فجأة، ويذوب السؤال ببطء في أعماقنا، تاركًا أثره الخفي في كل خلية من روحنا. وكل ما نسميه إجابات ليس سوى استراحات عابرة نلتقط فيها أنفاسنا قبل أن يفاجئنا السؤال التالي. وربما سرّ الوجود أن نظل دائمًا على هذا الطريق: محمولين بدهشة لا تنطفئ، ومشدودين إلى أسئلة لا تكفّ عن مطاردتنا، كأننا نحن أنفسنا الأسئلة التي نبحث عنها.

 

جهاد غريب

سبتمبر 2025

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حين يفكّر السؤال فينا

  حين يفكّر السؤال فينا   من الدهشة إلى الانصهار: كيف تختارنا الأسئلة وتعيد تشكيل وعينا   كان المطر قد توقّف لتوّه. لم يبقَ سوى قطرا...