الثلاثاء، 30 سبتمبر 2025

على حافة الانهيار.. تُولد رقصة الكرامة!

 

على حافة الانهيار.. تُولد رقصة الكرامة!

 

"تأملات في فن البقاء: حين يكون الوعي مَلْجَأً، والثقة صدقًا، والحرية مسؤولية"

 

 


في تلك اللحظة التي يتكاثف فيها الظلّ، وتنطوي المسافة بين نداء القلبِ وحِجاج العقل، حتى يصير الوجودُ ممرًا ضيقًا بين قلبٍ ينزفُ وعقلٍ يتعثّر بأسئلةٍ لا آخر لها... هناك، لا يعود القرارُ اختبارًا للمنطق، بل محكّةً للروح. نعرفُ الصوابَ لكنه يثقل كحجرٍ رحى، لا نجد له كتفًا تحمله. هناك، على حافة الانهيار، حيث تُغرينا المسالكُ السهلةُ بمخدّر النسيان، تنبتُ قراراتُنا كزهرةٍ صَبُور في صدعٍ صخري؛ لا لتموت، بل لتشهدَ أن النورَ لا يحتاج إلى سماءٍ رحبة، بل إلى بذرةٍ ترفضُ الظلام.

الوعي هنا ليس حارسًا قاسيًا، بل هو المنارة في داخلك. إنه لا يمنع العاصفة، لكنه يمنعك من الاصطدام بالصخور. الوعي لا يُنقذنا لأنه يملك الإجابة، بل لأنه يرفض أن يهرب؛ يضعنا أمام أنفسنا لا ليُدين، بل ليُضيء. إنه ذلك الصمت الذي يعلو فوق ضجيج الهروب، ليُذكرك بأن الكرامة ليست تمثالًا من كبرياء يُنحت للساحات العامة، بل هي الجذور المتشبثة بالأرض حين تهبّ كل الرياح. هي قدرة على البقاء دون أن نُفرّط بما يجعلنا بشرًا. أن تظلّ قائمًا، لا لأنك لا تشعر بالألم، بل لأنك تعرف أن هناك شيئًا فيك أقدس من الألم.

وفي هذه المساحة الهادئة والقاسية معًا، تُعاد ولادة الثقة. وهي ليست مقامرة، بل هي فنُّ الصدق الرحيم. لا على أنها جسرٌ مهترئ نمشي عليه نحو المجهول، بل أن تمنح نفسك للعالم كالنبع يمنح ماءه، لا لأنه يضمن العطش، بل لأن العطاء جزء من طبيعته. أن تثق لا كمراهنة، بل كإقرار بأن الصدق – حتى لو جُرح – هو النسيج الوحيد الذي تُحاك منه كل علاقة أصيلة، بدءًا من علاقة المرء بنفسه.

في رقصة الوجود الأبدية، العقل والعاطفة لا يتصارعان، بل يتعانقان كرفيقين في رحلة. فالعقل هو البوصلة التي تحفظ الاتجاه وتُهذّب المسير، والعاطفة هي النجوم التي تُضيء الدرب. العقل لا يُلغي العاطفة، بل يُهذّبها، والعاطفة لا تُضعف العقل، بل تُضيء له الطريق حين يتيه في التفاصيل. حين يتيه العقل في متاهات التحليل، تأتي العاطفة لتهمس: "انظر، هناك جمال يستحق العناء". وحين تثور العاطفة كبحر هائج، يأتي العقل ليمدّ لها حبل النجاة. بينهما تنشأ لحظة القرار النبيل، لا كمعركة، بل كـرقصة دقيقة بين الخوف والرجاء، تتناغم فيها إيقاعاتهما معًا، مولّدة لحن الصمود. من يظن أن الطريق السهل هو النجاة، لم يختبر بعد طعم الصمود النبيل، حين نختار ألا نُساوم، لا لأننا أقوياء، بل لأننا نحب أنفسنا بما يكفي لنحميها من التنازل.

أما الحرية، فهي الوعاء الذي نحمل فيه مسؤولية اختياراتنا. إنها ليست هيئة للفرار من الثقل، بل هي فنُّ حمل الثقل بيدين لا ترتعشان. الحرية ليست أن نختار ما نشاء فحسب، بل أن نتحمّل تبعات ما اخترناه. هي أن نُعيد تعريفها لا كانفلات ورغبة عابرة، بل كـقدرة على الوقوف في وجه الإغراء، حين يكون الثمن هو التخلي عن الذات. أن نُفرغها من وهج الرغبة العابرة، دون أن نُجردها من وقار المسؤولية. هي أن نقف عند الحافة، وننظر إلى الهاوية، ثم نختار الالتفاف؛ لأن في دواخلنا بئرًا من نور نرفض أن نطفئه.

ولمن يوشك أن يستسلم، لا نقول له "اصبر"، بل "انظر". نمرر لك مصباح الذاكرة. انظر إلى ما تبقّى فيك من نور، إلى ما لم يُكسر بعد. أترى ذلك الجزء الذي لم ينكسر بعد؟ تلك اللحظة التي ضحكت فيها من أعماقك؟ ذلك الحلم الذي ما زال ينبض تحت الرماد؟ لا أحد يطلب منك أن تكون بطلًا، فقط ألا تُطفئ ما فيك من صدق، أن لا تُفرّط بما يجعلك جديرًا بالثقة، حتى من نفسك. الصمود ليس صرخة مدوية، بل هو الهمسة التي ترددها لنفسك في منتصف الليل: "سأمضي.. لأن فيَّ ما يستحق البقاء".

وفي هذا الوفاءِ يكمنُ سرُّ الصمود؛ فهو ليس بطولةً استثنائية، بل هو وفاءٌ ذاتيٌ صِرف. وفاءٌ للذاتِ التي أحببتَ، وللحلمِ الذي راودك، وللقيمةِ التي آمنتَ بها ذاتَ مساءٍ بعيد. اخترْ أن تُكملَ الطريق، لا لأنَّ الألمَ غائب، بل لأنَّ في داخلكَ جمالًا ترفضُ أن تُخونه.

وحينَ تهدأُ العواصفُ، وتصيرُ أيامُ البكاءِ ظلالًا في ذاكرةِ الزمن، لن يُسألْ أحدٌ عن مراتِ ترددك، بل سيبقى السؤالُ الوحيدُ ماثلًا في عينيكَ حينَ تلتقيهما في المرآة: هل ما زلتُ أنا؟ نعم، أنت ما زلتَ أنت، وبقوتك الداخلية، ستستمر رحلة الصمود والصدق.

 

جهاد غريب

سبتمبر 2025

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

على حافة الانهيار.. تُولد رقصة الكرامة!

  على حافة الانهيار.. تُولد رقصة الكرامة!   "تأملات في فن البقاء: حين يكون الوعي مَلْجَأً، والثقة صدقًا، والحرية مسؤولية"   ...