الاثنين، 29 سبتمبر 2025

جمال ما لم يُقَل: كيف يتسرب المعنى عبر فجوات اللغة؟

 

جمال ما لم يُقَل: كيف يتسرب المعنى عبر فجوات اللغة؟

"حين يكون الصمت أكثر بلاغة من الكلام"

 



ثمّة لحظات في الحياة نقف فيها عاجزين، تتكدّس المشاعر في الحلق، وتتجمّع الذكريات في الصدر، بينما تبقى الكلمات عاجزةً عن النهوض من قاع الروح. في هذه اللحظات بالذات، ندرك أن اللغة ليست وعاءً أمينًا للمعنى، بل هي كائن حيّ، ينضح بما يفوق الاحتمال، ويتسرّب من بين ثناياه ما يعجز عن التصريح به. إنها تشبه ذلك الضوء الذي يتسلّل من خلال فجوة في ستائر غرفة مظلمة، فيرسم على الجدران أشكالًا لم نكن لنراها لو انفتحت الستائر على مصراعيها. الضوء لا يخترق الحاجز، بل يتفاعل معه، فيخلق من الفجوات نفسها مصدرًا للجمال والعمق. وهكذا اللغة؛ لا تتوقف عند حدود ما تقوله، بل تبدأ حكايتها الحقيقية من حيث تعجز كلماتها.

إن محاولة وصف لوعة فراق، أو بهجة لقاء، أو حتى طعم فاكهة لم يذقها الآخر، أشبه بمحاولة رسم العطر بألوان مائية. الكلمات هنا تقف خجلة عند حافة التجربة، تلمح ولا تمسك، تروي ولا تنقل. هذا العجز ليس فشلًا في اللغة، بل هو شهادة على سعة العالم الإنساني الذي يتجاوز أي وعاء لغوي. حتى الفلاسفة الذين أمضوا حياتهم في أحضان الكلمات، يعترفون بهذه الهوّة. فيتجنشتاين يخبرنا أن "حدود لغتي تعني حدود عالمي"، لكن ماذا عن ذلك العالم الشاسع الذي يقع خارج هذه الحدود؟ العالم الذي نعيشه في صمت قلوبنا، وفي احتدام أحزاننا، وفي تلك اللمحات من البصيرة التي تخطفنا من أنفسنا؟ هنا، بالضبط، حيث تتوقف المفردات، تبدأ فجوات المعنى في التشكل.

هذه الفجوات ليست فراغًا، بل هي مساحات حيّة تنبض بالاحتمالات. منها الوجودي، الذي تتكسر عليه أقوى الحجج وأعمق الأفكار، كسؤال الموت والخلود والغاية. فكل خطاب فلسفي عن الموت يتحول إلى مجرد حديث حوله، بينما تبقى التجربة ذاتها محتجزة في صمت الكائن. ومنها العاطفي، الذي يجعلنا نقول "أشتاق إليك" بينما يحمل القلب ما يعادل بحرًا من الذكريات واللوعة لا تجد لها مخرجًا في هذه العبارة البسيطة. وحتى على مستوى الثقافات، نجد أن بعض الكلمات ترفض الرحيل من لغتها الأم؛ فكيف نترجم "الحنين" إلى لغة لا تعرف ذلك المزج بين الشوق والألم والذاكرة؟ وكيف ننقل "الوقار" إلى ثقافة لا تملك في تراثها ذلك الخليط من الهيبة والاحترام والرهبة؟

لكن اللغة لا تستسلم بسهولة. إذا عجزت عن قول المعنى مباشرة، فإنها تفتح له منافذ سرّية يتسلل منها. إنه التسرب الذي يشبه السحر. ألا ترى أن أعمق ما في القصيدة ليس في كلماتها، بل في الصمت المحشور بين سطورها؟ إنه البياض الذي يتركه الشاعر بين كلمة وأخرى، ليمنحنا نحن، القرّاء، مساحة لنملأه بدموعنا أو بابتساماتنا. وكذلك لغة الجسد؛ تلك النظرة التي تقول كل شيء دون حرف واحد، وتلك اليد المرتعشة التي تنطق بالخوف أكثر من خطب مطوّلة عن الرهبة. حتى في الحياة اليومية، عندما نسكت في لحظة فرح أو ألم، فإننا نستخدم لغة أخرى موازية، لغة التسرب، التي تنقل ما تعجز عنه لغة التصريح.

بل إنني لأزعم أن هذه الفجوات نفسها هي التي أنقذت اللغة من الجمود والموت. فلو كانت اللغة مكتملة مغلقة، قادرة على احتواء كل تجربة إنسانية، لتحولت إلى سجن للمعنى بدلًا من أن تكون حديقة له. إن عجزها النسبي هو ما يدفع البشر، على مر العصور، إلى الإبداع. هذا العجز هو الذي دفع الشعراء إلى ابتكار الاستعارات الجديدة، والفنانين إلى اختراع لغات التشكيل والموسيقى، والعشاق إلى ابتكار نظرات تقال مرة واحدة ولا تُنسى. إنه الدافع الخفي وراء كل محاولة للتعبير عن الخفي، والمسكوت عنه، والمستحيل قوله. إن جمال اللغة لا يكمن في قدرتها على التعبير الكامل، بل في قدرتها على التلميح الناقص، الذي يحفز خيال المتلقي ليصبح شريكًا في خلق المعنى.

لذلك، عندما نكتب أو نتحدث، لا ينبغي لنا أن نحاول سد هذه الفجوات، بل أن نتعلم الرقص على حافتها. أن نثق بأن القارئ أو المستمع يحمل في داخله ما يكمل به ما تركناه غير مكتمل. إنه أشبه بمن يرمي حجرًا في بركة ساكنة، ثم يترك الأمواج لتصل إلى الشاطئ بطريقتها الخاصة. الثقة بالمتلقي هي التي تحول الخطاب من إملاء إلى حوار، ومن نقل إلى مشاركة.

وفي النهاية، ربما كان أعظم دروس اللغة هو تعليمنا التواضع. التواضع أمام سعة التجربة الإنسانية، وأمام غموض الوجود، وأمام قدرة القلب على احتواء ما تعجز الكلمات عن حمله. ففي كل مرة نحاول فيها التعبير، نكتشف أن هناك شيئًا يبقى خارج الإمساك، شيئًا يتسرّب مثل الضوء من بين أصابعنا. وهذا بالضبط هو الجمال الحقيقي؛ الجمال الذي لا يكمن في الوضوح الكامل، بل في الظل والنور، في الملموس وغير الملموس، في المسموح به والمتسرّب. إن أجمل ما في لغتنا ليس ما تنطق به، بل ذلك الهمس الخافت الذي يصلنا من خلال صمتها، ذلك الضوء المتسرّب الذي يضيء جوانب من أنفسنا لم نكن نعرف أنها موجودة. ففي هذه الفجوات، نلتقي ليس فقط بمعنى الكلمات، بل بمعنى وجودنا نفسه.

 

جهاد غريب

سبتمبر 2025

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

على حافة الانهيار.. تُولد رقصة الكرامة!

  على حافة الانهيار.. تُولد رقصة الكرامة!   "تأملات في فن البقاء: حين يكون الوعي مَلْجَأً، والثقة صدقًا، والحرية مسؤولية"   ...