السبت، 20 سبتمبر 2025

عالم تتقاطع فيه الأرواح!

 

عالم تتقاطع فيه الأرواح!

 

حين نصغي إلى هشاشة البيوت التي نسكنها في أرواحنا


 

في صمت الغرفة، حيث لا يقطعه سوى حفيف الذكريات ونبض النفس العميق، تبدأ هندسة التعايش مع الذات. صمت لا يُسمع بل يُحس، لا يُفرغنا بل يزرعنا من جديد. هناك، في ذلك الحيز الهشّ من الكينونة، نعيد بناء عالمنا من رماده الداخلي؛ كأن كل انكسار قديم يتحول إلى لبنة جديدة، وكل جرح قديم يصير نافذة نطل منها على ضوء مختلف.

التعايش ليس هدنةً بين اختلافين، بل فنّ خفيّ لا يُعلَّم في قاعات الجامعات، بل يُكتسب من تعرجات الذاكرة ومن كسور القلب. إنه بناء داخلي رقيق، يشبه بيتًا بلا سقف يحمي ولا جدران تعزل، لكنه رغم ضعفه الظاهر يمنحنا شعورًا بوجود مأوى. وفي هذا الهشاشة يكمن سرّه: فهو لا يُشيَّد بالصلابة، بل بالمساحات الفارغة التي تتيح للأرواح أن تتنفس.

السلام الداخلي لا يُفرض، بل يُستدرج. إنه مثل طائرٍ خائف، لا يقترب إلا حين نكفّ عن مطاردته. وحين يحطّ، لا يُغني ولا يصرخ، بل يصمت، ويتركنا نصغي إلى ما لم نكن نصغي إليه من قبل. تلك اللحظات النادرة من الصدق مع الذات، هي ما يدعم جدران البيت المعلّق على الفراغ، ويمنحه قوة تفوق متانة الحجر.

ثم تأتي الأمنيات المتأخرة. ليست ضالة الطريق، بل انتظرت أن نتغيّر نحن. أمنيات لا تطرق الأبواب بلهفة الطفولة، بل تهمس من خلف الجدران بصوت نضج، كأنها تخشى أن تُربك السلام الذي بالكاد بدأ يتكوّن. وحين تطرق أبواب القلب، لا تفعل ذلك بعجلة، بل كمن يعرف ثمن الرغبة، فيأتي متأنيًا، مطمئنًا إلى أن الزمن قد أعطى القلب ما يكفي من الخبرة ليستقبلها بوعي جديد.

الصمت، هذا الغريب الذي يزورنا بلا موعد، لا يأتي فارغًا. إنه يزرع فينا بذورًا لا نراها، لكنها تغيّر تضاريسنا الداخلية. نسمع خشخشة الأفكار وهي تتسلل، ونشعر بثقل الأمنيات وهي تتمدد في صدورنا كأغصانٍ تبحث عن الضوء. هناك نفهم أن بعض الثمار لا تُقطف في الخارج، بل تنضج في الداخل، فتتحول إلى حب أوسع، وعطاء أعمق، وقدرة أكبر على التعايش مع عالم يزداد صخبًا كل يوم.

في النهاية، ندرك أن التعايش ليس محطة نصلها ولا بيتًا نؤسسه، بل حالة عابرة نتعلّم أن نسكنها. وأن الأمنيات ليست وعدًا بالتحقق، بل مرآة تعكس قدرتنا على الصبر، وأن الصمت ليس غيابًا للصوت، بل حضورًا آخر للحقيقة. عند هذه العتبة، نتوقف طويلًا، فنفهم أن الحياة لا تمنحنا دائمًا ما نريد، لكنها تمنحنا ما يجعلنا قادرين على أن نكون.


جهاد غريب

سبتمبر 2025

 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

عالم تتقاطع فيه الأرواح!

  عالم تتقاطع فيه الأرواح!   حين نصغي إلى هشاشة البيوت التي نسكنها في أرواحنا   في صمت الغرفة، حيث لا يقطعه سوى حفيف الذكريات ونبض ا...