حين تصبح المعرفة مقاومة
"السوسيولوجيا
والبحث عن المعنى في التشظي العربي"
لا يزال صمت الأطلال يحمل همس الأسئلة التي لم تُجب، همساً يختلط فيه صوت الماضي بقلق الحاضر. في فضاء عربي يعاني من تشظٍّ وجودي، حيث لم يعد الزمن خطاً مستقيماً يمضي من ماضٍ مُشرّف إلى مستقبل مُنتَظَر، بل تحوّل إلى دوامات من الذكريات المجروحة والآتي المجهول. هنا، حيث تتداخل الهُويّات كظلال على جدار كهف حديث، تبرز الحاجة إلى فعل المعرفة ليس كترف فكري، بل كضرورة للبقاء. إنها رحلة التأمل في ذاكرة المجتمع وجسدِه الممتد من روابط الماضي العضوية إلى روابط الشبكة الافتراضية، بحثاً عن معنى للإنسان العربي في عالم لم يعد يحتمل اليقينيات القديمة.
ومن هذا المدخل التأملي، تنبثق السوسيولوجيا ليس كمادة جامدة، بل كشاهد على العصر. فقد نشأت في العالم العربي معبّرة عن لحظة تأسيسية ملتبسة، حاملةً معها رهاناتها المعرفية والسياسية منذ البداية؛ فكانت تارة أداةً لفهم المجتمع وتحديثه، وتارة أخرى سلاحاً في معارك التحرر الوطني وبناء الدولة الحديثة. لكنها، كأي معرفة وافدة، حملت في طياتها إشكالية التبني والتطبيق، محاولةً قياس واقع متشابك بأدوات وُلدت في سياقات مغايرة، فشكّلت منذ ولادتها مشروعاً نقدياً يسائل السلطة ويحفر في البنى الخفية، مما جعلها دوماً على حافة الهامش والمركز، بين رغبة النظام في ضبط المجتمع وحاجة المثقف إلى تحريره.
ولم تكن تلك الرهانات سوى انعكاس لتحولات كبرى هزّت البنى التحتية للوجود الاجتماعي نفسه. لقد تراجعت مركزية الدولة الكلية، التي كانت يوماً المظلة الجامعة والمرجعية الأخيرة، لتحلّ محلها تشظيات الفرد الذي ألقى بنفسه في أحضان هويات فرعية تمنحه شعوراً بالانتماء قد تعجز عنه الدولة المُثقلة بالتحديات.
وفي هذه الرحلة من الانزياح، انتقلنا من واقع مادي ملموس، تحكمه جغرافيا الثوابت، إلى فضاء رقمي سائل أعاد تشكيل كل شيء: العلاقات، السلطة، بل والهوية ذاتها. فظهر "الوجود الشبكي" حيث لم يعد الفرد كائناً في مكان واحد، بل أصبح ظلاً متعدداً يعيش حيوات متوازية؛ حياة في الشارع وأخرى على الشاشة، مما طرح إشكالية جذرية حول مفهوم "الحقيقة" الاجتماعية ذاتها. وأصبحت "الحركات الرقمية" تعبيراً عن سياسات جديدة، لم تعد تنطلق من الساحات فحسب، بل من مجموعات التواصل، محققةً نوعاً من الزخم العاطفي السريع الذي قد يفتقر إلى الجذور التنظيمية المتجذرة في الواقع.
وهذا الانزياح من المادي إلى الافتراضي، ومن الكلي إلى الجزئي، كشف عن أزمة مفاهيمية ومنهجية عميقة. فكيف ندرس ظاهرة "القبيلة الجديدة" التي تتشكل حول المؤثرين على منصات التواصل، والذين يجمعون ملايين المتابعين في جماعات افتراضية تُشبه في ولائها وتماسكها البنى الاجتماعية الكلاسيكية، بلغة نظرية وُضعت لتحليل مجتمعات ما قبل الرقمنة؟ وكيف نفسر صعود "العائلة الرقمية" التي تجمع أفراداً لم يلتقوا وجهًا لوجه، كما في مجموعات الدعم النفسي والاجتماعي على تطبيقات مثل "واتساب" أو "تيليجرام"، بلغة سوسيولوجيا العائلة التقليدية؟
هنا تتبدى أزمة الاستعارة المعرفية، حيث نكتفي باستيراد مناهج ونماذج جاهزة كأدوات "جاهزة للاستخدام" لفهم واقع شديد التعقيد، مما يؤدي إلى عزلة وهمية داخل الأبراج الأكاديمية. لقد فشلت نماذج التحديث الخطية في تفسير تعثر التنمية، لأنها لم تأخذ في الاعتبار البنى النفسية والثقافية التي ترفض أن تُساق في مسار واحد. وهذا يدفعنا إلى الحاجة الملحة لأدوات مفهومية محلية، تولد من رحم الواقع العربي نفسه، قادرة على فهم ظواهر مثل التشكيلات الشبكية الجديدة في عالم الأعمال أو السياسة، أو "اقتصاد الظل" الذي يعيد إنتاج الفقر ليس كمشكلة تقنية بل كبنية اجتماعية متجذرة.
وفي خضم هذا التشظي البنيوي والمنهجي، شهدنا تحولاً موازياً في العالم الرمزي والثقافي؛ تحولاً يمكن تسميته "بما بعد الأيديولوجيا". لقد تراجعت الخطابات الكبرى – القومية والاشتراكية – التي كانت تمنح إطاراً شاملاً لمعنى الحياة والوجود، تاركةً الفراغ لصعود هويات فرعية متعددة، من الطائفية إلى الإثنية إلى الهويات الجندرية، كل منها يبحث عن اعتراف في فضاء عام منقسم.
حتى التدين شهد تحولاً جذرياً من طابعه المؤسسي الجماعي إلى "تدين شعبي فردي"؛ نمط يتبنى فيه الشخص معتقداته وممارساته بعيداً عن سلطة المؤسسة الدينية الرسمية، بطريقة انتقائية تتجلى في فضاءات رقمية، مما يخلق شكلاً هجيناً من الإيمان يلبّي حاجات نفسية في زمن اللايقين. وتطرح العولمة الثقافية قيماً جديدة تتصادم أحياناً مع الموروث، مما يخلق حالة من "الازدواجية القيمية" حيث يعيش الفرد في عالمين أخلاقيين مختلفين، تاركاً إياه في حالة من القلق الوجودي الذي يتطلب من السوسيولوجيا أن تكون أداة لفكك هذه الرموز الجديدة وتفكّك تشابكاتها.
إذن، أمام هذا المشهد المعقّد من الانزياحات، أليست السوسيولوجيا مدعوة لأن تكون أكثر من مجرد أداة تحليل؟ إنها، في جوهرها، "فعل مقاومة معرفية". مقاومة ضد تبسيط التعقيد البشري إلى أرقام وإحصائيات، ضد استلاب العقول بنماذج جاهزة لا تمتّ لوجداننا بصلة، وضد التكرار الممل للمقولات الفكرية التي فقدت قدرتها التفسيرية. إن مقاومتها تكمن في قدرتها على إعادة ربط ما انفصل، على تسليط الضوء على الهوامش والصوت الخافت، وعلى طرح الأسئلة المحرجة التي ترفض السلطات – سياسية كانت أم دينية أم ثقافية – الإجابة عنها. إنها يقظة دائمة ضد النوم في أحضان اليقين.
وهكذا، نعود إلى صمت الأطلال، لكنه صمت لم يعد فارغاً، بل ممتلئاً
بترددات أسئلة جديدة. هل نستطيع، كعرب، أن نعيد تركيب هوية من هذا التشظي دون أن
نقع في براثن النزعات الانغلاقية؟ هل يمكن لفعل المعرفة هذا أن يكون جسراً بين
واقعين، ماضي لم ينقضِ وحاضر لم يستقر بعد؟ قد لا تحمل الخاتمة إجابة قاطعة، لأن
طبيعة الرحلة لا تقبل إلا بتساؤلات توقظ النائمين. فربما تكون مهمة السوسيولوجيا
الأكثر جوهرية ليست في تقديم الأجوبة، بل في إدامة السؤال نفسه، كشمعة تحترق في
دهاليز الزمن العربي المأزوم، لا لتنير الطريق كله، بل لتمنع الظلام من أن يكون
كاملاً.
جهاد غريب
سبتمبر 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق