رسالة إلى ظلّي على ضوء القمر
"في استدعاء ما تُخفيه الأنوار"
لكل منا أطيافًا تمتدُّ خلف خطواته، وتظهر أوضح حين تنعكس في ضوء القمر. هذه الأطياف ليست أشباحًا فرديّة بقدر ما هي خريطةٌ للتجارب والدوافع والذكريات. إنها محاولة لقراءة هذه الخريطة بصوتٍ واضح ومتعاطف، بحثًا عن طرق للمصالحة مع ما تبقّى.
في سكون الليل الحميم، حيث تتثاقل الكلمات وتصبح الأنفاس وحدها قادرة على قراءة ما لا يُقال، تنفتح أمام المرآة الباهتة مساحاتٌ من الذاكرة والصمت. القمر يرسم على صفحة الماء خيوطًا من فضة لا تكمل الصورة، فتظل شظايا من الضوء تشير إلى داخلٍ لا يُعرف له عنوان ثابت. في هذا الفضاء تُولَد رسائلٌ لا تدعو إلى العودة فحسب، بل تهدي من تبقّى من الحضور بعضًا من الطمأنينة.
الكتابة هنا ليست خطة محكمة بقدر ما هي قارورة أُلقيت في صدر الزمان، محشوةٌ بآثار خساراتٍ قديمة وأملٍ بضوءٍ لم يُكتشف بعد. تُسجَّل الخسارات، وتُستعاد ألحانٌ انكسرت. الكلمات تصبح رمادًا يدفئ بعد احتراق، والسطور تنهيداتٌ تخرج من صدورٍ اعتادت على الصمت كرفيق. إنها مرافعةٌ صامتة ضدّ انكسار الروح، ومحاولة لتحويل الوجع إلى مادةٍ قابلة للنحت.
من مياه "مرآة الليل" تُجمع شظايا كثيرة؛ لتشكيل مرآة تكشف الذات أولًا، ثم الظل، ثم المتلقي المحتمل. تُجمع هذه الشظايا كما يجمع من يصغي لبقايا عطرٍ مكسور، بحثًا عن نفحاتٍ لزهرةٍ كانت هنا يومًا — محاولة لفهم سبب التمسك بما فقدناه. وربما، في هذا الجمع، نكتشف أن الظلَّ ليس عدونا، بل هو الشاهد الوحيد على كل خطوة مشيناها، حتى تلك التي حاولنا محوها من سجلّ الوجود. إنه يحمل بصمتِه أسرارَنا التي لم نجرؤ على البوح بها للشمس.
لا تُعدُّ هذه الكلمات شهادةً على ماضٍ فحسب، بل هي يد تمتد من بين السطور تحمل ضوءًا نقياً، نور القمر بعد نهاية حربٍ طويلة، وتعلن حضورها بصمتٍ حاسم. إنها دعوة للمشي معًا عبر ما تبقّى من الرماد وتحويل الفقد إلى بدايةٍ جديدة. هدفها ليس توجيه اللوم، بل فتح نافذة صغيرة تطلُّ على احتمالات العودة، وعلى فرصٍ لحفظ جمالٍ باقٍ وإحياء ما بدا ميّتا. إنها وقفةٌ أمام ذلك التناقض الجميل: كيف يمكن لضوء القمر، وهو في جوهره انعكاسٌ باردٌ لضوء الشمس، أن يمنحنا الدفء والرؤية في أحلك اللحظات؟ ربما لأن في انعكاسيتِه إقرارًا بأن وجودنا، أيضًا، مبنيّ على انعكاسات ذاتنا عن أسطح الحياة المختلفة.
المضي بهذا الطريق يتطلب جرأة على احتضان الكسر، وقراءة الشظايا كقطع فسيفساء تصوغ هوية الروح. في الاحتراق بذورُ ولادةٍ جديدة، وفي التشظّي بذورُ جمالٍ لم يولد بعد. القوة الحقيقية ليست في اكتمال الذات، بل في قدرة الإنسان على جمع ما تفرّق وصياغة معدنٍ أصفى من نار التجربة. هذه رحلة لإعادة البقايا إلى الحاضر: كمن يرمم سفينةٍ غارقة قطعةً قطعة، مؤمنًا بأن الماء لا يمنع ولادة شراعٍ جديد. إنها مسيرة نتعلم فيها أن نكون أصدقاء لظلالنا، لا هاربين منها. نتعلم أن نسألها: ماذا تريدين أن تخبريني؟ أي جرحٍ فيّ لم يندمل بعد، فأصبحتِ أنتِ تتكلمين نيابةً عنه؟
هنا قد تُحْصَل سكينةٌ تختلف عن سكينة النسيان؛ هي سكينة المصالحة مع ما كان — قبلةٌ بين الماضي والحاضر تُخفف عن القلب أعباء التراكمات. من دواخل الذات إلى آفاق العالم، هذه رحلة مشتركة تُكتب بالقلب قبل القلم، علّها تصل إلى من تاه في التفاصيل فيعود إلى ذاته كاملة، متصالحة، ينبعث جمالها من عدم الاكتمال. فالجمال الحقيقيّ ليس في النقاء المُطلق، بل في النقوش التي يتركها الزمن والمشي على صفحة الروح، كما ينقش القمرُ ظلَّ الشجرة على الأرض في ليلةٍ هادئة.
لتكن هذه الكلمات مجرد ضوء قمرٍ يسقط
على طريقك، فلا تُضيئه كلّه، بل تلمح بما فيه الكفاية لمواصلة السير. قد تجد فيها
مرآةً لظلّك، فتقف معه لحظة. ربما يكون أعظم المصالحة هو أن تمنح نفسك الإذن بأن
تترك للظلّ مساحته. ففي النهاية، الظلُّ دليلٌ على أن ثمة نورًا يسقط علينا، حتى
ولو كان منبعثًا من قمرٍ بعيد. وهو، كالقمر نفسه، قد يكون هلالًا تارةً وبدرًا
تارةً أخرى، لكنّه دائمًا جزء من سماء وجودنا.
جهاد غريب
سبتمبر 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق